تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

والفرق بينه وبين الأول : تحقّق الإطاعة والعصيان الواقعيّتين بمجرّد إيقاع العمل على طبقها أو عدم إيقاعه إذا كانت متضمنة لتكليف على الأول مطلقا ، وعلى الثاني إذا صادفت تكليفا واقعيا لا مطلقا ، بحيث تكون مخالفتها ـ فيما إذا لم يكن في مواردها ـ مجرد تجر.

وثالثها : أن يكون اعتبارها على وجه الطريقية بالنسبة إلى نفي الاحتمال المخالف لها فحسب ، بأن يراد من تلك الأدلة أنه لا يعبأ بالاحتمال المخالف لمؤديات تلك الطرق والأمارات ، فيكون نفس الاحتمال الموافق لها كالمسكوت عنه ، لعدم كونها دليلا عليه حينئذ.

ورابعها : أن يكون اعتبارها على وجه الطريقية في تمام مؤداها وكونها منزلة منزلة العلم ، بأن يراد من تلك الأدلة جعل مؤداها بمنزلة المتيقن وجعل الاحتمال المخالف لها بمنزلة العدم.

وأما الوجوه المتصورة في كيفية اعتبار الأصول ـ أيضا ـ أربعة بالنظر إلى الشك المأخوذ في موضوعها وإلى العلم الّذي جعل غاية لارتفاعها في أدلة اعتبارها.

أحدها : أن يكون المراد بالشك في أدلة اعتبارها هو الجهل المقابل للعلم ، وكان المراد بالعلم هو صفة القطع.

وثانيها : الوجه الأول بحاله بالنظر إلى الشك مع كون المراد بالعلم في الأدلة هو مطلق الطريق الشامل لغير العلم من الظنون المعتبرة ، بأن يكون المراد به هو مطلق الحجة على خلاف الأصول.

وثالثها : أن يكون المراد بالعلم هو صفة القطع ، لكن يكون المراد بالشك هو التحير في مقام العمل.

ورابعها : أن يكون المراد بالشك عدم الحجة ، وبالعلم مطلق الحجة.

فإذا عرفت ذلك كله فاعلم : أنه إن كان اعتبار الطرق والأمارات على

١٨١

الوجه الأول من الوجوه الأربعة المتقدمة : فهي وإرادة على الأصول الشرعية العملية بجميع الوجوه المتصورة في اعتبارها ، فإن حكم الواقعة ـ المفروض الشك في حكمها ـ وإن لم يعلم بمجرد قيام دليل أو أمارة ظنيين ، لكن قيامهما يوجب حدوث تكليف آخر واقعي معلوم بإيقاع العمل على طبقهما ، فلا مجرى للأصول أصلا بالنسبة إلى هذا التكليف ، بل يرتفع موضوعها وهو الشك بكلا المعنيين فيه بمجرد قيامهما في المورد.

وإن كان اعتبارها على الوجه الثاني : يقع (١) التعارض بينها وبين الأصول بجميع الوجوه المتصورة في اعتبارها ـ أيضا ـ إذ حينئذ كل منهما يقتضي حكما ظاهريا مأخوذا فيه الجهل بحكم الواقعة ، ولا يوجب شيء منهما تبيين الواقع ، حتى يكون واردا على الآخر ، ولا منزلا منزلة العلم ، حتى يكون حاكما عليه ، فلا بد حينئذ من ملاحظة الترجيح بين أدلة اعتبار الطرق والأمارات وبين أدلة اعتبار الأصول ، ومع فقده يرجع إلى الأحكام المقررة لصورة تكافؤ الدليلين.

وإن كان اعتبارها على أحد الوجهين الأخيرين من الوجوه الأربعة المتقدمة فحينئذ :

إن كان اعتبار الأصول على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة : تكون (٢) الطرق والأمارات ـ بمقتضى أدلة اعتبارها المنزلة لهما بالنسبة إلى نفي الاحتمال المخالف لهما الموافق للأصول ـ حاكمتين على الأصول لكونهما رافعتين للأصول مع صدق موضوعها ـ وهو عدم العلم ـ على المورد.

وإن كان اعتبارها على الوجه الثالث والرابع : فهما واردتان عليها ، لأن موضوعها ـ وهو التحير في العمل وعدم الحجة ـ يرتفع بمجرد قيامهما ، إذ مع

__________________

(١) في الأصل : فيقع.

(٢) في الأصل : فتكون.

١٨٢

واحد منهما لا تحير في مقام العمل.

وإن كان اعتبارها على الوجه الأول : فهما حاكمتان عليها ، فإنها وإن لم يرفعا موضوعها ، إلا انهما رافعتان لحكمها بمقتضى أدلة اعتبارهما ، فإن حكم الشارع بالبناء على عدم الاحتمال المخالف لمؤداهما معناه رفع الحكم الظاهري المجعول منه لذلك الاحتمال في موردهما ، فيكون قوله : ( صدق العادل في خبره أو البينة ) ـ مثلا ـ تفسيرا لقوله : « لا تنقض اليقين بالشك » (١) ، وقوله : « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (٢) وقوله : « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (٣) ، وغير ذلك.

ومبنى الحكومة في الوجه الأول على تنزيل الشارع لهما مقام العلم من دون تصرف في أدلة اعتبار الأصول أصلا.

ومبناها في الوجه الثالث على جعل تلك الأدلة قرينة صارفة للعلم المأخوذ غاية في أدلة اعتبار الأصول إلى الأعم من صفة القطع.

ومبنى الورود في الوجه الثالث على جعل تلك الأدلة قرينة صارفة للشك المأخوذ في أدلة اعتبار الأصول إلى الأخص من ظاهره ، حيث إن ظاهره مطلق الجهل المقابل للعلم ، والشك المقرون بالتحير في مقام العمل قسم منه ، وإن شئت فعبر عنه بالشك فيما يصنع حال الجهل.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٣ ، كتاب الطهارة ، باب : ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح : ١ ، والوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، كتاب الطهارة ، باب : ١ من أبواب نواقض الوضوء ح : ١ ، وما في المتن قريب من الثاني.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، كتاب الطهارة ، باب : ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح : ٤ ، لكن ورد الحديث فيه هكذا : « كل شيء نظيف .. » ، وورود في الوسائل ١ : ١٠٦ كتاب الطهارة باب : ٤ من أبواب الماء المطلق ح : ٢ هكذا : « الماء كله طاهر .. ».

(٣) لم تعثر على نصّ هذا الحديث ، وإنما عثرنا على نظائره في الوسائل ١٢ : ٥٩ كتاب التجارة ، باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح : ١ ، وج : ١٧ ـ ٩٠ ـ ٩٢ كتاب الأطعمة والأشربة ـ باب : ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح : ١ و ٧.

١٨٣

ومبناه في الفرض الرابع على جعل تلك الأدلة صارفة للشك إلى الأخص وللعلم إلى الأعم منه.

ومبناه في الفرض الأول ـ من فروض اعتبار الطرق والأمارات ـ على ظهور أدلة اعتبارها في السببية من غير تصرف في أدلة اعتبار الأصول أصلا. هذا.

والتحقيق : أن كل واحد من التعارض والورود والحكومة ـ على تقديره ـ إنما هو بين أدلة اعتبار الطرق والأمارات وبين أدلة اعتبار الأصول ، لا بين ذات الطرق والأمارات وبين نفس الأصول.

أما على تقدير الحكومة : فلأن المفسر ، إنما هو أدلة اعتبار الطرق والأمارات ، والمفسر ـ بالفتح ـ إنما هو أدلة اعتبار الأصول ، دون نفس الطرق والأمارات والأصول.

وأما على تقدير الورود : فلأن الرافع للشك حقيقة إنما هو أدلة اعتبار الطرق والأمارات ، لا أنفسهما كما لا يخفى ، فلا يصدق تعريف ( الوارد ) إلا عليها.

وأما على تقدير التعارض : فلأنه لو فرض وجود طريق أو أمارة مع فرض عدم اعتباره ، أو أصل كذلك ـ مثلا ـ فمن المعلوم عدم التعارض بينه وبين الطرف الآخر المفروض اعتباره ، فإنه بوجوده لا يمنع من العمل به ، بل إنما يمنع منه بواسطة اعتباره ، والمفروض أن اعتباره كل من الطرق والأمارات والأصول إنما هو بأدلة اعتبارها ، فالتعارض حقيقة بين تلك الأدلة.

وتقديم الطرق والأمارات على الأصول ليس لأجل ورودها أو حكومتها على الأصول ، بل لأجل ورود أدلة اعتبارها أو حكومتها على أدلة اعتبار الأصول ، وتقديم أدلة اعتبارها إنما هو بتقديم ما قامت هي على اعتبارها ، وهي الطرق والأمارات.

١٨٤

وبعبارة أخرى : لا بد من تقديم أدلة اعتبارها على أدلة اعتبار الأصول على تقدير حكومتها أو ورودها عليها ، وتقديمها عبارة عن العمل على طبقها والأخذ بمؤداهما ، وطرح مؤدى أدلة اعتبار الأصول ، والعمل على طبقها عنوان منطبق على العمل بتلك الأدلة الخاصة والأمارات في الموارد الخاصة مقابل الأصول الجارية فيها لو لا تلك الأدلة والأمارات.

نعم قد يوجد من الأدلة والأمارات ما يكون هو بنفسه واردا على الأصل الجاري في المورد لولاه ، كجميع الأدلة والأمارات المفيدة للقطع ، وأما الأدلة والأمارات الغير العلمية فليس الوارد ـ على تقدير الورود ـ إلا دليل اعتبارها ، وكلامنا إنما هو فيها.

وقد يوجد منها ـ أيضا ـ ما يكون حاكما على في بعض الموارد الخاصة ، كأدلة الشكوك ـ في الصلاة الرباعية ـ الدالة على البناء على الأكثر في مقابل الاستصحاب ـ المقتضي للبناء على الأقل ـ إذا فرض كون تلك الأدلة قطعية سندا ودلالة ، إذ لو فرض ظنيتها من إحدى الجهتين يكون الحاكم حينئذ حقيقة هو دليل اعتبار السند أو الدلالة ، كما أنه قد يكون بعض الأدلة الاجتهادية الظنية حاكمة على البعض الآخر ، كالأدلة النافية لحكم الشك ـ مع كثرة الشك ، أو مع حفظ الإمام أو المأموم ، أو غير ذلك ـ الحاكمة على أدلة الشكوك (١).

لكن كلامنا في كلية الطرق والأمارات الظنية بالنسبة إلى كلية الأصول وتوضيح الحال بالنظر إليهما ، لا في استيفاء جميع مصاديق الوارد والحاكم.

وكيف كان ، فقد ظهر مما ذكرنا ما في كلام المصنف ـ قدس سره ـ من

__________________

(١) اعلم أنه قد تتحقق الحكومة بين نفس أدلة اعتبار الأصول بعضها مع بعض ، فإن أدلة اعتبار الاستصحاب حاكمة على أدلة اعتبار سائر الأصول من أصالتي البراءة والاحتياط وغيرهما ، وقد تتحقق بين نفس أدلة اعتبار الأمارات بعضها مع بعض ، فإن أدلة اعتبار البينة حاكمة على أدلة اعتبار اليد والسوق ، لمحرره عفا الله عنه.

١٨٥

جعل الحكومة بين نفس الأدلة ونفس الأصول.

نعم جعله الورود بين أنفسهما ـ حيث إنه فرض الدليل قطعيا من جميع الجهات ـ في محله ، حيث إن الأدلة القطعية بنفسها رافعة للشك من غير حاجة إلى دليل اعتبار أصلا ، لأن القطع منجعل في نفسه.

ثم إن الظاهر من أدلة اعتبار الطرق والأمارات الظنية إنما هو اعتبارها على الوجه الرابع من الوجوه الأربعة المتصورة المتقدمة فيها (١).

نعم لا تظهر الثمرة بين اعتبارها على ذلك الوجه وبين اعتبارها على الوجه الثالث من تلك الوجوه من حيث الورود والحكومة على الأصول ، فإن الملحوظ فيهما إنما هو الاحتمال المخالف للطرق والأمارات الموافق للأصول.

وإنما تظهر الثمرة بينهما من جهة أخرى ، وهي كون الطرق والأمارات دليلا في إثبات الاحتمال الموافق لها على وجه تعارض ما يدل على نفي ذلك الاحتمال ـ بناء على اعتبارها على الوجه الرابع ـ وعدم كونها دليلا ، فلا تصلح لمعارضة ما يدل على نفي ذلك الاحتمال بناء على اعتبارها على الوجه الثالث.

وأما الأصول العملية فهي مختلفة.

فإن الظاهر من أدلة اعتبار الاستصحاب اعتباره على الوجه الأول من الوجوه المتقدمة فيها ، كما لا يخفى.

وأما أصالة البراءة فهي وإن كان ظاهر بعض أدلتها اعتبارها على ذلك الوجه ، لكن التأمل في مجموع الأدلة يقضي باعتبارها على الوجه الرابع.

وأما التخيير فهو من باب العقل ، والكلام في الأصول الشرعية ، وإن

__________________

(١) من غير فرق في الطرق بين اعتبارها من حيث الصدور إذا كان الصدور ظنيا ، أو من حيث الدلالة إذا كانت الدلالة كذلك ، أو من حيث وجه الصدور إذا كان هو كذلك ، فإن أدلة اعتبار السند وأدلة اعتبار الأصول اللفظية التي هي المنشأ للظهور ، وكذا أدلة اعتبار أصالة كون المتكلم في مقام بيان الواقع كلها خاصة بذلك. لمحرره عفا الله عنه.

١٨٦

شئت الإشارة إلى كيفية اعتباره عقلا ، فاعلم أن موضوعه إنما هو التحير ، وغايته رفعه ، فيكون اعتباره على الوجه الرابع ، كاعتبار أصالة البراءة من باب التعبد ، بل ومن باب العقل أيضا.

نعم التخيير في الخبرين المتعارضين شرعي ، والظاهر أن اعتباره ـ أيضا ـ على الوجه الرابع ، فتكون أدلة التراجيح واردة عليها (١) مطلقا (٢) ، فيكون حاله بالنسبة إلى تلك الأدلة حال القرعة في الموضوعات بالنسبة إلى الأمارات من حيث وجه الاعتبار وكونه مورودا عليه (٣).

وأما أصالة الاحتياط فالظاهر أنها ـ أيضا ـ كأصالة البراءة ـ سواء كان مدركها الأخبار أو العقل ـ فإن مدركها (٤) مطلقا إنما هو عدم الحجة للمكلف في ترك الموافقة القطعية.

وبالجملة : فعل ما استظهرنا فأدلة اعتبار الطرق والأمارات حاكمة على الاستصحاب ، وواردة على أصالة البراءة والاحتياط ، ووجهه قد علم مما سبق ، فلا نطيل الكلام بإعادته.

لا يقال : إنه لو كان أدلة اعتبار تلك الأصول قطعية الصدور فتكون (٥) أدلة اعتبار الطرق والأمارات مفسرة لها ورافعة لحكمها عن صورة قيام دليل أو أمارة غير علميين.

وأما إذا كانت تلك الأدلة أيضا ـ كنفس الأدلة الاجتهادية ـ ظنية فلا ،

__________________

(١) الظاهر أن مرجع الضمير في ( عليها ) إلى أدلة التخيير الشرعي ، وهو مفهوم من السياق.

(٢) سواء كانت قطعية أو ظنية. لمحرره عفا الله عنه.

(٣) مرجع الضمير في ( عليه ) ـ وكذا في ( حاله ) ـ إلى التخيير ، والمراد أدلته.

(٤) كذا في الأصل ، لكن الظاهر أن عدم الحجة المذكور أعلاه هو موضوع أصالتي البراءة والاحتياط أو جزء موضوعهما ، لأن عدم الحجة يعني الشك في التكليف.

(٥) كذا في الأصل ، والصحيح : لكانت.

١٨٧

فإنها حينئذ إنما تثبت تلك الأصول بملاحظة اعتبارها بمقتضى أدلة اعتبار قول العادل ، فإن قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (١) ـ على تقدير ظنية صدوره إنما يقوم دليلا على اعتبار الاستصحاب بالنظر إلى شمول قوله : ( صدق العادل ) له الّذي هو مستند اعتبار الأخبار الظنية الصدور المتضمنة لبيان الأحكام الواقعية ، المخالفة لمقتضى الاستصحاب ، فهو في عرض تلك الأخبار ، فكيف تقدم هي عليه في مورد المخالفة؟! فإن معنى تصديق العادل ـ في قوله : قال الصادق عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » ـ وجوب البناء على عدم احتمال عدم صوره منه عليه السلام وفرضه كمقطوع الصدور ، كما أن قوله : صدق العادل ـ في قوله : قال الصادق عليه السلام : « تجب السورة » (٢) ـ معناه ذلك ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، لعدم اقتضاء دليل اعتبار صدورهما ذلك ، بل نسبته إلى كل منهما كنسبته إلى الآخر.

مع أنه يلزم ـ على تقدير تقديم قوله : « تجب السورة » على قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » ـ التبعيض في الصدور ، إذ من المعلوم أن ( ما ) (٣) وما تقدمه عليه إنما تقدمه في مورد مخالفته للأدلة الاجتهادية ، وأما في صورة عدم دليل اجتهادي فيعمل به ، وهو كما ترى.

لأنا نقول : إنا لا تقدم صدور أحدهما على صدور الآخر ، بل نحكم ـ بمقتضى دليل الصدور بصدور كليهما وفرضهما كمقطوعي الصدور ، إلا أنا نقدم

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، كتاب الطهارة ، باب : ١ من أبواب نواقض الوضوء ح : ١ ، مع اختلاف يسير.

(٢) الظاهر أن هذا مضمون أحاديث ، راجع الوسائل ٤ : ٧٣٦ ـ ٧٣٧ ، كتاب الصلاة ، باب : ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، والاستبصار ١ : ٣١٤ ـ ٣١٥ باب : ١٧٣ ( أنه لا يقرأ في الفريضة بأقل من سورة ولا بأكثر منها ) ح : ٨.

(٣) في الأصل : من.

١٨٨

أحدهما على الآخر من حيث الدلالة ، ودليل اعتبار دلالتيهما وظهوريهما وإن كان ـ أيضا ـ متحدا ، إلا أنه يقتضي جعل كل ظهور طريقا إلى مؤداه ، وجعل احتمال خلافه بمنزلة العدم في عدم ترتب حكم المجعول له مع فقد ذلك الظهور عند وجوده.

ومن المعلوم أن مقتضى قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » ليس إلا أنه جعل لاحتمال بقاء الحالة السابقة حكما ظاهريا ، وهو البناء على بقائه ، ومقتضى قوله عليه السلام : « تجب السورة » وجوبها واقعا ، واحتمال خلافه إنما هو عدم وجوبها الّذي هو مقتضى الاستصحاب ، وحكم الشارع بحجية ظهوره عدم اعتنائه بذلك الاحتمال ، فيكون ذلك في معنى ( أني لا أريد ذلك الحكم الظاهري المجعول له عند وجود ذلك الظهور ) ، فيكون نفس دليل اعتبار ظهوريهما مفسرا للمراد من قوله : « لا تنقض اليقين ».

فالحكومة بينهما إنما هي بالنظر إلى دلالتهما ، والتبعيض إنما هو بالنسبة إليها ، لا بالنسبة إلى الصدور.

وبعبارة أخرى : دليل اعتبار ذينك الظهورين يقتضي عدم اعتناء الشارع باحتمال (١) خلافهما ، بمعنى أنه لو فرض منه حكم مجعول لاحتمال خلافهما فهو منفي في مورديهما ، ومن المعلوم أن ظاهر قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » أنه قد جعل للشك في احتمال البقاء والارتفاع حكما ظاهريا ، وهو وجوب البناء على مقتضى الحالة السابقة للمشكوك ، واحتمال خلاف ذلك الظهور عدم جعله للشك ذلك الحكم ، لا عدم جعله للمورد حكما واقعيا على خلاف حكمه السابق ، حتى يقع التعارض بين قوله المذكور وبين قوله : « تجب

__________________

(١) في الأصل : لاحتمال.

١٨٩

السورة » الّذي يفيد للسورة حكما مخالفا لحكمها السابق ، وهو عدم الوجوب ـ مثلا ـ ، نظرا إلى كون احتمال وجوب السورة حينئذ هو احتمال خلاف قوله : « لا تنقض اليقين » مع ملاحظة أن احتمال خلاف قوله : « تجب السورة » أيضا عدم وجوبها الّذي هو الاحتمال الموافق لقوله : « لا تنقض » فيقال حينئذ : إن دليل اعتبار كل من الظهورين يقتضي إلغاء احتمال خلافه ، مع فرض أن كلا منهما إنما هو احتمال خلاف الآخر ، فيلزم من شموله لكل منهما عدم حجية شيء منهما في مؤداه ، وشموله لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، فيلزم أن لا يكون شيء منهما حجة في مؤداه ، فلا يثبت للمورد حكم أحد الدليلين.

والحاصل : أن احتمال خلاف ظاهر الدليل الاجتهادي المتكفل لبيان الحكم الواقعي إنما هو الاحتمال الموافق لمقتضي دليل اعتبار الأصل ، بخلاف العكس ، فمقتضى حكمه بالأخذ بالظهورين ـ والبناء على عدم احتمال خلافهما ـ أنه لم يرد ذلك الحكم الظاهري في مورد ظهور الدليل الاجتهادي ، ومعناه ذلك ، فيكون دليل اعتبارهما مفسرا للمراد من قوله : « لا تنقض » ـ مثلا ـ وحاكما عليه ، فافهم ، ولا تغفل.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ثم إن ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الأصول اللفظية أيضا ) (١).

اعلم أن الأصول اللفظية إنما هي أدلة اجتهادية بالنسبة إلى مؤدياتها ، لا أحكام ظاهرية ، إلا أن اعتبارها إنما هو في صورة عدم القرينة الصارفة عنها ، فحينئذ إن كانت القرينة قطعية فهي بنفسها رافعة لموضوعها ، فتكون واردة عليها.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٥١.

١٩٠

وإن كانت ظنية من حيث الصدور ـ مع نصوصيته أو أظهريته ـ فتكون حاكمة عليها ، إذ بمقتضى أدلة اعتبار سندها تكون كمقطوع الصدور من حيث إيجابها لرفع حكم تلك الأصول واعتبارها عن موردها وإن لم يرفع موضوعها ، وهو عدم العلم بالقرينة.

وبعبارة أخرى : إن الحكم بصدور ما يكون على تقدير صدوره قرينة أنه لم يعتن باحتمال عدم القرينة بمعنى أنه رفع الحكم المجعول لذلك الاحتمال عن مورد تلك القرينة المظنونة الصدور ، فيكون حكمه بالصدور تفسيرا لدليل اعتبار تلك الأصول ، فيكون دليل اعتبار الأصول حاكما على دليل اعتبار الأصول اللفظية.

والمصنف ـ قدس سره ـ جعل الحكومة هنا ـ أيضا ـ بين نفس الأصول ونفس القرائن الظنية ، وليس بجيد.

والتحقيق : ما عرفت من كون دليل اعتبار القرينة حاكما على دليل اعتبار الأصول.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وحاكم عليه إذا كان ظنيا في الجملة كالخاص الظني السند ) (١).

أقول : قوله : ( في الجملة ) يشعر بأنه إذا كانت القرينة ظنية ـ دلالة ، أو سندا ودلالة ـ [ فهي ] ـ أيضا ـ حاكمة على الأصول اللفظية ، وأن قوله : ( كالخاص الظني السند ) إنما هو من باب المثال (٢).

لكنه لا يستقيم ، لأنها إذا فرضت ظنية من حيث الدلالة ـ مع القطع

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٢.

(٢) لا يقال : إن تقديم الأظهر على الظاهر ـ إذا كان الأظهر مقطوع [ الصدور ] ـ إن كان من باب ترجيح

١٩١

بصدورها (١) ـ فلا ريب أن منشأ ذلك الظن إنما هو ـ أيضا ـ هي (٢) الأصول اللفظية ، فحينئذ يقع التعارض بين نفس الأصول اللفظية ، وحينئذ إن لم يكن ظهورها أقوى فلا تصلح لكونها قرينة للصرف أصلا ، وإن فرض كونه أقوى فتقديمه على الظهور الآخر إنما هو لأجل ترجيحه عليه لقوته ، وقد عرفت في الفرق بين الحكومة والتخصيص أن التقديم لأجل الترجيح خارج عن باب الحكومة ، فإن الترجيح فرع التعارض وكون كل منهما حجة في نفسه ، وقد مر أن

__________________

دلالته على دلالة الظاهر لقوته أو من باب الحكومة يكون (أ) تقديمه عليه مع ظنية صدوره ـ أيضا ـ من هذا الباب ، وإن كان فرق فبينه.

لأنا نقول : إنه إذا كان مقطوع الصدور لا يصلح أن يعارض القطع بصدوره الظن بصدور الآخر ، وإنما يعارض الظاهر ظاهر [ الآخر ] (ب) ، فيقدم ظهوره عليه لقوته ، هذا بخلاف ما إذا كان ظني الصدور ، فإن الكلام فيه إنما هو بعد الفراغ عن كون الأظهر كالنص في تقديمه على الظاهر على تقدير قطعية صدوره ، فينحصر التعارض بمقتضى الفرض بين الظن بصدور الأظهر وبين ظهور الظاهر ، إذ على تقدير قطعية صدوره لا معارضة بين ظهوره وبين ظهور الظاهر بالفرض ، بل يقدم عليه دون العكس ، فيكون الأظهر بمقتضى دليل صدوره حاكما على الظاهر دون العكس ، فإن دليل صدورهما وإن كان واحدا إلا أن مقتضاه وجوب التعبد بآثار الصدور للمشكوك الصدور ، فإذا فرضنا أن من آثار الأظهر كونه صارفا للظاهر على تقدير صدوره دون العكس ، فيكون مقتضاه وجوب البناء على كون الأظهر صارفا عنه حال الشك في صدوره ، فالأظهر حال كونه مشكوك الصدور لا تنفع قوة دلالته بمجردها في تقديمه على الظاهر ، بل يتوقف على إحراز صدوره ، فالدليل المثبت لصدوره يكون حاكما على الظاهر ، ويكون تقديمه عليه من هذا الباب ، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.

(١) في الأصل : بصدوره ..

(٢) الظاهر زيادة الضمير ( هي ) هنا.

__________________

(أ) في الأصل : فيكون ..

(ب) عبارة الأصل هكذا : ( وإنما يعارض ظاهر لظاهره ). ، ويمكن تصحيح العبارة هكذا : ( وإنما يعارض ظاهر أحدهما ظاهر الآخر ). ولكن ما في المتن أقل تصرفا.

١٩٢

تقديم الحاكم على المحكوم عليه ليس لأجل ترجيحه عليه ، بل لأجل كونه مفسرا له ورافعا لحكمه عن مورده بحيث لا تعارض أولا وبالذات فكان عليه ـ قدس سره ـ أن يقول : إذا كان ظنيا من حيث السند كالخاص الظني السند ونحوه ، فلا تغفل.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فحالها حال الأصول العقلية ، فتأمل ) (١).

أقول : الأمر بالتأمل إشارة إلى أن القول يكون العمل بالظواهر معلقا على عدم التعبد بالقرينة خلاف التحقيق ، بل الحق أن العرف متعبدون بالظواهر عند عدم القرينة الصارفة ، لكن إحراز عدمها على سبيل القطع لما كان مخلا بأمور معاشهم وموجبا للتعطيل فيها فاكتفوا في إحراز عدمها بأصالة عدمها تعبدا ، وجعلوها طريقا إلى عدمها.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة ). (٢).

يعني من حيث الصدور بقرينة قوله ـ فيما بعد ـ : ( نعم لو فرض الخاصّ ظاهرا ) ، ولا بد أن يكون المراد ذلك ، لما مر في بيان الإشكال على قوله : ( إذا كان ظنيا في الجملة ).

قوله ـ قدس سره ـ : ( فلو كان حجية ظهور العام غير معلقة على عدم الظن المعتبر على خلافه ). (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٢.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٢.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٢.

١٩٣

توضيحه : أنه لو لم يكن حجية ظهور العام ـ مثلا ـ معلقة على عدم مخصص ظني الصدور بالظن المعتبر لكان دليل حجية ظهوره مقتضيا لحجيته مع وجود ذلك المخصص الظني الصدور ـ أيضا ـ فحينئذ يقع التعارض بينه وبين دليل اعتبار ذلك المخصص من حيث الصدور ، ويكون كل واحد من الظنين ـ أعني الظن بالصدور والظن بالمراد الحاصل من العام ـ حجة في نفسه ، لكن العمل بأحدهما والأخذ بمقتضاه لا بد من ترجيحه على الآخر ، والمرجح حينئذ كون أحدهما أقوى من الآخر ، فإن كان أحدهما كذلك يؤخذ به ، ويطرح الآخر ، وإلا فيتكافئان ويتساقطان.

ومن المعلوم أنه ليس الظن بالصدور في جميع الموارد أقوى من الظن بإرادة العموم من العام ، بل قد يكون ظن إرادة العموم أقوى ، وقد يكونان متساويين ، ولازم ذلك أن يؤخذ بالعامّ في مورد كون الظن بإرادة العموم أقوى ، ويطرح الخاصّ الظني الصدور ، ويتوقف فيما إذا كان الظنان متساويين مع أنا لم نسمع موردا يقدم [ فيه ] ظهور العام على صدور الخاصّ حتى في صورة كون احتمال إرادة العموم أقوى من احتمال صدور الخاصّ ، بل يقدمون الخاصّ من حيث الصدور على العام من حيث الدلالة.

نعم قد يكون الخاصّ ظني الدلالة ، فيتعارضان ، لكن التعارض حينئذ إنما هو بين الدلالتين ، لا بين دلالة العام وبين سند الخاصّ ، فإنه لا يزاحم سنده ، وإنما يزاحم دلالته ، وحينئذ إن كان ظهور العام أقوى من ظهوره فيقدم عليه ، لترجيح ظهوره على ظهوره ، لا لترجيح ظهوره على سنده.

ويكشف عن ذلك ـ أيضا ـ أنه على تقدير تقديم العام لا يطرح الخاصّ رأسا بحيث يكون وجوده كعدمه ، بل يصرف عن ظاهره ، فحينئذ إن كان أقرب

١٩٤

المجازات (١) فيحمل عليه ، ويكون حجة في إثباته وواردا على الأصل النافي له لو كان مخالفا للأصل ، ويتعارض مع ما دل على نفيه من الأدلة الاجتهادية لو كان هناك دليل كذلك.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وهي أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ). (٢).

المراد بالأولوية هنا إنما هو التعيين ، لا الرجحان المطلق ، ومنه قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ )(٣).

والكلام في الجمع بين الخبرين هنا إنما هو بالنظر إلى صدورهما.

والمراد بالجمع : البناء على صدور كليهما ، وفرضهما كمقطوعي الصدور ، والتصرف في متنهما.

وبالطرح : البناء على عدم صدور أحدهما والأخذ بسند الآخر ودلالته إما لمرجح أو من باب التخيير.

ومحل النزاع في هذه القاعدة : إنما هو فيما إذا كان الخبران كلاهما ظاهرين من حيث الدلالة.

وأما إذا كان أحدهما نصا أو أظهر أو كان كلاهما نصين فلا نزاع ، بل المتعين على التقديرين الأولين هو الجمع والتصرف في دلالة الظاهر ، وفي الأخير هو الطرح لمرجح إن كان له مرجح وقلنا بوجوب الأخذ به ، وإلا فيؤخذ بأحدهما تخييرا.

ثم إن الكلام في هذه القاعدة خارج عن مسألة التعادل والترجيح الموضوعة لها هذه الرسالة فإن النزاع في هذه القاعدة صغروي بالنسبة إليها

__________________

(١) في الأصل : إن كان أقرب مجازات.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٣.

(٣) الأحزاب : ٦.

١٩٥

حيث إنها على تقدير اعتبارها ولزوم الأخذ بها ترفع التعارض المتحقق بين الخبرين الظاهرين من حيث الصدور ، فيخرجهما عن مورد الكلام في المسألة المذكورة ، فيختص مورد المسألة بالنصين من الخبرين المتعارضين ، حيث إن شيئا منهما غير قابل للتأويل في دلالته ، وعلى تقدير عدم اعتبارها فلا ، بل يدخل موردها في المسألة المذكورة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ولا ريب أن التعبد بصدور أحدهما ـ المعين إذا كان هناك مرجح ، والمخير إذا لم يكن ـ ثابت على تقدير الجمع وعدمه ). (١).

هذا بالنظر إلى الإجماع والأخبار العلاجية ، حيث إنها بمجموعها تفيد عدم سقوط المتعارضين كليهما عن الحجية في مؤداهما وكونهما كأن لم يكونا بالنسبة إلى مؤداها ، وإلا فمقتضى الأصل ـ كما ستعرف بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية كما هو المختار ـ إنما هو سقوط المتعارضين منها عن الحجية ، وعدم كون شيء منهما حجة فعلا في مؤداه.

ثم إن حاصل مراده ـ قدس سره ـ : أنه لا مناص عن الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين ، لما مرت الإشارة إليه ، ومن المعلوم أن الّذي وجب الأخذ به منهما لا يعقل أن يزاحم سنده سند الآخر ، بل التزاحم إنما يقع بين ظاهر ذلك المتيقن الأخذ به وبين السند الآخر ، لدوران الأمر حينئذ بين التصرف في ظاهره والأخذ بسند الآخر ودلالته وبين طرح سند الآخر ، وظاهر الآخر لا يزاحم ظاهره ، لعدم صلاحيته لذلك ، فإن أدلة اعتبار الظواهر إنما تقتضي اعتبار الظواهر بعد الفراغ عن سندها ، والمفروض عدم إحرازه بعد (٢) في المقام ، فلا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٤.

(٢) ( بعد ) هنا بمعنى ( إلى الآن ).

١٩٦

يكون طرحه مع الشك في صدور متنه مخالفا لذلك الدليل ، حتى يقع التعارض والتزاحم بينه وبين ظهور ذلك المتيقن الأخذ به (١).

وبالجملة : ذلك الدليل إنما يشمل ظهور ذلك الواحد المتيقن الأخذ به ، دون ظهور الآخر ، فيقع التعارض والتزاحم حقيقة بين ذلك الدليل وبين دليل اعتبار سند الآخر ولا ترجيح للثاني ، فيكون اختياره ترجيحا بلا مرجح.

فظهر أنه لا دليل على القاعدة المذكورة مع قطع النّظر عن الأدلة المتقدمة المشار إليها المانعة من المصير إليها.

هذا خلاصة ما ذكره ـ قدس سره ـ.

لكن الإنصاف : أنه مع الإغماض عن تلك الأدلة مقتضى الأصل والقاعدة إنما هو لزوم الأخذ بالسندين والتصرف في ظهور أحدهما أو كليهما فإن الشك في جواز التأويل في أحدهما أو كليهما ناشئ من الشك في صدور كليهما ومسبب عنه ، دون العكس ، فحينئذ يكون دليل اعتبار سند ما عدا المتيقن الأخذ به حاكما على دليل اعتبار ظهور المتيقن الأخذ به ، فيكونان كمقطوعي الصدور ، فلا بد من التأويل حينئذ دون الطرح ، فقياسهما بمقطوعي الصدور في محله ، وسيجيء بيان ضعف ما ذكره ـ قدس سره ـ في وجه بطلانه.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وتوضيح الفرق وفساد القياس : أن وجوب التعبد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر ). (٢).

حاصل مراده ـ قدس سره ـ : منع كون الشك في التأويل مسببا عن

__________________

(١) ومن هنا ظهر ضعف الوجه الثاني الّذي احتج به صاحب عوالي اللئالي ، فإن الدلالة الأصلية ما لم يحرز صدور متنها لا يكون طرحها مخالفا للأصل ، حتى يصار إلى التأويل ـ الّذي هو طرح دلالة نفسه ـ فرارا عنه. لمحرره عفا الله عنه.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٥.

١٩٧

الشك في الصدور وإبداء الفارق بين المقيس والمقيس عليه (١).

وتوضيح ما أراده من الفرق : أن الأمر في الخبرين المتعارضين يدور بين أمور أربعة :

أحدها : البناء على صدور كليهما ، والأخذ بظاهر كل منهما.

ثانيها : البناء على عدم صدور شيء منهما.

وثالثها : البناء على صدور أحدهما المعين ، والأخذ بظاهره ، وطرح الآخر رأسا.

ورابعها : البناء على صدور كليهما ، والتصرف في ظاهريهما.

والشك في أحد تلك الأمور غير مسبب عن شيء من البواقي (٢) ، حتى يكون النافي له نافيا ومزيلا للآخر.

بل لو قام دليل على نفى أحدها فغاية ما يترتب عليه [ هو ] انحصار الاحتمال في البواقي ، فلو فرض قيام دليل على نفي أحدها ينحصر الاحتمال في الثلاثة ، ولو فرض قيامه على نفي اثنين ينحصر في اثنين ، ولو فرض قيامه على نفي ثلاثة منها يتعين الأخذ بالواحد الباقي من باب أن انتفاء أحد طرفي المنفصلة المانعة الخلو مستلزم لثبوت الطرف الآخر.

ولما كان الأمران الأولان غير محتملين في المقيس والمقيس عليه كليهما ـ أما أولهما فلعدم إمكانه عقلا ، وإلا لم يكونا متعارضين ، وأما ثانيهما فلعدم إمكانه شرعا ، نظرا إلى قيام الإجماع وتواتر الأخبار العلاجية بحجية أحدهما ـ فيبنى على عدمهما في كل منهما.

__________________

(١) المقيس هو الخبران المعتبران سندا ، والمقيس عليه هو الخبران المقطوع بصدورهما.

(٢) فواعل جمع فاعلة ، وكل واحد من الأمور الثلاثة الباقية يوصف بالباقي ، لا بالباقية ، فلا توصف الأمور بالبواقي ، بل بالمفرد المؤنث ، أي الأمور الباقية ، وهكذا يقال فيما شاع استعماله من وصف الأمور بالاخر.

١٩٨

لكن المقيس عليه له خصوصية زائدة [ هي ] صفة القطع بالصدور ـ تنفي احتمال الأمر الثالث ـ أيضا ـ فينحصر فيه الأمر في الرابع ، ويتعين الأخذ به ، وهذه الخصوصية مفقودة في المقيس ، حتى توجب نفي ذلك الاحتمال أيضا.

والحاصل : أن الّذي ألجأنا في المقيس عليه إلى ارتكاب التأويل إنما هو القطع باحتمال (١) غيره ، إذ معه لا مناص لنا عن الالتزام بالتأويل وهذا مفقود في المقيس.

وبعبارة أخرى : الملازمة ثابتة بين التأويل والأخذ بالسندين وبين القطع بالسندين ، لا بين واقعية السندين وبين التأويل.

وبعبارة ثالثة : مجرد صدور الخبرين المتعارضين في الواقع مع قطع النّظر عن العلم به غير ملازم للالتزام بالتأويل ، وإنما الملازم له هو القطع بصدورهما.

هذا حاصل ما ذكره ـ قدس سره ـ بتوضيح منا.

لكن يتجه عليه : منع الملازمة بين نفس القطع وبين التأويل ، بل الملازم له إنما هو صدور الخبرين واقعا ، وعدم انفكاك القطع عنه من جهة أنه طريق إلى ملزومه وكاشف ، ومن المعلوم أنه مع انكشاف الملزوم بأي طريق كان يترتب عليه لازمة ، سواء كان ذلك الطريق عقليا كالقطع ، أو شرعيا كأدلة اعتبار السند ، والّذي يكشف عن ذلك أنا لو فرضنا القضية فرضية لوجدنا الملازمة بين نفس صدور كليهما واقعا وبين التأويل فيهما.

ألا ترى أنه لو قيل : ـ إنه لو كان الخبران كلاهما صادرين لوجب

__________________

(١) الظاهر ـ إذا لم يكن من المقطوع به ـ أن عبارة المتن صحيحة ومراده ( ره ) فيها هو : أن الّذي ألجأنا إلى التأويل في المقيس مكية ـ أي في الخبرين المتعارضين المقطوعي الصدور ـ هو القطع بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، إذ التعارض بين ظاهريهما ، ولا يمكن طرحهما ولا طرح أحدهما للقطع بصدورهما ، كما لا يمكن الأخذ بظاهريهما لتعارضهما ، فلا محيص من تأويل ظاهر أحدهما لرفع التعارض. إذن ففي المقيس عليه نحن نقطع بإرادة الاحتمال الآخر غير الظاهر.

١٩٩

التأويل فيهما ـ لكان صادقا من غير مسامحة ومجاز من غير حاجة إلى توسيط صفة القطع.

نعم ترتيب هذا اللازم عليه هو في الظاهر يتوقف على إحراز ملزومه بأحد الطرق ، فيكون الشك في التأويل مسببا عن الشك في صدور كليهما واقعا ، وبعد ملاحظة أدلة إثبات صدورهما يرتفع هذا الشك ، ويتعين الأخذ بالتأويل كصورة القطع بصدورهما.

ويكشف عن ضعف ما ذكره ـ قدس سره ـ أيضا أنه من المعلوم عدم الفرق في الخبر الّذي يجب الأخذ به والبناء على صدوره بين ما كان واحدا معينا ـ كما إذا تعارض آية أو رواية متواترة مع خبر واحد غير معلوم الصدور ـ وبين ما كان واحدا مخيرا ـ كما في المقام ـ من حيث دوران الأمر في الأول ـ أيضا ـ بين الأخذ بظاهر ذلك الّذي لا بد من الالتزام بصدوره وبين الأخذ بسند الآخر والتأويل فيهما أو في ذلك الّذي يجب الالتزام بصدوره.

فإن لم يكن الشك في التأويل مسببا عن الشك في صدور الآخر يلزم أن لا يبادر إلى التأويل في المقامين ، وإن كان مسببا عنه فلا بد من المصير إليه في كليهما ، مع أنه لم يتوقف أحد فيما أعلم في اختيار التأويل على الطرح في القسم الأول حتى المصنف ـ قدس سره ـ فإن جواز تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد مما لم نقف فيه على مخالف.

وكيف كان ، فالمصنف ـ قدس سره ـ ملتزم به ، فلا مناص له عنه في القسم الثاني الّذي هو محل الكلام.

إن قيل : إن الكلام هنا إنما هو في الظاهرين ، ومسألة تخصيص الكتاب ـ أو السنة المتواترة ـ بأخبار الآحاد إنما هي فيما إذا كان الخبر المخالف لهما نصا أو أظهر منهما.

قلنا : المناط في المقامين واحد ، فإن الشك في التأويل في ظاهر الكتاب

٢٠٠