تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

نعم ، عدم سؤاله عن صورة وجود بعض منها دون بعض ظاهر فيما ذكره ، فيقع التعارض بين ظهوره وبين ظهور عدم سؤاله عن تعارض بعضها مع بعض في خلافه ، فلا يصح الاستشهاد بشيء منهما.

نعم ، قول السائل : ـ ( لا يفضل أحدهما على صاحبه ) ـ ظاهر في أن مراده عدم فضل أحدهما على الآخر بشيء من المزايا ، فهو ظاهر في أنه فهم أن الترجيح بمطلق المزية ، فالاستشهاد به لما ذكر جيد.

قوله ـ قدس سره ـ : ( الثاني ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي ) (١).

أقول : لا يخفى أن في ذلك الّذي حكي عن ابن أبي جمهور إشكالا لا يكاد (٢) أن يتفصى عنه ، وهو أنه قد ذكر في ذيله ـ بعد ذكر وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين ـ أنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، إذ لا يمكن أن يكون النقيضان كلاهما موافقين للاحتياط (٣).

قوله ـ قدس سره ـ : ( التاسع ما عن الكافي ... إلى آخره ) (٤).

أقول : قوله عليه السلام في ذلك الحديث : ( خذوا به ) الظاهر منه إرادة الأخذ بالأخير من الخبرين.

أما أولا : فلأن الضمير إذا تقدمه أمران أحدهما أقرب إليه ، الظاهر

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٣ ، وانظر : عوالي اللئالي ٤ : ١٣٣.

(٢) أي : التخلص من الإشكال ممكن لكنه بعيد بينما هو يريد ظاهرا عدم إمكان التخلص منه. فالأفضل الإشارة إلى أنه استعمل ( يكاد ) بمعنى ( يمكن ).

(٣) طبعا ولا يمكن أيضا أن يكون النقيضان مخالفين للاحتياط لأن النقيضين كما لا يجتمعان لا يرتفعان.

(٤) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٥ ، وانظر : الكافي ١ : ٥٣ حديث ٩.

٢٨١

رجوعه إليه ، دون الأبعد منه ، ومن المعلوم أن قوله : ( حديث من آخركم ) أقرب إليه.

وأما ثانيا : فللتصريح به في الحديث العاشر ، والحادي عشر.

بيان ما لعله يحتاج إلى البيان في الحديث الرابع عشر وهو قوله ( عليه السلام ).

( إن الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب. ) (١). فاعلم أن الظاهر من قوله : ( إن الكلمة لتنصرف على وجوه ) أنها تنصرف إلى وجوه بعضها ظاهر منها وبعضها غير ظاهر ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء يعني يريد به ما شاء ، فله أن يريد المعنى المؤول للكلمة الّذي هو خلاف ظاهرها ، ولا يكذب في إرادة ذلك المعنى منها.

وكلمة ( إن ) في قوله : ( إن الكلمة لتنصرف على وجوه ) في مقام التعليل لقوله عليه السلام : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا.

والواو في قوله : ( ولا يكذب ) حالية.

فحاصل ما يستظهر من الحديث الشريف ، أن الغرض أنه لا يجوز المبادرة إلى طرح خبر مروي عنهم عليهم السلام وتكذيب صدوره بمجرد ورود خبر آخر ينافي ذلك الخبر بظاهره ، لإمكان إرادة خلاف الظاهر منه ، بل لاحتماله ، لأنه على تقديره غير مستلزم للكذب ، بل لا بد من ملاحظة دلالتهما أولا ، وأن دلالة أحدهما أقوى من دلالة الآخر أو لا؟ فإن كانت دلالة أحدهما أقوى فيجعل ذلك قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الآخر.

قوله ـ قدس سره ـ : ( الأول في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة

__________________

(١) الوسائل ١٨ : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٧.

٢٨٢

ومرفوعة زرارة ).

قال ( دام ظله ) : إن المرفوعة ضعيفة السند باعتبار رفعها وانفراد ابن أبي جمهور بنقلها ، إلا أن عمل الأصحاب حيث إنه على طبقها جابر لها ، فتكون حجة لذلك.

وأما المقبولة ، فالراوي لها إنما هو عمر بن حنظلة ، وهو مجهول الحال عند الأكثر.

نعم حكى ولد الشهيد الثاني ( قدس سرهما ) عن والده الماجد في حاشية له ـ الظاهر أنها على الروضة في مسألة الوقت ـ أنه قد ورد في عمر في مسألة الوقت أنه سئل أحدهما عليهما السلام عن أن عمر بن حنظلة يجيء لنا عنكم بوقت فكيف تصنع؟

فقال عليه السلام : ( إذن لا يكذب علينا ) وهذا يدل على حسن حاله.

وكأنه زعم (قدس سره) أن قوله عليه السلام : ( لا يكذب ) مبني للفاعل ، لأنه على تقدير كونه مبنيا للمفعول ـ كما هو المحتمل ـ يكون دليلا على سوء حاله ، كما لا يخفى ، كما ضعفه بعضهم بزعم كونه مبنيا للمفعول.

وكيف كان ، فلم نعلم حال عمر ، فتكون المقبولة ضعيفة السند لذلك. فيتوقف اعتبارها على جابر لها ، وهو [ كونها ] معمولا بها عندهم حتى وصفت بالمقبولة ، فيكون ذلك جابرا لضعفها ، بمعنى أنهم استدلوا بها واعتمدوا عليها ، ولو بالنسبة إلى بعض مدلولها الغير المنافي للمرفوعة ، فاعتمادهم عليها كذلك جابر لها ، موجب لاعتبارها.

تمهيد مقال : الشهرة في الأصل هو الوضوح ، والتجرد عن موجبات الخفاء ، ومنه فلان شهر سيفه ، وسيف شاهر ، بمعنى المشهور.

والشذوذ فيه إنما هو الانفراد ، ومنه شذ الغنم ، ويعبر عن الأول بالفارسية بنماياني ، وعن الثاني ببازماندگي.

٢٨٣

وأما في الاصطلاح : فالظاهر عدم نقلهما عن معنييهما الأصليين إلى غيرهما ، بل يكون إطلاقهما على شهرة الرواية أو الفتوى أو على شذوذهما باعتبار معنييهما الأصليين ، كما أن إطلاقهما في أخبار الأئمة عليهم السلام أيضا كذلك بطريق أولى.

وبالجملة هما في جميع الموارد بمعنى الوضوح والانفراد ، واختلافهما في الموارد إنما هو من اختلاف مصاديقهما ومشخصاتهما ، فإن الّذي يختلف باختلاف الموارد إنما هو جهة الوضوح والانفراد ، لا أنفسهما.

ومشهور الرواية معروفيّتها بين العلماء ، بأن عرف كل واحد منهم وجودها في الروايات المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام ولو كان ناقلها واحدا.

ويقابلها شاذها ، وهي ما لم يعرفها إلا نادر منهم ، وإطلاق الشاذ عليها باعتبار انفرادها عن المشهورة بهذا الاعتبار ، وعدم وصولها إلى حدها من الوضوح ، كما أن مشهور الفتوى ما كان معروفا بينهم بحيث يعرفه كل أحد على وجه لا ينكر وجوده في جملة فتاوى العلماء ، بل يعترف بوجوده ولو كان المفتي شخصا واحدا.

وقد توصف الرواية بالشهرة أو الشذوذ من حيث الفتوى ، ويقال : إنها مشهورة أو شاذة من حيث الفتوى ، والمراد حينئذ إنما هو كون مضمونها اشتهر الإفتاء به أو شذ بالاعتبار المذكور في شهرة الفتوى وشذوذه.

ومن هنا يعلم الفرق بين المشهور من الرواية ومستفيضها ، أو متواترها ، وكذا الفرق بين المشهور من الفتوى والمجمع عليه منه.

وتوضيح الفرق : أن توصيف الرواية بكونها مشهورة ـ كما عرفت ـ إنما هو باعتبار معروفيتها بين العلماء من غير نظر إلى تعدد راويها أصلا.

بخلاف المستفيض والمتواتر ، فإن توصيفها بهما إنما هو باعتبار تعدد وكثرة راويها ، من غير نظر إلى الاعتبار الأول أصلا.

٢٨٤

وكذا توصيف الفتوى بكونه مشهورا إنما هو بالاعتبار الأول ، وتوصيفه بكونه مجمعا عليه إنما هو بالاعتبار الثاني.

نعم قد يكون سبب معروفية الرواية أو الفتوى هو كثرة النقلة ، أو المفتين.

وقد توصف الرواية بكونها مشهورة من حيث الرواية ، ويراد به كونها متفقا على نقلها من الرّواة.

وقد توصف به من حيث الفتوى ، ويراد به كون مضمونها متفقا عليه ومفتى به بين العلماء ولو لم يستندوا إليها.

وقد يوصف الفتوى بكونه مشهورا ، ويراد به اتفاق العلماء على الإفتاء به فيرادف المجمع عليه.

لكن الرواية المشهورة من حيث الرواية بالمعنى المذكور لا ترادف شيئا من المستفيض والمتواتر ، بل أعم منهما إذ قد يكون الرّواة منحصرا في اثنين ، فلا يصدق على الرواية شيء من المستفيض والمتواتر ، وقد لا يبلغ رواتها إلى حد التواتر ، فلا يصدق عليها المتواتر أيضا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بالشاذ في المقبولة ليس الحقيقي منه ، وهو ما لا يعرفها إلا نادر ، فإن الشذوذ إلى هذا المقدار مناف للاعتبار ، ومن المعلوم أن المراد به في المقبولة ما كان معتبرا بنفسه ، بحيث لو لم يكن له معارض لوجب العمل به ، فحينئذ لا بد من حمله على الإضافي ، فيكون المراد بالمشهور أيضا كذلك.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ولأجل ما ذكرنا لم يذكر ثقة الإسلام رضوان الله عليه ... إلى آخره ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٩.

٢٨٥

يعني لأجل ما ذكرنا من أن المستفاد من مجموع الأخبار هو الترجيح بالمرجحات المنصوصة من الشهرة وما بعدها.

قوله ـ قدس سره ـ : ( إلا أن يقال : إن إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ).

أقول : قد يتوهم أن التمسك بتلك الإطلاقات لا يستقيم في المقام ، لكون الشبهة فيه مصداقية ، نظرا إلى العلم بتقيد تلك المطلقات بصورة عدم مزية معتبرة شرعا لأحد المتعارضين ، فيكون الشك في اعتبار مزية في أحدهما آئلا إلى الشك في كونها مصداقا لتلك المزايا المعلوم خروجها عنها إجمالا.

لكنه مدفوع بأن القدر المسلم بين المتعدي عن المرجحات المنصوصة وبين المقتصر عليها ـ إنما هو تقيدها بتلك المرجحات المنصوصة ، لا بمزية واقعية غير معلومة العنوان ، حتى يكون الشك في اعتبار مزية راجعا إلى مصداقيتها لتلك المزية.

وبعبارة أخرى أوضح : إنه لا نزاع بين الفريقين في وجوب الأخذ بالمرجحات المنصوصة ، وتقيد تلك المطلقات بالنسبة إليها لا محالة ، وإنما النزاع بينهما في غيرها من المزايا الموجبة لأقربية احتمال صدور ذيها ، أو احتمال كون وجه صدوره بيان الواقع أو أبعدية ذينك الاحتمالين فيه عن الباطل بعد الفراغ عن كون المزية المبحوث عن اعتبارها كذلك ، فالمتعدي يدعي تقيدها بصورة عدم مطلق المزية كذلك ، التي من أفرادها المزايا المنصوصة ، والمقتصر يدعي تقيدها بصورة فقد تلك المزايا الخاصة المنصوصة ، ومن المعلوم أن التقييد على تقدير التعدي أكثر منه على تقدير الاقتصار على المزايا المنصوصة ، فيكون الشك في اعتبار مزية من غير المزايا المنصوصة راجعا إلى الشك في التقييد البدوي

٢٨٦

الزائد على القدر المعلوم ، فلا تغفل (١).

اللهم إلا ان يقرر الشبهة بأن تقييدها بفقد المرجحات المنصوصة معلوم ، وإنما الشك في أن الملحوظ خصوص تلك المنصوصات أو القدر المشترك بينها وبين غيرها ، وأن إخراج مواردها من باب أن تلك الموارد من موارد فقد ذلك القدر المشترك ، ومن المعلوم أنه على تقدير كون الملحوظ هو القدر المشترك وكون الخارج هو ، لا يلزم تقييد زائد على القدر المعلوم ، فإن الملحوظ في الإخراج حينئذ ليس خصوصية كل واحد من مصاديقه ، حتى يقال : إنه يلزم على تقديره تقييد تلك المطلقات بأزيد من القدر المعلوم ، بل نوعها وهو في حد ذاته أمر وحداني ، فيدور الأمر بين أن يكون الخارج ذلك الأمر الوحدانيّ أو خصوصية كل واحد من المرجحات المنصوصة ، وعلى الأول لا يلزم أكثرية التقييد منه على الثاني ، فلا يصح التمسك بتلك الإطلاقات على نفيه ، بل يمكن تعكيس الأمر بأنه لما كان الملحوظ في مقام الإخراج على الثاني خصوصية كل واحد واحد من المرجحات المنصوصة ، فيكون التقييد على تقديره أكثر منه على الأول ، فيصح

__________________

(١) وبعبارة أوضح : إن المزية المعتبرة بعنوان كونها معتبرة عنوان منتزع من الأمر المتعلق بالأخذ بالمزايا المأمور بالأخذ بها ، فإن الخارج عن إطلاق أخبار التخيير إنما هي ذوات تلك المزايا ، لا هي بذلك العنوان ، إذ لا يعقل أخذه في الدليل المخرج ، فإنه ليس إلا الأوامر الواردة بالأخذ بتلك المزايا ، فاعتبارها لا يكون إلا بتلك الأوامر ، فيلزم من اعتبار عنوان الاعتبار فيها الدور ، لأن معنى كونها معتبرة كونها مأمورا بالأخذ بها في مقام الترجيح ، والمفروض أن كونها كذلك إنما هو بتلك الأوامر ، فيلزم من اعتباره فيها اعتبار نفسها في موضع نفسها.

فإن قيل : إنا نقرر الشبهة بوجه آخر ، وهو أنا نعلم بعدم ثبوت حكم التخيير في صورة وجود مزية أخرجها الشارع عن إطلاق أخبار التخيير ، فإذا شككنا في مزية أنها من المزايا الخارجة أو لا ، فلا يصح التمسك بالإطلاق لكون الشبهة مصداقية.

قلنا : هذا أفسد من سابقه ، لأن وصف المخرج عنوان منتزع عن أمر الشارع بالأخذ بمزايا مخصوصة منصوصة وحاصل بعده ، وأن الخارج إنما هو ذوات تلك المزايا ، لا هي بهذا العنوان. لمحرره عفا الله عنه.

٢٨٧

التمسك بتلك الإطلاقات على نفيه ، فتأمل.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فلا بد للمتعدي من المرجحات الخاصة المنصوصة من أحد أمرين ، إما أن يستظهر من النصوص ، إلى قوله : وإما أن يستظهر من إطلاقات التخيير. إلى آخره ) (١).

اعلم أن ما ذكره (قدس سره) من الترديد إنما هو من مقولة المنفصلة باعتبار منع الخلو فقط ، ضرورة عدم التنافي بين طرفيه ، بل كل منهما يؤكد الآخر ويقويه.

ثم اعلم أن الشواهد للأمر الأول مضافا إلى فتوى الأكثرين هي الفقرات التي أشار إليها (قدس سره) فيما بعد.

وأما الأمر الثاني ، فيمكن الاستشهاد له بظهور الأسئلة ، فإن قول السائل : ( يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا كيف نصنع ) ظاهر في أن مورد السؤال إنما هو مقام التحير في مقام العمل ، ومن المعلوم أنه لا تحير مع اعتبار الشارع لذي المزية من الخبرين لتعين الأخذ به حينئذ.

وبعبارة أخرى : إن الداعي للسؤال عن حكم الخبرين المتعارضين إنما هو تحير السائل في مقام العمل ، فيكون سؤاله ظاهرا في أن مورده مورد التحير ، لا سيما بملاحظة قوله ( كيف نصنع ) الّذي هو كالصريح ، بل الصريح في ذلك. فيكون الحكم المذكور في الجواب مختصا بذلك المورد ، أعني مورد التحير ، نظرا إلى أن ظاهر الجواب إنما هو كونه جوابا عن مورد السؤال ، هكذا أفاد ( دام ظله )

أقول : اختصاص أخبار التخيير بصورة التحير مما لا شبهة فيه ، ولا نزاع ، لكن هذا المقدار لا يجدي فيما نحن بصدده ، إذ الّذي يجدينا إنما [ هو ] ظهور اختصاصها بصورة عدم مزية لأحد الخبرين المتعارضين أصلا ، إذ معه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٠.

٢٨٨

يقال : إن المزايا غير المنصوصة قد فرضنا كونها مزايا على الوجه المتقدم ، وإنما الكلام في اعتبارها ، وبعد فرض ظهور اختصاص أدلة التخيير بغير صورة مطلق المزية لا حاجة لنا إلى ظهور أخبار الترجيح في الأخذ بمطلق المرجح ، لما قد أشرنا إليه غير مرة من أن مقتضى الأصل الأولي في الخبرين المتعارضين هو التوقف وتساقطهما في مؤداهما ، إلا أن الإجماع قام على عدم سقوط كليهما عن الحجية حينئذ ، بل أحدهما حجة في مؤداه ، فيدور الأمر ـ حينئذ ـ بين كون أحدهما حجة على التعيين أو كونه حجة على التخيير ، وبعد ما فرضنا انتفاء احتمال كونه حجة على التخيير بمقتضى ظهور اختصاص تلك الأخبار بغير مورد الفرض ، يتعين كونه حجة على التعيين ، وهو المطلوب.

وأما ظهور اختصاصها بصورة التحير ، فلا يجدينا في المقام في شيء أصلا ، ضرورة أن التحير لا يرتفع بمجرد وجود مزية في المورد لأحد المتعارضين ، وإنما يرتفع بثبوت اعتبارها شرعا عند المكلف ، ومع الشك فيه ـ كما هو المفروض ـ فالتحير متحقق ، وإن فرض كونه ثابتا في الواقع ، لأن مجرد اعتبار مزية في الواقع مع عدم العلم باعتبارها لا يرفع التحير ، فيتوقف رفعه في مورد الشك على ظهور أدلة الترجيح على اعتبار مطلق المزية.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فما يمكن استفادة هذا المطلب منه فقرات من الروايات ) (١).

اعلم أن إفادة بعض تلك الفقرات للمطلوب على نحو الإشعار ، وإفادة بعضها له على نحو الدلالة.

أما المشعرة به منها فهي المتضمنة للترجيح بالأصدقية ، والأوثقية في المقبولة ، والمرفوعة ، فإن اعتبار هاتين الصفتين يشعر بأن النّظر في اعتبارهما إنما

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨١.

٢٨٩

هو إلى كونهما موجبتين لأقربية ما يرويه المتصف بهما إلى الحق مما يرويه الفاقد لهما.

لا يقال : إن أكثرية ملكة الوثاقة والصداقة للراوي لا يلازم أقربية ما يرويه إلى الحق ، إذ غاية ما يلازمه إنما أكثرية تحرزه عن تعمد الكذب ، واحتياطه في نقل الرواية ، ومن المعلوم أن ذلك بنفسه غير ملازم للأقربية لإمكان الخطأ والسهو في حقه ، بل ربما يكون كثير السهو ، فيكون الأقرب خلاف ما يرويه ، فإذا لم تكن ملازمة بين الصفتين المذكورتين وبين أقربية ما يرويه المتصف بهما إلى الحق ، فلا يكون اعتبارهما مشعرا بكونهما معتبرتين لأجل أنهما توجبان تلك الأقربية حتى نتعدى منهما إلى مطلق المزية الموجبة لها.

لأنا نقول : إن لمخالفة الرواية للواقع جهات :

منها : تعمد الراوي للكذب.

ومنها : عدم احتياطه في طريق تحملها وعدم تأمله فيه حق التأمل ، مع كونه متحرزا عن تعمد الكذب ، بمعنى أنه يتحملها عن طريق يثق به في بادئ النّظر ، بحيث لو تأمل فيه حق التأمل لذهب عنه ذلك الوثوق ، فلا يرويها.

ومنها : عروض السهو والنسيان له ، اللذين هما كالطبيعة الثانية للإنسان.

ومنها : كثرتهما.

أما الأخير ، فهو مفروض العدم في مقام التعارض بالنسبة إلى كل من الرّاويين ، إذ عدمه من شرائط الحجية ، والمفروض حجية الخبرين المتعارضين في حد أنفسهما.

وأما سابقه : فهو مشترك بين الراويين ، فتبقى الأوليان.

ومن المعلوم أنه كلما ضعف جهة من جهات المخالفة للواقع في شيء يكون احتمال موافقته له أقرب منه فيما لم يضعف فيه تلك الجهة.

ومن المعلوم ـ أيضا ـ ضعف الأوليين بتينك الصفتين في حق المتصف بهما

٢٩٠

بالنسبة إلى الفاقد لهما ، فيكون رواية المتصف بهما أقرب إلى الحق والواقع من رواية الفاقد لهما.

والحاصل : أن تينك الصفتين ، وإن أمكن اعتبارهما من باب التعبد كغيرهما من صفات الراوي إلا أن المناسب لهما اعتبارهما من باب الطريقية ، وكونهما موجبتين للأقربية المذكورة ، فيشعر اعتبارهما بأن النّظر فيه إنما هو إلى ذلك ، فيستشعر ـ لذلك ـ كون قوله عليه السلام في المقبولة : ( وأصدقهما في الحديث ) عطفا تفسيريا لسابقه ، وكون قوله عليه السلام : ( وأوثقهما في نفسك ) في المرفوعة كذلك بالنسبة إلى سابقه ـ أيضا ـ ، فيستفاد أن الغرض من اعتبار سائر الصفات ـ أيضا ـ إنما هو كونها موجبة لضعف الجهتين الأوليين المذكورتين ، فإن الأورعية والأعدلية ـ أيضا ـ توجبان ضعفهما إلا أنهما ليستا كالأوثقية والأصدقية.

نعم ، قد يستشكل في كونه قوله : ( وأصدقهما في الحديث ) في المقبولة عطفا تفسيريا للأعدلية والأورعية معا ، لتوسط فيما بينهما ، فإنه على تقدير كونه كذلك لكان مقتضى القواعد تأخيره عنهما ، فلا يكون تفسيرا لكليهما معا.

ويمكن الذب عنه : بأن غاية ما يلزم من ذلك عدم كونه عطفا تفسيريا بمصطلح أهل العربية ، لكنه لا ينافي كونه تفسيرا لكليهما معا ، إذ بعد تسليم إشعار اعتبار صفة الأصدقية باعتبارها ، لأجل كونها موجبة لأقربية ما يرويه المتصف بها إلى الواقع ، فيستشعر منه كونه تفسيرا لما قبله من الأعدلية لا محالة.

ومن المعلوم لكل أحد أنه لا فرق بين صفتي الأعدلية والأورعية في جهة الاعتبار ، بل كلتاهما على نسق واحد قطعا ، وإذا ثقبت أن الأعدلية إنما اعتبرت من جهة إيجابها لما ذكر ، فيكون اعتبار الأورعية ـ أيضا ـ كذلك.

هذا مضافا إلى أنه مع الإغماض عن كون قوله ( وأصدقهما في الحديث ) تفسيرا لقوله : ( وأعدلهما ) يمكن ـ أيضا ـ إثبات المطلوب بوجه آخر ، وهو أنه إذا

٢٩١

ثبت أن اعتبار الأصدقية لتلك الجهة المذكورة ثبت أن اعتبار غيرها من صفات الراوي ـ أيضا ـ لتلك الجهة بالإجماع المركب.

وأيضا قوله عليه السلام : ( وأوثقهما في نفسك ) في المرفوعة ظاهر في كونه عطفا تفسيريا لقوله : ( أعدلهما عندك ) فيمكن جعله قرينة على أن النّظر في اعتبار الأعدلية والأورعية في المقبولة ـ أيضا ـ إلى جهة وثاقة الأورع والأعدل ، وصداقتهما الموجبتين لضعف احتمال مخالفة الواقع فيما يرويانه.

ثم اعلم أن الاستشهاد بقوله عليه السلام : ( وأصدقهما في الحديث ) مبني على حمل صدر المقبولة ـ أيضا ـ على الترجيح من حيث الرواية ، الّذي هو المتنازع فيه في المقام.

وأما على تقدير اختصاصه بالترجيح بين الحكمين ، فيخرج عما نحن فيه ، فلا يكون شاهدا عليه ، فلا يبقى للاستشهاد به مورد ، وللإشكال المتقدم فيه مجال ، وحينئذ فيقتصر في الاستشهاد على قوله ( وأوثقهما في نفسك ) في المرفوعة.

ثم إنه يتقوى ذلك الإشعار بعدم سؤال الراوي عن حكم صورة وجود بعض المرجحات المنصوصة وتخالفها ، بل ذلك في نفسه شاهد مستقل أقوى من ذلك الإشعار.

وتقريب الاستشهاد به أنه لو فهم أن اعتبار تلك المرجحات من باب التعبد ، أو احتمل ذلك ، لكان يسأل عن حكم تلك الصورة ، ضرورة أن بيان حكم صورتي وجود جميع تلك الصفات لأحد الراويين ، أو لكليهما معا واستوائهما فيها ، لا يغني ـ حينئذ ـ عن حكم تلك الصورة ، وإنما يغني ذلك عنه على تقدير (١) فهمه أن غرضه عليه السلام الترجيح بمطلق المزية الموجبة لأقربية مورده إلى الحق ، أو أبعديته عن الباطل ، إذ معه يلاحظ في تلك الصورة أن أية المزيتين

__________________

(١) والصحيح ما في المتن وكان في الأصل ( على تقديره ).

٢٩٢

كذلك ، فيؤخذ بها ، ويرجح بها ذيها على صاحبه ، وإن كانتا متساويتين فيأتي فيهما حكم صورة المساواة.

لا يقال : إن غاية ما يستفاد من ترك السؤال عن حكم تلك الصورة أنه فهم استقلال كل من الصفات في مقام الترجيح ، من غير اعتبار اجتماعها ، كما هو قضية عطف بعضها على بعض بالواو ، وأما فهمه أن العبرة بمطلق المزية فلا ، لأن حكم الصورة المذكورة على تقدير اعتبار كل من تلك الصفات مستقلا من باب التعبد مع اعتبار الترتيب بينها على الوجه الّذي في الأجوبة في تلك الأخبار ـ أيضا ـ غير محتاج إلى السؤال ، فان الصورة المذكورة إن كان الموجود فيها إحدى تلك الصفات لأحد الرّاويين فلا بد من الأخذ بها ـ حينئذ ـ لفرض استقلالها في كونها مرجحة ، وإن ثبتت لكليهما معا فيكون المورد من صور تساويها ، والمفروض السؤال عن حكمها ، وإن وجدت ثنتان منها مختلفتان كل واحدة لواحد منهما فلا بد حينئذ من الأخذ بما يكون أقدم من الأخرى وأسبق من حيث الترتيب المذكور في الأخبار ، فإن غاية ما هناك أنه تعذر حمل كلمة الواو على الجمع ، لكنه لا يوجب صرفها عن الترتيب ـ أيضا ـ إذ عدم سؤاله عن حكم تلك الصورة لا ينافيه.

لأنا نقول : إن الأخبار الآمرة بالأخذ بالمرجحات لو كانت متفقة على ترتيب واحد لكان ما ذكر متجها ، لكن المفروض اختلافها في ذلك ، فلا بد من إبقاء اعتبار الترتيب كاعتبار الاجتماع ـ أيضا ـ لذلك ، ومن المعلوم ـ حينئذ ـ عدم كفاية بيان حكم الصورتين المذكورتين وإغناؤه عن بيان حكم الصورة المشار إليها.

نعم قد يستشكل في ذلك بأن غاية ما هناك أن السائل فهم من كلامه عليه السلام ذلك ، لكن لا تنهض حجة لنا ، فإن ذلك منه بمقتضى استنباطه واجتهاده ، ولا حجة فيه في حق غيره.

٢٩٣

لكنه مدفوع بأن فهمه إنما يكشف عن كون الكلام ظاهرا في ذلك ، فإذا أحرزنا بفهمه ظهور الكلام فيه فيكون الحجة لنا هو ظهور ذلك الكلام.

وممّا يقوي الإشعار المذكور أيضا أنه عليه السلام لم يتعرض لبيان حكم تلك الصورة في الأخبار الغير المسبوقة بالسؤال أيضا مع تعرّضه للصورتين الأخريين كما في رواية الصدوق عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ورواية القطب الراوندي عن الصادق عليه السلام ووجه التقريب به ما مرّ.

ثم إن المصنف (قدس سره) جعل الفقرتين المتقدمتين مفيدتين للمطلوب على نحو الدلالة كما يظهر من قوله ، فإن اعتبار هاتين الصفتين ليس إلاّ لترجيح الأقرب.

لكن دعوى القطع بعدم اعتبارهما إلاّ لما ذكره دونه خرط القتاد ، إذ من المعلوم إمكان اعتبارهما من باب التعبد كالأعدلية والأورعية في تعارض المجتهدين في حقّ المقلّد.

نعم الإنصاف ظهور اعتبارهما فيما ذكره.

ثم إن ما ذكره من تقريب شهادة عدم سؤال الراوي عن حكم الصورة المذكورة للمطلوب لا يخلو عن تشويش واضطراب ، وهو قوله ( فلو لا فهمه أن كل واحدة من هذه الصفات وما يشبههما مزية مستقلة لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزية فيهما رأسا ، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات ) (١).

وتوضيح الاضطراب فيه : أنه أخذ المدّعى إثبات أن العبرة في مقام الترجيح بمطلق المزية الموجبة لأقربية ذيها إلى الحق أو أبعديته عن الباطل. وتقريبه المذكور لا يفي به ، فإنه أخذ النتيجة فيه مطلبا آخر ، وهو استقلال كل

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨١.

٢٩٤

من الصفات في مقام الترجيح ، ومن المعلوم أن الكلام في كون كل واحدة من تلك الصفات مستقلة في مقام الترجيح ، أو كون المجموع من حيث المجموع مرجحا واحدا يناسب القول باعتبار تلك الصفات من باب التعبد.

وأما على القول باعتبارها من باب كونها أحد أفراد مطلق المزية فلا مناص لاحتمال كون المجموع منها مرجحا واحدا فكان ذلك يناقض ما ادعاه أولا.

هذا مضافا إلى أن ما ذكره من الدليل على إثبات تلك النتيجة ـ أيضا ـ غير تام في نفسه ، فإن السؤال عن حكم صورة عدم المزية أصلا من المزايا لا يلازم فهمه من كلامه عليه السلام استقلال كل واحدة من الصفات في مقام الترجيح ، لعدم توقفه عليه ، إذ لا ينحصر موجبه في ذلك ، إذ من المعلوم أنه مع احتمال الاستقلال ـ أيضا ـ يصح السؤال ، بل يحسن ، بل يجب ، كما أن احتمال ملاحظة اجتماعها ـ أيضا ـ يوجب السؤال عن حكم صورة عدم اجتماعها ولو وجد بعضها في المقام ، فقوله (قدس سره) ( لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزية رأسا ) لم يعرف له وجها ، وكان الحري الاستدلال على تلك النتيجة بأن السائل إما فهم استقلال كل من الصفات في مقام الترجيح أو لا.

وعلى الثاني إما فهم اعتبار اجتماعها أو شك في الاستقلال والاجتماع ، ولم يظهر له من كلامه شيء منهما.

لا سبيل إلى الأخيرين ، إذ على أولهما كان الواجب على السائل السؤال عن صورة عدم اجتماع تلك الصفات ، لا عن عدمها رأسا.

وعلى ثانيهما كان الواجب السؤال عن كلتا الصورتين معا ، لا الاقتصار على السؤال عن إحداهما ، فاقتصاره على السؤال عن حكم عدم تلك الصفات رأسا يكشف عن فهمه استقلال كل منهما في مقام الترجيح.

هذا خلاصة بيان التشويش فيما ذكره (قدس سره).

٢٩٥

لكن من المعلوم للمتأمل فيه حق التأمل أن مراده ما ذكره في تقريب التأييد ، فإن مراده ـ بقوله ( حتى قال لا يفضل أحدهما على صاحبه ) (١) يعني بمزية من المزايا أصلا ـ هو أن السائل إنما سأل بقوله ( لا يفضل أحدهما على صاحبه ) عن صورة عدم مزية لأحدهما من المزايا ، يعني مطلق المزايا أعم من المزايا المنصوصة ، فإن ماله الفضل في قوله ( لا يفضل ) أعم شاملة للمزية المتحققة بغيرها ـ أيضا ـ.

ومراده (قدس سره) بقوله ( عن صورة عدم المزية فيهما رأسا ) هو صورة عدم مطلق المزية.

ومراده بقوله ( مزية مستقلة ) أنه فهم كون كل واحدة من تلك الصفات إحدى المزايا من غير خصوصية لها.

ومراده ( بعدم اجتماع الصفات ) إنما هو وجود بعضها وتخالفها الّذي أشار إليه سابقا.

ومراده بقوله ( لم يكن وقع للسؤال ) أنه لم يكن وقع للاقتصار في السؤال على صورة عدم المزية أصلا ، فيرجع ما ذكره إلى ما ذكرنا ، ويرتبط بما أخذه مدعى أولا ، فتدبر.

ثم إنه ربما يتخيل كون السؤال عن صورة عدم المزية رأسا ـ بناء على عمومه بالنسبة إلى مطلق المزايا في نفسه ـ شاهدا لفهم السائل اعتبار مطلق المزية.

لكنه فاسد ، لعدم توقف ذلك السؤال عليه ، لصحته ، بل لوجوبه مع احتمال اعتبار مطلق المزية أيضا.

والمعتمد في الاستشهاد له إنما هو ما ذكرنا من عدم سؤاله عن حكم

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨١.

٢٩٦

صورة وجود بعض تلك المرجحات المنصوصة مع تخالفها.

هذا كله فيما يشعر بالمطلوب من الفقرات.

وأما المفيدة له على نحو الدلالة فهي فقرتان :

إحداهما : تعليل الأخذ بالمشهور بقوله عليه السلام ( فإن المجمع عليه لا ريب فيه ).

وثانيهما : تعليل تقديم الخبر المخالف للعامة ( بأن الحق والرشد في خلافهم ).

وتقريب دلالتهما على المطلوب كما ذكره المصنف (قدس سره).

وأما قوله عليه السلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) (١) فلا يصلح شاهدا للمطلوب ، فإنه من جملة أخبار الاحتياط ، ولا يمكن حمل شيء منها على الوجوب الشرعي ، لاستلزامه تخصيص الأكثر فلا بد من حملها على الإرشاد.

ثم إنه لا يمكن حملها على الإرشاد الإلزاميّ ـ أيضا ـ ضرورة عدم كون الداعي للاحتياط ـ في أكثر من موارد الشبهة من المضار اللازمة ـ الدفع ، فلا بد من حملها على الطلب الإرشادي المشترك بين الإلزام والندب ، فيكون مفادها حينئذ مطلوبية الاحتياط في الجملة على نحو الإرشاد في موارد الشبهة في كل مورد بحسب ما يقتضيه من المضرة ، فإن كانت المضرة مما يجب دفعها عقلا فيكون مطلوب الشارع ـ حينئذ إلزاما من باب الإرشاد ـ التحرز عنها بالاحتياط في محتملاتها.

وإن كانت مما يندب دفعها عقلا فيكون مطلوبه الاحتياط ـ حينئذ ـ ندبا من باب الإرشاد.

والحاصل : أن الحديث الشريف المذكور كغيره من أخبار الاحتياط لم

__________________

(١) الذكرى : ١٣٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ٦٣ ، مسند أحمد ١ : ٢٠٠ ، ٣ : ١١٢ و ١٥٣ ، مستدرك الحاكم ٢ : ١٣

٢٩٧

يأت بشيء جديد من الشارع أزيد مما استقل به العقل من مطلوبية الاحتياط إرشادا على حسب ما يقتضيه من المضار ، فحينئذ لا بد من النّظر في المفسدة المحتملة في الأخذ بالخبر الأقرب إلى مخالفة الواقع بالنسبة إلى صاحبه من أنها تقتضي لزوم الاحتياط أو ندبه ، ومن المعلوم أن المفسدة التي يتوهم فيه إنما هي مفسدة الوقوع في خلاف الواقع ، لكن لا ريب أنها ليست ملزمة للاحتياط مطلقا ، وإلا للزم عدم العمل بالأبعد عن مخالفة الواقع من الخبرين ـ أيضا ـ لفرض كونه ـ أيضا ـ محتملا للخلاف ، بل إنما يلزمه إذا لم يكن المكلف معذورا فيها.

وبعبارة أخرى : إن الملزمة للاحتياط إنما هي مفسدة الهلكة الأخروية ، وأما بدونها فالعقل لا يحكم بلزوم الاحتياط ، وإن كان يحكم بحسنه ، وأخبار التخيير ـ حيث إنها لا يعارضها الحديث المذكور لفرض كونه إرشاديا ـ شاملة لمورد الحديث ، ومبينة للتخيير في مرحلة الظاهر ، فتكون هي محصلة للأمن من الهلكة الأخروية ، فلا تكون مخالفة الواقع حينئذ مقتضية للزوم الاحتياط بالأخذ بالأبعد عن مخالفة الواقع من الخبرين.

والعجب من المصنف (قدس سره) أنه كيف غفل عما يبنى عليه ـ في مسألة البراءة والاحتياط ـ من كون أخبار الاحتياط للإرشاد حتى الحديث المذكور ، حيث إنه ذكره هناك في طي تلك الأخبار ، وأخذه دليلا على لزوم الترجيح بالأبعدية عن مخالفة الواقع في المقام ، مع أنه يتوقف على كونه أمرا شرعيا حتى يصلح لوروده على أخبار التخيير.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ولا ريب أن المشهور بهذا المعنى ليس قطعيا من جميع الجهات ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨١.

٢٩٨

يعني من جهة السند والدلالة معا.

قوله ـ قدس سره ـ : ( حتى يصير مما لا ريب فيه ) (١).

لأن الرواية لا ينفى منها الريب إلا بكونها قطعية من جميع الجهات.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ولا الرجوع إلى صفات الراوي ) (٢).

وذلك لأن أحد الخبرين المتعارضين إذا كان مشهورا ، بمعنى كونه قطعيا من جميع الجهات ، فمن المعلوم الواضح لكل أحد أنه لا يجوز اختيار غيره عليه ، ولو اشتمل على جميع المرجحات ، إذ مع القطع المذكور لا يصلح غيره للمقاومة والمعارضة ، فلا تقبل هذه الصورة للسؤال ، ولبيان الإمام عليه السلام حكمها من غير سؤال عنها ـ أيضا ـ فلا يمكن حمل قوله عليه السلام ( خذ بما اشتهر بين أصحابك ) على هذه الصورة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وإن لم يكن عليه أمارة المطابقة كما يدل عليه قوله عليه السلام ما جاءكم ... إلى آخره ) (٣).

أقول في هذا الاستشهاد نظر ، بل منع فإن قوله عليه السلام ( فإن أشبههما فهو حق ) مساوق لقوله عليه السلام في الحديث السابق ( فإن الرشد في خلافهم ) لا سيما بملاحظة قوله عليه السلام ( وإن لم يشبههما فهو باطل ) فإن الظاهر أنه تأكيد لإثبات كون موافقة الكتاب والسنة أمارة للحق فلا وجه لجعل الموافق لهما مما ليس فيه أمارة الحق والمطابقة.

ثم إن الشباهة في الحديث الشريف تحتمل معنيين :

أحدهما : الشباهة من حيث الأسلوب والفصاحة والبلاغة.

وثانيهما : الشباهة بحسب المعنى ، بمعنى كون معنى الرواية منطبقا على

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٨١.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٢.

٢٩٩

القواعد الكلية المستنبطة من الكتاب والسنة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وهي كل مزية غير مستقلة في نفسه ، بل متقومة بما فيه ) (١).

يعني من حيث الدليليّة ، فالمراد أن المرجح الداخليّ إنما هي المزية التي لا يستقل في نفسه من حيث الدليليّة على حكم على تقدير اعتبارها شرعا ، بمعنى أنها ليست صالحة للطريقية إلى حكم من الأحكام ، لعدم كشفها عن حكم حتى تصلح لجعلها حجة وطريقا إليه ، كصفات الراوي من العدالة أو الأعدلية أو الضبط وغيرها ، وصفات الرواية من الفصاحة ونحوها ، فإن شيئا منها لا يكشف عن حكم بنفسه ، بل الكاشف عنه كذلك إنما هو مواردها ، وهي متون الروايات.

ومن هنا علم معنى المرجح الخارجي أيضا ، فإنه خلاف الداخليّ ، فهو المزية [ التي ] تكشف بذاتها عن حكم بحيث لو اعتبرها الشارع لكانت بنفسها مبينة لحكم من الأحكام الشرعية ، كالكتاب والأصل.

هذا خلاصة توضيح ما أراده المصنف (قدس سره) بالمرجح الداخليّ والخارجي.

أقول : فيما ذكره (قدس سره) ما لا يخفى على المتأمل ، إذ ما من مزية من المزايا إلا وهي غير مستقلة في نفسها من حيث الدليليّة ، فلم يبق منها مصداق للمرجح الخارجي أصلا ، فإن ذات الأصل أو الكتاب ليس مرجحا ، وإنما المرجح هو موافقة الرواية من حيث مضمونها لهما ، ومن البديهي أن موافقة الرواية لهما مع قطع النّظر عن ذات الرواية لا تفيد حكما ، بل هي كصفات الراوي ومخالفة العامة ، فلا وجه للتمثيل للمرجح الخارجي بهما ، وأما الشهرة فهي وإن كانت

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٣.

٣٠٠