تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

ويمكن ان يوجه ذلك بأن مراده من قوله ( ولو كان مخالفا لهما ) ليس ما كان مخالفا لكليهما ، بل إنما هو المخالف لخصوص كل منهما ، بقرينة تمثيله لذلك بالظهر والجمعة ، فتأمل.

لكن يبقى فيه إشكال آخر ، لا أرى محيصا عنه ، وهو أنه بعد فرض كون أحد الخبرين حجة لا محالة لا يعقل إيجاب الرجوع إلى الاحتياط فيما إذا كان أحدهما موافقا له أيضا ، لأن قضية الفرض المذكور كون المرجح في مقام العمل أحد الخبرين ، لا الاحتياط الموافق له.

اللهم إلا أن يوجه ذلك بأن المراد كون الاحتياط مرجعا في مؤدى الخبرين ، نظرا إلى أن القدر المتيقن من الإجماع والأخبار حجية أحدهما في الجملة ، من غير ثبوت أن يكون ذلك على وجه التعيين أو التخيير ، فلا يجوز التمسك بواحد منهما في خصوص مؤداه لقيام احتمال كون الحجة أحدهما بالخصوص ولا نعلمه ، والمراد بحجية أحدهما في الفرض المذكور هذا ، فمعنى حجية أحدهما حجية أحدهما فعلا في نفي الثالث مع عدم كونه حجة في خصوص مؤداه ، فلا ينافي الرجوع إلى الاحتياط في خصوص مؤداه.

لكنه أفسد من سابقه ، لأن ذلك ـ كما مر غير مرة ـ إنما هو يقتضي الأولى (١) ، والمراد بالوجه المذكور ما كان مخالفا له ، ومن المعلوم أن مقتضى الإجماع والأخبار المتواترة إنما هو حجية أحدهما حينئذ فعلا في مؤداه ، ومراده (قدس سره) أيضا ذلك.

هذا مع أن المفروض في مورده الوجوه الثلاثة إنما هي صورة تكافؤ الخبرين ، وعدم ترجيح لأحدهما شرعا ، ومعه لا يحتمل كون الحجية على تقدير

__________________

(١) نعم تفارقه من حيث أن مقتضاه حجية أحدهما بلا عنوان لا الغير المردد بين كونه أحدهما بالخصوص أو على التخيير. لمحرره عفا الله عنه.

٢٤١

ثبوتها ـ كما هو المفروض ـ مختصة بأحدهما ، بل يلازم حجية كل منهما تخييرا.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي ، فيفتي بما اختاره ، لأنه حكم للمتحير ، وهو المجتهد ) (١).

فيه أن كون التخيير حكما للمتحير مسلم لكن المتحير ليس المجتهد فحسب ، بل المقلد ـ أيضا ـ متحير ، فان تحيره في نفس الحكم الفرعي ، وفي أدلته ، وشرائط تلك الأدلة ، ومؤدياتها ، لا ينافي تحيره في الخبرين ، بل هو من هذه الجهة ـ أيضا ـ متحير ، لا يدري ما يصنع فيهما ، فيكون تحيره من هذه الجهة زائدا على تحيره من الجهات الاخر المذكورة ، فهو متحير في جميع جهات التحير للمجتهد ، التي منها تحيره في حكم الخبرين المتعارضين ، الّذي حكمه التخيير بينهما ، إلا أنه عاجز عن استعلام ذلك الحكم واستنباطه ، فإذا استنبطه المجتهد يكون ذلك حكما مشتركا بينه وبين المقلد.

اللهم الا أن يقال : إن مطلق الجاهل لشيء لا يسمى متحيرا في ذلك الشيء ، وإنما يصدق عليه هذا العنوان إذا كان مبتلى به ، ولا بد له من عمل فيه ، فينحصر في المجتهد (٢) ، إذ المقلد لمكان عجزه لا يلزمه التصدي لتعيين الطريق الفعلي من المتعارضين.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فلو فرضنا أن راوي أحد الخبرين عند المقلد أعدل إلى قوله فلا عبرة بنظر المقلد ) (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

(٢) وبعبارة [ أخرى ] إن المتحير هو ما يعبر عنه بالفارسية بـ ( درمانده ) وهو لا يصدق إلا على من ليس له بد من العمل مع جهله في كيفية العمل.

ألا ترى أن من لم يرد الذهاب إلى بغداد لكنه جاهل بطريقه لم يصدق عليه أنه متحير في طريق بغداد ، بل يقال له أنه جاهل به فحسب بخلاف من أراد الذهاب إليه مع جهله بطريقه فيصدق عليه انه متحير في طريقه. لمحرره عفا الله عنه.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

٢٤٢

قال ( دام ظله ) عدم العبرة بنظر المقلد ـ في الموارد المذكورة بحيث يكون اعتقاده بخلاف ما اعتقده المجتهد كعدمه في جواز أخذه الحكم الّذي استنبطه المجتهد بناء على اعتقاده في كيفية الطريق ـ مشكل غاية الإشكال ، وإنما المسلم من جواز تقليده له إنما هو ما إذا لم يكن معتقدا بخلاف ما اعتقده المجتهد في الطريق.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وإن كان وجه المشهور أقوى ) (١).

قال ( دام ظله ) الظاهر ذلك.

وأنا أقول وللنفس في كل من الوجهين تأمل وتزلزل ، والمرجو من الله أن يهدينا إلى سواء السبيل ، فإنه خير هاد ودليل ، وكأن القوي في النّظر انما هو الوجه الثاني ، فان الظاهر من الأخبار العلاجية كونها مسوقة لبيان حكم المتعارضين بالنسبة إلى من يكون طريقه إلى الواقع الأخبار ، أعني من يجب عليه تحصيله بها ، لا غير ، مع جهلة بالطريق الفعلي له من المتعارضين ، وهذا لا يكون الا المجتهد ، إذ المقلد طريقه إلى الواقع ليس إلا اعتقاد المجتهد.

ولو تنزلنا عن ذلك فغاية الأمر كونه متحيرا في العمل ، بين العمل باعتقاده ، أو بما يشخصه من الخبر لشرائط حجيته ، وعلى أي تقدير خارج عن مورد الأخبار العلاجية ، والإشكال المتقدم منه ( دام ظله ) إنما يقدح بالاستشهاد بالموارد المذكورة ، إذ هي على تقدير ثبوت عدم جواز عمل المقلد بمقتضى اعتقاد المجتهد فيها لا تكون شاهدة على المدعى ، لكنها لا تقدح به ، فان عدم جواز العمل حينئذ من باب أنه حينئذ عالم بخطإ اجتهاد المفتي ، وهو لا يلازم جواز عمله بمقتضى ما اعتقده هو ، حتى ينافي اختصاصه حكم المتعارضين بالمفتي ، فافهم.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فالظاهر أنها مسوقة لبيان وظيفة المتحير في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحير بعد الالتزام

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٤.

٢٤٣

بأحدهما ) (١).

أقول : كان الأجود أن يقول إنها مسوقة لبيان وظيفة المتحير ، ومن المعلوم أن الجاهل بطريق مقصد لا يكون متحيرا فيه إلا مع قصده الذهاب إلى ذلك المقصد ، ومن المعلوم أن مقصد كل مكلف في موارد احتمال التكاليف الشرعية إنما هو ما يبرأ ذمته عن تبعة استحقاق العقاب عليها ، فغرضه تحصيله والوصول إليه ، وهو لا ينحصر في الإتيان بالواقع على ما هو عليه ، بل يعم ما أدى إليه طريق غير علمي معتبر فعلا من قبل الشارع ، فالشاك في اعتبار أحد الخبرين المتعارضين إنما يكون متحيرا قبل ثبوت اعتبارهما في تلك الحال شرعا ، وأما بعد ثبوت اعتبارهما تخييرا حينئذ بمقتضى أخبار التخيير فيرتفع تحيره ، فإنه حينئذ بأيهما أخذ يؤديه إلى مقصده ، وهو المؤمن له من العقاب ، فله الأخذ بأي منهما في الواقعة الأولى ، وأما الوقائع الاخر فإذا فرض كونه شاكا فهي (٢) فيها في اعتبار غير ما اختاره في الأولى ، فلا يصدق عليه أنه متحير ، لأن له فيها طريقا فعليا إلى مقصده ، وهو ما اختاره في الأولى لأن اعتباره فيها متيقن ، والمفروض أن أخبار التخيير مسوقة لبيان حكم المتحير ، لا مطلق الشاك ، فلا تشمل الوقائع الاخر قطعا ، فلا بد له في إثبات حكم التخيير حينئذ من التشبث بغيرها إن كان ، وإلا فالاقتصار على المتيقن.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وبعض المعاصرين استجود هنا كلام العلامة مع أنه منع من العدول عن أمارة إلى أخرى وعن مجتهد إلى آخر فتدبر ) (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٤.

(٢) الظاهر زيادة كلمة ( فهي ).

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٤.

٢٤٤

أقول : لعل وجه استجواده له أن كلا الخبرين المتعارضين قد وصلا من الشارع بطريق صحيح ، وكل ما كان كذلك يجوز الأخذ به تعبدا من باب التسليم ، بمقتضى أخبار التسليم ـ التي منها ما ورد في بعض الأخبار العلاجية ـ وهو قوله عليه السلام حين سئل عن الخبرين المتعارضين ( بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك ) (١) فيجوز الأخذ بكل من المتعارضين مطلقا ، لأن مصلحة التسليم لا ترتفع ، وعنوانه لا ينتفي بمجرد الأخذ بأحدهما واختياره ، بل هما ـ أعني مصلحة التسليم وصدق عنوانه ـ باقيان على ما كانا عليه بالنسبة إلى الوقائع المتأخرة ـ أيضا ـ.

هذا مع أن ما ذكرنا ـ من أخبار التسليم ـ وارد في خصوص الخبرين المتعارضين ، ومعه لا حاجة إلى إثبات كلية الكبرى.

هذا بخلاف الأمارة وفتوى المجتهد ، فإن شيئا منهما لم يصل من الشارع بالوصول القولي وبطريق الانتساب إليه كذلك.

نعم الدليل على اعتبارهما قد وصل منه كذلك ، وليس الكلام فيه ، وكأن أمر المصنف (قدس سره) بالتدبر إشارة إلى هذا الّذي ذكرنا ، فافهم.

قوله ـ قدس سره ـ : ( بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدمة للترجيح ) (٢).

أقول : كون التنبيه المذكور خاتمة للتخيير لأجل أن الّذي أثبته سابقا إنما هو حكم التخيير للمتكافئين من الخبرين المتعارضين ، لكن لم يبين أنه ثابت لمطلق المتكافئين منهما ، أو للذين لا يرجى الاطلاع على مزية لأحدهما ، فلا عبرة بالتكافؤ البدوي ، فكان عليه التنبيه على ذلك فنبه عليه لذلك ، لكن كونه مقدمة

__________________

(١) الوسائل : ١٨ : ٧٧ باب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٥.

٢٤٥

للترجيح لم يفهم وجهه ، بل الظاهر العكس ، لأن وجوب الفحص عن المرجحات.

مبني على وجوب الأخذ بها ، فالمناسب التعرض له بعد إثبات وجوب الترجيح.

قوله ـ قدس سره ـ : ( مع أن أصالة العدم لا يجدي في استقلال العقل بالتخيير ، كما لا يخفى ) (١).

فيه أنه لا فرق بين الأصول العملية والطرق الغير العلمية المعتبرة في هذا المقام أصلا ، فان حكم العقل إن كان على وجه يستكشف منه حكم الشارع به في صورة عدم المزية لأحد المتعارضين ، فيكون الحال كما في تخيير الشارع بلسانه في تلك الصورة ، من حيث جواز الاعتماد في عدم المزية على استصحاب عدمها وعلى الطريق الظني الكاشف عن عدمها.

وإن لم يكن حكمه على هذا الوجه ، فلا مساس لشيء منهما في إحراز عدم المزية ، إذ كل من الطريق الظني والأصل العملي مجعول من قبل الشارع ، ومعنى جعل الطريق الظني إيجابه ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على مؤداه ـ على تقدير صدقه ـ عليه مع كونه محتملا للخلاف ، بمعنى جعله طريقا إلى ما يفيده من الأحكام الشرعية ، ومعنى جعل الاستصحاب مثلا الحكم في مورده على طبق الحالة السابقة ، وترتيب الأحكام الشرعية المترتبة على المتيقن على مورده ، ومن المعلوم أنه إن استكشف من حكم العقل تخيير الشارع في صورة عدم المزية لأحد المتعارضين ، فيكون التخيير حكما شرعيا ثابتا لتلك الصورة واقعا ، فيجري في إحراز موضوعه ـ المفصل بعدم المزية ـ كل منهما ، وإلا فلا مجرى لشيء منهما لعدم إفادة شيء منهما حينئذ علما ولا عملا.

أما عدم إفادة العمل فواضح.

وأما عدم إفادة العلم بالنسبة إلى الأصل فكذلك ، وأما عدمها بالنسبة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٥.

٢٤٦

إلى الظنّ ، فلأن استقلال [ العقل ](١) في الموارد الشخصية بحكم منوط بجزمه بكون الموارد من مصاديق الكلي الّذي حكم عليه بذلك الحكم ، ومن المعلوم أن الظن وإن بلغ في القوة إلى ما بلغ يكون محتملا للخلاف ، وإلا لما كان ظنّا فلا يحرز به موضوع ذلك الحكم في المورد ليستقل العقل بالحكم عليه.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( المتممة فيما لم يذكر فيها من المرجحات المعتبرة بعدم القول بالفصل ) (٢).

قوله المتممة مبني للمفعول ، صفة للدلالة في قوله قبل ذلك ( ودلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجحات ) وحاصله أن أخبار التخيير جملة منها مطلقة ، غير مقيدة بشيء من المرجحات ، وبعض منها مقيدة ببعض تلك المرجحات ، فلا بد من حمل تلك المطلقات عليه ، إذ المطلقات وإن بلغت في الكثرة إلى ما بلغت يكفي في تقييدها ورود مقيد واحد معتبر ، فيكون الحاصل من مجموعها اختصاص حكم التخيير بغير صورة بعض المرجحات المذكور في بعضها ، فإذا ثبت اختصاصه بغير صورة ذلك البعض من المرجحات ثبت اختصاصه بغيره من المرجحات بضميمة عدم القول بالفصل ، فذلك البعض من أخبار التخيير الدال على اختصاص التخيير بغير صورة ما ذكر فيه من المرجحات وإن لم يكن دالا على اختصاصه بغير صورة وجود سائر المرجحات في نفسه إلا أنه دال عليه بضميمة عدم القول بالفصل ، فعدم القول بالفصل متمم لدلالته على تمام المطلوب.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فالمشهور فيه وجوب الترجيح وحكي عن

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٥.

٢٤٧

جماعة منهم الباقلاني والجبائيان عدم الاعتبار بالمزية ) (١)(٢).

قال ( دام ظله ) ومن القائلين بعدم اعتبارها السيد صدر الدين الشارح للوافية (قدس سره) (٣) إلا أنه قائل باستحباب الترجيح بها ، وسيأتي من المصنف نقله منه ـ أيضا ـ.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٦.

(٢) شرح البدخشي ٣ : ٢١٣.

(٣) شرح الوافية للسيد صدر الدين ، مخطوط ، فإنه صرح بذلك في باب التعادل والتراجيح في موردين بالاختصار والتفصيل.

المورد الأول في الباب المزبور قبل ثماني أوراق عند قوله العاشر بين الخبرين وإليك لفظه :

فأنت إذا تأملت ما بيناه ـ ونظرت في أحاديث التراجيح من حيث الاختلاف إذ قد اكتفى في البعض بالتوقف ، وفي البعض بالتخيير وفي البعض فصل تفصيلا ثم إن المفصلات منها مختلفة الترتيب ومختلفة العدد ، ونظرت ـ أيضا ـ في قول الصادق عليه السلام انه هو الّذي أوقع هذا الاختلاف بين الشيعة ، لكونه أبقى لهم عليهم السلام ولنا ـ علمت ان الأصل هو التخيير في العمل والفتوى فيجوز للمكلف العمل بما في الكافي والفقيه بشرط عدم رد الشيخ له سواء كان له معارض أم لا.

نعم الترجيح بما ذكر في الأخبار مستحب إن أمكن وسيجيء كلام أبسط من هذا إن شاء الله تعالى.

المورد الثاني في الباب المزبور أيضا قبل ست أوراق وإليك لفظه بكلامه الأبسط حيث قال : ثم إن المشهور ، بل المجمع عليه عند الأصوليين وهو وجوب استعلام التراجيح ووجوب العمل بالراجح ، وسننقل دليلهم إن شاء الله تعالى فيرد على قولهم إشكالات على تلك الأحاديث.

منها : أن الواجب على من يسأل عن طريق العمل بالمتعارضين أن يجيب بأن اللازم العمل بالحديث الّذي اختص بوجه من جملة ثمانية وجوه إن كان مناط جوابه على الوجوه المعلومة من الأحاديث ، وهو ما فوق التوقف حسب ما ذكرناه مع أن الراوي سأل مرة وأجاب عليه السلام بأن اللازم العمل بما هو أصح سندا ، ففرض الراوي التساوي فيه فأجاب بترجيح المشهور على النادر ، فيشكل الأمر بأن الراوي إن فرض التساوي في الوجوه الأخر غير السند ثم فرض التساوي فيه ـ أيضا ـ فالجواب هو التوقف أو التخيير ليس إلا ، وإن لم يفرض التساوي ، فالعمل بما أصح سندا لا يقتضي قوة الظن بالعمل بما هو حكم الله تعالى في الواقع لأن الأوثقية لا تفيد إلا قوة الظن بصدور الخبر عن المعصوم عليه السلام ، وربما كان خبر الثقة قطعي المضمون فضلا عن قوة الظن به ، كما أشرنا إليه ، كأن يروي الأوثق ما هو مخالف لجميع أقوال الأمة ويروى الثقة ما هو المعلوم من مذهب الشيعة ، وأيضا بعد فرض التساوي في السند فقط ليس اللازم العمل بما يخالف العامة ، كما يدل عليه حديث زرارة بن أعين ( رحمه

٢٤٨

واحتج عليه على ما حكي عنه ( دام ظله ) بوجوه :

أحدها : الاقتصار في بعض أخبار الترجيح على بعض المرجحات.

وثانيها : اختلاف الترتيب في ذكر المرجحات في تلك الأخبار.

وتقريب الاستدلال بهما : أن شيئا منهما لا يناسب وجوه الترجيح ، بل يناسب استحبابه ، لأن الواجبات لا يعقل تسامح المعصوم عليه السلام في بيانها ، وبيان كيفيتها مع عدم الموجب له المقطوع به في المقام.

وثالثها : أن من المرجحات المنصوصة موافقة الكتاب ، والمراد بها إما موافقة نصوصه وإما موافقة ظواهره ، لا سبيل إلى حملها على الأولى ، إذ مع وجود

__________________

الله ) أعني المخالفة لا يقتضي قوة الظن بكون مضمون المخالف واقعيا ، كما إذا كان الموافق موافقا لنص الكتاب ومحكمه ، لأن صدور الأخبار التي ليست واقعية ليس منحصرا في التقية عن العامة ، بل لعله كان تقية من بعض سلاطين الوقت الّذي لا يبالي بالدين مطلقا ، كبعض بني أمية وبني العباس ، ألا ترى أن الوليد ( لعنه الله ) استخف بالقرآن والمتوكل ( لعنه الله ) صرح بعداوة سيدة النساء صلوات الله عليها مع أن هذين ليسا مذهبا لأحد من العامة.

ومنها : أن العوض على كتاب الله تعالى إن كان على المحكم الّذي صار مضمونه ضروريا في الدين أو المذهب فلا ثمرة لعرض الحديث عليه إن كان المقصود تحصيل العلم أو الظن بحقيته ليعمل به ، لأن مثل هذا الحكم مستغن عن الدليل ، وإن كان على الظاهر الّذي اختلف في ظهوره ولم يعلم من طريق الأئمة عليهم السلام حاله والمقصود منه ، فلا يحصل من موافقته لمثل هذا الظاهر قوة الظن ، إذ ربما كانت دعوى الظهور من قائله غير مستندة إلى حجة شرعية وكان ما ليس بظاهر عنده هو المقصود فيكون الحديث المخالف لهذا الظاهر المطابق للواقع.

ومنها : الاكتفاء في البعض بالبعض.

ومنها : مخالفة الترتيب ففي البعض قدمت الشهرة وفي الآخر قدم السند وغير ذلك مما يظهر بالتأمل فيها.

والجواب عن الكل هو ما أشرنا إليه ، من أن الأصل التوقف في الفتوى والتخيير في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع وأن الترجيح هو الفضل والأولى. انتهى.

وقد قال في مورد آخر : فنحتاج إلى الترجيح وليس لازما بل مخيرون بين الترجيح والأخذ بأيهما شئنا من باب التسليم.

٢٤٩

نصّ من الكتاب في مسألة لا يعقل التحير في حكمها الّذي هو مورد تلك الأخبار والداعي للسؤال فيها في المسبوقة به منها ، فيتعين حملها على الثانية ، وهي لا تصلح لإيجاب الأخذ بها في مقام الترجيح ، إذ الظواهر مما تختلف باختلاف الأنظار ، فلا بد أن يكون الأمر بالأخذ بها استحبابيا ، فإذا كان الحال في موافقة الكتاب ذلك ، فهو الحال [ في ] سائر المرجحات ، إذ من المعلوم أنها بأسرها على نسق واحد ، مضافا إلى عدم القول بالفصل ، بل إلى الاتفاق على عدمه.

ورابعها : أن من تلك المرجحات أعدلية راوي إحدى الروايتين ، وقد قدمت هي على الشهرة في مقبولة عمر بن حنظلة (١) ، التي هي العمدة من أدلة وجوب الترجيح بها ، مع أن الترجيح على القول بوجوبه إنما هو لقوة الظن في إحدى الروايتين ، ومن المعلوم أن الشهرة أقوى منها من حيث إفادة الظن لصدق موردها.

هذه جملة ما ذكره (قدس سره) من الأدلة ، مع توضيح منا في تقريب الاحتجاج بها.

وحاصل الجميع تسليم ظهور الاخبار العلاجية في وجوب الأخذ بالمرجحات ، إلا أنه يدعي الاستحباب بإبداء الصارف لها عنه بهذه الوجوه.

ولا يخفى على المتأمل ما في كل منهما :

أما الأولان منها : فلأنهما على تقدير تماميتهما في أنفسهما إنما يقدحان بالقول بوجوب الأخذ بتلك المرجحات من باب التعبد ، لا الظن بأقربية إحدى الروايتين إلى الواقع أو أبعديته عن الباطل ، إذ مراعاة الترتيب بينهما والعمل بخصوص كل منهما لازمان على ذلك القول ، وأما على القول الثاني فلا يلاحظ الترتيب بينها على النحو المذكور في الأخبار ، ولا يقتصر على ما ذكر فيها من

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٠١ الحديث ٥٢. الوسائل ١٨ : ٧٥ الحديث ١.

٢٥٠

المرجحات ، بل المناط ما مر من اشتمال إحدى الروايتين على مزية مفقودة في الأخرى موجبة لأقربية ذيها إلى الواقع على فرض الدوران بينه وبين صاحبه ، أو أبعديته عن الباطل ، والترجيح بتلك المزية وإن كان ـ أيضا ـ تعبدا من الشارع إلا أنه ليس تعبدا صرفا غير منوط بأمر جامع بينهما كما هو مقتضى القول الأول.

والحاصل أن أصحاب القول الأول إنما يتعبدون بخصوصيات تلك المرجحات المنصوصة ولا يتعدون فيها إلى غيرها ، وبتقديم بعضها على بعض على النحو المذكور فيها.

وأصحاب القول الثاني لا يتعبدون بشيء منهما وإنما يتعبدون بالمزية الموجودة في إحدى الروايتين على النحو المذكور ، من أي سبب حصلت ، ويحملون ذكر المنصوصة منها في الأخبار على ذكر بعض أفرادها ، وكونه من باب التمثيل.

وبالجملة إذا كان المناط في الترجيح هي المزية المذكورة ، فالواجب على الشارع التنبيه عليها فحسب ، إذ لولاه لزم تسامحه في بيان الواجب ، وهو حاصل كما يقضي به التأمل في تلك الأخبار وأما التنبيه على شيء من خصوصياتها فلا ، فضلا عن جميعها ، لعدم إناطة الترجيح بخصوص شيء منها ، حتى يلزم من عدم التنبيه عليه التسامح في بيان الواجب.

ومن هنا يظهر عدم قدح اختلاف الترتيب في ذكر المنصوصة منها بذلك القول أيضا ، بل دليل عليه ، كما لا يخفى على المتأمل.

والسيد المذكور (قدس سره) قد اعترف في ذكر الرابع من الوجوه المتقدمة بأن الترجيح على القول به منوط بقوة الظن في إحدى الروايتين ، وهو عين ما اختاره أصحاب القول الثاني.

وخلاصة الكلام : أنه ينبغي الاحتجاج ـ بالوجهين المذكورين على تسلمهما

٢٥١

وتماميتها في أنفسهما ـ على بطلان القول الأول ، بتقريب أنه لو كان الترجيح منوطا بخصوص تلك المرجحات المنصوصة لما أهمل الإمام عليه السلام بعضها في بعض تلك الأخبار العلاجية ، لاستلزامه إخلاله عليه السلام ببيان الواجب مع عدم الداعي المجوز له ، وأيضا أصحاب هذا القول لا بد لهم من التعبد بتقديم بعض تلك المرجحات على بعض ، كتعبدهم بخصوصياتها ، ولا يتمكنون من إثبات ذلك لاختلاف الأخبار العلاجية في ترتيبها ، بل اختلافها في ذلك كاشف عن عدم وجوب ملاحظة الترتيب بينها ، إذ على تقدير الوجوب يلزم إخلاله عليه السلام ببيان الواجب.

وأما القول الثاني ، فلا ينافيه شيء من الوجهين ، إذ عليه يكون الواجب هو الترجيح بتلك المزية المذكورة من أي سبب حصلت ، وقد ثبتت هي في تلك الأخبار ، وأما خصوصياتها فلم ينط الترجيح بخصوص شيء منها ، حتى يلزم من عدم ذكر شيء منها التسامح في بيان الواجب ، فلا ينافيه أول الوجهين المتقدمين.

والترتيب بين الأسباب المحصلة لتلك المزية ـ إذا تحققت جملة منها في إحدى الروايتين المتعارضتين ، وجملة أخرى مخالفة لتلك الجملة في أخراهما ـ إنما هو بكون أحدهما محصلة للظن الأقوى مما يحصله الأخرى ، وإن كانت الأخرى المفيدة للظن الأضعف مقدمة في الذّكر في تلك الأخبار ، فأن الأخرى المحصلة للظن الأضعف مع تعارضها للمحصلة للأقوى غير مندرجة في تلك المزية ، التي أنيط بها الترجيح ، بل المندرجة فيها حينئذ إنما هي المحصلة للأقوى وإنما تندرج فيها إذا كانت سليمة عن معارضة تلك لها ، وفي الحقيقة لا تعارض بينهما عند اجتماعهما.

والحاصل : إذا كان المفروض أن الشارع أناط الترجيح بكون إحدى الروايتين مشتملة على مزية موجبة لأقربيتها إلى الحق ، أو أبعديتها عن الباطل ، وتعبدنا بالأخذ بمثل هذه المزية ، فلا يعقل تعبده إيانا بمصداقية شيء لها ، فإنها

٢٥٢

كسائر المفاهيم صدقها على ما ينطبق عليها قهري ، وعلى ما لا ينطبق عليها ممتنع ، فعلى تقدير عدم اختلاف الأخبار في ترتيب المزايا المذكورة ـ أيضا ـ لا حجية فيها علينا في إثبات وجوب الترتيب بينها ، لرجوعه إلى التعبد بمصداقية ما قدمت عند الاجتماع لتلك المزية الكلية ، وهي ليست حكما شرعيا يتطرق إليه التعبد ، فلا تكون أدلة اعتبار الخبر مقتضية للتعبد به ، بل لا يعقل إرادته به منها ، فيكون تشخيص مصاديقها موكولا إلى نظر المستنبط ، فاتضح بذلك عدم منافاة الوجه الثاني لذلك القول ـ أيضا ـ.

هذا كله مضافا إلى عدم تمامية شيء من الوجهين في نفسه أيضا.

أما أولهما : فلأنه غير مستلزم للتسامح في بيان الواجب على تقدير وجوب الأخذ بجميع تلك المرجحات المنصوصة ، فإن التسامح حينئذ إنما يتحقق بعدم بيان بعض منها أصلا ، وأما إذا كان المفروض بيان الجميع في مجموع تلك الأخبار وإن لم يكون في بعضها فلا.

وأما ثانيهما : فلأن أكثر الأخبار الآمرة بالترجيح قد اقتصر في كل منهما على ذكر بعض المرجحات ، فلا منافاة بينها من حيث الترتيب ، حتى يقدح بالقول الأول ، وإنما المذكور فيها جميع تلك المرجحات اثنان ، أحدهما مقبولة عمر بن حنظلة ، وثانيهما مرفوعة زرارة ، والاختلاف في الترتيب إنما هو بين تينك من جهة أن أول ما ذكر منها في المقبولة إنما هي صفات الراوي ، وفي المرفوعة إنما هي الشهرة ، وغاية ما يلزم أصحاب ذلك القول إنما هو العلاج بينهما ، وسيأتي إمكان العلاج بينهما إما بحمل تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بين الحكمين من حيث أنهما حكمان ، كما هو ظاهر صدر المقبولة ، وإما بتحكيم المرفوعة على المقبولة على النحو الّذي يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فلم ينهض الوجهان حجتين على أولئك أيضا.

وأما ثالث الوجوه المتقدمة ، ففيه أن المراد بموافقة الكتاب إنما هو موافقة

٢٥٣

ظواهره ، من عموماته أو إطلاقاته ، لكن ليس كل ظاهر مما يختلف باختلاف الأنظار ، بل غالب الظواهر مما اتفقت فيها الأنظار ، إذ الغالب استناد الظهور إلى الوضع ، أو إلى إحدى من القرائن العامة التي في قوة الوضع ، واختلاف الأنظار فيها على تقديره راجع إما إلى الاختلاف في الوضع ، وإما إلى صلاحية القرينة لإيجابها لذلك ، وهو بكلا شقيه نادر جدا ، فلا محذور في إيجاب الترجيح بتلك الظواهر.

وأيضا إنما علقت الترجيح على نوع الظهور الكتابي دون أشخاصه ، فهو كسائر الموضوعات العرفية المعلق عليها حكم شعري ، من حيث إناطة تشخيصه إلى المحكوم ، وهو يشخصه بالرجوع إلى العرف واستعلامه منهم أن الظاهر من الآية المحتمل ظهورها في الاحتمال الموافق لأحد الخبرين ما ذا؟ وبعد استعلامه ظهورها فيه لا عبرة في حقه باختلاف إنظار سائر المجتهدين ، وإنما القادح بعمله اختلاف إنظار العرف ، فافهم.

هذا مضافا إلى أن اختلاف الظواهر باختلاف الأنظار لو كان قادحا بوجوب الترجيح بموافقتها لكان قادحا باستحبابه أيضا ، كما لا يخفى على المتأمل.

وأما رابع الوجوه المذكورة ، ففيه أنه على تقدير تماميته بقدح بالقول الأول من القولين في وجوب الأخذ بالمرجحات ، إذ أصحاب الثاني منهما لا عبرة عندهم بالترتيب الواقع بينها في الأخبار ، ويحملون تلك الأخبار على بيان مرجحية كل منهما في نفسه.

هذا مضافا إلى عدم تماميته في نفسه أيضا ، فإن الترجيح بقوة الظن إنما هو أحد الأقوال في المسألة فليس أمرا متفقا عليه حتى يحتج به على أولئك.

نعم ، الّذي يرد عليهم أن الظاهر أنهم معترفون بتقديم الشهرة على صفات الراوي مع أنها قد قامت على الشهرة في المقبولة.

٢٥٤

لكنه مندفع ـ أيضا ـ بما مرت الإشارة إليه ، من أن غاية ما يلزم عليهم علاج التعارض بينها وبين المرفوعة ، الدالة على تقديم الشهرة ، ولهم العلاج بإحدى الوجهين المشار إليهما.

وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في وجوب الأخذ بالمرجح لأحد الخبرين المتعارضين ، وهذا هو المشهور.

لنا عليه ـ مضافا إلى تواتر الأخبار الظاهرة فيه من غير ما يصلح لصرفها عنه كما عرفت ، وإلى الإجماع المحقق ، والسيرة القطعية ، والمحكية عن الخلف عليه في الجملة (١) ، وإلى لزوم الهرج والمرج في الفقه ، وإحداث فقه جديد من طرح المرجحات كلية ، حيث أن من سير الفقه سيرا إجماليا يجد الأخبار المتعارضة في عمدة أبوابه فوق حد الإحصاء ، إذ في عمدة أبوابه وردت الأخبار الموافقة للعامة والمخالفة لهم لا محالة ، فإذا بني في تلك الأبواب على الإفتاء على طبق الموافقة لهم يلزم إحداث فقه مباين لطريقة الفرقة الناجية ( نصرهم الله ) ـ أن مقتضى الأصل إنما هو ذلك ، مع قطع النّظر عن تلك الوجوه أيضا.

وتوضيحه أنا قد قوينا سابقا أن اعتبار الأخبار إنما هو على وجه الطريقية ، لا السببية ، وقد عرفت ان مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين منها بناء عليه ـ إنما هو تساقطهما في خصوص مؤداهما ، وفرضهما كأن لم يكونا بالنسبة إليه في العمل بما يقتضيه الأصول العملية ، فلو لا قيام الإجماع والسيرة وتواتر الأخبار على اعتبار أحدهما في الجملة ـ حينئذ ـ وكونه دليلا في مؤداه ، لكان مقتضى الأصل والقاعدة عدم العبرة باحتمال الترجيح لأحدهما ـ أيضا ـ فانه بمجرده ـ من غير قيام دليل على اعتباره في مقام الترجيح والتعيين ـ لا

__________________

(١) فإن المرجحات المنصوصة داخلة في معقد الإجماع ومورد السيرة المذكورين لا محالة والخلاف إنما هو في غيرها. لمحرره عفا الله عنه.

٢٥٥

يصلح لجعل مورده حجة حتى يؤخذ به ، ولا قدرا متيقنا من الحجية أيضا حتى يؤخذ به لذلك ، إذ المفروض حجية كل منهما في نفسه على نحو حجية الآخر كذلك ، بمعنى اشتمال كل منهما على شرائط الحجية المأخوذة في دليل اعتبارهما وكونهما في الدخول فيه سواء ، وعدم حجية شيء منهما فعلا لأجل التعارض ، وعدم مزية لأحدهما على الآخر بالنظر إلى دخوله في ذلك الدليل ، كما أنه لا مساس للتخيير بينهما على ذلك التقدير أيضا ، فإنه مترتب على حجية أحدهما فعلا لا محالة ، والمفروض عدمه ، لكن لما قام الإجماع والسيرة وتواترت الأخبار على حجية أحدهما فعلا في الجملة ، حيث أن أخبار التخيير والترجيح متفقة على ذلك ، لاشتراك الكل فيه ، فصارت حجية محتمل الترجيح منهما متيقنة ، فإن الواحد منهما الّذي علم بحجيته إما حجة عينا ، أو تخييرا ، وعلى أي تقدير يلزم حجية محتمل الترجيح لعدم احتمال حجية الآخر تعيينا ، وحجية الآخر مشكوكة بدوا ، فيتعين الأخذ بمحتمل الترجيح للعلم بحجيته ، وعدم العمل بالآخر ، لفرض الشك في حجيته الموجب لدخوله تحت أدلة حرمة العمل ، والتدين بغير ما علم من الشارع التدين به.

ولا مساس لأصالة البراءة عن التعيين في محتملة في المقام ، إذ لا سبيل لها إلى موارد الشك في طريق الامتثال (١) ، فإنها إنما يرفع التكليف المستتبع للعقاب ، ومخالفة الطريق من حيث هو لا يعقل العقاب عليه ولو مع القطع باعتباره ، فكيف بصورة احتماله ، وإنما هو على تقديره على مخالفة ذيه ، وبعد فرض قيام الحجة عليه لفرض العلم بحجية ما قام عليه وأن التردد إنّما هو في انحصار الحجية فيه ، دون أصلها ، لا مساس لها به ـ أيضا ـ ، فإن موردها سواء أخذت

__________________

(١) هذا مع أنها على تسليم جريانها لا يثبت جواز العمل بالآخر المشكوك الحجية فعلا ، فلا يجوز الأخذ به حينئذ بمقتضى أدلة حرمة التشريع لمحرّره عفا الله عنه.

٢٥٦

من الأخبار أو من العقل إنما هي موارد احتمال التكليف التي لم يقم عليها حجة ، فتأمل (١).

والحاصل : أن احتمال الترجيح لأحد الخبرين المتعارضين ، وإن لم يكن في نفسه صالحا لإثبات حجية مورده ، لكن بعد قيام الدليل على حجية أحدهما في الجملة يوجب تيقن حجية مورده ، فالأخذ به إنما هو لأجل ذلك.

فقد ظهر أن الأصل بالنظر إلى الأدلة اللبية من الإجماع والسيرة وإلى تواتر الأخبار القاطعة للأصل الأولي في الطريقين المتعارضين بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين ـ أيضا ـ مع الإغماض عن الأدلة المتقدمة ، إنما ووجوب الترجيح.

لا يقال : إن إطلاق أخبار التخيير حجة على عدم وجوب الترجيح.

لأنا نقول : إنه لا بد من تقييدها بأخبار الترجيح بالنسبة إلى المرجحات المنصوصة فيها لا محالة عملا بقاعدة المطلق والمقيد ، المتفق عليها في المتنافيين منهما ، ولا يعقل ملاحظة التعارض بينهما ، فضلا عن ترجيح الأول فتأمل (٢).

وأيضا بعض أخبار التخيير مقيد بصورة فقد المرجحات ، فلا بدّ من تقييد غيره به ، عملا بتلك القاعدة.

نعم يتجه الاحتجاج بإطلاقها في نفي وجوب الترجيح بغير المرجحات المنصوصة ، إذا لم يستظهر من أخبار الترجيح وجوب الأخذ بمطلق المزية ، وليس

__________________

(١) وجه التأمل أن غاية ما هنا إنما هي العلم بجواز الأخذ بمحتمل الترجيح من الخبرين ، وهذا بمجرده لا يوجب تمامية الحجة في مؤداه حتى لا يجري فيه أصالة البراءة لفرض احتمال حجيته من باب التخيير ، إذ من المعلوم أنه على تقدير كونه حجة تخييرا لا ينهض حجة في مؤداه إلا بعد الأخذ والالتزام به ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) وجه التأمل أن الكلام على تقدير الغض عن أخبار الترجيح فلا معنى حينئذ للجواب بتقييد إطلاق أخبار التخيير بها. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٥٧

كلامنا الآن في ذلك المقام.

فتلخص ممّا حققنا أنه لا دليل على التخيير مع احتمال وجوب الترجيح بأي لحاظ في الخبرين المتعارضين ، فانّ مدركه :

إن كان دليل اعتبار خبر الواحد ، فهو لا يقتضي حجية واحد من المتعارضين ، فضلا عن اقتضائه لحجية غير محتمل الترجيح.

وإن كان ما قام على حجية أحدهما في الجملة ، فهو ـ أيضا ـ لا يقتضي حجة غير محتمل الترجيح ، حتى يثبت التخيير ، وإنما القدر المتيقن منه حجية محتمله.

وإن كان أدلة التخيير ، فهي مقيدة بصورة فقد المرجحات المنصوصة لا محالة ـ كما عرفت ـ بل الدليل على عدمه بأي لحاظ ، كما عرفت.

نعم يتجه القول به ـ بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية التي لا نقول بها ـ ، إذ الكلام في وجوب الترجيح بمزية لأحد الخبرين المتعارضين موجبة لأقربية ذيها إلى الحق ، أو أبعديته عن الباطل بالنسبة إلى فاقدها ، وغاية ما يترتب عليها إنما هي تأكد جهة الكشف والطريقية في ذيها بالنسبة إلى فاقدها ، ومن المعلوم أو جهة الكشف غير ملحوظة أصلا على ذلك التقدير في وجوب العمل بالخبر ، حتى يتأكد بقوتها وجوب العمل بالأقوى من تلك الحيثية ، والمناط في الترجيح بين المتعارضين على ذلك التقدير ما هو المناط في سائر الواجبات المتزاحمة ، وهو تأكد وجوب أحدهما بالإضافة إلى الآخر المتوقف على تأكد ما يقتضي وجوبه بالإضافة إلى ما يقتضي وجوب الآخر ، فلا بدّ في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين ـ حينئذ ـ من مزية له من غير سنخ المزية المتنازع فيها محتملة لتأكد مطلوبية العمل بذيها بالإضافة إلى الآخر وليس الكلام فيها ، فتأمل (١).

__________________

(١) وجه التأمل أنه ليس جميع المرجحات المتنازع فيها كذلك ، بل بعضها كالأعدلية ، بل ومخالفة العامة

٢٥٨

وفي الحقيقة يخرج المزية المتنازع فيها عن صلاحية النزاع في وجوب الترجيح بها وعدمه على ذلك التقدير ، إذ عليه يكون عدم وجوب الترجيح بها قطعيا وغيرها ـ مما يحتمل معه تأكد وجوب مورده ، واهتمام الشارع به بالإضافة إلى الآخر ـ يتوقف الترجيح به على وجوب الترجيح باحتمال الأهمية لأحد الواجبين المتزاحمين ، والحق عندنا عدمه ، فالوجه معه هو التخيير ـ أيضا ـ.

ثم إنه لا بأس بتأسيس الأصل ـ في الواجبين المتزاحمين اللذين منهما الخبران المتعارضان على ذلك التقدير ـ توضيحا لما ذكره من عدم العبرة باحتمال الأهمية للعمل بأحد الخبرين المتعارضين على تقدير اشتماله على ما يصلح لتأكد (١) مطلوبيته بالإضافة إلى الآخر.

فاعلم أن كل واجبين متزاحمين إما نعلم بتساويهما في نظر الشارع وإما نعلم بأهمية أحدهما من الآخر على تقدير الدوران بينهما وهو تقدير تزاحمهما ، وإما

__________________

ـ أيضا ـ مما يصلح لإحداث مزيد حسن في مورده ، فيحتمل معه تأكد وجوب مورده من وجوب العمل بفاقده.

وبعبارة أخرى : العمل بقول العادل مع الشك في صدقه نوع إعظام له وهذا العنوان له مطلوبية ذاتية ، ويحتمل أن يكون إعظام الأعدل عند تزاحمه لإعظام العادل أهم في نظر الشارع ، وإذ فرض تساوي الرّاويين في ذلك مع مخالفة قول أحدهما لمذهب العامة فعنوان الإعظام وإن ان مطلوبيته بالنسبة إلى قوليهما سواء ، إلا أن اتحاده في قول أحدهما مع عنوان مخالفة العامة وترك النسبة بهم يصلح لتأكد مطلوبيته ، فإن عنوان ترك النسبة بهم ـ أيضا ـ له مطلوبية ذاتية.

اللهم إلا أن يقال : الجهة المؤكدة للوجوب لا بدّ أن يكون عنوانا مقتضيا لوجوب العمل مع قطع النّظر عن اتحاده مع عنوان واجب ، حتى يكون اتحاده معه موجبا لتأكد وجوبه ، لأن الطلب المؤكد لا يعقل تأكده إلا بما يكون من نوعه ، فلو فرض اتحاد واجب مع عنوان مستحب في نفسه فهو غير صالح لتأكد وجوبه ، بل لا يتأكد وجوبه ولو مع اتحاده مع الف عنوان من العناوين المستحبة ، كما سيأتي توضيحه عن قريب ، ومن المعلوم أن إعظام العادل ، وكذلك ترك النسبة بالعامة ، ليس شيء منهما واجبا في حد نفسه ، فيصح القول بأن شيئا من المرجحات المنصوصة لا يصلح للترجيح به ـ بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية ـ فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

(١) كان في الأصل ( تأكد ) بدون اللام والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٢٥٩

نشك في الأهمية والمساواة.

لا إشكال في حكمهما على التقديرين الأولين ، وقد مر الكلام فيهما على الأول في أوائل المسألة ، ووجوب الأخذ بالأهم على الثاني من القضايا التي قياساتها معها ، إذ معنى أهمية أحدهما إنما هو كونه على وجه لو فرض الدوران بينه وبين ما يزاحمه لأراد الشارع امتثاله تعيينا ، دون امتثال ما يزاحمه.

وعلى الثالث ، إما أن يكون احتمال الأهمية في أحدهما بالخصوص ، وإما أن يكون في كل منهما إما بأن يعلم بأهمية أحدهما إجمالا وتردد ذلك المعلوم بينهما وإما أن يشك في أصل الأهمية لأحدهما مع احتمال كون الأهم على تقديره هذا أو ذاك.

لا كلام ولا إشكال في عدم العبرة باحتمال الأهمية على الثاني بكلتا صورتيه ، وكون الحكم في كلّ منهما هو التخيير ، لأن حرمة المخالفة لكل واحد منهما بالخصوص لأجل احتمال أهميته معارضة بحرمة ارتكابه لاحتمال أهمية ما يزاحمه في كل من الصورتين ، يدور الأمر في كل منهما في كل واحدة من الصورتين بين المحذورين ، والعقل مستقل بالتخيير في كل مورد يكون الحال فيه كذلك ، لكن هذا إنما يجري في جميع فروض الصورتين في خصوص الخبرين المتعارضين بناء على كون اعتبار الأخبار من باب السببية على معنى علّيتها لوجوب التدين بمقتضاها ، والاستناد في الحركة والسكون إليها ، لكن الظاهر أن القائل باعتبارها على وجه السببية على تقدير وجوده لا يلتزم به ، للإجماع على جواز الاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد الكاشف عن بطلان ذلك ، فتأمل.

وأما بناء على اعتبارها على وجه السببية على معنى كونها علة لإحداث حكم مماثل لمؤداها فيختص جريانه بما إذا كان (١) مؤدى أحد الخبرين المتعارضين

__________________

(١) والتخيير في تلك الصورة حقيقة راجع إلى التخيير في الاحتمالين ، المدلول عليهما بالخبرين ، لا إلى

٢٦٠