تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

والعام بيان ... ) (١).

فيه : أن عدم البيان الّذي هو جزء من مقتضى ظهور المطلق في الإطلاق إنما هو عدم البيان في مقام البيان ، لا عدمه إلى آخر الأبد ، فإذا أحرز كونه في مقام البيان مع فرض ورود بيان في ذلك المقام فيتنجز الحكم بالإطلاق ، لانعقاد ظهور المطلق فيه حينئذ بحصول ما علق عليه ، والبيان المتأخر عن ذلك المقام الّذي منه العام لم يعلق عليه ظهوره فيه حتى يدور الأمر بين المعلق والمنجز ، فيرجح المنجز ، بل هو معه حينئذ من قبيل المنجزين ، فلا يعقل ترجيح أحدهما بكونه منجزا لاشتراكه بينهما ، ولو لا ذلك لم يجز التمسك بواحد من المطلقات لأحد إلى آخر الأبد لقيام احتمال ورود بيان لها فيما بعد البتة ، وهو كما ترى.

فإن قلت : إن المصنف (قدس سره) لم يصرّح بكون العام ـ المعارض للمطلق ، الّذي حكم بترجيحه عليه ـ متأخرا عنه ، بل يحتمل أن يكون مراده الأعم الشامل للمقارن أو يكون خصوص المقارن.

قلنا : نعم ، بل المعلوم إرادة الأعم ، فإنه في مقام بيان حكم تعارض العام والمطلق مطلقا على وجه لم يهمل بعض موارده ، لكنها لا يصحح ما ادعاه مطلقا ، بل يبقى الإرادة على حاله بالنسبة إلى العام المتأخر ، فكان عليه التفصيل بينه وبين المقارن ، هذا.

ثم إنه ـ بعد ما انجر الكلام هنا إلى شرائط ظهور المطلق في الإطلاق ـ قال ( دام ظلّه ) : ويشترط إحراز كون المتكلم في مقام البيان حال التكلم ، كما مرت الإشارة إليه.

وبعبارة أخرى : الشرط في ظهور المطلق في الإطلاق أمران :

أحدهما : كون المتكلم في مقام البيان حال التكلم ، فلو لم يكن غرضه ذلك

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٢.

٣٢١

في تلك الحال ، ثم تبدل قصده إلى البيان بعدها إلى أول وقت العمل ، وعلمنا من حاله ذلك لا يكون ذلك موجبا لظهور المطلق في الإطلاق ، لأنه حين صدوره كان مجملا لم يقصد به العموم أو الخصوص ، وبعد تبدل قصده إلى البيان لا بدّ من بيان آخر غير ما ذكره أولا ، لعدم صلاحيته لإفادة مقصوده ، فتصديه للبيان حينئذ يجدي في صدوره ثانيا ، والصادر ثانيا كلام آخر ، فتكون العبرة بكونه في مقام البيان في تلك الحال ، فلا بد من إحرازه في التمسك بإطلاق المطلق ، ولا يخفى أن إحرازه في غاية الإشكال ، إذ لا يجب عقلا على المتكلم بيان تمام مقصوده حال التكلم ، بل له تأخيره إلى أول وقت العمل ، ولم يثبت عليه ـ أيضا ـ حتى يحرز بها ذلك ، ولأجل ذلك يكون المطلقات الواردة في الشريعة عندي مجملات مهملات.

ومن هنا يظهر ما في دعوى بعضهم أن الأصل كون المتكلم في مقام البيان ، لعدم صلاحية شيء لكونه مدركا له عدا الغلبة ، وقد عرفت حالها.

وثانيهما : عدم ورود بيان في ذلك كما مرّ ، انتهى ما أفاده ( دام ظلّه ).

أقول : الإنصاف ندرة كون المتكلّم في مقام الإجمال حال التكلم وتأخير البيان إلى أول وقت العمل غاية الندرة ، لقلة ما يقتضيه غاية القلة جدّاً ولأجل ذلك ترى العرف أنهم إذا علموا من أحد كونه في مقام الإجمال حال التكلم يسألونه عن الداعي له إليه بخلاف ما إذا علموا منه كونه في مقام البيان في تلك الحال ، مع أن البيان ـ أيضا ـ كالإجمال يحتاج إلى داع ، فكأن القاعدة عندهم إنما هو البيان في تلك الحال بحيث بعد الإجمال فيها في نظرهم مخالفا للقاعدة ومحتاجا إلى سبب وعلة ، فلا تغفل ولا تقلد.

خلق را تقليدشان بر باد داد

اى دو صد لعنت بر اين تقليد باد

ربّ ارفعني عن حضيض التقليد إلى أوج الاجتهاد بنبيّك محمد وآله الأمجاد صلواتك عليه وعليهم إلى يوم الميعاد.

٣٢٢

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( نعم إذا استفيد العموم الشمولي من دليل الحكمة كانت الإفادة غير مستندة إلى الوضع ) (١).

يعني أنه يكون كالمطلق تعليقيا فيتعارضان ، فلا بدّ من ملاحظة الترجيح بينهما.

أقول : ولا يبعد حينئذ ترجيح التخصيص ـ أيضا ـ لغلبته.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ومما ذكرنا يظهر حال التقييد مع سائر المجازات ) (٢).

فإن المجاز هو غير التخصيص إن كان مخالفا لظهور اللفظ وضعا ، فلا يصار إليه ، بل يلزم بتقيد المطلق ، فإن ذلك الظهور منجز ، فيقدم على ظهور المطلق التعليقي كتقديم ظهور العام وضعا عليه ، وإن كان مخالفا لظهوره الناشئ من دليل الحكمة ، فيقع الدوران بينه وبين التقييد ، لدوران الأمر حينئذ بين التعليقين فلا بدّ من ملاحظة الترجيح.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ولم يقل ذلك في العام المخصص فتأمل ) (٣).

كأن وجه التأمل أن كثرة التخصيص في العام أيضا على وجه قيل أنه ما من عام إلا وقد خص.

أقول : لا يخفى أن ما قيل معناه أنه لا يوجد شيء من العمومات أريد منه العموم بل كل واحد منها وقع التخصيص عليه ولو بمخصص عقلي لا أن كل واحد منها غلب فيه التخصيص.

هذا مع أنا لو سلمنا غلبته في كل واحد منها فإنما هي بملاحظة مجموع

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٢.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٢.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٣.

٣٢٣

مراتب التخصيص ، لا بالنسبة إلى كل واحدة منها مع عدم إمكانه في نفسه ولا بالنسبة إلى مرتبة خاصة ، بخلاف صيغة الأمر ، فإن غلبة الاستعمال المجازي فيها إنما تحققت بالنسبة إلى خصوص بعض معانيها المجازية ، وهو الاستحباب ، ومن المعلوم أنه يتعين الأخذ بالغلبة الشخصية في مقام الترجيح.

لكن الإنصاف اندفاع ذلك بأن الغلبة الشخصية انما تجدي في تعيين المراد من بين المجازات من لفظ واحد بعد ثبوت عدم إرادة الحقيقة منه كما إذا ورد ( أكرم العالم مثلا ) وعلم أنه ليس المراد إكرام مطلق طبيعة العالم بل شخص خاص منها وتردد هو بين زيد ـ الّذي هو من النحويين ـ وبين عمرو ـ الّذي هو من الفقهاء ـ وفرضنا ان استعمال العالم في خصوص زيد أكثر منه في خصوص عمر ومع تحقق كثرة استعماله ـ أيضا ـ في مجموع آحاد الفقهاء بحيث تساوي كثرة استعماله في زيد ، فيكون حمله على عمرو مقتضى الغلبة في نوع الفقهاء ، وحمله على زيد مقتضى الغلبة الشخصية المختصة به ، فيقدم الثاني لما مر.

لكن المفروض في المقام عدم ثبوت المجازية في خصوص شيء من العام والأمر ، مع العلم بإرادة مخالف الظاهر من أحدهما إجمالا الداعي إلى الالتزام بالتأويل في أحدهما ، والأمر دائر بين الأخذ بظهور العام والتأويل في الأمر وبين العكس ، ومن المعلوم أن المرجح في هذا المقام إنما هو ما يوجب أظهرية دلالة العام على العموم من دلالة الأمر على الوجوب أو العكس ومن المعلوم أن الأظهرية إنما هي بواسطة قلة تصدم جهة الوضع بالاستعمال المجازي ، فكل ما قل استعماله في خلاف ما وضع له بالإضافة إلى الآخر فهو أظهر ، من غير فرق بين أن يكون كثرة الاستعمال المجازي ـ المصادمة لجهة وضع الظاهر ـ متحققة في معنى خاص من المعاني المجازية أو في ضمن مجموعها ، فإن ضعف دلالته على إرادة الموضوع له إنما هو ناشئ عن كثرة إرادة خلاف الموضوع [ له ] لا عن كثرة إرادة معنى خاص من المعاني المخالفة له ، فلا يقدح كثرة استعمال الأمر في

٣٢٤

الندب في أضعفية ظهوره من ظهور العام إلا إذا كانت أقوى من كثرة التخصيص في ذلك العام المتحققة في جميع موارد استعماله المجازي من مراتب الخصوص.

والحاصل : أن الكلام في تشخيص الأظهر من اللفظين لتعيين مورد التأويل المعلوم إجمالا في غيره لا في تشخيص إرادة المعنى المجازي ، والمرجح إنما هو قلة تصدم مقتضى الوضع بكثرة الاستعمال المجازي من غير فرق بين تحققها في معنى خاص وبين تحققها في مجموع معان مجازية ، فالحكم بأظهرية العام في العموم متوقف على إحراز أكثرية استعمال الأمر في خلاف معناه الموضوع له من استعمال العام في خلاف ما وضع له وهو الخصوص ، فلا يجدي أكثرية استعماله في خصوص الاستحباب من استعمال العام في خصوص مرتبة من مراتب الخصوص.

نعم إذا كان استعماله في خصوص الاستحباب أكثر من استعمال العام بالنسبة إلى جميع مراتب الخصوص فيجدي من جهة كون تلك الأكثرية محققة لعنوان أكثرية تصدم جهة الوضع الّذي هو المناط في أضعفية الظهور ولا يبعد أكثرية استعمال أي من ألفاظ العموم في غير العموم بالنسبة إلى جميع مراتب التخصيص من استعمال الأمر في غير الوجوب مطلقا ، فكيف باستعماله في خصوص الاستحباب ، هذا فافهم جيدا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ومنها تعارض ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات ) (١).

لا يخفى أنه كان المناسب إيراد ذلك عقيب الكلام في تعارض التخصيص

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٣.

٣٢٥

والنسخ ، وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في تقديم ظهور الكلام في استمرار الحكم على غيره من الظهورات ، لغلبة سائر الوجوه المخالفة للأصل بالنسبة إلى النسخ ، مع أنه في نفسه ـ أيضا ـ نادر غاية الندرة جدا ، وكفى بذلك حجة في أمثال المقام.

وقد يحتج لذلك بوجهين آخرين لا ينبغي الاعتماد على واحد منهما.

أحدهما : استصحاب عدم النسخ.

وفيه : ما ذكره المصنف (قدس سره) من أن الكلام في ترجيح أحد الظهورين على الآخر ، ومن المعلوم المحقق في محله سقوط الأصول العملية في مرتبة الأدلة الاجتهادية مطلقا مخالفة كانت أو موافقة ، وسواء كان العمل بها بعنوان كونها مرجعا أو بعنوان كونها مرجحة ، فإنها غير صالحة لإفادة الظن حتّى يقوّى به الظهور الموافق لها ، مع أنها على فرض إفادتها له لا يجدي ، إذ الظن الحاصل منها إنما هو ظن بالواقع لا بإرادة المظنون من الخطاب ، فيكون ظنا خارجيا غير صالح للترجيح به ، إذ المدار فيه على قوة أحد الظهورين بالإضافة إلى الآخر ، وذلك لا يفيد قوة الموافق له منهما.

هذا مضافا إلى عدم جريانه في نفسه ـ أيضا ـ في صورة تأخر الخاصّ عن العام وتردده بين أن يكون ناسخا أو مخصصا ـ بناء على إمكان الدوران بين النسخ والتخصيص حينئذ كما هو الظاهر ـ إذ على تقدير كونه مخصصا يكشف عن عدم ثبوت الحكم للعام بعمومه من أول الأمر فمع احتمال تخصيصه كما هو المفروض لا يمكن القطع بثبوته للعام في أول الأمر مع الشك في ارتفاعه بعده حتى يكون موردا للأصل.

وثانيهما ، قولهم عليهم السلام ( حلال محمد صلّى الله عليه وآله حلال إلى

٣٢٦

يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ) (١).

وتقريب الاستدلال به : أنه ليس المراد استدامة خصوص المباح والحرام المصطلحين إلى يوم القيامة ، بل مطلق الأحكام المجعولة في شريعة محمد صلّى الله عليه وآله ، فالمراد أن كل حكم صادر من الله سبحانه وتعالى في شريعة محمد صلّى الله عليه وآله مستمر إلى يوم القيامة ، فيفيد الحديث الشريف أصلا كليا وهو عموم الاستمرار بالنسبة إلى كل حكم ، فيكون ذلك مرجعا عند الشك في استمرار حكم لوجوب الاقتصار في تخصيصه على القدر المعلوم ، هذا.

والّذي يقتضيه النّظر أنه على تقديره إفادة الحديث الشريف ذلك المعنى ـ أعني عموم الاستمرار بالنسبة إلى كل صادر في شريعة محمد صلّى الله عليه وآله يتّجه الاحتجاج به على المطلوب ، لكن الكلام بعد في إفادته ذلك ، فهاهنا موضعان :

أحدهما : في تمامية الاستدلال به على تقدير إفادته ذلك المعنى.

وثانيهما : في تحقيق أنه هل يفيد ذلك المعنى أو لا.

فلنقدّم الكلام في الموضع الأول.

فاعلم ان الإنصاف أنه إذا كان مفيدا لذلك المعنى فيكون بعمومه مفسرا لذلك الدليل المقتضي بظاهره لنسخ حكم الدليل الآخر الظاهر في استمرار حكمه وحاكما عليه ، فإن معناه حينئذ أن الشارع لم يعتن باحتمال النسخ ، وحكم عليه بالعدم ، فيكون مقتضاه من جهة عمومه الحكم بعدم النسخ المحتمل في مورد الفرض الّذي يدل عليه ذلك الدليل ، فيكون معناه عدم إرادة بيان انتهاء حكم الدليل الآخر الظاهر في الاستمرار من ذلك الدليل الدال على نسخ حكمه وانتهاء أمده ، فيكون عموم الحديث الشريف مفسرا ومؤولا له إلى غير

__________________

(١) الكافي ( الأصول ) ١ : ٥٨.

٣٢٧

ظاهره ، فهو بنفسه كاف في البناء على عدم كون ذلك الدليل ناسخا وتأويله إلى غير ما يظهر منه ولو مع عدم ظهور الدليل الآخر في استمرار حكمه أيضا.

وربما يتمسك بالحديث الشريف في المقام بتقريب آخر ، وهو أن المفروض ظهور الدليل الآخر في استمرار حكمه إلى الأبد مع ظهور الحديث ـ أيضا ـ بعمومه في ذلك ، فحينئذ لو يبنى على نسخ حكم ذلك الدليل أخذا بظهور الدليل الظاهر في كونه ناسخا له يلزم طرح ظهورين وارتكاب الوجوه المخالفة للأصل في موردين ، حيث أن كلا من تخصيص عموم الحديث بالنسبة إلى مورد الفرض وتأويل ظهور ذلك مخالف للأصل ، هذا بخلاف ما إذا يبنى على عدم النسخ ، فإنه يلزم منه مخالفة الأصل ، في مورد واحد وهو ظهور ذلك الدليل المقتضي للنسخ ، فإذا دار الأمر بين الأقل والأكثر من الوجوه المخالفة للأصل تعين ارتكاب الأقل منها ، فيتعين الأخذ بظهور ذلك الدليل المقتضي لاستمرار الحكم ، انتهى.

وقد ظهر ما في هذا التقريب مما قدمنا.

وتوضيح فساده أنه قد مر أن ظهور الحديث حاكم على ظهور ذلك الدليل في النسخ ، ومن المعلوم عدم المعارضة بين الحاكم والمحكوم عليه حتى يلاحظ الدوران بينهما فيؤخذ به لأجل الترجيح ، بل مرتبة المحكوم عليه متأخرة عن مرتبته فهو ساقط عن الاعتبار مع وجود الحاكم ، لا أنه معارض له ، فلا تغفل.

هذا خلاصة الكلام في الموضع الأول.

وأما الموضع الثاني :

فالحق فيه ما ذكره المصنف (قدس سره) من عدم إفادة الحديث الشريف لذلك المعنى.

وتوضيحه : أنه إذا جعل الحلال والحرام في الحديث كناية عن مطلق الأحكام فيكون معناه أن أحكام محمد صلّى الله عليه وآله مستمرة من قبل الله

٣٢٨

سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة ، فإن قولهم ( حلال إلى يوم القيامة وحرام إلى يوم القيامة ) المراد منهما أنه حلال من قبل الله تعالى وحرام من قبله إلى يوم القيامة.

والظاهر أنه مسوق لبيان عدم نسخ الله تعالى دين محمد صلّى الله عليه وآله بدين آخر ، فهو ساكت عن إفادة أن كل حكم منه في شريعة محمد صلّى الله عليه وآله لم ينسخ بإثبات حكم مغاير له في مورد ذلك الحكم في شريعته صلّى الله عليه وآله ولم يبين انتهاء أمده ببيان ذلك الحكم المغاير كما هو مبنى الاستدلال ، فلا ينافي عدم استمرار بعض أحكامه صلّى الله عليه وآله وانقطاع أمده بحكم آخر في شريعته.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ثم إن هذا التعارض إنما هو مع عدم ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء وإلا تعين التخصيص ) (١).

يعني هذا النحو من التعارض ـ وهو تعارض الظهور في الاستمرار مع الظهور في العموم بالنسبة إلى كلام واحد الّذي مورده ما إذا ورد عام وخاص متأخر عن العام ـ لا يتحقق في جميع صور ذلك المورد وإنما يختص بصورة عدم ظهور الخاصّ المتأخر في ثبوت حكمه في أول الشريعة.

ووجهه أنه إذا كان الخاصّ المتأخر ظاهرا في ذلك يكون ظهوره هذا حاكما على ظهور العام في ثبوت حكمه بالنسبة إليه أي إلى الخاصّ في الجملة ، بمعنى أنه قرينة حينئذ على عدم إرادته من العام من أول الأمر ، فيكون رافعا لاحتمال ثبوت حكم العام له من حين صدور العام إلى حين صدوره المستلزم للنسخ ، إذ لا بدّ من رفع حكم العام عنه من حين صدوره إلى بعده لا محالة ، فإنّ الخاصّ نصّ في هذا المقدار وإنما الشبهة في ثبوته له من حين صدور العام إلى حين صدوره ، نظرا إلى ظهوره العام في ثبوت حكمه لكل فرد في الجملة ، فعلى

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٣.

٣٢٩

تقدير ثبوت ذلك الحكم له من حين صدور العام مع فرض انقطاعه حين صدوره لا محالة يلزم النسخ وعلى تقدير عدم ثبوته له في ذلك المقدار من الزمان ـ أيضا ـ لا يعقل النسخ فيه ، إذ النسخ إنما هو الإعلام بانتهاء أمة الحكم الثابت للشيء واقعا ، فمع عدم ثبوته له في الواقع أصلا يمتنع تحقق النسخ ، وهذا لا يتوقف على اعتبار حضور وقت العمل في النسخ ، بل يجري على عدم اعتباره أيضا ، إذ عليه لا بد من ثبوته له قبل ذلك الوقت لا محالة ، فإذا كان ظهور الخاصّ رافعا لاحتمال النسخ في العام بالنسبة إليه فيتعيّن التخصيص ، فلا تعارض معه ولا دوران بين النسخ والتخصيص في العام حكميّا.

وبعبارة أخرى أوضح إن للكلام المتضمن للعام ظهورين :

أحدهما في ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده التي منها الخاصّ في الجملة.

وثانيهما ظهوره في استمرار ذلك الحكم لموضوعه من حين ثبوته إلى الأبد ، ومن المعلوم أنه لا تعارض أولا وبالذات بين هذين الظهورين ، وإنما جاء الدوران والتعارض من جهة التعبد بالخاص المتأخر ـ الّذي هو نصّ في عدم ثبوت حكم العام له في الجملة مطلقا ـ إذ معه يدور الأمر بين الأخذ بظهوره في ثبوت حكمه لكلّ فرد في الجملة ليثبت به حكمه للخاصّ من حين صدوره إلى حين صدور الخاصّ ، إذ به يتحقق العمل بذلك الظهور فيلزم منه طرح الظهور الآخر له ، وهو ظهوره في استمرار حكمه فيما ثبت له إلى الأبد ، إذ لا بدّ من رفع اليد عن حكم العام بالنسبة إلى الخاصّ من حين صدوره لا محالة لنصوصيته في هذا المقدار ، فينافي ظهوره في الاستمرار وبين الأخذ بظهوره في استمرار حكمه إلى الأبد ، وهو يناسب عدم ثبوت حكمه للخاص أصلا وخروجه منه من أول الأمر الّذي هو معنى التخصيص ، فإذا فرض ظهور الخاصّ المتأخر في ثبوت حكمه من أول الشريعة وخروجه عن حكم العام كذلك ، فلا بدّ حينئذ من رفع اليد عن ظهور الكلام في عموم ثبوت حكمه لكلّ فرد بالنسبة إليه ، وهذا هو معنى

٣٣٠

تخصيصه بغير الخاصّ ، فلا يكون للنسخ حينئذ مساس ، فعلى هذا التقدير يكون العمل على مقتضى ظهوره في استمرار حكمه لما ثبت إلى الأبد ، فإن مقتضاه ليس ثبوت حكمه لكلّ فرد بل إنما هو استمراره أينما ثبت (١).

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( نعم لا يجري في مثل العام المتأخر عن الخاصّ ) (٢).

يعني لا يجري ذلك النحو من التعارض في مثل العام المتأخر عن الخاصّ ، فإن الظهور في عموم الحكم المستدعي إلى النسخ إنما هو للكلام المتضمن للعام ، والظهور في استمرار الحكم المقتضي للتخصيص إنما هو للكلام المتضمن للخاص ، فيكون الظهوران المتعارضان حينئذ في كلامين.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( فنقول توضيحا لذلك إن النسبة بين المتعارضات ) (٣).

الغرض من التعرض للمتعارضات بعد التعرض للمتعارضين ليس لأجل مخالفة حكمها مع حكمهما ، بل الحكم في الجميع واحد ، وهو تقديم النص والأظهر على الظاهر ، والرجوع فيما لم يوجد أحدهما ـ أو كان كلاهما نصين ـ إلى الأخبار العلاجية.

بل إنما هو لأجل أنّه قد يصعب تشخيص موضوعي النص والأظهر في المتعارضات ، فقد يتوهم فيها نصوصية بعضها أو أظهريته بالنسبة إلى ما عداه مع أنه ظاهر حقيقة ، وقد يتوهم ظهور بعضها مع أنه عند التأمل نصّ أو أظهر ،

__________________

(١) وإن شئت قلت إن الشك في تخصيص العام ناشئ عن احتمال ثبوت حكمه للخاص في الجملة ، فإذا كان الكلام المتضمّن للخاص ظاهرا في ثبوت حكمه للخاص في أول الشريعة ، المستلزم لعدم ثبوت حكم العام له رأسا ، فيرتفع ذلك الشك ويبيّن تخصيص العام بغير ذلك الخاصّ ، فيرتفع احتمال النسخ.

لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٣.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٤.

٣٣١

فالنزاع في موارد الإشكال الآتية صغرويّ.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( فإن كانت النسبة العموم من وجه وجب الرجوع إلى المرجّحات ) (١).

وذلك لما مر في المتعارضين من أن الأخص من شيء من وجه مع كونه أعم منه كذلك لا يوجب كونه كذلك أظهريّته منه ، بل يكونان من قبيل الظاهرين الذين لا مساس للجمع بينهما من حيث الدلالة.

نعم قد يكون أحدهما أظهر من الآخر من جهات أخر ـ ككونه أقل فردا من الآخر أو كون مورد الاجتماع أظهر أفراده وأندر أفراد الآخر أو كونه أغلب أفراده وغير الغالب من أفراد الآخر ـ فيجب حينئذ الجمع بينهما بإخراج مورد الاجتماع عن الآخر وتخصيصه بغيره ، لكن الكلام في العامين من وجه مع قطع النّظر عن الأمور الخارجية.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وإن كانت النسبة عموما مطلقا ... ـ إلى قوله ـ : خصص بهما ) (٢).

وذلك لما مر ثمة من أن الأخص من شيء مطلقا أظهر منه لا محالة ، فيقدم عليه لذلك ، فلا يصار حينئذ إلى الأخبار العلاجية إلا إذا كانت المتعارضات للعام التي كل منها أخص منه مطلقا بأجمعها مستوعبة لجميع أفراد العام أو لأكثرها ، بحيث لو خصص هو بها يلزم تخصيصه بأقل من أقل مرتبة من المراتب التي يجوز التخصيص إليها.

وهذا أحد موارد الإشكال المشار إليها الّذي أشار إليه المصنف بقوله (قدس سره) : ( وإن لزم محذور مثل قوله : يجب إكرام العلماء ويحرم إكرام فساق

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٤.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٤.

٣٣٢

العلماء وورد يكره إكرام عدول العلماء ، فإن اللازم من تخصيص العام بهما بقائه بلا مورد ) لكنه (قدس سره) خص محذور لزوم عدم بقاء مورد للعام أصلا بالذكر وقد عرفت أن لزوم قلة مورده بحيث ينتهي إلى الأقل من أقل مراتب التخصيص ـ أيضا ـ محذور مثله (١) ، فالأولى تعميمه ـ كما ذكرنا ـ والحكم في الصورتين واحد وهو أن يعمل في كل منهما بقاعدة التعارض بين النصين المتباينين ، لأن مجموع الخاصّين مباين ، للعام ومناقض له ، وكما أن كلا منهما نصّ في مدلوله كذلك العام نصّ في مدلوله في الجملة وهي أقل مراتب التخصيص كما أشار إليه (قدس سره) بقوله : ( فحكم ذلك كالمتباينين ، لأن مجموع الخاصّين مباين للعام ) ولمّا جاز المصنف (قدس سره) من هنا سريعا مكتفيا بالإشارة الإجمالية مع وجود المقتضي للتفصيل فنحن نبسط الكلام توضيحا للمقام مستعينا بالملك العلاّم تعالى شأنه العزيز ونبيه محمد وآله البررة الكرام صلواته عليه وعليهم إلى يوم القيام.

فنقول : إنه إذا كانت النسبة بين المتعارضان عموما مطلقا ، فإن لم يلزم من تخصيص الأعم مطلقا بجميع الأخص منه كذلك أحد المحذورين المذكورين فلا بدّ من تخصيصه بالجميع ، لفرض أن كلا منها نصّ في مؤداه أو أظهر ، والعام ظاهر في أزيد من أقل مراتب التخصيص ، والمفروض أن تلك بأجمعها مزاحمة له في أزيد من تلك المرتبة ، فيكون المقام من قبيل تعارض النص أو الأظهر مع الظاهر وقد مر مرارا تعين المصير حينئذ إلى قاعدة الجمع ، دون قاعدة العلاج المستفادة من الأخبار العلاجية.

وإن لزم منه أحد المحذورين ، فلا مساس لتلك القاعدة بالنسبة إلى

__________________

(١) لكن ذكره (قدس سره) لذلك إنما هو من باب المثال من شمول إطلاق المحذور في قوله وإن لزم محذور للثاني أيضا. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٣٣

الأقل من تلك المرتبة ، بل يعامل بين العام ومجموع المتعارضات له التي هي أخص منه مطلقا في أقل مراتب التخصيص معاملة النصين المتعارضين لما مرّت الإشارة إليه من نصوصيّة العام (١) بالنسبة إليه ، وكل واحد من تلك المتعارضات وإن كان نصا في مؤداه لا يدافعه فيه بنفسه ، بل بضميمة البواقي ، فيكون طرفا التعارض فيه مجموعها مع العام ، فيعمل فيه بينهما بقاعدة العلاج ، وفي أزيد منه بقاعدة الجمع ، فإن رجّح مجموعها عليه من حيث السند ، أو أخذ به من باب التخيير كما إذا بان سند مجموعها مساويا مع سند العام يطرح العام رأسا ، ولا يعمل به في شيء من مؤداه أما في أزيد من تلك المرتبة فللزوم إهماله فيه وعدم العمل به على تقدير الأخذ بسنده تعيينا ، كما إذا كان سنده أقوى من سند مجموعها أو تخييرا كما إذا كان مساويا معه فإنه يتعبد حينئذ بآثار صدوره بالنسبة إلى تلك المرتبة خاصة ، ويعمل بينه في أزيد منها وبين تلك المتعارضات بقاعدة الجمع ، وحيث أنها نصّ أو أظهر بالنسبة إليه في الأزيد فلا بدّ من تخصيصه بها.

نعم لا تؤخذ بجميع تلك المتعارضات ، لفرض استلزامه لإلقاء النص ، وهو العام بالنسبة إلى تلك المرتبة مع فرض التعبد بسنده بالنسبة إليها ، بل بغير واحد منها ، بمعنى أنه يجعل مورد تلك المرتبة أحدها تعيينا أو تخييرا ويؤخذ بالباقي في تخصيصه بالنسبة إلى أزيد من تلك المرتبة ، هذا هو الحال في صورة الأخذ بسنده ، فكيف بصورة طرحه ، فإن هذه الصورة أولى بذلك من تلك.

وأما إهماله في نفس تلك المرتبة فلفرض طرح سنده وعدم التعبد به فيها ـ أيضا ـ.

__________________

(١) ومن هنا ظهر أن الرجوع في مورد الفرض إلى قاعدة العلاج ليس خروجا عن قاعدة تعارض النص والأظهر مع الظاهر وهي الجمع بل إنما هو لأجل عدم الموضوع لتلك القاعدة في محل الفرض ، لفرض رجوع التعارض إلى التعارض بين النصين. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٣٤

وان رجح سنده على سند مجموعها أو أخذ به من باب التخيير فقد عرفت حكمه في طيّ الكلام في الفرض الأول.

ووجه عدم طرح مجموعها حينئذ مع كون طرف التعارض هو المجموع ـ ما مرّت الإشارة إليه ـ من أن تدافعها للعام في تلك المرتبة إنما نشأت من ملاحظة اجتماعها خاصة فعلى تقدير الأخذ بسند العام فيها يكون الواجب طرحها على وجه يتحقق به رفع صفة الاجتماع والاقتصار عليه ، ومن المعلوم تحققه بطرح بعضها فلا داعي إلى طرح الكل ، فيكون طرح الباقي إلغاء للنص بلا سبب موجب.

والحاصل : أن كلا منها في حد نفسه مع عدم انضمامه إلى البواقي حاكم على العام ، لفرض كونه نصا أو أظهر بالنسبة إليه ، والمانع من تقديمه عليه فعلا إنما هو صفة الانضمام ، فإذا رفعناها بطرح واحد منها يجب تقديم غير ذلك الواحد عليه وتخصيصه به في أزيد من تلك المرتبة إلى حيث استوعبته التخصيص من المراتب الفوقانية من مراتب العام وإن وصلت واستوعبت تمام تلك المراتب كما إذا كان مجموع موارد البواقي بمقدار تمامها ، لعدم المانع حينئذ من ترتيب ما يقتضيه عليه من التقديم.

ثم إنه لا يخفى عدم التنافي بين نفس تلك المتعارضات للعام لمغايرة موضوع كل منها مع الموضوع في غيره ، وشرط التعارض اتحاده بحيث لا يكفي مجرد الاختلاف في الحكم ـ كما عرفت في أول المسألة ـ إلا أنه تحقق التعارض بينها بواسطة أمر خارجي وهو التعبد بصدور العام تعيينا أو تخييرا المنافي لمجموعها من حيث المجموع بمقتضى الفرض المستلزم لطرح أحدها لا محالة لأجل ذلك.

فعلى هذا لا بدّ من العمل في نفس تلك المتعارضات بقاعدة التعارض ، لعمومها لما كان التعارض ناشئا عن أمر خارجي ، لعدم الفرق في العرف في إعمال

٣٣٥

قاعدة الجمع في تعارض النصّ والأظهر مع الظاهر بين ما إذا كان منشأه تنافي مدلولي الدليلين أولا وبالذات كأن يكونا متناقضين أو متضادين ، وبين ما إذا كان منشأه أمر خارجي موجب للدوران بينهما ، والأخبار العلاجية ـ أيضا ـ عامة لكلا المقامين ، لظهورها في بيان حكم صورة التحير بين الخبرين المتحقق في كل من المقامين على حد سواء إذا لم يكن أحد المتعارضين أقوى دلالة من الآخر فيجب فيها أولا ملاحظة قوة دلالته والترجيح بها وجعل المطروح فيها ـ هو الأضعف دلالة من الكل ـ خاصة إن كان مؤداه بمقدار منتهى التخصيص الّذي يكون العام نصا فيه ، وإلا بأن يكون أقل منه فهو مع ما هو الأقوى منه الأضعف بالنسبة إلى ما عداه ، وهكذا.

وإن كان أحدها أقوى دلالة من الكل أو اثنان منها مع تساوي الباقي في قوة الدلالة لقدّم ذلك الواحد ، أو الاثنان ، ويعمل بهما في تخصيص العام ، ويرجع في الباقي إلى قاعدة العلاج.

وإن تساوى الجميع (١) فيرجع في الجميع إلى تلك القاعدة ، وعلى تقدير عدم كفاية طرح واحدا تعيينا أو تخييرا والالتجاء إلى ضم آخر إليه كذلك ، فإن كان مؤدى كليهما بمقدار منتهى التخصيص بحيث لا يزيد عنه ، فلا إشكال ، وإن كان أزيد منه ففي ترك العمل بهما في تمام مؤداها ، أو الاقتصار فيه على ذلك المقدار فيما إذا كان أحدهما أو كلاهما قابلا للتأويل وجهان :

من فرض وجود المقتضي في كل منهما في ذاته ، وإنما المانع الخارجي أوجب الخروج عنه ، فلا بدّ من الاقتصار على مقدار يندفع به الضرورة.

ومن أنه على تقدير الاقتصار لا يتعين الأزيد من ذلك المقدار في أفراد خاصة ، فيكون الكلام في قوة المجمل ، فلا معنى للتعبد به في الأزيد لعدم إمكان

__________________

(١) بأن يكون كل واحد نصّا أو أظهر بالنسبة إلى العام خاصّة لا بالنسبة إلى غيره. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٣٦

العمل به فيه فتأمل.

ثم إن المدار في الترجيح بين العام وتلك المخصصات على ثبوت المرجح للعام وحده بالنسبة إلى مجموع تلك ، بحيث لا يكفي في ترجيحه عليها كون سنده أقوى من سند بعض منها مع مساواته لأسانيد البواقي ، أو لمجموع تلك من حيث المجموع ، بحيث لا يكفي كون سند بعضها أقوى من سنده مع كون سند بعض منها أضعف في ترجيحها عليه ، بل يجب حينئذ ترجيح العام عليها ، إذ المجموع باعتبار اشتماله على الأضعف منه يكون أضعف ، إذ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين. كما أن مدار التخيير على مساواة سنده لسند مجموع تلك من حيث المجموع بحيث لا مساس له بما إذا كان سنده مساويا لسند بعض ، أو جملة منها مع كونه أضعف من سند بعضها ، بل يجب حينئذ ترجيح تلك عليه ، فإنها من حيث المجموع أقوى منه.

والسر في ذلك كله ـ ما مرّ ـ من أن التعارض إنما هو بين العام وبين مجموع تلك من حيث المجموع لا بينه وبين كل واحد منها مع قطع النّظر عن الانضمام ، إذ لا يناقضه واحد منها وحده وإنما هو خاص بالنسبة إليه ، ولا معارضة بين العام والخاصّ ، بل المناقض له إنما هو المجموع من حيث المجموع.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وقد توهم بعض من عاصرناه فلاحظ العام بعد تخصيصه ببعض الأفراد ... إلى آخره ) (١).

هذا ـ أيضا ـ أحد موارد الإشكال المشار إليها.

وذلك البعض الّذي نسب التوهم إليه ، الظاهر أنه الفاضل النراقي (٢)

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٥.

(٢) مناهج الأصول : انظر منهاج تعادل الخبرين عند قوله : السابعة : لا بد في تغيير كيفية تعارض الدليلين وأنه هل بالعموم المطلق أو من وجه أو التساوي من ملاحظة المتصلة والمنفصلة لكل منهما ويحكم بعده

٣٣٧

صاحب المستند (قدس سره) والّذي ذهب إليه هنا ذلك ليس لأجل بنائه على تخصيص قاعدة تخصيص العام بالخاص ، بل إنما هو لأجل زعمه خروج هذا المورد عن عنوانهما ودخوله في العامين من وجه ، بزعم أن الدليل اللبيّ الّذي خصص العام بمنزلة المخصّص المتّصل الّذي يكون العام معه ظاهرا في تمام الباقي فتنقلب النسبة إلى العموم من وجه ، فله حكم تعارض العامين من وجه ، ولم يبق معه ظهوره في الجميع الّذي تكون النسبة بين مقتضاه وبين مقتضى المخصّص اللّفظي هو العموم مطلقا ، هذا.

لكن الّذي يقتضيه التحقيق اندفاعه بمنع كون المخصص اللبي كالمتصل ، بل إنما هو من قبيل المنفصل ، فله حكمه ، وغاية ما يترتب على المنفصل إنما هو منع العمل بظهور العام بالنسبة إلى مورده لا ظهوره في ما عدا مورده ـ كما هو شأن المتصل ـ بأن ينعقد به له ظهور آخر في ما عدا ذلك الخاصّ ، ولا ارتفاع ظهوره في العموم ـ أيضا ـ فإنّ المخصصات المنفصلة وإن بلغت ما بلغت لا تصلح لإخراج العام عن ظهوره في ما كان ظاهرا فيه بدونها حتى يكون مجملا عرفا بأن يعد في العرف من المجملات ، بل هو معها من الظواهر العرفية في ما كان ظاهرا فيه بدونها ، وهي على تقدير ورودها إنما هي أدلة على التأويل فيه ، لا التصرف ، بمعنى أن العمل على طبق ذلك الظهور ـ في تمام مؤداه الّذي هي المرتبة العليا ، أو في ما دونه من مراتب الخصوص إلى منتهى التخصيص ـ معلق على عدم بيان مخالف له بالنسبة إلى ما يراد العمل به فيه من مؤداه فكلّما جاء البيان المخالف المعبر عنه بالمخصص بالنسبة إلى أيّ مرتبة من تلك المراتب فهو

__________________

بأن التعارض على أي وجه ويعمل بمقتضاه فقد يكون الخبران متعارضان بالتساوي مثلا وبملاحظة تخصيص أحدهما بمخصص آخر من إجماع أو غيره يرجع التعارض إلى العموم والخصوص المطلقين أو من وجه وهذا فائدة جليلة لا ينبغي الغفلة عنها فلا يحكم إلا بعد ملاحظة جميع ما يجب ملاحظته من التقييدات والتخصيصات في كل من الخبرين.

٣٣٨

وارد عليه إذا كان قطعيا من جميع الجهات ، وحاكم عليه إذا كان ظنيا من حيث الصدور ، وعلى أي تقدير يكون المخصص المنفصل شارحا للمراد منه ، سواء كان واحدا أو متعددا ، إلاّ أنه إذا كان قطعيا من جميع الجهات يكون شارحا له بنفسه ، وإذا كان ظنيا من حيث الصدور يكون شارحا بمقتضى دليل صدوره ، ولا فرق في صورة التعدد بين الأول من المخصصات المنفصلة وبين المتأخر عنه في كون كل واحد منهما شارحا لأمر واحد وهو ذلك الظهور ، فإذا وردت مخصصات منفصلة بالنسبة إلى مراتب متعددة من مؤداه فكلها شارحة له في تلك المراتب ورافعة لجواز التمسك به فيها من غير فرق بين ما إذا اتفقت جملة منها ، أو جميعها على إخراج بعض تلك المراتب ، كأن تكون النسبة بين تلك الجملة أو الجميع هي العموم من وجه ـ كما في المثال الّذي ذكره المصنف (قدس سره) ـ وبين ما إذا لم يتفق ، فإذن لا ترتيب ولا تدرّج في العمل بتلك المخصّصات المتعددة المنفصلة إذا تواردت على العام متعاقبة ، بل الكل في مرتبة واحدة من حيث كونها شارحة ومؤوّلة له ورافعة للعمل بمقتضاه وإن تدرجت في الوجود.

والحاصل : أن التعارض وإن كان يلاحظ بالنظر إلى ظاهر الدليلين بالنسبة إلى الإرادة وإن كان ظهورهما مستندا إلى القرينة لا الوضع ، لكن العام المخصص بالمنفصل قبل تخصيصه به ظاهر ـ بمقتضى الوضع ـ في إرادة جميع الأفراد ، وبعد ورود المخصص المنفصل لا يزول عنه ذلك الظهور بحيث يعدّ من المجملات عرفا ، بل هو باق على حاله ، وإنما يرفع اليد عن العمل به فيما ورد الدليل على إخراجه وإرادة تمام الباقي ليست بظهور آخر ممتاز عن ذلك الظهور ، بل إنما هي بذلك الظهور ، فكلما جاء له المعارض لا بدّ من ملاحظة التعارض بينه وبين العام بالنظر إلى ذلك الظهور وأخذ النسبة بينه وبين ذلك المعارض منه بلغ ما بلغ.

والفرق بين المنفصل والمتصل أن الثاني يرفع ظهور العام الثابت له لولاه

٣٣٩

ويوجب انعقاد ظهور آخر في ما عدا المخرج ، بمعنى أن الكلام معه يكون ظاهرا في ثبوت الحكم لتمام الباقي وكون موضوعه هو تمام الباقي ، فلذا إذا جاء مخصّص منفصل بعده تلاحظ النسبة بين ظهوره في تمام الباقي ، لا في الجميع لانتفائه ، هذا بخلاف الأول ، أعني المنفصل ، فإنه ـ كما عرفت ـ لا يوجب ذلك ، بل العام معه ظاهر في ثبوت الحكم لما كان ظاهرا في ثبوته له بدونه.

ثم إن المصنف (قدس سره) وإن أصاب في جعل المخصص اللبي كاللفظي المنفصل ، إلا أن في جعله المنفصل مانعا عن نفس ظهور العام وموجبا لإجماله ـ كما هو ظاهر كلامه ـ ما عرفت ، فلا تغفل ولا تقله.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ومن هنا يصح أن يقال إن النسبة بين قوله ليس في العارية ضمان إلا الدينار والدرهم وبين ما دل على ضمان الذهب والفضة عموم من وجه ) (١).

يعني مما مر من أن التخصيص بالاستثناء من قبيل التخصيص بالمتصل صح القول بما ذكر ، وذلك لأنه لو خصص دليل نفي الضمان عن العارية بمنفصل ، كأن يقال يضمن في استعارة الدرهم والدينار لكان ذلك الدليل ـ وهو قوله ليس في العارية ضمان ـ ظاهرا في عموم نفي الضمان بالنسبة إلى أيّ عارية فكانت النسبة بينه بعد التخصيص بالمنفصل ـ أيضا ـ وبين دليل الضمان في الذهب والفضة هي العموم مطلقا ، لكن تخصيصه بالاستثناء الّذي هو من قبيل المتّصل أوجب ظهوره في نفي الضمان عن غير الدرهم والدينار عموما الّذي هو تمام الباقي والنسبة بين غير الدرهم والدينار وبين الذهب والفضة هي العموم من وجه لتصادقهما في المصوغ من الذهب والفضة ، وافتراق الأول في غير الذهب والفضة ، وافتراق الثاني في الدرهم والدينار المستثنيين من العام.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٦.

٣٤٠