المولى علي الروزدري
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٤
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه ثقتي
أصل قد ينقسم اللفظ ـ الموضوع باعتبار المعنى الموضوع له ـ إلى متحد المعنى ، ومتكثره.
والمتكثر إلى المشترك ، والمبهمات ، والمنقول ، والمرتجل لأنّ الموضوع له فيهما متعدد ، وإن كان المنقول مهجورا عن المعنى الأول على المختار ، لأن النّظر في التقسيم على الموضوع له ، مع قطع النّظر عن بقاء استعمال اللفظ فيه وعدمه.
وأما الحقيقة والمجاز ، فهما صفتان عارضتان للّفظ ، بملاحظة الاستعمال ، لا بملاحظة الموضوع له ، ومن جعله من أقسام متكثر المعنى ، كصاحب المعالم ، فأراد بالمعنى المستعمل فيه.
ويشكل ما صار إليه رحمه الله من حيث انحصار الألفاظ ـ على ما ذهب إليه ـ في متكثر المعنى ، إذ ما من لفظ متحد الموضوع له إلا ويصحّ استعماله في معنى مجازا ، حتى قيل بذلك ـ أعني بجواز استعمال كل لفظ في معنى آخر مجازا ـ في الأعلام الشخصية إلاّ في لفظ الجلالة ، للنهي الشرعي عنه ، مع أن الأعلام ليست من اللغات ، ولا تنسب إلى لغة دون أخرى على المختار.
ثم المشترك ـ أي المشترك اللفظي ـ له تعريفات ، أجودها ما في غاية المرام ، من أنه هو اللفظ الموضوع لمعنيين ابتداء ، والأولى زيادة قيد ( تفصيلا ) لإخراج
المبهمات ، فانّ الموضوع له فيها متكثّر ، إلا أنّ اللّفظ لم يوضع لكل واحد تفصيلا بل وضع للجزئيات إجمالا ، وزاد بعضهم قيد عدم المناسبة ، فان أراد عدم وجود المناسبة رأسا ، فهو سهو ، إذ لا يجب ذلك في المشتركات ، بل توجد المناسبة بين كثير من معاني المشتركات ، وإن أراد عدم ملاحظتها فهو جيّد ، إلاّ أنه لا حاجة إليه لأنّ قيد ( ابتداء ) يغني عنه.
وأما المنقول والمرتجل فيشاركانه في التعريف عدا القيد الأخير ، أعني قيد ابتداء لأن الوضع فيهما على الترتيب ، والتراخي عن الوضع الأول للمعنى الأوّل ، وهما يتفارقان في اعتبار الهجر عن المعنى الأول ، بحيث يحتاج إلى نصب قرينة إذا أريد استعمال اللفظ في المعنى الأول ، أي المنقول على المختار ، دون الثاني ، وهو المرتجل وأيضا ملاحظة المناسبة بين المعنى الأوّل والثاني معتبرة في المنقول دون المرتجل.
ثم إن غرضنا من الترتيب حصول الوضع في المعنى الثاني ، في آن مغاير لآن وضع اللفظ للمعنى الأول ، بحيث يعد العرف هذين الآنين زمانين متغايرين. ومن الابتداء حصول الوضع لكلا المعنيين في آن واحد عرفا ، فإنه لا يمكن حصوله لهما في آن واحد حقيقي ، وبعبارة أخرى بحيث يعد العرف آنيهما آنا وزمانا واحدا.
ثم إنّ جعل المنقول والمرتجل قسمين للمشترك ، وللحقيقة والمجاز ، بناء على المختار عندنا ، وإلاّ فظاهر الأكثر ، وصريح التفتازاني ـ في شرح الشرح ـ والقوانين دخول المرتجل في المشترك ، وظاهر المعالم دخولهما في المجاز ، حيث إنّه ـ رحمه الله ـ جعلهما ، والحقيقة والمجاز ممّا يختص فيه الوضع بواحد.
والتقسيم الّذي ذكرنا لا ينطبق على ما صار إليه صاحب المعالم ، إلاّ بملاحظة المستعمل فيه ، كما أشرنا إليه سابقا ، وأما على ما صار إليه الأكثر فهو وإن كان منطبقا إلاّ أنّه لا بد من تعميم تعريف المشترك بحيث يشمل المرتجل.
ويمكن انطباق ما ذكرنا من تعريفه عليه على ما صاروا إليه بزيادة قيد ( من غير مناسبة ) وإسقاط قيد الابتداء ، بأن يقال المشترك : هو اللفظ الموضوع لمعنيين تفصيلا من غير مناسبة ، فقيد ( تفصيلا ) لإخراج المبهمات كما عرفت ، وقيد ( من غير مناسبة ) لإخراج المنقول ، والمراد بعدم المناسبة عدم ملاحظتها لا عدمها رأسا.
ويمكن انطباق التعريف المذكور عليه من دون زيادة ، ونقصان فيه ، بأن يراد بالابتداء عدم ملاحظة المناسبة فلا حاجة إلى زيادة لفظ ( من غير مناسبة ) وهذا أجود.
ثم إنه أورد سلطان المحققين على صاحب المعالم ـ حيث جعل المرتجل والمنقول من أقسام المجاز (١) ـ بوجهين :
الأول : إنّ ذلك خلاف تصريح القوم ، بأنهما من المعاني الحقيقيّة الموضوع لها الألفاظ.
الثاني : إنّ استعمال المرتجل حينئذ ـ غير صحيح ، لأن الاستعمال الصحيح ناشئ : إما عن الوضع ، فالمفروض اختصاصه بالمعنى الأوّل الموضوع له اللفظ أولا ، ولا وضع للفظ في ذلك المعنى المرتجل له بالفرض ، حتى يجوز الاستعمال لأجله. وإمّا عن ملاحظة المناسبة فالمسلم المعروف اعتبار عدمها في المرتجل حتى أن بعضهم اعتبروا عدم وجود المناسبة رأسا ، فيكون الاستعمال حينئذ غلطا (٢).
ويمكن الجواب عن الوجهين ، بأنّ مراد صاحب المعالم من اختصاص الوضع بواحد ، هو الوضع التخصيصي الّذي هو فعل الواضع ، كما هو الظاهر من الوضع عند الإطلاق لا مطلقا ، حتى التخصص ، بل استعماله فيه مجاز باعتبار بعض العلائق بينه وبين التخصيصي ، فإن الوضع التخصصي إنّما هو مجرد العلقة الحاصلة من كثرة الاستعمالات المجازية بغير قرينة متصلة ، والظاهر من الوضع هو فعل الواضع الّذي يصير سببا للعلقة بين هذا اللفظ وذلك المعنى ، فكأن العلاقة في التعييني هي السببية والمسبّبية ، والوضع التخصيصي وإن كان يوجد في بعض أفراد المنقول ، إلا أنّ الغالب فيه هو التخصص ، فجمعه ـ رحمه الله ـ المنقول والمرتجل والحقيقة والمجاز ، في حقيقة واحدة لاشتراكهما معه في اختصاص الوضع التخصيصي بواحد منهما أيضا نظرا إلى الغالب فيهما ، لا لعدّه إياهما مجازا ، ولا ريب أن الحقيقة لا تستلزم الوضع التعييني بل ظاهر قوله ـ رحمه الله ـ أو صريحه وإن غلب كون المنقول حقيقة ، لأنّ المراد بالغلبة باعترافه ـ رحمه الله ـ هو هجر المعنى الأوّل ، ومن الواضح أنّ هجر الأوّل يستلزم اختصاص اللفظ بالثاني.
هذا ، لكن الإنصاف أن هذا الجواب لا يدفع السؤال عنه ـ رحمه الله ـ بالنسبة إلى
__________________
(١) المعالم : ٦.
(٢) حاشية سلطان المحققين منضمّة إلى حاشية ملا صالح المازندراني : في مبحث الألفاظ ، وانظر المعالم : ٢٦ عند قول المصنّف : وان غلب وكان الاستعمال بالمناسبة فهو المنقول : أقول الظاهر من كلامه أنّه لا وضع في المعني المنقول إليه والمرتجل إلخ.
المرتجل إذا الظاهر أنّ وضعه لا يكون إلاّ على سبيل التخصيص ، لأن الوضع التخصصي ـ كما عرفت ـ حاصل بالاستعمالات المجازية المبنية على ملاحظة المناسبة ، وهي متعذرة في المرتجل لأن المعروف من تعريفه أخذ قيد اعتبار عدم المناسبة ، أو عدم اعتبارها فيه ، وعلى التقديرين يجب أن لا تلاحظ فيه المناسبة مطلقا ، حتى ملاحظة علاقة التضاد ، فلا يجدي ما يتوهم من جعل عدم المناسبة علاقة للتجوز ، فيجب أن يكون وضعه تخصيصا ، فاختصاص الوضع بواحد في المرتجل يدل على نفي الوضع بالنسبة إلى المعنى الثاني ، لأنّ الواحد الّذي يختص به الوضع ، لو كان هو المعنى المرتجل إليه يلزم نفي الوضع من المعنى الأوّل ، وهو خلف ، فحينئذ يتّجه الوجه الثاني من الإيراد.
هذا ، ثم إنّ جعل المرتجل من أقسام المشترك مبني على عدم اعتبار هجر المعنى الأول في المرتجل لوضوح عدم مساعدة الاصطلاح على صدق المشترك على ما هجر أحد معنييه ، وإلاّ لدخل المنقول أيضا ، وهو خلاف ظاهر الأكثر ، وإن أدرجه التفتازاني في تعريف الحاجبي للمشترك ، وحينئذ فلا يبقى فرق بين المشتركات ، حتى يسمى بعضها بالمرتجل دون بعض.
نعم لو قيل باعتبار عدم المناسبة بين المعنيين ـ في المرتجل صح تقسيم المشترك إلى مرتجل وغيره ، وأما إذا قيل بكفاية عدم اعتبار المناسبة فلا.
وكيف كان فإدخاله في المشترك بعيد عن كلمات القوم.
أما أولا : فلأن المرتجل في كثير من الكلمات قسيم للمشترك.
وأما ثانيا : فلأنهم يفرقون بين المنقول والمرتجل باعتبار المناسبة في الأول ، دون الثاني ، كما اعترف به المحقق القمي ـ رحمه الله ـ حيث جعل أخذ عدم المناسبة في تعريف المرتجل تعسفا.
وقد يقال في الفرق بين المرتجل وسائر أقسام المشترك التي هي المشترك بالمعنى الأخص : إن المرتجل ما كان أحد وضعيه من الواضع ، والآخر من العرف ، مع بقاء المعنى اللغوي ، بأن كان اللفظ في اللغة موضوعا لمعنى ، ثم طرأ له في العرف وضع آخر لمعنى آخر ابتداء ، من دون ملاحظة مناسبة للمعنى اللغوي ، فالمشترك على قسمين :
أحدهما : ما كان جميع أوضاعه من الواضع.
والثاني : ما كان أحد الأوضاع من أهل العرف. فالأوّل هو المشترك بالمعنى الأخص ، والثاني هو المرتجل وهذا ظاهر التفتازاني وهو حسن.
ويرد على تعريف المنقول دخول المشترك المشهور في بعض معانيه ، لأن غير المشهور يحتاج في إرادته إلى نصب قرينة.
ويدفع أوّلا : بمنع صلاحية الشهرة لهجر بعض المعاني ، إلا على القول بالتوقف في المجاز المشهور ، أو الحمل على المعنى المجازي.
وثانيا : بأن المراد بالهجر ما يحوج (١) إلى نصب القرينة الصارفة ، لا مطلق القرينة.
وكيف كان فالمنقول ينقسم إلى تخصيصي وتخصصي ، وقد سبق في تقسيم الوضع أن منشأ التخصص هو الاستعمالات المجردة عن القرائن ، خلافا لبعض المحققين.
ثم إنه قال في القوانين (٢) : والثاني ـ أعني التخصص ـ يثمر مع معلومية تاريخ التخصص. وفيه نظر.
أمّا أولا : فلأن ثمرة النقل إنما هي حمل اللفظ على المنقول إليه ، وهذه تترتب على النقل التخصصي مطلقا ، أما مع معلومية التاريخ فواضح.
وأما مع عدمها فلأن أصالة تأخر استعمال المعصوم عليه السلام ذلك عن زمان حصول التخصص تقتضي حمل اللفظ على المعنى الثاني ، ولا تعارضها أصالة تأخّر التخصص عن زمان الاستعمال ، كما هو الوجه في حكمه ـ رحمه الله ـ بالإجمال حينئذ على الظاهر ، فان التخصص ليس من الأمور الأصلية والحوادث المستقلة في عرض الاستعمال ، حتى يكون بنفسه موردا للاستصحاب ، فيعارض استصحابه أصالة تأخر الاستعمال ، بل هو من الأمور التبعية ، ومن قبيل لوازم الماهيات التي جريان الأصل فيها يتبع جريانه في ملزوماتها ، والمفروض عدم جريانه في ملزوم التخصص الّذي هو الاستعمال ، لأن بلوغه إلى درجة النقل مقطوع به.
اللهم إلا أن يقال إن مقطوعية الاستعمال تمنع من جريان الأصل في نفس الاستعمال بالنسبة إلى زمان القطع. لكن نقول إن ملزوم التخصص ، وسببه ليس إلا الاستعمال الأخير من سائر الاستعمالات المجازية ، الّذي بلغ اللفظ عنده إلى درجة التخصص ، والاستغناء عن القرينة ، وهو مشكوك فيه بالنسبة إلى زمان صدور هذا
__________________
(١) أحوج إليه إحواجا افتقر. ( اقرب الموارد ) مادة حوج.
(٢) القوانين : ١٠ ، عند قوله في السطر الأخير : والثاني يثمر بعد تاريخ التخصص.
اللفظ من المعصوم عليه السلام ، فيجري فيه أصالة تأخره عن زمان صدور .. هذا اللفظ واستعمال الإمام عليه السلام إيّاه ، فيقع التّعارض بينها وبين أصالة تأخر استعمال المعصوم عليه السلام عن زمان حصول التخصص.
وأيضا إن الأصل في اللوازم والأمور التبعية إنما لا يجدي إذا جرى في ملزوماتها ، فإذا فرضنا عدم جريانه فيما نحن فيه في الملزوم الّذي هو الاستعمال ، فيجري في اللازم الّذي هو التخصص ، فيقع التعارض أيضا لذلك.
هذا ، لكنّه مدفوع بأن تعارض الأصلين فيما نحن فيه ، قد ينتج التوقف بل يقتضي التقارن ، لما ثبت ـ في مبحث تعارض العرف واللغة ـ من أن الأصل في مجهول التاريخ التقارن ، وعليه عمل الأكثر ، فإذا ثبت التقارن بالأصل ، فهو يقتضي أن يكون آخر استعمال يتحقق به التخصص ، هو ورود هذا اللفظ من المعصوم عليه السلام واستعماله له ، لأنّ الاستعمال المقارن لحصول النقل لا يتصور في النقل التخصصي ، إلا في المعنى المنقول ، فيحمل على المعنى المنقول إليه.
هب أن يكون ذلك الاستعمال مجازا ، لعدم تحققه بعد حصول التخصص ، لأنّ الغرض حمل اللفظ على المعنى الثاني ، سواء أريد منه مجازا أو حقيقة ، وليس هذا الأصل من الأصول المثبتة ، لأنها في الأحكام الشرعية ، وإثباتها باللوازم العقلية والعادية ، والغرض هنا ترتيب الآثار الشرعيّة عليه فإنّ كون استعمال المعصوم عليه السلام ذلك ـ هو الاستعمال الّذي يتحقق به التخصص ـ ليس من الأحكام الشرعية ، كيف وجميع الأصول اللفظيّة كأصالة الحقيقة ، وأصالة عدم القرينة وغيرها من الأصول مثبتة لأمر آخر.
وكيف كان فالأصول المثبتة لأمر معتبرة في مقام الألفاظ مطلقا.
والسر فيه أنها معتبرة هنا من باب الظن ، وأما الأصول الجارية في إثبات الأحكام ، فعدم اعتبار المثبت منها ـ أيضا ـ على القول بالتعبد وأما على اعتبارها من باب الظن فهي كالأصول اللفظية.
وأما ثانيا : فلأن ورود الإشكال في النقل التخصيصي ـ عند الجهل بالتاريخ ـ أوضح منه في التخصصي ، الّذي خصه به ، إذ مع ثبوت التقارن فيه أيضا لا يثبت استعمال هذا اللفظ في المعنى المنقول إليه ، لإمكان اتحاد وضع أحد من العرف ذلك اللفظ للمعنى المنقول إليه ، حين استعمال هذا اللفظ في هذا الاستعمال الخاصّ في
المعنى المنقول منه ، الّذي هو المعنى الأول.
هذا ، ويمكن توجيه كلام المحقق المذكور من وجهين :
الأوّل : أن يقال بتغليط النسخة بأن يكون عبارته رحمه الله التخصيصي مكان التخصصي ، ويكون مراده إيراد الإشكال في التخصيصي ، فيكون إشكاله في محله.
الثاني : أن يقال : إنه رحمه الله لم يعتن بأصالة التعارض ، بل الإشكال كان عنده واردا في كلا القسمين من قسمي المنقول أوّلا وبالذات ، إلاّ أنه لمّا كان الغالب والعادة والطريقة على ضبط تاريخ المنقول التخصيصي ، فلم يتعرض للإشكال فيه لدفعه لذلك ، وتخصيصه الإشكال بالقسم الثاني ، الّذي هو النقل التخصصي ، لعدم الضبط في تاريخه ، فيكون التقييد بهذا القسم من باب تحقيق مورد الإشكال فعلا ، لا للتحرز عن القسم الآخر ، وهذا من قبيل سائر القيود التي يذكرونها لتحقيق موضوع الحكم ، ولا يقصدون به الاحتراز عن شيء ، مثل قولهم : إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن قدم زيد من السفر فزره.
وهكذا ينقسم اللفظ باعتبار الاستعمال إلى الحقيقة والمجاز ، والكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة : الأوّل في تعريفهما ، والثاني في بيان أقسامهما إيماء ، والثالث في ذكر أحكامهما.
أمّا المقام الأول ، فقبل الشروع فيه نقول : إنّ الحقيقة فعيلة من حقّ يحقّ حقّا إذا ثبت ، والتاء فيها ناقلة ، إن كانت بمعنى المفعولة ، لعدم مراعاة علامة التأنيث في الفعيل ، إذا كان بمعناها. وإن كانت بمعنى فاعلة فالظاهر أنها أيضا ناقلة ، إذ معنى الحقيقة الآن إنما هو نفس اللفظ المستعمل وجوهره ، بحيث سلبت منها جهة الوصفية التي كانت فيها في الأصل.
هذا ، مع إمكان أن يكون مراعاة أحكام تأنيثها على أن أصلها بمعنى فاعلة.
وأمّا المجاز فهو مصدر ميمي من جاز يجوز جوازا ، ونقل في الاصطلاح إلى الكلمة الجائزة عن معناها الحقيقي إلى غيره بواسطة أو بواسطتين. أما الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فبنقله عن معناه المصدري إلى مطلق الجائز من حمل إلى آخر ، ثم بنقله منه إلى الكلمة الجائزة. وكيف كان فهذا معناهما في الأصل.
وأما في الاصطلاح فقد عرّفوهما بتعاريف :
منها : ما عن الحاجبي (١) من أنّ الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أول.
ومنها : ما عن جماعة منهم المحقق (٢) القمي ـ رحمة الله عليه ـ من أنها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب (٣).
ومنها : ما عن آخرين منهم الشيخ (٤) محمّد تقي من أنّها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له من حيث إنه ما وضعت له.
ويعرف تعريف المجاز على كل منها بقرينة المقابلة.
ثم إنّ في المقام كلمات من هؤلاء الأقوام من النقض والإبرام ، إلاّ أنّ غرضنا لمّا كان الاقتصار بما يقضى به المرام فلم نطل الكلام في ذكرها ، وتفصيلها ، ثم جرحها ، وتعديلها.
وكيف كان فلا بأس بكل واحد من تلك التعاريف الثلاثة عندنا ، وإن أورد على الأول بإيرادات كثيرة.
لكنها مدفوعة بأسرها : بحمل كلمة ( في ) في قوله ( في وضع أوّل ) على السببية كما لا يخفى على المتأمّل في تلك الإيرادات ، والشّاهد على هذا الاستعمال تتّبع استعمالات العرب ، ومنه قوله : امرأة دخلت النار في هرة حبستها أي بسببها ..
لكن الإنصاف عدم سلامته من السؤال ، حيث أنّ كلمة ( في ) وإن كانت تستعمل في السببية ، لكن الظّاهر أن هذا الاستعمال مجاز ، لأنّ الظاهر منها عند الإطلاق هي الظرفية ، ولا ريب في عدم جواز الاستعمالات المجازية في الحدود سيما مع عدم القرينة الصّارفة للألفاظ المعينة له في المراد ، لأن اهتمامهم في الحدود كاهتمام الشّرع في البيوع
__________________
(١) المختصر لابن الحاجب المخطوط : وإليك نصّه : الحقيقة اللّفظ المستعمل في وضع أوّل وهي لغويّة وعرفيّة وشرعية كالأسد ، والدابّة ، والصّلاة ، والمجاز المستعمل في غير وضع أوّل على وجه يصح.
(٢) قد ورد في القوانين في مقام التعريف : ١٣ ، هكذا : اللفظ إن استعمال فيما وضع له من حيث هو كذلك فحقيقة. انتهى. فمن ملاحظة هذا التعريف لا يستفاد الإسناد المذكور بل المستفاد من القوانين بضمّ ما أفاده في علامة التبادر وعدم صحة السلب اعتبار الأمرين معا أحدهما : اعتبار حيثيّة الاستعمال فيما وضع له من حيث ما وضع له وهو من تعريف القوانين وثانيهما : اعتبار قيد اصطلاح يقع به التخاطب وهو من بيان العلامتين المذكورتين فراجع.
(٣) كما عرّفه العلامة بهذا التعريف في مبادئ الوصول إلى علم الأصول وهو منقول عن أبي الحسين البصري.
(٤) قد ورد في هداية المسترشدين : ٢١ هكذا : ولذا اعتبرت الحيثيّة في حدّي كلّ من الحقيقة والمجاز.
وسائر العقود ، فكما أنّ العقود مبنيّة على المغابنة فيجب منها الإتيان بالألفاظ الصريحة في المقصود ، الرافعة للجهالة عمّا تعلقت به العقود ، فكذلك الحدود مبنية على المماكسة في حفظ القيود ، الدخيلة في توضيح المحدود ، حيث ان كل ذي علم واضعه إنما كان غرضه من التعريف تحديد مسائل هذا العلم ، بجامع بينها لفائدة السهولة في التعبير عنها بسبب التعبير عن هذا الجامع ، فلا بد من الإتيان بألفاظ صريحة في الكشف عن هذا الجامع بما هو عليه من كونه حاويا لأفراده ، ومانعا من غيرها. ولأجل ما ذكرنا من فائدة سهولة التعبير تراهم يعتبرون قلة مباني ألفاظ المعرف بها ، وخفتها على اللسان أيضا.
فإن قيل : لا يصح استعمال كلمة ( في ) في السببية مجازا ، بعد فرض كونها حقيقة في الظرفية ، لعدم العلاقة الظاهرة بينهما.
قلنا : سلمنا ، فتكون مشتركة مستعملة في أحد معنييها بلا قرينة معيّنة ، فيعود المحذور.
وأما التعريف الثاني ، فهو وإن كان مساويا للثالث ، من حيث وضوح الدلالة ، لكنّه لمّا كانت كلماته أخف على اللسان فهو الأولى والأرجح فتأمل.
نعم قد استشكل فيه السيد بحر العلوم ـ رحمه الله ـ في شرحه للمبادئ العراقية من وجهين :
أحدهما : أنه يختل التعريف ، لصدق كل من تعريفي الحقيقة والمجاز على ما يصدق عليه الآخر ، لأنه إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي ، ثم استعمل في معناه المجازي يصدق على هذا اللفظ أنه كلمة مستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب ، ويصدق عليه أيضا أنه كلمة مستعملة في خلاف ما وضعت له كذلك. ثم قال اللهم إلاّ أن يقال : إن نظر القوم في التعريفين إلى الخصوصيات المتشخصة بالأزمان ، فيدفع عنهم هذا الإيراد ، لأن هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الأمس غير هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الغد.
وكأنّه ـ قدس سره ـ استظهر ـ من كلمات القوم ـ أن نظرهم إلى نوع الألفاظ من حيث الزمان ، كما أن نظرهم إلى نوعها ـ من حيث خصوصيات المستعملين ـ وأنت ترى ما فيه ، من بعد نسبة ما استظهره ، بل عدم إمكانها على القوم ،
إذ لا ريب أن اتصاف اللفظ بوصفي الحقيقة والمجاز إنما هو باعتبار استعمال اللفظ فيما وضع له ، أو في غيره ، فما لم يتحقق الاستعمال لا يتصف بشيء منهما ، ولا ريب أن الاستعمال لا يتحقق إلاّ في ضمن الخصوصيات ، فالمتّصف بهذين الوصفين هي ، لا الكلّي الّذي لا يمكن استعماله إلاّ باستعمالها ، بل نسبة الاستعمال إليه ـ حينئذ ـ مجاز جدا.
وبعبارة أخرى أحسن : إنّ نظرهم في التعريفين للحقيقة والمجاز إنما هو إلى الكلمة المستعملة ، وهي لا تكون إلاّ جزئيّا من الجزئيات المتشخصة الخارجية ، وهي لا يمكن صدق بعضها على بعض فيختلّ التعريف.
الثاني من وجهي الإشكال أنّه يختلّ التعريف أيضا ، وينتقض بما إذا كان اللّفظ مشتركا بين معنيين بينهما علاقة ، فاستعمل في أحدهما لعلاقة بينه وبين الآخر ، لا لكونه أحد معنييه ، إذ لا ريب أنّ ذلك الاستعمال مجاز ، مع أنه لا يصدق عليه تعريفه ، لأنه لم يستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح يقع به التخاطب ، ويصدق عليه تعريف الحقيقة ، مع أنه ليس من أفرادها ، فلا بد من الإتيان بقيد الحيثية كما في التعريف الثالث ، فيندفع الإشكال.
ثم إنه ـ قدس سرّه ـ أورد على نفسه ، بأنّه ما فائدة هذا الاستعمال والتعويل فيه على العلاقة مع وجود السبب المجوز له ، وهو الوضع ، فأجاب بأن فائدته حصول الفرق بين كلام هذا المستعمل الملتفت إلى المناسبات والعلائق بين المعاني ، وبين كلام العامي المبتذل الّذي لا يعرف شيئا من تلك الوجوه. انتهى.
وفيه منع جواز مثل هذا الاستعمال من وجهين :
أحدهما : كونه لغوا إذ بعد ما كان غرض المتكلم إفهام هذا المعنى ، هو ينادي بإرادته من اللفظ بإطلاقه مع القرينة المعيّنة ، فلا حاجة إلى العدول عنه إلى ما ذكره ، فالفائدة التي ذكرها من حصول الفرق ، ففيها : أنّ استعمال اللفظ فيما يمكن فيه للعلاقة بين المعنيين ، وداعيها مما لا يمكن اطلاع المخاطب عليه حين الخطاب ، بل الّذي يفهمه حينئذ إنما هو إرادة هذا المعنى ، فإن أراد المتكلم إفهامه أيضا أني قصدت بالكلام إفهام هذا المعنى بملاحظة المناسبة لحصول الفرق المذكور ، فهو من أقبح الأمور التي لا يرتكبها إلاّ السفهاء ، بل إلاّ المجانين.
وثانيهما : إن الاستعمال المجازي لا بد أن يترتب عليه ما ذكروا له من الفوائد
البديعية ، التي منها انتقال السامع من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي ، فإنه إذا قيل رأيت أسدا يرمي ، فعند إطلاق الأسد ينتقل السامع إلى الحيوان المفترس ، فإذا ذكر لفظ يرمى ينتقل إلى الرّجل الشجاع ، ولا ريب أن هذه الفائدة ممتنعة الوجود فيما فرضه ـ قدس سره ـ إذ لا شبهة أن اللفظ المشترك إذا أطلق بلا قرينة فهو مجمل ، لا ينتقل السامع منه إلى معنى ، فإذا اقترن بالقرينة المعينة فيظهر للسامع أن المراد منه ذلك المعنى ، لا أنه ينتقل من شيئين إلى هذا المعنى ، ويدل على ما ذكرنا أيضا أنّهم اعتبروا في المجاز اقترانه بالقرينة الصارفة ، ولا ريب أنه لا يمكن الإتيان بها فيما نحن فيه ، إذ لا يتحقّق وصف الصارفية إلاّ بعد ظهور اللفظ في معناه الحقيقي.
المقام الثاني في أقسامهما ، فنقول : إنهما ينقسمان بملاحظة الواضع إلى الحقيقة اللغوية ، والمجاز كذلك ، وإلى العرفية كذلك ، عامّا ، وخاصّا ، وبملاحظة كثرة استعمال اللفظ في الموضوع له ، أو في غيره إلى الراجحين ، أو المرجوحين ، وهكذا إلى سائر التقسيمات الملحوظة على حسب الاعتبارات التي ليس التعرض لذكرها بمهم.
وإنّما المهم التعرض لحال الكناية ، وتحقيق أنها من أقسام الحقيقة ، والمجاز ، أو واسطة.
ويقع الكلام هنا في مقامات ثلاثة :
الأوّل في تعريفها ، إنها على القول بكونها من أقسام الحقيقة ، فهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أوّل ، أو في اصطلاح يقع به التخاطب ، أو من حيث إنّه ما وضعت له ـ على اختلاف التعاريف للحقيقة ـ للانتقال منه إلى لازمه ، وعلى القول بكونها من أقسام المجاز فهي مندرجة في تعريف المجاز ، حسب ما عرفوه على اختلاف تعاريفه قبال تعاريف الحقيقة.
وأمّا على القول بكونها واسطة ، كما يظهر من متن المطول ، فهي على ما عرفه الماتن : هي اللفظ المراد منه معناه وغير معناه معا ، فإنّه قال : اللفظ إن أريد منه معناه وحده فهو الحقيقة ، وإن أريد منه غير معناه وحده فهو المجاز ، وإن أريد منه معناه وغير معناه فهو الكناية.
ثم إنّ خير الأقوال أوسطها ، لما سيظهر لك من ضعف طرفيها ، فنقول : إنه يرد على الماتن المذكور وجوه :
الأوّل ما ترى فيه بين تعريفه للكناية وبين تقسيمه إيّاها إلى قسمين :
أحدهما ما عرّفها به ، والآخر الكلمة المستعملة في اللازم وحده ، فإنّ تعريفه إنما هو للقسم الأوّل ، وهو الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معا ، ولم يكن له شمول بالنسبة إلى القسم الآخر الّذي زاده في التقسيم.
الثاني : عدم بقاء الفرق حينئذ بين المجاز والكناية إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده لصدق تعريفهما عليه حينئذ.
فإن قيل : إن الفرق بينهما ما قالوا بأن المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للمعنى الحقيقي بخلاف الكناية.
قلنا أوّلا : إن هذا الفرق لفظي جئنا بفرق معنوي.
وثانيا : إنا نمنع هذا الفرق أيضا ، لأنه لا يعقل استعمال الكناية أيضا بلا قرينة بكلا قسميها ، إذ لا ريب أنّ اللفظ بوضعه لا يدل على اللازم ، ولا ينصرف إليه بوجه ، بل يفهم منه مجردا عن القرينة الملزوم وحده ، ولا يصرف ذهن السامع إلى اللازم بوجه ، فإنه لو لا القرينة لفهم من قوله : ( زيد كثير الرماد ) معناه الحقيقي ، فيحتمل كونه حمّاميّا ، أو طباخا ، أو غير ذلك من أرباب الحرف التي يحصل منها الرماد كثيرا ، وكذلك يفهم من قوله : ( زيد جبان الكلب ) معناه الحقيقي لا غير.
وكيف كان ، فالانصراف من اللفظ إلى لازم معناه لا يمكن إلاّ بالقرينة.
ثم إذا ثبت الاحتياج إلى القرينة ، فنقول : إنها إمّا ملائمة للمعنى الحقيقي ، أو معاندة له ، ومانعة من إرادته من اللفظ ، فإن كانت ملائمة لا يجوز كونها صارفة لذهن المخاطب إلى غير الموضوع له ، مع أن الوضع يقتضي ظهور اللفظ في إرادة الموضوع له ، ولا يعقل ذلك ، فإذن وجب كونها معاندة لإرادة الحقيقة ، فلا نعني بالقرينة المعاندة إلاّ هذه ، ولا بالمجاز إلاّ ما كان ملزوما لها ، فانتفى الفرق.
ومن هنا ظهر ضعف القول الأوّل أيضا ، إذ لا يعقل الانتقال إلاّ باستعمال اللفظ في اللازم مع القرينة المعاندة ، فيكون اللفظ مجازا.
الثالث : منافاة ما ذكره في تعريف الكناية ـ من أنها الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معا ـ لما أجمع العلماء ظاهرا عليه ، من عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، حقيقة كان الزائد ، أو مجازا ، والمخالف في المسألة ضعيف جدا. بحيث يقطع بالاتفاق.
أقول يمكن دفع المنافاة بأن محل النزاع هناك في جواز استعمال اللفظ في
المعنيين ، أو في المعنى الحقيقي والمجازي ، بحيث كان كل منهما موردا للحكم ومتعلقا للإثبات والنفي ، ولا ريب أنّ النّظر في باب الكناية إلى إثبات الحكم للاّزم ، وهو المقصود به ، ولو فرض استعمال اللفظ في المعنى ولازمه معا من باب الكناية ، فهو خارج عن المتنازع فيه هناك ، إذ المقصود في باب الكناية إثبات الحكم أو نفيه بالنسبة إلى اللازم وحده. فافهم.
المقام الثاني ـ في أن الكناية هل يعامل معها معاملة الحقيقة ، أو معاملة المجاز من حيث اقترانها بالقرينة الصارفة وعدمه ، ونحن بعد ما بينا آنفا في الإشكال على القول الثالث ، من وجوب الإتيان بالقرينة المعاندة ، فلا بد من الالتزام بالاحتمال الثاني لا غير.
المقام الثالث ـ في تعارض احتمال الكناية لاحتمال غيرها من الحقيقة والمجاز.
فنقول : إذا وقع التعارض بين احتمالها مع احتمال الحقيقة ، فالراجح هو إرادة الحقيقة ، أما على القول الثاني فواضح ، وعلى القول الأوّل فلأن الكناية لا بد فيها من ملاحظة خصوصية زائدة على ما يلاحظ في الحقيقة ، فالأصل عدمها فيتعيّن الحقيقة.
وأما إذا وقع التعارض بين احتمالها واحتمال المجاز ، فعلى القول الأول يرجح احتمالها على المجاز ، وهكذا على القول الثالث ، بناء على ما قيل من الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه دونها ، إذ المجاز حينئذ خصوصية زائدة نشك في حصولها ، فالأصل عدمها فيتعين الكناية.
وأما على ما اخترنا من القول الثالث ، فسنفصّل الكلام فيه في باب تعارض الأحوال إن شاء الله ، وإن لم يذكره أحد هناك.
ثم إن القول بكون الكناية من أقسام المجاز لا نعرف له قائلا ، وإنما ألجأنا إلى اختياره للإشكالات الواردة على غيره.
ويزيد الإشكال الوارد على الماتن إشكال آخر ، وهو أن الحصر ـ في الحقيقة والمجاز ـ عقلي لا يمكن فيه الواسطة ، وإنما هو فيما إذا كان الحصر حاصلا من الاستقراء ، إذ لا ريب أن الحقيقة والمجاز قد عرف كل منهما بنقيض الآخر ، فلا يمكن فيهما الواسطة ، فينحصر المقسم فيهما عقلا ، فلا بد من دخول الكناية في أحدهما.
هذا ، ولكن الإنصاف عدم ورود شيء من الإشكالات على هذا القائل ، أعني
ماتن المطول ، إذ الظاهر أن غرضه ليس إثبات الواسطة بين الحقيقة والمجاز.
وتوضيح ذلك أن اللفظ قد يلاحظ فيه قصد المعنى منه عند إطلاقه ، بمعنى إخطار ذلك المعنى بالبال عند إيجاده ، فهو من هذه الحيثية منحصر في الحقيقة والمجاز عقلا ، ولا يمكن الواسطة بينهما لأن ما يخطر بالبال عند إيجاده إمّا معناه الموضوع له ، أو غيره ، فعل الأوّل حقيقة ، وعلى الثاني مجاز ، سواء كان ذلك الغير ، المعنى المباين للموضوع له ، أو المركب منهما ، فحينئذ لو كان مراد الماتن من قوله : اللّفظ إن أريد منه معناه وحده إلخ ، هذا المعنى ، فيرد عليه الإشكالات المتقدمة ، مضافا إلى أن قصد المعنى الموضوع له مع غيره من اللّفظ من حيث المجموع بهذا المعنى مجاز اتفاقا أو على سبيل الاستقلال ، فلا يجوز جدا ، لما عرفت من عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى. وقد يلاحظ باعتبار الإرادة بمعنى الغرض المطوي في نظر المتكلم الداعي له لإيجاد الكلام ، فهو بهذا الاعتبار لا ينحصر في القسمين ، فانه لا يكون حينئذ أحدهما نقيض الآخر حتى لا يتعقل لهما الواسطة فإن غرضه ، إمّا إفادة المعنى الموضوع له مع غيره وحده ، بمعنى كون ذلك الغير مقصودا من اللفظ بالمعنى المذكور وتعلق غرضه بإفادته وحده أيضا ، وإما إفادة المعنى الموضوع له مع غيره بأن يكون المعنى الموضوع له مقصودا من اللفظ بالمعنى المذكور ، لكن الغرض لم يتعلق بإفادته وحده ، بل بإفادته وإفادة غيره معا ، وإمّا إفادة غير الموضوع له وحده بمعنى أن يقصد من اللفظ المعنى الموضوع له ، لكن الغرض تعلق بإفادة غيره وحده ، وإمّا إفادة غير الموضوع له ، بأن استعمل اللّفظ ، وقصد منه غير الموضوع له ، وتعلق الغرض بإفادة غير ذلك الغير المناسب له ، إما وحده أو معا ، وهذا الأخير بناء على جواز كون الكناية من المجاز.
وكيف كان ، فعلى الأول : اللّفظ حقيقة بالمعنى الأخص ، يعني قبال الكناية ، وكذلك مجاز على الثاني.
وعلى الثالث : فهو ، وإن كان حقيقة بالمعنى الأعم ، لكنّه بالاعتبار الثاني ليس حقيقة ، ولا مجازا على الاعتبارين ، بل كناية.
وكذلك الرابع (١) وعلى الخامس بكلا قسميه مجاز بالمعنى الأعم ، وكناية بالمعنى الأخص الّذي لوحظ بالاعتبار الثاني ، لكن إطلاق الكناية على ما إذا تعلق الغرض بغير المقصود من اللفظ حقيقة أو مجازا فيما إذا وقع اللّفظ في سياق الاخبار ، وكان ذلك الغير
__________________
(١) حسب الظاهر ان تقرير الوجه الرابع سقط من نسخة الناسخ وما كانت عندنا النسخة الأصلية.
من لوازم المخبر به ، لا الخبر فإن اللّفظ إذا أريد منه غير المقصود منه ، بمعنى تعلّق غرض المتكلم بغيره ، فذلك اللّفظ : إما في مقام الإنشاء ، أو في مقام الإخبار ، فعلى الأوّل يسمى إكراها ، وعلى الثاني إمّا أن يكون ذلك الغير من لوازم الخبر ، فيسمى تورية أو من لوازم المخبر به فيسمّى كناية.
ثم إنا إن قلنا بجواز الكناية من المجاز أيضا ، فتكون نسبة الكناية مع كل من الحقيقة والمجاز بالاعتبار الأول عموما من وجه.
وان قلنا بعدمه واختصاصها بالحقيقة فيكون نسبتها معها العموم المطلق لأنه كلما صدقت عليه الكناية تصدق عليه الحقيقة بالمعنى الأعم ولا عكس كليا.
وكيف كان فالحقيقة والمجاز بهذا الاعتبار قد عرفت ما بينهما من الواسطة ، فحينئذ قول الماتن : إنّ اللفظ إن أريد منه معناه وحده إلخ ، ناظر إلى هذا الاعتبار فإنّه أراد بالإرادة الغرض ، كما ذكرنا ، ولا ينبغي الاستيحاش في استعمال الإرادة في هذا المعنى لاستعماله فيه في كلام الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ في بيع المكره حيث إنهم حكموا بصحة بيعه إذا لحقه الإجازة بعد الإكراه ، مع تصريحهم بأنّ المكره لم يرد من العقد التمليك ، فإنها لو لم تحمل على ما ذكرنا لا وجه لصحة بيعه حينئذ أصلا ، إذ الإجازة بنفسها ليست ناقلة ، بل هي شرط الصحّة ، فلو كان المكره لم يقصد شيئا أصلا من اللّفظ لم يترتّب على الإجازة شيء ، فيكون غرضهم أنه قصد مدلول اللّفظ ، لكنه لم يرد ترتب أثره عليه ، ولم يكن غرضه الرضا بذلك.
وكيف كان ، فإذا عرفت ذلك كله تقدر على دفع الإشكالات الواردة عليه. ولا بأس بالتعرض لدفع كل منها مفصلا.
فنقول : أما الجواب عن الإشكال الأوّل ، فبأن تعريفه للكناية بما ذكره في المتن ، إنما هو نظرا إلى الغالب منها ، فلا منافاة بينه وبين تقسيمهم إياها إلى القسمين ، على أن القسم الثاني منها وهو اللفظ المراد به لازم المعنى وحده قد أنكره بعضهم.
وأما الجواب عن الإشكال في الفرق المذكور ، فبأنه لا وجه لمنع الفرق ، فإن الكناية وإن كانت لا بد فيها من القرينة أيضا ، كما في المجاز ، إلاّ أنه فرق بين القرينتين ، بأن قرينة المجاز معاندة لقصد المعنى الموضوع له ، بالمعنى الّذي ذكرنا ، بخلاف قرينة الكناية ، فإنها ليس معاندة لذلك بوجه ، بل هي معاندة لتعلق الغرض بغير اللازم ، وهو المعنى الموضوع له في الصورة المفروضة.
وأما في الصورة الأولى ، وهي ما إذا أريد من اللفظ معناه وغير معناه ، بمعنى تعلق الغرض بإفادة كليهما ، فلا معاندة لها لتعلق الغرض بالمعنى الموضوع له أصلا ، بل فائدتها حينئذ إفادة أن الغرض تعلق بإفادة غير المعنى أيضا.
وكيف كان فقرينة الكناية يؤتى بها بحسب الأغراض المطوية في نفس المتكلم ، وبمقدار رفع الحاجة من إفادة هذه الأغراض ، وقرينة المجاز يؤتى بها بحسب عدم قصد المعنى الموضوع له بالمعنى الّذي ذكرنا.
ومن هنا ظهر ما في كلام سلطان المحققين في الفرق بينهما بأن قرينة المجاز ، هي التي تعاند إرادة المعنى الموضوع له على وجه الإطلاق ، وقرينة الكناية إنّما هي تعاند إرادته وحده.
وأما الجواب عن الإشكال الثاني ، فبأنه إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده بمعنى أنه قصد منه ذلك كذلك ، فلا تصدق عليه الكناية ، لما عرفت من اعتبار التغاير بين المستعمل فيه اللفظ وبين الغرض.
وأما الجواب عن الإشكال الثالث فبما عرفت ، من أن غرضه من الإرادة هو تعلق الغرض ، ولا ريب أن تعلق الغرض بالمعنى وبغيره غير استعماله فيهما. هذا ، مع أنك علمت أن المستعمل فيه في تلك الصورة هو المعنى الموضوع له لا غير.
وأما الجواب عن الإشكال الرابع الّذي زدناه أخيرا ، فبأن تقسيم اللفظ بهذا الاعتبار ليس دائرا بين النفي والإثبات بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز كما عرفت.
هذا ، ثم إنه قد يستشكل في أنه إذا كان الغرض إفادة اللازم ، فلم لا يستعمل اللفظ فيه ويقصد منه؟ فما فائدة قصد المعنى الموضوع له اللفظ منه ، مع أن الغرض إفادة غيره؟
لكنه يندفع لما سيجيء في محله ـ إن شاء الله ـ من أنه شبهة في مقابل البديهة.
المقام الثالث من المقامات المرسومة للحقيقة والمجاز في أحكامهما. ويقع الكلام هنا في جهتين :
إحداهما : نظير الشبهة الحكمية لرجوعها إلى الشك في فعل الواضع.
والأخرى : نظير الشبهة الموضوعية لرجوعها إلى الشك في مراد المتكلم بعد إحراز الجهة الأولى.
فلنقدم الكلام في الجهة الأولى ، فنقول : إنه إذا شك في وضع لفظ لمعنى فطريق معرفته أمور :
منها : ما يفيد القطع كتنصيص الواضع ، والنقل المتواتر ، أو نقل الواحد المحفوف بقرائن قطعية.
ومنها : ما يفيد الظن كنقل الآحاد الغير المحفوف بالقرائن ، والعلائم المعروفة التي سيجيء ، تفصيلها من التبادر ، وعدم صحة السلب ، وغيرهما من العلائم.
أمّا الطائفة الأولى فالنزاع فيها صغروي ، إذ بعد إحراز صغرياتها لا يعقل المنع من العمل بها.
وأمّا الطائفة الأخرى فالنزاع فيها كبروي راجع إلى حجيتها وعدمها بعد إحرازها ، ولمّا كان بيان حال الصغريات في الطائفة الأولى موكولا إلى ملاحظة الخصوصيات اللاحقة للموارد الشخصية ، ولم تكن لمعرفتها ضابطة كلية يرجع إليها ، لاختلافها باختلاف الموارد والأشخاص ، إذ ربما يطلع أحد على التواتر ، أو تنصيص الواضع ، أو القرائن القطعية ، ولم يطلع عليها غيره ، فلم يكن للتعرض لها مجال فيما نحن فيه من المقام المعدّ لبيان كلية يعول عليها في الموارد الشخصية ، ولذلك فلنعرض عنها فنوجّه الكلام ونسوقه إلى الطائفة الثانية.
ولنقدّم الكلام في القسم الأوّل منها ، وهو نقل الآحاد ، وقبل الشروع في الاستدلال ، وذكر الأقوال لا بد من تحرير محل النزاع.
فنقول : إن اللفظ الّذي ينقل وضعه الآحاد ، إمّا من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية كألفاظ الكتاب والسنة ، وإما من موضوعات الأمور الخارجية المتضمنة للأحكام الشرعية الجزئية ، كالألفاظ الواردة في مقام الأقارير والدعاوي وأمثالهما ، كما إذا أقر أحد لآخر بشيء ، ولم نعلم مراده من جهة الاشتباه والشك في وضع اللفظ الدال على المقرّ به ، كأن أقرّ بأن لزيد عندي دينارا مثلا ، ثم عبّر عنه بمقدار من الدرهم لا ندري أن الدينار موضوع لهذا المقدار ، أو لأزيد منه ، فترجمه أحد بمقدار ناقلا أن الدينار موضوع في لغة العرب لكذا.
وعلى التقديرين ، الناقل للوضع ، إمّا أن يكون جامعا لشرائط حجية الخبر ، المقررة في بحث خبر الواحد ، أو لا يكون فيكون الصور أربعا.
إحداها وهي ـ ما إذا كان الناقل جامعا لشرائط الحجية وكان اللفظ الّذي ينقل وضعه من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية ـ خارجة عن محل النزاع فيما نحن فيه هنا ، لأن البحث عن خبر الواحد يغني عن البحث فيها بخصوصها هنا ، لأن أدلة حجية
خبر الواحد الدالة على قبول قول العادل مثلا ، وترتيب الأحكام الشرعية عليه ، لا تفرق بين الأحكام المترتبة على قوله مطابقة ، أو التزاما والبواقي داخلة فيه ، وأيضا النزاع فيها فيما إذا كان الناقل ناقلا عن حسه ، لا عن حدسه ورأيه ، إذ لا عبرة برأيه إجماعا ، فلذا قدحوا في نقل أبي عبيدة حيث إنه كان ينقل بعض الأوضاع عن رأيه ، مع أنه من الأجلاّء ، وأهل الخبرة وكان خبيرا غاية الخبرة.
فإذا عرفت محل النزاع ، فالمشهور حجية الظن بالوضع الحاصل من خبر الواحد في الجملة ، قبالا لما ادعى بعض من السلب الكلي وللأوّل وجوه :
الأوّل الإجماع محصلا قولا ، وفعلا.
وطريق تحصيل الأوّل الرجوع إلى أقوال العلماء ، وإلى الإجماعات المنقولة من أصحابنا ، ومن المخالفين أيضا ، بحيث يحصل بملاحظة كثرتها القطع باتفاق كلمة جميع العلماء على حجية قول الناقل للّغة ، ولو كان واحدا لا يحصل من خبره القطع.
فمن الناقلين للإجماع من أصحابنا السيد المرتضى قدس سرّه على ما حكي عنه في بعض كلماته ، بل ظاهر كلامه المحكي اتفاق جميع المسلمين ، ومنهم الفاضل السبزواري ، ومنهم السيد البغدادي (١) رحمه الله في المحصول ، ومنهم العلامة (٢) قدس سره في النهاية ، ومنهم المدقق الشيرواني (٣) ، ومن المخالفين الّذي ببالنا الآن العضدي ، قال : إنّا نقطع أن العلماء في الأعصار ، والأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد ، كنقلهم عن الأصمعي ، والخليل ، وأبي عبيدة.
وطريق تحصيل الثاني التتبع في أحوال السالفين إلى زماننا هذا ، فإن المتتبع يراهم عاملين وآخذين بخبر الواحد الغير المفيد للعلم من دون نكير من أحدهم على الآخر ، حتى أنه لو اتفق التشاجر ، والجدال في لفظ ، وأخذ أحد المتخاصمين بكلام
__________________
(١) المحصول في علم الأصول مخطوط : ١١ ـ ١٢.
وإليك نصّه : ومنها : نقل الأئمّة الثقات الضابطين المعتمدين كابن الأثير ، والجوهري ، والأزهري ، وصاحب القاموس ، والفيومي ، وأضراب هؤلاء من المتقدّمين والمتأخّرين ، وان كان آحادا لغلبة الظنّ واطمئنان النّفس بعدم ردّ المتأخّر ، فإنّ الناس رقباء بعضهم على بعض وخاصّة ما اتفق عليه اثنان منهم أو جماعة ، بل ربما أفاد القطع ، كيف لا وما كان ليحكم أحدهم إلاّ بما تواتر لديه ، أو تكثّر النقل عليه. إلى أن قال : ولذلك استمرّت طرائق العلماء الدّيانين على الأخذ منهم والاعتماد عليهم.
(٢) نهاية الوصول إلى علم الأصول : مخطوط مبحث الوضع منه.
(٣) حاشية الشيرواني على المعالم : مخطوط.