تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

الآية بالنسبة إلى المستقلات ، أو تخصيصه بغير المستقلات ، أو عم البيان العقلي أيضا.

ثم إنه تمسك بعضهم بالآية على التفكيك بين حكم العقل والشرع ، بتقريب :

أن المراد بالرسول هو البيان النقلي ، ومورد الآية عام بالنسبة إلى المستقلات العقلية ، فتدل على نفي العذاب عنها إلا بعد البيان [ النقلي ](١) ، مع أن العقل مستقل باستحقاق العقاب والعذاب عليها ، فلزم التفكيك بين العقل والشرع.

فأجاب عنه بعض من استدل بها فيما نحن فيه على أصالة البراءة ، بأن الآية إنما تدل على نفي فعلية العذاب ، وهو أعم من نفي الاستحقاق ، ولا دلالة للعام على الخاصّ ، فيمكن معه ثبوت نفس الاستحقاق عند الله ـ أيضا ـ الّذي يحكم به العقل ، ويكون عدم فعلية العذاب من باب العفو ، فلا ينافي ثبوت أصل الحكم المدعى ، كما في الظهار على ما قيل ، فلم تنف الآية حكم العقل حتى يلزم التفكيك. هذا.

أقول : ويرد عليه أيضا : أن الاستدلال بها على التفكيك مبني على اختصاص البيان بالنقلي ، كما عرفت ، مع عموم الآية للمستقلات العقلية ، وفي كل واحدة من هاتين المقدمتين منع ظاهر ، لعدم ما يدل على الاختصاص إن لم نقل بظهور البيان بالنسبة إلى العقلي ، ومعه تدل الآية على التطبيق ، لا التفكيك ، نظرا إلى وجه التعلق بالغاية ، فإنه غاية نفي العذاب أو استحقاقه حاصلة في المستقلات.

ولو سلمنا فغايته الإجمال ، ومعه تسقط الآية عن الاستدلال بها على ما

__________________

(١) في الأصل : ( العقلي ) ، وهو من سهو القلم.

٢١

صار إليه ، ولبداهة ثبوت استحقاق العقاب في المستقلات العقلية أيضا.

ثم إنه قد أورد ثالث على هذا المجيب : بأن الاستدلال بالآية في المقام على أصالة البراءة يناقض رد ذلك المستدل ، فإن المطلوب في مسألة البراءة إنما هو إثبات نفي استحقاق العقاب على ارتكاب المشتبه ، لا نفي فعليته ولو بطريق العفو ، فحينئذ إن لم تقتض الآية أزيد من نفي الفعلية الأعم من نفي الاستحقاق فلا وجه للاستدلال بها على أصالة البراءة ، وإن اقتضت نفي الاستحقاق فلا وجه لرد ذلك المستدل ، فإن نفي الاستحقاق ملازم لعدم الحكم الشرعي.

هذا ، لكن الإنصاف اندفاعه بما ذكره ـ قدس سره ـ بقوله : ( ويمكن دفعه : بأن عدم الفعلية ... إلخ ) (١).

وحاصله : أن الإجماع قائم على الملازمة بين نفي فعلية العذاب وبين نفي استحقاقه على ارتكاب الشبهات مما لا يستقل بها العقل التي هي المتنازع فيها في مسألة البراءة ، فإن القائلين بالاحتياط فيها مسلمون بعدم الاستحقاق على تقدير عدم الفعلية ، فحينئذ يكفي للمستدل على عدم الاستحقاق دلالة الآية على عدم الفعلية ، فإنه بضميمة الإجماع المركب المذكور يتم مطلوبه.

وأما في المستقلات العقلية فلم [ يقم ] فيها إجماع على الملازمة بين نفي فعلية العذاب وبين نفي الاستحقاق الملازم لنفي الحكم الشرعي ، بل يحتمل فيها التفكيك ، فلا يلزم فيها من إثبات نفي الفعلية نفي الحكم ، فيكون الرد في محله.

وبالجملة : الكلام فيما نحن فيه مع من يسلم الملازمة المذكورة ، فيكفي في رده إثبات نفي الفعلية ، وهناك مع من لا يسلمها فيه ، فلا يكفي في رده ذلك ، والمراد بفعلية العذاب إنما هو عدم العفو المحتمل ، لا الوقوع كيف كان ، فإن

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٧.

٢٢

ذلك غير متيقن في المحرمات المعلومة فكيف بمشتبهاتها؟! وعليه يحمل قوله ـ قدس سره ـ ( والعقاب والهلاك فعلا ) (١) فإن مراد الخصم أيضا ذلك ، لا الوقوع كيف كان.

ومما ذكرنا ظهر الجواب عما ربما يتوهم من الإيراد على الاستدلال بالآية على أصالة البراءة من أن غاية ما تدل عليه إنما هي نفي فعلية العذاب ، دون استحقاقه كما هو المدعى.

لكن الإنصاف عدم نهوضها على المطلوب.

أما أولا ـ فلما ذكره ـ قدس سره ـ من كونها إخبارا عن وقوع التعذيب سابقا في الأمم السابقة بعد بعث الرسول إليهم ، كما يدل عليه قوله : ( وَما كُنَّا ... ) بصيغة الماضي ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع فيهم ، لأن الأخروي لم يجئ وقته بعد لأحد.

أقول : لا يخفى كثرة إطلاق لفظ الماضي على المستقبل في القرآن ، خصوصا فيما يتعلق بأحوال القيامة ، ولا شبهة [ في ](٢) وقوع التعذيب سابقا إلا أنه لا يوجب ظهوره أيضا في أحوال القيامة ، فتسقط الآية عن الاستدلال بها.

ويمكن أن يقال : ـ على فرض تسليم كون الآية في مقام الإخبار عن وقوع التعذيب في الأمم السابقة بعد البعث ـ : إن في العدول عن لفظ : ( وما عذبنا ) إلى قوله : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ )(٣) إشعارا بأنه تعالى أراد : أنه لم يكن شأنه تعذيب أحد إلا بعد البيان ، فيستفاد أن هذا شأنه تعالى في جميع الأمور وفي الدنيا والآخرة ، فيتم به المطلوب ، إلا أنه مجرد إشعار لا ينبغي الركون إليه.

وأما ثانيا ـ فبأن الظاهر من الرسول هو الشخص المبعوث من الله

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٧.

(٢) في الأصل : فلا شبهة له على ..

(٣) الإسراء : ١٥.

٢٣

تعالى لا البيان ـ سواء خصوص النقلي أو الأعم ـ فظاهر الآية على هذا : ما كنا معذبين أحدا في زمان الفترة من الرسل إلى أن نبعث إليهم رسولا ، ولذا تمسك بالآية بعض الأخباريين ـ على ما حكي عنه ـ على ثبوت العقاب على ارتكاب ما لم يعلم الإذن فيه من الله تعالى في شريعتنا ، سواء بينة النبي صلى الله عليه وآله أو أحد أوصيائه صلوات الله عليهم ـ ولم يصل البيان إلينا ، أو لم يبينه أحد منهم عليهم السلام أصلا ، فإن غاية نفي العذاب هو بعث شخص النبي صلى الله عليه وآله لا بيانه ، وهي حاصلة ، فالآية بمقتضى مفهوم الغاية تدل على ثبوت العذاب على ارتكاب ما لم يعلم الاذن فيه من الله في شريعتنا.

لا يقال : إن هذا مناف لحكم العقل بقبح العذاب من غير بيان ، فهو قرينة على إرادة البيان من الرسول لا الشخص.

لأنا نقول : هذا يرجع بالأخرة إلى الاستدلال بالعقل ، لا الآية ، فلا معنى لعدها حينئذ من أحد أدلة البراءة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( والإنصاف : أن الآية لا دلالة لها على المطلب في المقامين ... ) (١).

يعني في مقامنا هذا وفي مقام التمسك بها على التفكيك ، فإن الاستدلال بها فيهما مبني على دلالتها على نفي فعلية العذاب لا محالة ، مضافا إلى ابتنائه على الإجماع على الملازمة بينه وبين الاستحقاق في الثاني لو سلم تحققه في الأول ، وقد مر منع دلالتها على نفي فعلية العذاب أيضا ، بل إنما تدل على نفي العذاب الدنيوي في الأمم السابقة كما مر.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٧.

٢٤

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وفيه ما تقدّم في الآية السابقة. ) (١). من أنّها تدلّ على وقوع العذاب بعد البيان ، فيختصّ بالدنيويّ.

أقول : ويمكن أن يقال فيها أيضا ما قلنا في الآية السابقة من أنّ العدول إلى لفظ ( ما كنا ) معشر بأنّ شأنه تعالى لم يكن إلاّ الخذلان والعذاب بعد البيان ، فيكون هذا شأنه تعالى وهو ثابت له في الآخرة أيضا ، فلا يعذّب بعذاب الآخرة أيضا إلا بعد البيان ، إلاّ أنّه مجرّد إشعار لا ينبغي الركون إليه ، كما مرّ.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( إلاّ بالفحوى ... ) (٢) بأن يقال : إنّه إذا أوقف الله ـ سبحانه وتعالى ـ العذاب الدنيويّ الّذي هو أهون من الأخروي على البيان ، فإيقافه الأخرويّ عليه أولى.

وفيه : أنّا نقطع بانتفاء العذاب الدنيويّ في أكثر المحرّمات المعلومة ، مع القطع بترتّب العذاب الأخروي عليها ، فلا ملازمة بين انتفاء الأوّل وبين انتفاء الثاني ، فضلا عن كون الثاني أولى.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( في دلالتها تأمّل ... ) (٣).

فإنّها مذكورة في سورة الأنفال في مورد خاصّ ، وهو غزوة بدر ، فيحتمل ان يكون المراد بالهلاك هو القتل ، وبالبيّنة البصيرة الحاصلة لكلّ أحد من ظهور معجزات النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ـ الظاهرة في تلك الغزوة للكفّار ، فيكون المراد منها ـ والله أعلم ـ أنّا فعلنا ما فعلنا (٤) في تلك الواقعة من إظهار مقامات النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ـ لهم ليقتل من يقتل عن بصيرة ، فلا ربط لها ـ على

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٧.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣١٨.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣١٨.

(٤) في الأصل غير مقروءة ويحتمل انها : ( فعلناها فعلا ) ، ولكن العبارة التي أثبتناها أقوم.

٢٥

هذا ـ بالمدّعى ، ولو لم تكن هي ظاهرة في هذا المعنى لم تكن ظاهرة في المطلوب أيضا ، فتسقط بالإجمال عن الاستدلال بها.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول ... ) (١).

فلا يصلح لرد الأخباريين ، حيث إنهم مسلمون بذلك ، وإنما يدعون ثبوت المؤاخذة على تكليف معلوم ، وهو وجوب الاحتياط في موارد الشبهة التحريمية ، فأدلة الاحتياط على تقدير تماميتها من قبيل الدليل ، وتلك من قبيل الأصل ، فيرتفع موضوعها بأخبار الاحتياط.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ومنها : قوله تعالى مخاطبا لنبيه ) صلى الله عليه وآله إلى قوله : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) ... ) (٢) (٣) الآية.

تقريب الاستدلال بهذه الآية : أنه تعالى لقن نبيه صلى الله عليه [ وآله ـ طريق الرد على اليهود بقوله : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) ، فيجعل طريق الرد عليهم عدم وجدانه ما التزموا بحرمته فيما أوحي إليه ، مع أن رده صلى الله عليه [ وآله ـ إياهم بنفي الحرمة صريحا ـ بأن يقول لهم : ليس ما التزمتم بحرمته حراما عند الله ـ كان كافيا في الرد ، فإنه كما يكون إخباره عن عدم الحرمة دليلا قطعيا للغير على عدم الحرمة واقعا ، فكذلك عدم وجدانه شيئا محرما فيما أوحي إليه دليل قطعي على عدم حرمة ذلك الشيء ، فإن أفاد أحدهما الغير فائدة فيفيدها الآخر ، وإن لم يفدها لم يفدها الآخر ، ففي العدول عن

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٨.

(٢) الأنعام : ١٤٥.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣١٨.

٢٦

العبارة الثانية إلى الأولى ـ وهي قوله : ( لا أَجِدُ ) ـ دلالة على أن عدم الوجدان كاف في الحكم بعدم الحرمة وإن كان هو من النبي صلى الله عليه [ وآله ـ يفيد القطع ، لكن الحكم بعدم الحرمة يدور مدار الوصف ، وهو عدم الوجدان ، لا القطع.

هذا غاية ما يقال في توجيه الاستدلال.

لكن يتجه عليه وجوه :

الأول : ما ذكره ـ قدس سره ـ من أن غاية ما يستفاد منها الإشعار بما ذكر ، وأما الدلالة فلا (١).

الثاني : ما أفاده ـ دام ظله ـ من منع إشعارها بذلك أيضا ، إذ لعل النكتة في العدول إلى قول : ( لا أَجِدُ ) في مقام الرد على اليهود كون الرد بهذه العبارة لاشتمالها على نوع من التأدب (٢) لعدم كونه تكذيبا لهم صريحا ـ كما في العبارة الثانية ـ مجادلة معهم بالأحسن ، وقد امر صلى الله عليه وآله بها بقوله تعالى : ( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(٣) ، واحتمال كون النكتة في العدول هذا ليس بأبعد من احتمال كونها ذاك إن لم نقل بكونه أظهر منه ، كما هو ليس ببعيد.

الثالث : أنه على فرض التسليم والإغماض عن هذين الوجهين نقول : إنه تعالى جعل المناط في الحكم بعدم الحرمة عدم وجدان النبي صلى الله

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٨.

(٢) وهذا كما يقال في العرف في نفي مدعى الخصم (أ) إذا أريد نفي مدعاه بطريق التأدب ـ : إني لا أجد ما تقول في شيء من الكتب ، ولا يقال : إنه باطل أو كذب ، لكونه موجبا لاستخفاف المدعي (ب) لمحرره عفا الله عنه.

(٣) النحل : ١٢٥

__________________

(أ) غير مقروءة والمثبت استظهارا.

(ب) الأنسب بالسياق ظاهرا هو : للاستخفاف بالمدعى.

٢٧

عليه [ وآله ] ـ ، كما يشهد به قوله : ( لا أَجِدُ ) ، لا عدم الوجدان من كل أحد ، كما هو مبنى الاستدلال.

الرابع : أنه ـ على تقدير الإغماض عن هذا أيضا ، وتسليم إلغاء خصوصية الفاعل ـ نقول : إنه تعالى جعل المناط عدم الوجدان فيما أوحي إلى النبي صلى الله عليه [ وآله ـ فخصوصية المفعول فيه معتبرة جدا ، وظاهر الموصولة العموم ، بل إرادة العموم منها متعينة جدا ، وإلا لما كان وجه لتوبيخ اليهود على التزامهم بحرمة بعض الأشياء المحتمل للحرمة عند الله ، فإن الاحتياط مما يستقل بحسنه العقل ، فكيف يصح معه الذم والتوبيخ عليه؟!

إلا أن يقال : إن الظاهر من الآية التوبيخ على الالتزام بالحرمة ، والاحتياط هو الالتزام بترك محتمل التحريم ، لا بحرمته ، فإنه تشريع ، فالتوبيخ في محله ، مع عدم إرادة العموم أيضا.

وكيف كان ، فظاهر الموصولة كاف في حملها على العموم ، فيكون المناط في الحكم بعدم الحرمة هو عدم وجدان الشيء المشتبه في جميع ما أوحي إليه صلى الله عليه [ وآله ـ من المحرمات ، فلا ينطبق على المدعى ، وهو جعل عدم الوجدان فيما بأيدينا منها مناطا في الحكم بعدم الحرمة ، ضرورة أنه ليس بتمام ما أوحي إليه صلى الله عليه [ وآله ـ للقطع باختفاء كثير منها عنا.

اللهم إلا أن يقال : إنا نعلم أنه لا مدخلية لصفة عدم الوجدان في جميع ما أوحي إليه صلى الله عليه [ وآله ـ من حيث هي ـ في الحكم بعدم الحرمة ، بل كونها مناط لذلك إنما هو من جهة كونها من مصاديق عدم البيان ، فالمناط هو ، وهو متحقق في عدم الوجدان فيما بأيدينا أيضا ، لكنه مشكل غاية الإشكال جدا.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فالتوبيخ في محله ... ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٩.

٢٨

إشارة إلى وجه تأييد إرادة العموم من الموصول ، فإنه لو كان ما التزموا بترك أكله مما احتمل كونه من المحرمات الإلهية المفصلة مع عدم اطلاعهم على تفصيله ـ ولو لتقصير ـ لم يكن وجه لتوبيخهم على الالتزام بترك أكله ، لكونه احتياطا ، وهو مما يستقل العقل بحسنه ولو مع التمكن من السؤال ، فالتوبيخ كاشف عن أن ما التزموا بترك أكله كان خارجا عن جميع ما فصل ، فيخرج عنه ما نحن فيه ـ وهو الشبهة التحريمية ـ فإنها محتملة لكونها من المحرمات المفصلة بالفرض.

ولا يقال : إن التوبيخ لعله لأجل أن الالتزام المذكور كان تشريعا.

لأنا نقول : إن الالتزام بالترك ـ لاحتمال الحرمة ـ ليس تشريعا قطعا ، بل التشريع هو الالتزام بحرمة ما لم تعلم حرمته.

قوله ـ قدس سره ـ : ( لأن غاية مدلول الدال منها عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا أو عموما ... ) (١).

لا يخفى أن الآيتين الأخيرتين ـ على فرض تماميتهما ـ تدلان على عدم التكليف فيما لم يعلم حكمه بالخصوص ـ سواء علم حكمه العام ، أو لا ـ نظير قوله صلى الله عليه [ وآله ـ : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (٢) ، فإن ظاهر الموصول فيهما هي المحرمات الواقعية ، كما لا يخفى ، إلا أن الظاهر أنه ـ قدس سره ـ جعلهما من الآيات الغير الدالة على المطلوب بوجه.

قوله ـ قدس سره ـ : ( منها : المروي عن النبي صلى الله عليه [ وآله ]) إلى قوله : « رفع عن أمتي تسعة (٣) ... » (٤).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣١٩

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٧ ـ ١٢٨ ـ كتاب القضاء ـ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ـ حديث ٦٠ ، وهذه هي مرسلة الصدوق ( ره ).

(٣) الخصال : ٤١٧ ـ ٩.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٢٠.

٢٩

اعلم أن الحديث الشريف يدل بدلالة الاقتضاء على كون المرفوع شيئا آخر غير ذوات تلك الأمور التسعة مقدرا في طي الكلام ، ويحتمل كونه أحد أمور ثلاثة :

الأول : جميع الآثار ، فيكون المعنى : رفع عن أمتي جميع آثار التسعة.

الثاني : خصوص المؤاخذة ، فيكون المعنى. رفع عنهم المؤاخذة عليها.

الثالث : الأمر المناسب ، فيكون المعنى رفع عنهم ما هو المناسب لها من الآثار.

فتقريب الاستدلال به ـ حينئذ ـ : أن ظاهر الموصول في قوله صلى الله عليه [ وآله ]ـ : « ما لا يعلمون » العموم بالنسبة إلى الموضوعات والأحكام مطلقا حتى الحرمة ، والحديث الشريف دال على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم مطلقا وعلى كل تقدير : أما على الأولين فواضح ، وأما على الثالث : فلأنها الأمر المناسب لما لا يعلم ، ومما لا يعلم الحرمة المجهولة ، فدل الحديث الشريف على نفي المؤاخذة على ارتكاب المشتبهات في الشبهات التحريمية الحكمية المتنازع فيها.

هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال به ، وقد عرفت أنه مبني على مقدمتين :

إحداهما : عموم الموصول للحكم دون اختصاصه بالموضوع ، وهو فعل المكلف.

وثانيتهما : كون المؤاخذة أمرا مناسبا لما لا يعلم.

ويتجه على أولاهما : على جميع التقادير ما ذكره ـ قدس سره ـ أولا من منافاته لسياق الرواية ، فإن ظاهرها كون المراد من الموصول في جميع فقراتها واحدا ، والظاهر أن المراد به في الفقرات السابقة هو الموضوع ، فاتحاد سياقه في تلك الفقرة [ مع ](١) سياقه في الفقرات السابقة يقضي بأن المراد منه فيها أيضا

__________________

(١) في الأصل : لسياقه.

٣٠

هو الموضوع ، فتختص الرواية بالشبهات الموضوعية.

وعلى تقدير كون المقدر هو خصوص المؤاخذة ما ذكره (١) ـ قدس سره ـ ثانيا من عدم ملائمته لعموم الموصول : إذ على هذا التقدير يكون معنى ( رفع ما لا يعلم ) رفع المؤاخذة عليه ، ولا معنى لرفع المؤاخذة على التكليف المجهول ، فإن المؤاخذة ـ على تقديرها ـ فهي على الفعل المكلف به ، لا على التكليف الّذي هو فعل الله تعالى نعم هي من آثاره.

وعلى ثانيتهما : منع كون المؤاخذة من آثار التكليف المجهول بأن يكون هو مقتضيا لها ، فرفعها الشارع ، فضلا عن كونها أمرا مناسبا له ، فإن العقل مستقل بقبح العقاب على التكليف المجهول حتى مع إمكان الاحتياط (٢) ، كما لا يخفى على المتأمل.

وهذا مما اعترف به الأخباريون ـ أيضا ـ فإنهم يدعون ثبوت المؤاخذة والعقاب على تكليف معلوم ، وهو التكليف بالاحتياط الثابت بالأخبار الدالة عليه ، كما مرت الإشارة إليه فإذا قبح العقاب على التكليف المجهول : ـ ولو مع إمكان الاحتياط ـ فهو ليس مقتضيا للعقاب والمؤاخذة أصلا.

فظهر أنه لا يصح جعل المقدر فيما لا يعلمون المؤاخذة بعنوان كونها أمرا مناسبا ، وكذا بعنوان كونها من جملة الآثار بناء على تقدير جميع الآثار ـ أيضا ـ لعدم اقتضاء التكليف المجهول لها حتى تكون من آثاره.

وأما تقديرها بعنوانها الخاصّ فإنه مناف لظاهر الرفع ، فإنه يشترط في صدق الرفع حقيقة على نفي شيء عن شيء كون ذلك الشيء مقتضيا لثبوت هذا الشيء المنفي لا محالة ، وقد عرفت عدم اقتضاء التكليف المجهول

__________________

(١) أي : ويتجه ـ على تقدير ... المؤاخذة ـ ما ذكره.

(٢) ومن هنا يظهر ضعف توجيهه ـ قدس سره ـ لتقدير المؤاخذة فيما يأتي من كلامه بأنه مقتض لها في صورة إمكان الاحتياط بعد التفاته إلى الإشكال لمحرره عفا الله عنه.

٣١

للمؤاخذة أصلا ، فحينئذ لا بد إما من حمل الموصول فيما لا يعلمون على الموضوع ، فتسقط الرواية عن الاستدلال بها على المدعى ، وإما من دعوى أن المقدر خصوص المؤاخذة بعنوانها الخاصّ مع عموم الموصول للحكم :

أما تقدير خصوص المؤاخذة ، وإن كان يقتضيه اتحاد سياق تلك الفقرة [ مع ] ما قبلها (١) ، حيث إن الظاهر أن المقدر فيما قبلها أيضا هي المؤاخذة ، لكنه مناف لظاهر الرفع ولعموم الموصول ـ أيضا ـ كما عرفت.

وأما عموم الموصول فهو مع عدم ملائمته لتقدير المؤاخذة مناف لظاهر سياق الرواية ـ كما مر ـ فتعين اختيار الشق الأول من شقي الترديد. هذا.

قال دام ظله : إن المؤاخذة وإن لم تكن من آثار التكليف المجهول ـ كما مر ـ لكن إيجاب الشارع الاحتياط في مورد احتماله من آثاره ، فإنه مقتض لذلك جدا ، فحينئذ لو لا اتحاد سياق الموصولة فيما لا يعلمون [ مع ] ما قبلها (٢) ـ الموجب لظهور إرادة الموضوع منها ـ لكان الاستدلال بالحديث الشريف جيدا جدا ، فإنه إذا كان المراد بها الأعم من الموضوع ـ الشامل للحكم ـ فتقريب الاستدلال : بأن المقدر في كل واحد من التسعة إنما هو الأمر المناسب له ، وهو في غير « ما لا يعلمون » المؤاخذة ، وفيه إيجاب الشارع الاحتياط في مورده : إذ ليس له أثر مناسب غيره ، بل لا أثر له سواه ، فلا يصح نسبة الرفع إليه إلا باعتبار رفع إيجاب الاحتياط ، فيدل الحديث الشريف على رفع الشارع وجوب الاحتياط عما لا يعلم ، بمعنى عدم إيجابه مع قيام المقتضي له ، فيكون هذا نظير الحديث الآتي ـ وهو قوله عليه السلام : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (٣) ـ دالا على نفي التكليف بالاحتياط في الشبهات التحريمية المتنازع

__________________

(١ و ٢) في الأصل : .. لما قبلها.

(٣) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٢٢ باب ٤٥ في وصف الصلاة ، وسائل الشيعة ٨ : ١٢٧ ـ ١٢٨ ـ ٦٠ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

٣٢

فيها ، فيكون حجة على نفي مدعى الأخباريين ، وعلى نفي العقاب من جهة التكليف بالاحتياط.

أقول : وهذا الّذي أفاده ـ دام ظله ـ في تقريب الاستدلال بما لا يعلمون ـ بعد عدم احتمال كون المقدر المرتفع المؤاخذة ، لعدم كونها من آثاره مطلقا ، حتى بالنسبة إلى الحكم المجهول هو الّذي ينبغي أن يعتمد عليه ، لا الّذي ذكره ـ قدس سره ـ فيما يأتي من كلامه. من أن المرتفع فيما لا يعلمون وأشباهه ـ مما لا يشملها أدلة التكليف ـ هو إيجاب الاحتياط والتحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي ، ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه.

فإنه ـ قدس سره ـ وإن أصاب في جعل الأثر لما لا يعلمون عدم إيجاب الاحتياط ، لكن في جعله وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته منجزا للواقع المجهول على المكلف ـ كما في الطرق والأمارات الشرعية ، بحيث يكون العقاب حينئذ على مخالفة الواقع المجهول ، كما ينادي به قوله قبل ذلك ، حتى يلزمه ترتب العقاب إذا أفضى ترك التحفظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي ـ ما لا يخفى على المتأمل ، فإن وجوب الاحتياط والتحفظ على تقديره مستلزم للعقاب على مخالفة نفسه بعد العلم به ، سواء كان في مورده تكليف واقعي ، أو لا ، كما يقول به الأخباريون أيضا ، لا على مخالفة الواقع المجهول على تقديرها ، فإنه ليس التكليف بالاحتياط كالتكليف بالطرق والأمارات الشرعية ، فإنها بعد أمر الشارع بها يتم كونها طريقا وحجة على الواقع ، لكونها في أنفسها كاشفة عنه ومرآة له ظنا ، والأمر بالاحتياط لا يعقل كونه بيانا لذلك التكليف المجهول كما اعترف به ـ قدس سره ـ أيضا في نظيره ، وهو قاعدة وجوب دفع الضرر في طي الاستدلال بالوجه الرابع من أدلة البراءة ، وهو العقل (١) ، فراجع.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣٥.

٣٣

بل إنما هو ـ على تقديره ـ علم مصحح للعقاب على مخالفة نفسه ، لكونه حينئذ تكليفا معلوما مبينا.

هذا ، ثم إن الإشكال المتقدم ، الوارد على جعل المقدر ـ المرتفع فيما لا يعلمون هي المؤاخذة بناء على عموم الموصول للحكم ، يرد عليه على تقدير تخصيص الموصول بالموضوع أيضا بناء على استقلال العقل بقبح العقاب على مخالفة التكليف المجهول ، حتى فيما إذا كان الجهل ناشئا من الأمور الخارجية ـ كما هو الحال في الشبهات الموضوعية ـ وسيأتي اختياره ـ قدس سره ـ له أيضا ، لكن لا حاجة في الاستدلال إلى جعله هي المؤاخذة ـ على هذا التقدير ـ لصحة الاستدلال بناء على جعله هو الأثر المناسب ، وهو إيجاب الاحتياط بالتقريب المتقدم في الاستدلال عليه بالحديث على الشبهات الحكمية على تقدير عموم الموصول للحكم.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فلعل نفي جميع الآثار مختص بها ، فتأمل ... ) (١).

أقول : الأمر بالتأمل لعله إشارة إلى أنه إذا كان المقدر في تلك الثلاثة جميع الآثار فيبعد كونه في غيرها من الستة الباقية خصوص المؤاخذة لاستلزام ذلك للتفكيك الّذي يأباه ظاهر السياق ، فإن ظاهره أن المقدر في الجميع على نسق واحد ، فبعد كون المراد في تلك الثلاثة رفع جميع الآثار ، فالظاهر ذلك أيضا في الستة الباقية التي منها ما لا يعلمون ، فافهم.

قوله ـ قدس سره ـ : ( رفع كل واحد من التسعة ... ) (٢).

وهذا نظرا إلى أن إسناد فعل إلى العدد يقتضي إسناده إلى كل واحد من

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٢١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٢١.

٣٤

الآحاد مستقلا ، وهذا وجه فساد ما قيل من أن اختصاص الرفع باعتبار المجموع.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وأما في الآية فلا يبعد أن يراد به العذاب والعقوبة ... ) (١).

والقرينة على ذلك قوله تعالى بعد تلك الفقرة : ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا )(٢).

قوله ـ قدس سره ـ : ( وهو كما ترى ... ) (٣).

فإن تقدير جميع الآثار مساو لتقدير بعضها ، والتفاوت بينهما إنما هو لكون المقدر على الأول أكثر أفرادا منه على الثاني.

قوله ـ قدس سره ـ : ( مبنيا لإجماله ، فتأمل ... ) (٤).

الأمر بالتأمل لعله إشارة إلى أن عموم العام لا يوجب ظهور المخصص المجمل بالظهور الذاتي ، بل إنما هو ظهور خارجي ، فهذا التوجيه لم يثبت ظهور الرواية في المدعى من حيث هو ، كما هو المدعى.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وأما نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعية ... ) (٥).

بل هي من مقولة الأفعال.

قوله ـ قدس سره ـ : ( أن المراد برفع التكليف عدم توجيهه إلى المكلف مع قيام المقتضي له ، سواء كان هنا دليل يثبته لو لا الرفع ، أم لا. ) (٦) ..

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٢٢.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٢٢.

(٥) فرائد الأصول ١ : ٣٢٣.

(٦) فرائد الأصول ١ : ٣٢٣.

٣٥

لا يخفى أن الرفع حقيقة في رفع الأمر الثابت قبل الرفع حقيقة ، فلذا يقال في النسخ : إنه رفع صوري بالنظر إلى ظاهر الدليل الدال على الاستمرار ، ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا شموله لرفع الأمر الثابت ـ ولو بحسب ظاهر الدليل ـ فلا يشمل عدم توجيه التكليف مع قيام المقتضي له حقيقة إذا لم يكن هنا دليل يثبته ، ولو أطلق عليه فهو مجاز جدا.

لكن الظاهر من الرواية إرادة ما يعم ذلك كما ذكره ـ قدس سره ـ والقرينة عليه أنه صلى الله عليه [ وآله ـ ذكر هذا الحديث الشريف في مقام الامتنان على هذه الأمة ، بأنه من الله عليهم برفع تلك الأمور التسعة عنهم ، ولم يثبتها عليهم ، كما أثبتنا على الأمم السابقة ، فالرفع هنا مقابل لإثباتها على الأمم السابقة ، فلم يكن معناه حينئذ إلا عدم جعلها في حقهم مع قيام المقتضي ، فيكون معناه مساوقا لقوله تعالى ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(١).

هذا مضافا إلى أنه لا يعقل الرفع الحقيقي في الأحكام الشرعية ، بمعنى رفعها حال ثبوتها واقعا لكونه مستلزما للبداء في حقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وأما رفعها بمعنى الإعلام بانقضاء مدة ثبوتها بعد اقتضاء الدليل لها مستمرا ـ كما هو معنى النسخ ـ فهو وإن كان ممكنا واقعا في الشريعة إلا أنه غير محتمل في الحديث الشريف جدا كما لا يخفى ، فتعين أن يكون المراد به ما مر ، فتدبر.

ثم إن حاصل الجواب عن الإيراد المذكور : أن الّذي مر ـ من أن المراد رفع الآثار الشرعية المترتبة على نفس الفعل من حيث هو ـ نعني به رفع الآثار الشرعية التي يقتضي ذات الفعل ترتبها عليه ، ولما كان التكليف المجهول بذاته مقتضيا لإيجاب الاحتياط فمعنى رفعه رفع إيجاب الاحتياط والتحفظ.

__________________

(١) الحج : ٧٨.

٣٦

قوله ـ قدس سره ـ : ( وكذلك [ الكلام ] في الجزء المنسي ، فتأمل ... ) (١).

لعله إشارة إلى أنه قد مر أن المراد برفع تلك الأمور التسعة التي منها النسيان رفع الآثار الشرعية المترتبة على الفعل ـ من حيث هو ـ لو لا الرفع ، مع قيام المقتضي لثبوتها حال الرفع ، وهذا المعنى غير متعقل في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له ، فإنهما وإن كانتا من الآثار الشرعية المترتبة على ذات الفعل ـ من حيث هو ـ على تقدير ثبوتها ، إلا أنه لا يمكن رفعهما مع قيام المقتضي لهما ، وبدونه لا رفع أصلا ، فهما يخرجان عن الرواية جدا ، وذلك لأن المقتضي لجزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له إنما هو الأمر بالفعل المأمور به مقيدا بهما ، وهذا على تقدير ثبوته علة تامة للشرطية والجزئية ، لا يعقل معه رفع الشرطية والجزئية ـ مضافا إلى ما قد يقال : من أن الأحكام الوضعيّة أمور انتزاعية من التكليفية ليس لها واقع سواها ـ وعلى تقدير عدمه لا رفع أصلا. هذا.

أقول : هب أنه لا يصح إدخال الشرطية والجزئية في الرواية فلا يصح التمسك بها على نفيهما حال النسيان إلا أن سببهما ـ وهو الأمر بالمشروط والكل مقيدا بالجزء والشرط ـ داخل فيها جدا ، فإن ذات الفعل من حيث هو مقتض لتعلق الأمر به مقيدا بهما ، فمعنى رفعه حال النسيان رفع هذا الأمر الّذي يقتضيه فتدل الرواية على عدم الأمر حال النسيان بالجزء والشرط المنسيين.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وفي الشرائع (٢) : أن الحسد معصية ، وكذا الظن بالمؤمن ، والتظاهر [ بذلك ](٣) قادح بالعدالة ... ) (٤).

فإن هذا موافق لما في الدروس (٥) فإن جعله التظاهر بالحسد قادحا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٢٤. وبين المعقوفين للتوضيح.

(٢) الشرائع ٤ : ١٢٨.

(٣) لم ترد في الأصل ، وإنما أثبتناها من المصدر.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٢٥.

(٥) الدروس ٢ : ١٢٦.

٣٧

بالعدالة دون نفسه ـ مع أنه قال : إنه معصية ـ دال على أنه جعل نفس الحسد من المعاصي الصغيرة ، والتظاهر به من الكبائر القادحة بالعدالة ولو مع عدم الإصرار عليها.

قوله عليه السلام : « وإنما يذهبه التوكل .. (١). » (٢).

الضمير إما راجع إلى الطيرة ، فالمعنى : يذهب الطيرة التوكل ، وإما إلى الشرك المخصوص ، فالمعنى : أنه إنما يذهب الشرك ـ وهو الطيرة ـ التوكل.

وكيف كان ، الطيرة شرك إن اعتقد أنه المؤثر الحقيقي في الأمور ، لا الواسطة ، كالخواص المترتبة على الأشياء ، كالحموضة ، والحلاوة ، والسمنية ، والترياقية ، وغير ذلك.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ومنها : قوله عليه السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٣) ) (٤).

الاحتمالات السابقة في حديث الرفع ـ من حيث كون المقدر جميع الآثار أو الأثر المناسب أو خصوص المؤاخذة ـ جارية فيه أيضا ، والكلام هنا الكلام فيه إلا أن بعض القرائن الموجودة هناك على حمل الموصول على الموضوع خاصة غير موجود هنا ، بل الظاهر منه هنا الأعم.

قوله ـ قدس سره ـ : ( لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط ... ) (٥).

لا يخفى أن هذا الإيراد لا يختص بهذه الرواية ، بل يعم سائر الروايات

__________________

(١) سنن أبي داود ٤ : ١٧ ـ ٣٩١٠ ، سنن الترمذي ٤ : ١٦٠ ـ ١٦١٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٢٦.

(٣) توحيد الصدوق : ٤١٣. الوسائل ١٨ : ١١٩ ـ ٢٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٢٦.

(٥) فرائد الأصول ١ : ٣٢٧.

٣٨

المتقدمة ، مع أنه لم يتعرض له فيها.

اللهم إلا أن يكون ذلك لأجل اختصاص هذه الرواية بهذا الإيراد وحده ، وسلامته من سائر الإيرادات الواردة على غيرها.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وسياقه يأبى عن التخصيص ... ) (١).

فإن قوله : عليه السلام ـ : « أيما امرئ ارتكب أمرا بجهالة فلا شيء عليه » (٢) باعتبار تعليق الحكم فيه على الوصف المناسب ـ وهو الجهل ـ يفيد عليته لرفع المؤاخذة ، وكونه علة له مناف لتخصيصه بالشاك الغير المقصر ، لوجوده في غيره أيضا بمثل وجوده فيه.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فتأمل ) (٣).

لعله إشارة إلى أن حمل الرواية على الغفلة أو اعتقاد الصواب أيضا يحوج الكلام إلى التخصيص بالجاهل الغير المقصر ـ أي الغافل أو المعتقد للصواب عن غير تقصير ـ مع أن السياق آب عن التخصيص لما مر.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وقد يحتج بصحيحة (٤) عبد الرحمن ابن الحجاج ... ) (٥).

وجه الاستدلال : أنه عليه السلام حكم فيها بالمعذورية في التزويج على المرأة في العدة ورفع المؤاخذة عليه ، وعلق المعذورية فيها على الوصف المناسب ، وهو الجهل المفيد لعليته للمعذورية ورفع المؤاخذة ، فيستفاد منها كون الجهل علة لرفع المؤاخذة مطلقا ، سواء كان المجهول موضوعا أو حكما ، وسواء

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٢٧.

(٢) التهذيب ٥ : ٧٣.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٢٧.

(٤) الكافي ٥ : ٤٢٧.

(٥) فرائد الأصول ١ : ٣٢٨.

٣٩

كان منشؤه في الثاني اشتباه الأمور الخارجية أو فقد النص أو إجماله أو تعارضه. فتكون حجة على نفي المؤاخذة على ارتكاب الشبهة التحريمية فيما لا نصّ فيه التي هي المتنازع فيها.

أقول : ويؤكد عموم عليته للمعذورية ورفع المؤاخذة عدم استفصال الإمام عليه السلام من السائل عن تخصيصه الواقعة المسئول عنها بأن الجهل فيها : أهو في أصل العدة ، أو في انقضائها مع العلم بها ، أو أنه في مقدارها. أو أنه في كون العقد على المرأة محرما شرعا ، وتعيينه سؤال السائل (١) ثانيا بقوله : ( بأي الجهالتين أعذر؟ ) ثم جوابه عليه السلام : « إحدى الجهالتين أهون ، الجهالة بأن الله حرم عليه ذلك ».

وكأن المصنف ـ قدس سره ـ منع من إطلاق الجهالة ، وحملها على الجهالة المخصوصة بالواقعة المسئول عنها ، فلذا ردد في الجواب عن الاستدلال [ بها ] ، وقد ظهر ما في منعه منه مما ذكرنا.

هذا ، لكن الإنصاف عدم صحة الاستدلال بالصحيحة على المدعى ، لظهور أن المراد من المعذورية فيها إنما هي المعذورية في التزويج على (٢) المرأة مطلقا بعد انقضاء عدتها ، ونفي التحريم الأبدي ، لا المعذورية في التزويج عليها (٣) في عدتها مطلقا ، كما هو مبنى الاستدلال [ بها ] ، والقرينة على ذلك أمران :

أحدهما : قوله عليه السلام في الصحيحة : « أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها » ، فإنه ظاهر في عدم كون التزويج عليها (٤) في العدة حال الجهل موجبا للحرمة الأبدية ، وقوله عليه السلام بعد ذلك : « فهو

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح : وتعيين السائل سؤاله.

(٢ و ٣ و ٤) تصح العبارة بتضمين ( التزويج ) معنى ( العقد ) ، فيتعدى بـ ( على ).

٤٠