تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

فإن المنع في كلماتهم في أكثر المسائل يجدي أن مذهبهم على العمل بالبراءة وأن استدلالهم بالاحتياط من باب تأييد دليل آخر.

قوله (قدس سره) : ( والحكم بالثواب هنا أولى ) (١).

وجه الأولوية أن الأمر في جانب الثواب أوسع منه في جانب العقاب لأنه يكتفى في الثواب بأقل ما يوجب استحقاقه بخلاف العقاب ، فإنه لا يكون إلا ببلوغ سببه الشدة والتأكد.

وإن شئت قلت إذا تحقق من المكلف سبب استحقاق الثواب يقبح من المولى عدم إعطائه إياه ، هذا بخلاف ما إذا صدر منه سبب استحقاق العقاب ، فإن العقاب منه حينئذ وإن لم يكن قبيحا إلا أن العفو عنه حسن.

قوله (قدس سره) : ( وفي جريان ذلك ) (٢). يعني جريان الاحتياط.

قوله (قدس سره) : ( لأن العبادة لا بد فيها من نية التقرب ) (٣).

توضيحه : أنه لا يتحقق في العبادات موضوع الاحتياط إذا لم يحرز أمر في مورده إجمالا أو تفصيلا ، لأن معناه الإتيان بشيء يكون ذلك الشيء بحيث يصح قيامه مقام الواقع المشكوك فيه على تقديره واقعا وذلك لا يكون إلا إذا أتى بما ينطبق عليه ويكون من نوعه ، فإذا فرض أن المشكوك إنما هو على تقديره من العبادات فلا بد حينئذ إذا أراد الاحتياط أن يأتي بما ينعقد عبادة منطبقة على ذلك المشكوك على تقديره لكن ذلك لا يمكن فيما نحن فيه ، لأن العبادة تتوقف على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا والمفروض عدمه أصلا ومعه لا يمكن إيقاع الفعل على وجه ينعقد عبادة حتى يصح قيامه مقام الواقع على تقديره فيكون

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٨١.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٨١.

١٢١

إدراكا للواقع على تقديره فيكون احتياطا ، هذا بخلاف التوصليات ، فإن الواقع فيها على تقديره قد تعلق الغرض فيه بذات الفعل كيف ما اتفق ، ولا ريب أن الإتيان بذات الفعل يمكن ولو مع العلم بعدم أمر في الواقع أيضا فيكون المأتي به حينئذ منطبقا على المطلوب الواقعي على تقديره فيتحقق موضوع الاحتياط.

قوله (قدس سره) : ( بناء على أن هذا المقدار من الحسن العقلي ) (١).

لا يخفى ما في هذه العبارة فإن الحسن إنما يدور مدار تحقق موضوع الاحتياط ، وقد مر أنه لا يحصل إلا مع العلم بالأمر ، فلو أتى بالفعل حينئذ لم يكن احتياطا فلم يكن حسنا ، فكان عليه (قدس سره) الاقتصار على قوله منع توقفها إلى ما بعده وحذف قوله المتقدم إلى هنا ، ومن هنا يتطرق المنع إلى قوله (قدس سره) : وما ذكرناه من ترتيب الثواب ... إلى آخره وقوله : ودعوى أن العقل إذا استقل بحسن هذا الإتيان ... إلى آخره فإنه إذا لم يتحقق هنا موضوع الاحتياط فالعقل لا يحسن هذا الإتيان قطعا ، بل يقبحه لكونه عبثا ، وكذا لا يترتب عليه الثواب جزما حتى يقال إنه يوجب الأمر أو لا يوجبه.

قوله (٢) (قدس سره) : ( عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شيء من الثواب فعمله كان له أجر ذلك ... إلى آخره ) (٣).

قال دام ظله : البلوغ معناه الحقيقي هو الوصول فعلى هذا لا يصح نسبته حقيقة إلى العمل أو الثواب بمعنى الأجر ، إذ لا يعقل وصولها إلى الشخص قبل وجودهما كما هو المفروض في الرواية بل لا يعقل ذلك بالنسبة إلى العمل بعد

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٨٣.

(٣) المحاسن : ٢٥ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٥٦.

١٢٢

وجوده أيضا ، فإنه حينئذ صادر عن الشخص لا واصل إليه فعلى كل من الاحتمالين في لفظة شيء لا يصح إسناده إليه على سبيل الحقيقة فلا بد على كل منهما إما من حمله من باب المجاز العقلي وإما من التزام إضمار الخبر بأن يكون المعنى من بلغه خبر شيء من الثواب.

ثم المراد بالشيء يحتمل أن يكون هو عمل الخير الّذي هو سبب لاستحقاق الثواب ، فعلى هذا يكون المراد من الثواب ذلك أيضا وتكون كلمة ( من ) بيانية (١) ويكون المعنى من بلغه خبر شيء هو عمل الخير ... إلخ.

ويحتمل أن يكون نفس الأجر على عمل الخير فتكون كلمة ( من ) تبعيضية لا محالة (٢) ويكون المراد بالأجر المراد من الشيء ، إما المقدار من الأجر أو نوع منه ، كالحور والقصور أو غيرهما مثلا ويكون المعنى على هذا من بلغه خبر مقدار من الثواب أو نوع منه ... إلى آخره ).

وحاصل المعنى على الأول أنه من بلغه خبر ثوابية عمل وأن عليه أجرا فعمل ذلك العلم ... إلخ. وعلى الثاني أنه من بلغه خبر نوع من الثواب والأجر أو مقدار منه ، فالبالغ على الأول هو نفس خيرته العمل وكونه مما يثاب عليه من غير تعرض لأصل الثواب كما وكيفا ، فيكون المتسامح فيه هو العمل كما هو المدعى ، وعلى الثاني هو المقدار أو النوع بعد الفراغ عن خيرة العمل وكونه مما يثاب عليه ، فعلى هذا لا تكون الرواية دليلا على المدعى ، لكن الأظهر من الاحتمالين هو الأول بقرينة قوله ( فعمله ) فإن الظاهر أن الضمير فيه راجع إلى الشيء نفسه فيكون هو المعمول ولفظ الثواب وإن كان ظاهرا في نفس الجزاء

__________________

(١) والظاهر من كلمة ( من ) الواقعة بعد المبهمات هو كونها بيانية. لمحرره عفا الله عنه.

(٢) أما على تقدير إرادة المقدار فواضح وأما على تقدير إرادة الفرد فلأن كلمة ( من ) الداخلة على الجنس المفرد أيضا تبعيضية لا محالة مثل قولك فرد من الإنسان. لمحرره عفا الله عنه.

١٢٣

والأجر ويكون مقتضاه كون المراد من الشيء إما المقدار منه أو النوع منه ، لكن ظهور الشيء بقرينة قوله فعمله أقوى ، إذ على تقدير إرادة العمل منه يلزم التجوز في لفظ الثواب وعلى تقدير إرادة المقدار أو النوع من الثواب منه لا بد من إضمار لفظ (١) ( على عمل ) لتصحيح مرجع قوله فعمله ولا ريب أن المجاز أكثر من الإضمار فيتعين.

ويشهد لذلك أيضا إضافة الأجر إلى العمل ، إذ لو كان المراد بالشيء المقدار أو النوع من الثواب لناسب أن يقال كان له ذلك الشيء.

ثم إن قوله عليه السلام في الخبر الثاني من بلغه شيء من الخير ظاهر في العمل ، بمعنى أن لفظ الخير ظاهر فيه وكلمة من فيه يناسبه جدا كيف كان ، لكن قوله عليه السلام فعمل به ظاهر في إرادة خبر الخير إما من لفظ الخير بأن يكون هو مستعملا في خبر الخير ومرادا منه ذلك ، وإما بتقدير لفظ الخبر ، ضرورة أن المعمول به إنما هو الخبر دون العمل ، فإنه معمول لا معمول به ودون الثواب بمعنى الجزاء والأجر لكونه أيضا معمولا لا معمولا به وأيضا هو معمول لله سبحانه وتعالى ، فإنه عمله تعالى ولا يصح نسبته إلى العبد من نسبة الفعل إلى فاعله كما هو مفاد الرواية. هذا ، لكن قوله عليه السلام : ( ما بلغه ) لعله ظاهر في مقدار الثواب دون أصله.

قوله (قدس سره) : ( وأخرى بما تقدم في أوامر الاحتياط من أن قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ) (٢).

وذلك لأن موضوعها إنما هو العمل بما بلغ احتياطا لإدراك الواقع على

__________________

(١) ويكون المعنى من بلغه خبر مقدار من الثواب أو نوع منه على عمل فعمل ذلك العمل كان له أجر ذلك العمل. لمحرره عفا الله عنه.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٨٣.

١٢٤

تقديره كما هو المصرح به في بعض تلك الأخبار ورود في بعضها أنه عمله طلبا لقول النبي صلى الله عليه وآله وفي بعضها التماس ذلك الثواب وهو الظاهر مما لم يصرح به أيضا ، فإن قوله : ( من بلغه شيء من الخير أو من الثواب فعمله ) ظاهر في أنه عمله بداعي ذلك البلوغ بأن يكون الداعي إلى عمله هو مجرد احتمال الواقع الناشئ من البلوغ ويكون الفرض إدراكه على تقديره فحينئذ إما أن تكون تلك الأخبار مختصة بالعبادات أو يعم غيرها أيضا.

وكيف كان فهي داخلة فيها البتة وكلامنا أيضا فيها ، وهذا لا يصح إلا بأن يكون البالغ هو الثواب الخاصّ مع ثبوت مشروعية أصل الفعل والأمر به حتى يكون الاحتياط لإدراك ذلك الثواب البالغ على تقديره فتكون تلك الأخبار منجبرة لذلك الثواب على كل تقدير ، لأنه لو كان المراد بلوغ أصل العمل بمثل الخير الضعيف فلا ريب أنه لا يمكن أن يكون منشأ للقربة المعتبرة في العبادات المقومة لها فلا ينعقد الفعل حينئذ عبادة حتى يكون احتياطا ومدركا للواقع على تقديره ولا يعقل أيضا أن تكون هذه الأخبار منشأ للقربة المثوبة فيها لاستلزامه الدور كما لا يخفى ، حيث إن موضوعها الاحتياط فهي متوقفة على تحققه قبل ورودها ، فإذا كان تحققه متوقفا على ورودها يلزم الدور فلا بد حينئذ من حملها على ما إذا ثبت الأمر بالفعل في نفسه لكن يشك في مقدار المثوبة مع بلوغ مقدار منه عليه فتكون هي مثبتة لذلك المقدار الموعود بالبلوغ لا شرعية أصل الفعل.

قوله (قدس سره) : ( وثالثة بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض لا العقاب محضا أو مع الثواب ) (١).

قال دام ظله : لما كان الكلام في احتمال الوجوب الناشئ بالخبر الضعيف

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٣.

١٢٥

البالغ به فيقال حينئذ إن الأخبار المذكورة مختصة بمقتضى ظاهرها بما إذا بلغ الثواب المحض كما إذا أقام خبر ضعيف مثلا على استحباب شيء فلا يشمل ما إذا بلغ العقاب المحض كما إذا قام خبر ضعيف على وجوب شيء وقلنا بأن العقل لا يستقل باستحقاق الثواب على امتثال الواجبات ، فإنه حينئذ يدل التزاما على استحقاق العقاب على ترك ذلك الشيء من غير دلالة على الثواب أصلا ولا ما إذا بلغ الثواب والعقاب معا كما إذا قام خبر ضعيف مثلا على وجوب شيء وقلنا بأن العقل مستقل باستحقاق الثواب على امتثال الواجب أيضا كاستقلاله باستحقاق العقاب على مخالفته ، فإنه حينئذ يدل التزاما على الثواب على فعل ذلك الشيء وعلى العقاب على تركه ، فالبالغ حينئذ هو الثواب والعقاب معا لا الثواب المحض.

والحاصل أن الظاهر منها أن يكون البالغ هو الثواب من غير أن يكون معه بلوغ عقاب أيضا فلا يشمل صورة بلوغ العقاب المحض أو بلوغ كليهما معا.

قوله (قدس سره) : ( ويرد على هذا منع الظهور مع إطلاق الخبر ) (١).

لا يخفى أن ظاهر العبارة موهمة بخلاف المقصود ، فإنها بظاهرها تقضي أن المراد إطلاق تلك الأخبار بالنسبة إلى صورة بلوغ العقاب المحض أيضا مع أنه ليس بمراد له قطعا ، وكان عليه أن يقول : ويرد على هذا منع كون البالغ في المقام وهو احتمال الوجوب الناشئ من الخبر الضعيف هو العقاب المحض لاستقلال العقل باستحقاق الثواب على امتثال الواجب ، ومنع ظهور الأخبار في كون البالغ هو الثواب المحض ، بل يعم ما إذا كان مع العقاب أيضا كما في المقام.

ولعل الداعي إلى عدم تفصيل الكلام وضوح بطلان كون البالغ في المقام هو العقاب المحض.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٣.

١٢٦

قوله (قدس سره) : ( ويرد ما قبله ما تقدم ... إلى آخره ) (١).

وهو أن تلك الأوامر المستفادة من أخبار التسامح إنما تعلقت بالعمل المجرد عن نية القربة لا بالاحتياط المتوقف تحققه في العبادات على نية القربة المتوقفة على الأمر قبل تلك الأخبار فحينئذ يمكن أن تكون تلك الأخبار منشأ للقربة في العبادات كما مر.

قوله (قدس سره) : ( لأن الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل ( إلى قوله ) ومن المعلوم أن العقل مستقل باستحقاق هذا العامل المدح والثواب ) (٢).

حاصله أن موضوع هذه الأخبار إنما هو العمل بما بلغ بداعي بلوغه لما ذكره (قدس سره) ولا ريب أن العمل على هذا الوجه موجب لاستحقاق فاعله الثواب ولو لم يكن هناك أمر أصلا فإنه من الانقياد والإطاعة الحكمية فلا يكشف حينئذ ثبوت الثواب عليه بهذه الأخبار عن الأمر الشرعي بها لاحتمال كون تلك الأخبار مؤكدة لحكم العقل ، فإنه إنما يصح التمسك بثبوت الثواب على عمل على الأمر الشرعي به إذا لم يكن ذلك العمل في نفسه موجبا لاستحقاقه أصلا ، وأما إذا كان كذلك كما هو المفروض فورد خبر على ثبوت أصل الثواب عليه أو على ثبوت مقدار خاص منه فلا يكشف ذلك عن الأمر به شرعا.

أما إذا كان منشأ لأصل الثواب فواضح ، حيث إنه مؤكد لحكم العقل به وهو لا يلازم طلب الشارع استحباب وإن كان يلازم طلبه إرشادا ، حيث إن كل عاقل فضلا عن الشارع الحكيم إذا علم بوجود نفع في شيء لأحد يطلب منه ذلك إرشادا.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٣.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٨٣.

١٢٧

وأما إذا كان منشأ لمقدار منه فهو وإن لم يكن حينئذ مؤكدا لحكم العقل لعدم استقلاله بمرتبة خاصة من الثواب إلا أنه أيضا لا يلازم الاستحباب لاحتمال أن يكون ذلك من باب التفضل ويكون ذلك الخبر وعدا من الله عليه تفضلا واللازم من ذلك أيضا هو الأمر الإرشادي.

قال ( دام ظله ) :

إذا كان الدليل حينئذ منشأ للمقدار لا ينحصر محمله في التفضل ، بل يمكن أن يقال إنه يحتمل أن يكون هذا العمل على ذلك الوجه في الواقع موجبا لاستحقاق هذا المقدار الخاصّ البالغ لكن العقل لا يدركه وإنما الشرع كشف عنه ، هذا.

وكيف كان فمن هنا تبين بطلان قياس ما نحن فيه بقوله عليه السلام : ( من سرح لحيته فله كذا ) فإن سرح اللحية ليس في نفسه موجبا لاستحقاق الثواب أصلا بل كونه موجبا له إنما هو بأن يكون قد أمر به وأتى به لداعي هذا الأمر حتى يدخل في عنوان الامتثال ليكون موجبا له وليس هو نظير ما نحن فيه ، لعدم صدق الانقياد عليه.

هذا حاصل ما أفاده قدس سره.

أقول : استقلال العقل باستحقاق هذا الفاعل الثواب كما ادعاه (قدس سره) إنما يتجه بناء على كفاية احتمال الأمر في تحقيق موضوع العبادة التي محط نظرنا في المقام حتى يتحقق موضوع الاحتياط والانقياد أيضا.

وأما بناء على عدم كفايته وتوقف موضوع العبادة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا فلا وجه لدعوى استقلال العقل بذلك لعدم تحقق موضوع الانقياد حينئذ وقد عرفت أن الظاهر بل الصريح من كلماته (قدس سره) المتقدمة أن الفعل بداعي الاحتمال موجب لاستحقاق الثواب والمدح وإن لم يكن احتياطا.

١٢٨

وقد عرفت ما فيه أيضا.

والظاهر أن قوله هنا أيضا ناظر إلى ذلك لا إلى كفاية الاحتمال في تحقيق موضوع العبادة فافهم.

وكيف كان فالتحقيق ما أفاده دام ظله من أنا إن قلنا بتحقق موضوع الانقياد في المقام نفعل ما يحتمل الوجوب بداعي الاحتمال بأن يكون الإتيان بداعي احتمال الأمر كافيا فيه كما هو الظاهر فلا يصح التمسك بتلك الأخبار لما مر.

وأما إذا بنينا بتوقفه على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا كما اختاره (قدس سره) سابقا فيصح التمسك بها حينئذ لأن هذا العمل على هذا نظير سرح اللحية من غير فرق بينهما أصلا ، لكن لما اخترنا كفاية الاحتمال فيه فتسقط هي عن الاستدلال.

قوله (قدس سره) : ( ولا يترتب عليه رفع الحدث فتأمل ) (١).

الأمر بالتأمل لعله إشارة إلى أن الوضوء قد ثبت استحبابه في نفسه فحينئذ إن ورد أمر آخر به فهو إنما يكون غيريا يفيد شرطيته لغاية واجبة أو مندوبة ومن المعلوم أنه لم تتعلق تلك الأوامر الغيرية إلا به بعنوانه الراجح الّذي هو جهة استحبابه النفسيّ ، فلا بد في إتيانه لغاية مشروطة من قصد جهة استحبابه النفسيّ لا محالة ، فيكون إتيانه بتلك الجهة موجبا لانعقاده عبادة وصحيحة فيترتب عليه الطهارة البتة سواء تلك الغاية مما ثبت اشتراطه به بدليل معتبر أو غير معتبر ، فإنه إذا كان ذلك بدليل غير معتبر فأراد إتيانه احتياطا فلا بد أن يأتي به بتلك الجهة وهذا موجب لانعقاده عبادة وصحيحا موجبا لرفع الحدث ، فلا تظهر الثمرة بين القولين فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٥.

١٢٩

قوله (قدس سره) : ( وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا ) (١).

وذلك لوجوب المسح ببلّة الوضوء وهي مختصّة بما يكون في محل الوضوء من الماء دون الخارج عنه وإن استحب غسله كالمسترسل من اللحية هذا.

ثم إنّ هاهنا فائدة أفادها ( دام ظله ) : وهي أنّه هل يشرّع الاحتياط في موارد احتمال الوجوب أو الاستحباب بحيث يستحق الثواب عليه إذا قام دليل ظني معتبر على عدم وجوب ذلك الشيء المحتمل للوجوب أو على عدم استحباب ذلك الشيء المحتمل للاستحباب أو لا؟ وذلك كما إذا قام على عدم وجوب السورة في الصلاة مثلا أو على عدم استحبابها مع احتمال كونها واجبة أو مندوبة في الواقع أو قام على وجوبها أو استحبابها مع احتمال عدم وجوبها أو استحبابها في الواقع فأراد المكلف الإتيان بالصلاة بدونها احتياطا لأجل ذلك الاحتمال ، إما لتعذر إتيانه بها مع السورة مثلا أو لأنه لا يريد إتيانها معها بتشهي نفسه وتجريه ، فقال دام ظله :

الحق فيه التفصيل بأنه إن قام دليل معتبر على وجوب شيء في العبادة فتجري ولم يأت بها من ذلك الشيء الثابت اعتباره بالدليل بتشهي نفسه لكن أراد الإتيان بها بدونه فلا يكون ذلك منشأ للثواب في شيء فإن مثل ذلك خارج عن الانقياد والاحتياط جدا ، بل هو نظير اللهو واللعب وأما إذا اتفق تعذر الإتيان بها مع ذلك الشيء بحيث لو كان الواجب عليه واقعا هي مع ذلك الشيء لم يكن عليه شيء فأتى به بدونه حينئذ فالظاهر أن الحكم حينئذ هو الحكم فيما يأتي من صورة قيام الدليل على عدم شيء في العبادة أو على عدم استحبابه فأتي بها معه احتياطا فقال : أما في تلك الصورة أعني صورة قيام دليل معتبر على عدم وجوب شيء أو عدم استحبابه في العبادة أو مطلقا مع احتمال

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٥.

١٣٠

وجوبه أو استحبابه فيها أو مستقلا ونفسا فأتى به المكلف احتياطا لذلك الاحتمال.

فإن قلنا : إن استحقاق الثواب على الاحتياط من اللوازم العقلية المترتبة عليه قهرا ، بمعنى أنه مترتب عقلا على مجرد احتمال المطلوبية مع الإتيان بالمحتمل لأجل ذلك وليس مما يدخله الجعل أصلا ، لاختصاص ذلك بما إذا كان رفع المجعول بيد الشارع بأنه إن شاء رفعه وإن شاء أثبته ، فيكون الاحتياط في الصورة المفروضة منشأ لاستحقاق الثواب ومشروعا جدا.

وإن قلنا بأنه مما يمكن أن يدخله الجعل بمعنى أن العقل إنما يحكم باستحقاق الثواب ما لم يقل المولى بأني لا أعطي الثواب على فعل ذلك المحتمل للمطلوبية كما لعله الظاهر فلا يستحق عليه شيئا من الثواب أصلا لدخوله حينئذ على العمل مجانا فإن أعطاه شيئا فإنما هو إحسان محض.

هذا فيما إذا ثبت عدم إعطائه الثواب بطريق القطع ظاهر ، وأما فيما إذا ثبت بدليل ظاهر معتبر فالظاهر أنه أيضا كذلك ، لأن دليل اعتبار ذلك الظاهر منزلة منزلة القطع في آثار مؤداه ، بل نقول إن الاستحقاق ليس له ظاهر وواقع بل واقعه إنما يتحقق إذا لم يقم في المورد حجة من المولى على عدم الثواب وهي حاصلة بذلك الدليل الظني المعتبر هذا إذا كان مفاد ذلك الدليل عدم إعطاء الثواب ، وأما إذا لم يكن دليل كذلك ، بل الموجود في المورد إنما هو الدليل الدال على عدم وجوب ذلك الشيء المحتمل للوجوب أو على عدم استحبابه فهل هو يفيد ما يفيد الدليل المذكور أو لا؟

وجهان :

أحدهما : أن مقتضى دليل اعتبار ظاهر هذا الدليل جعل مؤداه مقام المقطوع ومن المعلوم أنه إذا قطع بعدم الوجوب أو الاستحباب فلا يستحق بعمله شيئا على المولى أصلا.

١٣١

وثانيهما : وهو الظاهر أن مقتضاه إنما هو جعل مؤداه منزلة ذات المقطوع لا يوصف كونه مقطوعا فحينئذ لا يقضي هو بنفي حكم احتمال الوجوب أو الاستحباب ، فالظاهر استحقاق الثواب على العمل حينئذ ويدل عليه بناء العقلاء أيضا فراجع.

قوله (قدس سره) : ( أما لو شك في الوجوب التخييري والإباحة ) (١).

يعني لو شك في كون شيء أحد فردي الواجب المخير أو مباحا لكن العبارة قاصرة عن ذلك ، فإن ظاهر الشك في الوجوب التخييري إنما هو الشك في أصل الوجوب التخييري ، بمعنى أن نشك في أنه هل ثبت عليه وجوب ، تخييري بين أمرين أو لم يثبت شيء أصلا بل هما مباحان ومن المعلوم أن الشك في أصل الوجوب التخييري مجرى لأصالة البراءة بلا شبهة ، فإن أحد هذين الأمرين لا إلى بدل في مقام الواجب التعييني كما لا يخفى وكذلك مجموع الفردين من الكلي المنحصر فيهما.

ثم إنه أراد بالوجوب التخييري أعم من الشرعي بقرينة جعله الشك في وجوب الشيء في ضمن كلي مشترك من أقسامه.

ثم إنه لا ريب إذا كان الشك في وجوبه في ضمن كلي مشترك فمن المعلوم حينئذ عدم وجوبه وإلا يرجع الشك إلى وجوب ذلك الكلي أو وجوب ذلك الفرد بالخصوص كما اعترف به (قدس سره) بقوله إذ ليس هنا إلا وجوب واحد مردد بين الكلي والفرد.

قوله (قدس سره) : ( فتعين إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقن الوجوب ) (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٨٥.

١٣٢

قال ( دام ظله ) ليست العبارة بجيدة ، ضرورة أن ذلك الفرد ليس متيقن الوجوب وإنما هو المتيقن بكونه مسقطا للواجب المعلوم المردد بينه وبين الكلي المشترك.

ثم قال إن إجراء أصالة عدم سقوط الواجب المعلوم بذلك الفرد إنما يتجه بناء على عدم اعتبار أصالة البراءة في مقام الشك في الوجوب التعييني والتخييري حتى فيما إذا كان التخيير عقليا ، لكن الظاهر اعتبارها حينئذ فحينئذ تكون هي حاكمة على تلك الأصل ومقتضاها حينئذ إسقاط الواجب المعلوم بفعل الفرد المشكوك فافهم ، فإنه إذا نفى التعين بها فيكون المأمور به بمقتضاها هو الكلي ومقتضاه سقوطه بأي من الفردين.

وإن شئت قلت : إنه لما كان الشك في تعيين ذلك الفرد بالخصوص بحيث يلزم به ويعاقب عليه فمقتضى أصالة البراءة نفى التكليف عن خصوصيته فهو حينئذ ليس ملزما بتلك الخصوصية فيكون مخيرا حينئذ.

وبعبارة [ أخرى ] إن الواقع لم يتنجز على المكلف كيف كان ، بل بمقدار لا يجوز مخالفته القطعية الحاصلة بترك الفردين جميعا وأما على نحو لو كان هو تلك الخصوصية فيتجه على المكلف فيعاقب عليه فلا ، بمقتضى أدلة البراءة من العقل والنقل فلا يرد حينئذ أن أصالة البراءة لا تصلح لتعيين المكلف به بعد العلم الإجمالي به ، بل شأنها نفي التكليف المشكوك فيه فافهم.

قوله (قدس سره) : ( وأما إذا كان الشك في إيجابه بالخصوص ) (١).

يعني بأن نشك بعد القطع بوجود شيء آخر في الجملة في أن هذا أيضا واجب بالخصوص بالوجوب التخييري ، بمعنى أن وجوب ذلك الشيء الآخر تخييري وهذا أحد فردي الواجب التخييري أو أن ذلك الشيء الآخر واجب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٥.

١٣٣

عينا فلا وجوب لهذا أصلا.

وبعبارة أخرى إن حال هذا الشيء مردد بين عدم الوجوب أصلا أو كونه واجبا تخييريا بأن يكون وجوب ذلك الفرد المعلوم وجوبه في الجملة تخييريا شرعا. والمراد بوجوب هذا الشيء بالخصوص هذا. وإنما عبر به لأنه مقابل لوجوبه في ضمن كلي مردد ، إذ عليه لا يكون هو واجبا بالخصوص وإنما الواجب هو الكلي المردد هذا.

هذا بخلاف التخييري الشرعي فإنه على تقديره ثابت لهذا الشيء بالخصوص لا للكلي المردد بينه وبين الغير.

ثم إنه ربما يتخيل أن هنا ثلاثة حوادث يكون كل منها مشكوك الحدوث في نفسه وهي : وجوب هذا الشيء تخييرا ، ووجوب ذلك الشيء المعلوم وجوبه في الجملة تخييرا ، ووجوبه عينا ، واثنان منها متلازمان ، وهما : وجوب هذا تخييرا ووجوب ذلك الغير كذلك ولما كان المفروض العلم الإجمالي بوجود حادث في ذلك الشيء الآخر مردد بين الوجوب التخييري الملازم لوجوب هذا الشيء كذلك وبين التعييني الغير الملازم لوجوبه فيقع التعارض بين أصالة عدم وجوب ذلك الغير عينا وبين أصالة عدم وجوبه تخييرا وأصالة عدم وجوب هذا الشيء كذلك ، فإن أصالة عدم الوجوب التخييري في هذا الشيء وفي ذلك لا تعارض بينهما بوجه بل متوافقتان إلا أن أصالة عدم وجوب ذلك عينا منافية لكل واحدة من هاتين بعد فرض العلم الإجمالي المذكور ، فلا معنى للأخذ بأصالة عدم الوجوب التخييري في خصوص هذا الشيء فإنها في مرتبة أصالة عدم الوجوب العيني في ذلك الشيء الآخر ، فلا يعقل أن يرخص الشارع في الأخذ بها دون تلك لعدم الترجيح كما أنه لا يعقل ترخيصه للأخذ بهما جميعا فإنه مستلزم للمخالفة القطعية.

لكنه مدفوع بأنه لو كان مفروض الكلام فيما إذا كان محل كل من تلك

١٣٤

الحوادث مغايرا لمحل الآخر كما إذا شك في ثلاثة أشياء بأن اثنين منها واجبان تخييرا أو أن الثالث واجب عينا بعد العلم الإجمالي بحدوث وجوب من الشارع في أحد تلك الأشياء فكان الأمر كما ذكر من أن أصالة عدم الوجوب التعييني في مرتبة كل من الأصليين الآخرين وهما أصالة عدم الوجوب التخييري في هذا وأصالة عدم الوجوب كذلك في ذلك ، لكن مفروضة في صورة اتحاد مورد اثنان منها ، إذ المفروض أن ذلك الشيء الآخر هل ثبت له الوجوب التعييني أو التخييري ، فهذان الحادثان متحدان بحسب المورد في ذلك الشيء ولما كان المفروض العلم الإجمالي بوجود حادث في ذلك الشيء مردد بينهما فيعارض الأصلان الحادثان فيهما فيه لذلك ويتساقطان.

وأما أصالة عدم الوجوب التخييري في هذا الشيء المشكوك الوجوب رأسا فهي ليست في مرتبة أصالة عدم الوجوب التعييني لذلك الشيء ، بل إنما هي في مرتبة أصالة عدم وجوب ذلك الشيء أصلا ، المنقطعة بالعلم بوجوب ذلك الشيء في الجملة ، فتكون هذه سليمة عن المعارض فيصح الأخذ بها.

وبعبارة أخرى إن الشك هنا في وجوب الأكثر بعد العلم بوجوب الأقل ، إذ المفروض العلم بوجوب ذلك الفرد في الجملة والشك في وجوب هذا أيضا أو اختصاصه بذلك.

والحاصل أن أطراف الشك هنا ثلاثة خصوصيات وهي وجوبان تخييريان ووجوب عيني ، متلازمة اثنتان منها وهما الأولان في الوجود ومتحدة اثنتان منها في مفروض البحث وهما الأخير وأحد الأولين فيكون الحال في المقام نظير ما إذا شككنا في إناءين في أنه هل وقع في كل منهما البول أو وقع الدم في أحدهما فقط هو هذا الإناء الخاصّ بعد العلم الإجمالي بوقوع أحد النجسين في هذا الإناء الخاصّ ، بمعنى أنا علمنا أنه لو كان الواقع بولا لوقع في كليهما وإن كان دما وقع في هذا الإناء الخاصّ فكما أنه لا إشكال في نفي وقوع البول من الإناء الآخر

١٣٥

المشكوك النجاسة رأسا فكذلك نفي الوجوب التخييري عن الشيء المفروض كونه مشكوك الوجوب كذلك.

وبالجملة نحن إذا جعلنا وجوب هذا الشيء في عرض وجوب الشيء الآخر المعلوم الوجوب في الجملة فلا يمكن أن نقول إما هذا واجب وليس ذلك كذلك مع إمكان عكسه فيكون هذا الشيء مشكوك الوجوب بدوا فيجري في نفي وجوبه الأصل من غير معارضة بالأصل في الآخر لانقطاعه بالعلم.

وبعبارة ثالثة أن المشكوك الحدوث في هذا الشيء إنما هو أمر شخصي جزئي وهو الوجوب التخييري فإنا إذا شككنا في أن هذا الشخص هل حدث في هذا الشيء أو لا؟ ومقابل هذا المشكوك إنما هو الحادث المردد بين النفسيّ والتخييري في ذلك الشيء الآخر ولما كان قد علم انقلاب الأصل هناك بالعلم بوجود ذلك المردد فيبقي ، الأصل في نفي هذا الشخص سليما عن المعارض فينفيه. والشك في أن ذلك المعلوم الإجمالي هناك تخييري أو عيني شك آخر في مرتبة لاحقة على هذا.

وإن أبيت إلا عن معارضة أصالة عدم الوجوب التعيني هناك لأصالة عدم الوجوب التخييري فنقول : أن الغرض نفي ذات الوجوب عن هذا الشيء ومن المعلوم أنه لا أصل يعارض أصالة عدم ذات الوجوب فحينئذ لا يجوز لنا ترتيب الآثار المجعولة لعدم الوجوب التخييري لهذا الشيء وأما ترتيب لازم عدم ذات الوجوب فلا مانع منه.

ثم إنه قد عرفت أن المصنف (قدس سره) منع استصحاب عدم المنع كما مر في المسألة الأولى من مسائل الشبهة التحريمية فكان عليه أن يمنع من أصالة عدم الوجوب أيضا لعدم الفرق بينهما كما بينا عليه ثمة ، والإنصاف ما يبنى عليه هنا لأن استصحاب عدم المنع أو عدم الوجوب عبارة عن عدم جعل قاطع في مرحلة الظاهر للعدم الأصلي الأولى وهو معقول ومشمول لأدلة الاستصحاب جدا.

١٣٦

قوله (قدس سره) : ( وأصالة عدم لازمه الوضعي وهو سقوط الوجوب المعلوم ).

فيه ما مر من أنه إذا بنينا على جريان أصالة البراءة عن تعيين ذلك الفرد المعلوم وجوبه إجمالا مرددا بين التخييري والتعييني فهي حاكمة على أصالة عدم ذلك اللازم الوضعي بتقريب ما مر ، فتدبر.

قوله (قدس سره) : ( إلا بالنسبة إلى طلبه ) (١).

لكونه هو المشكوك دون لازمه الوضعي للعلم بثبوته.

قوله (قدس سره) : ( لكن الظاهر أن المسألة ليست من هذا القبيل ) (٢).

فإنها مختصة بما إذا [ كان ] ذلك المشكوك كونه واجبا تخييرا أو مباحا مسقطا للواجب التعييني مباينا لذلك الواجب الآخر المعلوم الوجوب كالسفر بالنسبة إلى الصلاة فإنه إذا فرض كون شيء فردا من كلي واجب يكون ذلك الواجب الآخر فردا منه فلا فإن ذلك الشيء يتصف بالوجوب حينئذ لا محالة فلا يعقل الشك في إباحته من جميع الجهات.

ثم إن التخيل لما ذكر إنما هو الفخر (قدس سره) كما ينطق به آخر عبارته المحكية عنه وهو قوله : والمنشأ ان قراءة الإمام بدل أو مسقط. ومنشأ تخيله أنه لاحظ الإسقاط بين قراءة الإمام وقراءة المأموم مع أنه ليس كذلك ، بل الصلاة جماعة مسقطة للقراءة عن المأموم وهي فرد من الصلاة الواجبة فالمسقط هي لا قراءة الإمام حتى يكون المسقط مباينا للواجب ، فافهم.

قوله (قدس سره) : ( ثم إن الكلام في الشك في الوجوب الكفائي ... إلى آخره ) (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٨٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٨٥.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٨٦.

١٣٧

اعلم أن الشك في الوجوب الكفائي يتصور على وجوه :

الأول : ان نشك في أصله فحينئذ لا إشكال في جريان أصالة عدم الوجوب.

وأما أصالة [ البراءة ] فتختص جريانها بما إذا تعين مورد ذلك الواجب المشكوك فيه ، فيه.

الثاني : ان نشك في تعيين مورده بعد العلم الإجمالي بثبوت وجوب كفائي مردد بينه وبين غيره بأن لم يكن هو أو صاحبه متيقن الدخول فيه فحينئذ لا تجري أصالة البراءة أيضا إلا فيما إذا لم يقم عليه صاحبه وأما أصالة عدم الوجوب فالظاهر جواز إجرائه في حق نفسه ولا يعارضه أصالة عدم الوجوب في حق صاحبه ، فإنها لا حكم لها في حق الشاك فلا تصلح للمعارضة.

الثالث : أن نشك في دخوله فيمن ثبت ذلك في حقهم كما إذا صلى على جماعة وهو منهم وهو يعلم بكون غيره مقصودا بالسلام ولكن نشك في كون نفسه أيضا مقصودا فحينئذ جريان أصالة البراءة أيضا تختص بصورة عدم قيام غيره برد السلام ، وأما أصالة عدم الوجوب فلا إشكال بوجه حينئذ في جريانها لعدم معارضتها بشيء أصلا فإن الشك فيه حينئذ بدوي كما لا يخفى (١).

قوله (قدس سره) : ( وكذا ما لو تردد فيما فات عن أبويه إلى قوله ومجرد عروض النسيان ) (٢).

لعدم توجه الأمر الأول إليه فيما على الأبوين من الفوائت بخلاف ما نحن فيه ، هذا.

ثم إنه ( دام ظله ) قال الإنصاف أنه إذا كان النسيان مسببا عن

__________________

(١) بعد هذا سقط لعله ورقة أو أكثر ، وقوله : لعدم توجه ... إلخ مرتبط بقول الشيخ : وكذا ما لو ... إلخ الموضوع بين معقوفين.

(٢) أضفناه لارتباطه بما بعده لما تقدم وانظر : فرائد الأصول ١ : ٣٩٢.

١٣٨

تقصير المكلف لعدم تحفظه لعدد ما عليه من الفوائت مع التفاته إلى اشتغال ذمته بها والتمكن من حفظها فالعقل لا يحكم بقبح العقاب حينئذ على القضاء المجهول بسبب النسيان عن تقصيره ، بل الظاهر أنه يصحح عقابه على ترك ما عليه من القضاء الّذي قد التفت إليه في زمان ولم يحفظه إلى أن نسيه فصار مجهولا عنده لذلك النسيان.

وهكذا نقول في مسألة الدين أيضا فإن من كان بانيا على الاستدانة من أحد كثيرا على نحو التدريج فلم يحفظ ما يأخذه في دفتر فعرض له النسيان فيما بعد شك في أن الدين عشرة دراهم مثلا أو عشرون فالعقل لا يقبح العقاب حينئذ على ترك أداء العشرين إذا كان هو تمام الدين في الواقع مع جهله به.

فإن قيل : إن هذا مناف لما اتفقوا عليه من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بل جواز إجراء أصالة البراءة من أول الأمر.

قلنا : الاتفاق في الصورة التي ذكرناها ممنوع ، لوجود القول بما ذكرنا من كثير من الأعلام في قضاء الفوائت فيها كما عرفت ، بل لم يقيد هؤلاء وجوب الاحتياط فيها بالتقصير كما فعلنا.

وكيف كان فالذي هو مناط وجوب (١) الفحص في الشبهات الحكمية بعينه موجود في الصورة المفروضة وهو علية الوقوع في مخالفة الواقع لو لا الفحص ، والتحفظ هنا قائم مقام الفحص لعدم طريق للفحص بعد النسيان وإنما طريقه منحصر في التحفظ قبله فلا يعذر الجاهل المقصر التارك له مع تمكنه منه عند العقل في مخالفة التكاليف المجهولة عليه بسبب جهله المسبب عن تقصيره.

والحاصل أنا لا نجد فرقا بعد المراجعة إلى عقولنا في الحكم بعدم المعذورية في مخالفة التكليف المجهول على تقديره وكون احتماله سببا للتنجيز

__________________

(١) اعلم أن وجوب الفحص في الشبهات الحكمية عقلي لا غير لعدم معذورية الجاهل في مخالفة الواقع بدونه. لمحرره عفا الله عنه.

١٣٩

ومصحّحا للعقاب على مخالفته بين : ما إذا وصل طومار من مولى إلى عبده يحتمل العبد أن يكون لمولاه فيه أوامر ونواه بالنسبة إليه فلم يفتح الطومار ولم ينظر إلى ما فيه بل أتلفه وأحرقه أو غسله بالماء لئلا يعلم ما فيه ، وبين من علم من مولاه بأوامر أو نواه موسعة أوقاتهما فلم يحفظ عددها إلى أن غاب عن ذهنه.

هذا ما يقتضيه العقل في المقام ، وأما النقل فالذي يمكن أن يستدل به منه على البراءة فيه قوله صلّى الله عليه وآله : ( الناس في سعة ما لم يعلموا ) وقوله صلّى الله عليه وآله ( رفع عن أمتي تسعة ) بتقريب : أن ما لم يعلموا عام لما كان معلوما من قبل فصار مجهولا بعروض النسيان ولو مع ترك التحفظ ، وبأنّ المقام داخل في إطلاق النسيان في الحديث الثاني ، بل في عموم ما لا يعلمون أيضا فالحديثان يدلان على أنّ الله عزّ وجلّ قد رفع التكليف في المورد أيضا امتنانا على الأمة ، لكن الإنصاف أن دون الاستدلال بهما خرط القتاد .. (١). مثل المقام فافهم

قوله (قدس سره) : ( فتأمّل ) (٢).

وجهه أنّ مراعاة الاحتياط في النافلة إنما هي على سبيل الندب فالذي يقتضيه الأولوية المذكورة ثبوته في الفريضة كذلك لا وجوبا وكون ذلك في النافلة بيانا لتدارك ما فات ولم يخصّ ممنوع ، بل يحتمل أن يكون المراد بيان استحباب التدارك على هذا النحو.

قوله (قدس سره) : ( فإنّ في المسألة أقوالا ثلاثة ) (٣).

اعلم أوّلا أنه كان يحسن أن يقول بدل ( فإنّ في المسألة أقوالا ) ففي المسألة أقوال ، فإنّ قوله : فإنّ ظاهر في كون ما بعده علّة لما قبله مع أنّه غير سديد كما لا يخفى وغير مراد قطعا.

__________________

(١) سقط في الأصل.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٩٤.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٩٥.

١٤٠