تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

ثمّ إنّ المراد بالجهة ـ في المقام ـ إنّما هي التقييدية لا التعليلية.

والفرق بينهما ـ في المقام ـ : أنّه على الثاني يلزم ثبوت المصلحة والمفسدة لذات الفعل ـ الّذي هو مورد اجتماع الجهتين ـ أوّلا وبالذات فيما إذا كان الحكم الواقعي والظاهري مختلفين باعتبار كون أحدهما طلبا لترك الفعل ، والآخر طلبا لإيجاده ، إذ كلّ وصف أو حكم إنّما يقوم بموضوعه لا بعلّته ، وإنّما تكون العلّة واسطة في ثبوته لموضوعه.

هذا بخلاف الأوّل ، إذ عليه يثبت كلّ منهما ابتداء لنفس الجهة ، ويكون ثبوتهما لمورد اجتماع الجهتين من باب العرض بتوسّط الجهتين ، فتكونان واسطتين في العروض ، كما أنّهما كانتا واسطتين في الثبوت على التقدير الثاني.

نعم المصلحة والمفسدة يجوز اجتماعهما في مورد مع تعدّد الجهة التعليلية أيضا.

والثمرة بين التعليلية والتقييدية يظهر بالنسبة إلى لوازم المفسدة والمصلحة كما سيأتي.

وكيف كان ، فبعد تعدّد موضوعي المصلحة والمفسدة ومورديهما لم يبق محذور من جهة اجتماع الأمر الظاهري والنهي الواقعي أو العكس بالنظر إلى المكلّف به.

فإن قيل : إنّه لا مصلحة ولا مفسدة في المفاهيم ، بل إنّما هما ـ على تقديرهما ـ ثابتتان للأشخاص الخارجية ، كما نشاهده بالعيان والوجدان ، فلا يصحّ جعل الجهات واسطة في العروض بالنظر إلى ثبوتهما للأشخاص التي منها مورد اجتماع تلك الجهات ، بل هي في مقام اتّصاف الأشخاص واشتمالها على المفسدة والمصلحة واسطة في الثبوت دائما.

قلنا : سلّمنا أنّه لا مصلحة ولا مفسدة في المفاهيم ، لكن نقول : إنّ هذا إنّما هو في عالم كلّيّها وعالم وجودها الذهني ، وأمّا في عالم وجودها الخارجي فلا ، وظهور

١٦١

المصلحة والمفسدة في الأشخاص ليس لأجل كون موضوعهما هي الأشخاص من حيث هي ، بل إنّما هو لأجل أنّ الأشخاص ليست إلاّ وجودات تلك المفاهيم في الخارج ، فهي عالم الوجود الخارجي لتلك ، فالمصلحة والمفسدة في هذا العالم ثابتتان لنفس الطبائع من حيثية وجودها الخارجي بحيث تكون تلك الحيثية محقّقة لفعليّة الاتّصاف ومحصّلة لها.

والحاصل : أنّهما ثابتتان للطبائع من الحيثية التي هي من تلك الحيثية منشأ للآثار ، وهي حيثية وجودها الخارجي.

هذا مضافا إلى أنّ مورد اجتماع الجهات في المقام ـ أيضا ـ قد يكون من المفاهيم ، كما في موارد الشبهة في الحكم الكلّي الواقعي للشيء كما لا يخفى ، فلا بدّ لذلك السائل من صرف المصلحة والمفسدة ـ حينئذ ـ إلى أشخاصه ، فافهم.

وأمّا المقام الثالث :

فتوضيح الحال فيه : أنّ غاية ما يقال فيه : أنّ الحكيم إذا حكم على شيء بحكم ، فلا بدّ أن يتصوّر أولا ذلك الشيء ، ويعلم بما فيه من الجهة المقتضية للحكم من المصلحة والمفسدة ، أو خلوّه منهما ، أو استوائهما فيه الّذي يقتضي (١) الإباحة ، ثمّ يحكم عليه بما تقتضيه تلك الجهة من الأحكام الخمسة ، فإذا فرض حكمه على شيء بحكمين ، فاللازم منه بالنسبة إليه إنّما هو تعدّد التصوّر على حسب تعدّد الجهة المقتضية لهما وتعدّد العلم.

ومن المعلوم أنّه لا تنافي بين التصورين ولا بين العلمين بوجه ، فلا يلزم من اجتماع اثنين من تلك الأحكام بالنسبة إليه ـ أيضا ـ محذور أصلا.

فإن قيل : إنّ في مقام الحكم واسطة أخرى بين الحكم وبين العلم بالجهة

__________________

(١) في الأصل : اللذين يقتضيان.

١٦٢

المقتضية له ، وهي الإرادة أو الكراهة النفسانيّتين (١) أو الرضا بطرفي الفعل والترك على حدّ سواء ، فإنّ الحاكم إذا تصوّر الفعل وتصوّر ما فيه من الجهة : فإن كانت تلك الجهة هي المصلحة الملزمة ينشأ (٢) منها في نفسه إرادة حتمية للفعل من المحكوم ، ثمّ ينشأ من تلك الإرادة الحكم عليه بالوجوب.

وإن كانت هي المصلحة الغير الملزمة ينشأ (٣) منها في نفسه إرادة غير بالغة إلى مرتبة الحتم بحيث يجتمع مع الرضا بالترك ، ثمّ ينشأ من تلك الإرادة الحكم عليه بالاستحباب.

وإن كانت هي المفسدة الملزمة ينشأ (٤) منها في نفسه كراهة حتمية للفعل ، ثمّ ينشأ من تلك الكراهة الحكم عليه بالحرمة.

وإن كانت هي المفسدة الغير الملزمة ينشأ (٥) منها في نفسه كراهة حتمية للفعل غير بالغة حدّ الحتم ، ثم ينشأ منها الحكم عليه بالكراهة والنهي عنه تنزيها.

وإن كانت هي خلوه من المصلحة والمفسدة رأسا أو استواؤهما فيه ينشأ (٦) منها في نفسه الرضا بطرفي الفعل والترك على حدّ سواء ، فينشأ منه الحكم عليه بالإباحة.

ومن البديهي عند كلّ أحد ـ أيضا ـ ثبوت التضادّ بين الإرادة والكراهة ، وكذا بين كلّ منهما وبين الرضا بطرفي الفعل والترك على حدّ سواء ، وكذا بين كلّ مرتبة من كلّ منهما وبين المرتبة الأخرى منه ، فيلزم من إيراد الحاكم حكمين من

__________________

(١) المراد بالإرادة النفسانيّة هو الحبّ للشيء (أ) والشوق المؤكّد إليه وبالكراهة النفسانيّة هو البغض له (ب) لمحرّره عفا الله عنه.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) في الأصل : فينشأ ..

__________________

(أ) في الأصل : الحبّ بالشيء.

(ب) في الأصل : البغض به.

١٦٣

تلك الأحكام على شيء واحد اجتماع الضدّين في نفسه.

قلنا : إنّ توسّط الإرادة والكراهة أو الرضا مسلّم فيما إذا كان الحاكم غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وأما إذا كان هو ـ سبحانه ـ فغير معلوم ، بل ذهب جمع من محققي المتكلّمين إلى أنّ معنى كونه تعالى مريدا إنّما هو علمه بالأصلح بحال العباد ، والغرض إنّما هو رفع التنافي بين أحكامه.

وعلى تسليم توسّطها في حقّه تعالى أيضا نقول : إنّها وإن كانت مضادّة ، لكنّها كسائر الأمور المضادة إنّما يمتنع اجتماع اثنين منها إذا كان موردهما متحدا ، وأمّا مع تعدّده وتغايره فلا ، ومواردهما (١) في محلّ الكلام متعدّدة ومتغايرة ، فإنّ متعلّق كلّ منهما إنّما هو العنوان المتضمّن له ، فمتعلّق الإرادة والكراهة بعينه هو متعلّق المصلحة والمفسدة ، كما أنّ متعلّق كلّ من الحكمين إنّما هو العنوان المتضمّن للجهة الداعية إليه ، فإنّ كلا من المصلحة والمفسدة إنّما تدعوا إلى إرادة ما تضمّنتها أو كراهته وإلى طلبه أو طلب تركه ، ونحن لمّا فرغنا عن تعدّد مورد المصلحة والمفسدة في المقام السابق ، فلا يرد علينا محذور من جهة اجتماع الإرادة والكراهة بالنسبة إلى المكلّف ـ بالكسر ـ في هذا المقام.

والحاصل : إنّ الإرادة والكراهة ناشئتان من المصلحة والمفسدة وتابعتان [ لهما ] ، وكل واحدة ثابتة لعنوان مغاير للعنوان الّذي ثبتت له الأخرى ، والأمر والنهي ناشئان عن الإرادة والكراهة ، فيتعلّق كلّ منهما بما نشأ منها (٢) ، ويتّحد موضوعه معه.

فإن قيل : إنّ الأحكام لا بدّ من تعلّقها بفعل المكلّف الاختياري ، فإنّها تابعة للحسن والقبح ، ومن المعلوم أنّ المتّصف بهما إنّما هو فعله الاختياري ، وفعله

__________________

(١) في الأصل : ومواردها.

(٢) في الأصل : منه.

١٦٤

إنّما هو ما يصدر منه ، وهو ليس إلاّ الأشخاص والأفراد ، دون العناوين والوجوه الصادقة عليها ، فلو سلّمنا أنّ مورد المصلحة والمفسدة إنّما هو تلك العناوين نمنع من تعلّق الأحكام بها.

والإرادة والكراهة ـ أيضا ـ لا بدّ من تعلّقهما بفعله الاختياري ، إذ لا يعقل إرادة غير فعله منه ، وكذا كراهته ، فتكون تلك العناوين واسطة لثبوت تلك الأحكام والإرادة والكراهة لنفس الأفراد التي منها مورد اجتماعها في محلّ الكلام ، وهو صورة مخالفة الحكم الواقعي مع الظاهري ، فيلزم اجتماع الإرادة والكراهة في الواحد الشخصيّ ، وهو مورد الاجتماع.

قلنا : مراد من قال بتبعية الأحكام للحسن والقبح إنّما هو تبعيّتها للمصالح والمفاسد الثابتتين للأشياء قبل إيراد حكم عليها ، وإطلاق الحسن والقبح عليهما شائع ، إذ كثيرا [ ما يقال ](١) للشيء أنّه حسن باعتبار اشتماله على مصلحة ، أو أنّه قبيح باعتبار اشتماله على مفسدة ، وقد يقال للشيء الواحد أنّه حسن وقبيح باعتبار اشتماله على مصلحة من جهة وعلى مفسدة من أخرى ، وأمّا الحسن والقبح بمعنى المدح والذم ـ كما قد يطلقان عليهما ـ فلا ، بل لا يعقل تبعيتها لهما بهذا المعنى ، ضرورة أنّ المدح والذمّ إنّما هما من آثار الإطاعة والعصيان ، وهما لا يتحقّقان إلاّ بالأمر والنّهي ، فكيف يعقل تبعيّة الأمر والنهي لما لا يتحقّق إلاّ بهما؟!

وبالجملة : الحسن والقبح ، ـ بمعنى المدح والذمّ ـ وإن كانا قائمين بالأشخاص دون المفاهيم ، لكن تبعيّة الأحكام وما يلزمها من الإرادة والكراهة لهما ممنوع ، بل غير معقولة ، لما عرفت ، وهما ـ بمعنى المصلحة والمفسدة ـ وإن كانا قائمين بالعناوين من حيثية الوجود ـ كما عرفت سابقا ـ لكن تبعية الأحكام وما

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

١٦٥

يلزمها لهما غير خفيّ على المتأمّل.

وما ذكر من أنّ فعل المكلّف ليس إلا الأشخاص ممنوع ، بل فعله إنّما هي نفس الطبيعة ، والأشخاص ليست إلاّ وجوداتها ، وبعبارة أخرى : إنّ الأشخاص عين صدور الطبيعة من المكلّف.

ولو سلّمنا نقول : إنّه لا يجب أن تكون الأحكام متعلّقة بفعل المكلّف ، بل يجب تعلّقها بما يكون مقدورا ، ومن المعلوم ثبوت قدرته على الطبائع باعتبار تمكّنه ممّا يحصّلها وهي الأفراد.

والحاصل : أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي الطبائع من الحيثية التي هي بها منشأ للآثار ، وهي حيثية وجودها الخارجي الّذي هو عين الأفراد ، وذوات الأفراد خارجة عن موضوعها ، وحيثيتها مأخوذة فيه ، وذلك لأنّ حال الشارع في المقام (١) حال أحد منّا ، والّذي نجده من أنفسنا في مقام الحكم والطلب أنّا لا نلاحظ الأفراد من حيث هي حينئذ بوجه ، بل نجد الّذي نطلبه أو نطلب تركه أو نبيحه أمرا وحدانيا ، وهو نفس الطبيعة ، ولو كان هو الأفراد لوجدناه (٢) متعدّدا.

وإن قيل : سلّمنا أنّ الأمر والنهي يتبعان المصلحة والمفسدة دون المدح والذمّ ، وأنّ المصلحة والمفسدة قائمتان بالعنوانين المتغايرين في الذهن ، لكن مجرّد تعدّد موضوعهما وتغايرهما في الذهن لا يجدي في جواز اجتماع الحكمين في مورد اجتماعهما ، إذ بعد فرض تصادفهما فيه تجتمع فيه المصلحة والمفسدة الثابتتان لذينك العنوانين ، فحينئذ إن كانت إحداهما أقوى من الأخرى فالحكم الفعلي يستتبع تلك الأقوى ولا تؤثّر الأخرى حينئذ في الحكم الّذي تقتضيه لو لا مزاحمتها بأقوى منها ، فيكون الحال فيه كما في صورة اجتماع عنوان الكذب الّذي

__________________

(١) في الأصل : مقام.

(٢) في الأصل : لنجده.

١٦٦

هو قبيح ذاتا مع عنوان حسن ذاتي أهمّ منه كحفظ نفس أو عرض ونحوهما ، فيكون الحكم الفعلي الواقعي في مقامنا مستتبعا لأقوى الجهتين ، فلو كانت هي جهة الحكم الظاهري لانقلب (١) الواقع الأوليّ ـ واقعا ـ إلى الظاهري بحيث لا حكم حينئذ للمكلّف سواه ، كما أنّ الكذب المتّحد مع عنوان حفظ النّفس ليس حكمه واقعا إلاّ الوجوب ، وإلاّ فلا يقتضي شيء منهما ما (٢) كانت تقتضيه من الحكم أصلا ، بل الحكم الفعلي حينئذ إنّما هي الإباحة ، وذلك لأن المصلحة والمفسدة كسائر العلل إذا اجتمعنا في مورد واحد يقع (٣) الكسر والانكسار فيما بينهما لا محالة ، لا بمعنى أنّ إحداهما تنقض الأخرى أو تزيلها رأسا ، بل بمعنى أنّهما يتصادمان من حيث التأثير الفعليّ ، فإن كانت إحداهما أقوى فهي تغلب الأخرى ، وتؤثّر أثرها فعلا ، وتبقى الأخرى بلا أثر فعليّ ، وإلاّ فلا أثر لشيء منهما حينئذ ، بل يكون المورد كالخالي عن المصلحة والمفسدة من حيث كون حكمه هي الإباحة ، فإنّ كل واحدة إذا زوجت بالأخرى تكون كالمعدومة.

فعلى هذا إذا فرض أنّ مقتضى دليل الواقع إنّما هو الوجوب ـ مثلا ـ ، ومقتضى دليل إثبات الحكم الظاهري هي الحرمة ، فمع فرض كون جهة الوجوب في مورد الاجتماع أقوى لا بدّ من تخصيص دليل إثبات الحكم الظاهري ، ومع فرض كون جهة الحرمة أقوى لا بدّ من تخصيص دليل الواقع بغير تلك الصورة ، ومع تساويهما لا بدّ من تخصيص كلا الدليلين.

قلنا : هذا إنّما يلزم بناء على تعلّق الأحكام بالأشخاص التي منها مورد الاجتماع في محلّ الكلام ، دون الطبائع ، وقد مرّ عدم المانع من الثاني ، بل تعيّنه ، وعليه فمورد الاجتماع غير داخل في شيء من الدليلين أصلا وغير محكوم عليه

__________________

(١) في الأصل : فينقلب.

(٢) في الأصل : لما.

(٣) في الأصل : فيقع.

١٦٧

بحكم أحد العنوانين ، فلا يلزم ما ذكر من المحذور.

نعم يتّصف بحكم كلّ منهما من باب العرض والمجاز.

وإن قيل إنّك سلّمت ثبوت التضادّ بين صفتي الإرادة والكراهة النفسيّتين ، وإنّما دفعت محذور اجتماعهما بتعدد المتعلّق ، لكنه إنّما يجدي مع تعدّد متعلّقهما في الخارج ـ أيضا ـ ومجرّد تعدّدهما في الذهن غير مجد مع فرض تصادفهما في مورد.

وذلك لأنّه كما يمتنع اجتماع الضدّين ، كذلك يمتنع صيرورة شيء واحد مصداقا لهما ، فإنّه ـ أيضا ـ آئل إلى الأول كما لا يخفى ، فإذا فرض أنّ أحد العنوانين مراد والآخر مكروه ، فيلزم كون مورد الاجتماع مرادا ومكروها وهو محال ، فيكون ملزومه ـ أيضا ـ كذلك.

قلنا : سلّمنا أنّ المراد والمكروه عنوانان متضادّان لكنّ الطبيعتين الموصوفتين بهما لا تتصادقان في مورد الاجتماع مع ثبوت الاتّصاف بهما فعلا ، وذلك لأنّ معنى الإرادة النفسيّة هو الحبّ للشيء (١) والشوق المؤكّد إليه ، ومعنى الكراهة النفسيّة إنّما هو البغض له (٢) ، ومن المعلوم أنّهما لا يعقل تعلّقهما بالطبائع من حيث هي ، بل إنّما تتعلّقان بها من حيثية وجودها الخارجيّ ، فإنّهما من مقولة الطلب ، نظير الأمر والنهي ، وإنّما الفرق بينهما وبين الأمر والنهي أنّهما طلبان من جانب القلب ، ويكون الطالب فيهما هو القلب ، والأمر والنهي طلبان من الشخص ، والطالب فيهما هو ، والطلب إنّما يتعلّق بالشيء من حيثية وجوده الخارجي ، ومن المعلوم أنّه بمجرّد تحقّق تلك الحيثية لا يعقل بقاؤه ، لاستلزام بقائه طلب الحاصل ، فالطبيعة المرادة المحبوبة قبل وجودها مرادة ومحبوبة ، لكنها غير مجامعة للطبيعة الأخرى المكروهة ، وبمجرّد وجودها ـ ولو في ضمن مورد

__________________

(١) في الأصل : هو الحبّ بالشيء.

(٢) في الأصل : هو البغض به.

١٦٨

اجتماعهما ـ ترتفع عنها تلك الصفة ، فهي حال اجتماعها مع تلك الطبيعة غير متّصفة بصفة الإرادة حتى يلزم اجتماع الضدّين.

وبالجملة : الأوصاف : منها ما لا قيام لها بموصوفها إلاّ في عالم الذهن ، كالكلية للمفاهيم ، ومنها ما لا قيام لها بموصوفها إلاّ في عالم الخارج ، كالألوان ، والحرارة ، والبرودة ، والطعوم : كالحلاوة ، والحموضة ، والملوحة ، ونحوها.

والطلب نظير القسم الأول ، أو منه ، فافهم.

هذا تمام الكلام وكمال النقض والإبرام في دفع التنافي بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على نبيّه محمّد وآله الطاهرين.

وقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكره المصنّف ـ قدّس سرّه ـ في وجه الدفع من تعدّد موضوعهما بمجرّده غير مجد ، فإنّه إنّما ينفع في رفع محذور اجتماع الضدّين ، لكنه لا يرفع محذوري التكليف بغير المقدور ، وتفويت المصلحة على المكلّف ، أو إيقاعه في المفسدة المشار إليهما في المقام الأول من المقامات الثلاثة المتقدّمة ، إذ من المعلوم أنّ تعدّد موضوعهما على تقديره إنّما هو بحسب الذهن ، وهو بنفسه لو كان مصحّحا لإيراد الأمر والنهي على شيء واحد لكان مصحّحا في مسألة اجتماع الأمر والنهي المعروفة ، مع أنّه ـ قدّس سرّه ـ لا يلتزم به ، فتأمّل (١).

ثمّ إنّه يتفرّع على ما ذكرنا في المقام الأول ـ من وجه دفع المحذورين

__________________

(١) وجه التأمّل : أن مسألة اجتماع الأمر والنهي مغايرة للمقام من حيث فرض المندوحة للمكلّف في امتثال الأمر فلا يلزم من الأمر ثمّة التكليف بغير المقدور. نعم يلزم من فرض الاجتماع ثمّة طلب غير المقدور تخييرا ، وهو أيضا قبيح كالتكليف بغير المقدور ، لكن تعدّد الجهة لو كان مجوّزا للتكليف بغير المقدور لكان مجوّزا له ـ أيضا ـ قطعا ، فإنّ قبحه لو لم يكن أخفى من قبح التكليف بغير المقدور لم يكن أجلى منه ، فالملتزم بجواز الاجتماع مع لزوم التكليف بغير المقدور لا بد أن يلتزم به مع لزوم طلب الغير المقدور تخييرا أيضا. لمحرّره عفا الله عنه.

١٦٩

المشار إليهما ـ صحّة البناء على وجود الأمر واقعا في مسألة اجتماع الأمر والنهي حال نسيان المكلّف للنهي وغفلته عنه أو عن القضيّة ، لجريان الوجه فيه بعينه ، فإنّه حينئذ معذور في مخالفة النهي ، فيصحّ توجّه الأمر إليه حينئذ.

فعلى هذا لا حاجة في توجيه صحّة عمله إذا كان عبادة إلى التجشّم لكفاية (١) جهة الأمر ، بل المصحّح حينئذ هو وجود نفس الأمر في نفس الأمر فعلا مع فرض كونه هو الداعي للمكلّف نحو الفعل ، فإنّ المفروض اعتقاده لشمول الأمر بالنسبة إلى مورد الاجتماع ، فاغتنم.

ثمّ أنّه يمكن دفع محذور اجتماع الضدّين بالنظر إلى المصلحة والمفسدة ، والإرادة والكراهة بنحو آخر لم يتعرّض له ـ دام ظلّه ـ وهو أن يقال :

إنّه لا يجب أن يكون الداعي للأمر بسلوك الطرق والأمارات الغير العلميّة ـ وكذا الأصول ـ مصلحة قائمة بنفس السلوك المتّحد مع موضوع الأحكام الواقعية ، حتى يتوهم منه لزوم اجتماع الضدّين بالنظر إلى نفس المصلحة والمفسدة ، وبالنسبة إلى لوازمها من الإرادة والكراهة ، نظرا إلى اتّحاد مواردها بالنسبة إلى مورد اجتماع العنوانين ، بل يمكن ان يكون ذلك مصلحة قائمة بنفس الأمر بالسلوك على طبقها ، فإنّ الالتزام بالمصلحة ـ في مقام نصب الطرق والأمارات وجعل الأصول ـ إنّما هو لأجل رفع محذور لزوم السفه والعبث في فعل الحكيم ، إذ لولاها لزم نقضه لغرضه مع تمكّن المكلّف من تحصيله ، ويكفي في رفعه وجود مصلحة في نفس الطلب المتعلّق بالسلوك على طبق الطرق والأمارات والأصول ، لا في السلوك ، ويكفي كونها مجرّد التوسعة على العباد ، فيختلف مورد المصلحة والمفسدة ولوازمهما في الخارج ـ أيضا ـ ، فلا يلزم الاجتماع بينهما ولا بين لوازمهما بوجه (٢).

__________________

(١) في الأصل : ( إلى التجشم بكفاية ). والأصحّ : إلى تجشّم كفاية ...

(٢) كذا في الأصل ، والأصوب : فلا يلزم اجتماعهما ولا اجتماع لوازمهما بوجه.

١٧٠

وأمّا صحة وقوع التسهيل حكمة وصلاحيته لذلك الحكم ، فتوضيحه على نحو الاختصار :

أنه لو أراد الشارع من نوع المكلفين ـ مع تمكنهم من امتثال التكاليف الواقعية علما ـ امتثالها كذلك ، لكان مخالفة تلك التكاليف حينئذ أكثر منها على تقدير أمرهم بامتثالها بالطرق والأمارات والأصول ، فإن بعضهم وإن لم يكن حاله كذلك ، لكن حال أكثرهم كذلك ، ضرورة ما نشاهد من صعوبة امتثال تلك التكاليف بالطرق والأمارات ومشقته على أنفسهم بحيث يخالفون مع ذلك كثيرا من التكاليف الثابتة عليهم ، فكيف بامتثالها بطريق القطع؟! بل لو أراد منهم الشارع امتثالها بطريق العلم لكان أشق عليهم ذلك ، وسببا لمخالفتهم أكثر منها على تقدير امتثالها بالطرق الظاهرية ، فإذا كان حالهم كذلك فاللطف يقتضي اختياره لما يكون مخالفته وفوت المصالح الواقعية أقل منهما على تقدير اختياره لأمر آخر مستلزم لأكثر منهما على تقدير اختياره ، فلعل هذا الوجه أظهر مما اختاره ـ دام ظله ـ من التزام مصلحة في نفس السلوك على طبق الطرق والأصول.

والمصنف ـ قدس سره ـ كان في أول زمان تأليف الرسالة مختارا لما اختاره ـ دام ظله ـ ثم رجع أخيرا حين قراءتنا عليه مسألة المظنة (١) ، واختار ذلك ، وضعف ما اختاره أولا : بأنه نوع من التصويب ، فإنه إذا كان عنوان السلوك نفسه متضمنا لمصلحة معادلة لمصلحة الواقع على تقدير فوتها ، أو مفسدته على تقدير وقوع المكلف فيها ـ لسلوكه على طبق الطرق والأمارات بحيث يتدارك بها هاتيك المفسدة أو تلك المصلحة ـ فلا يعقل أن يكون شيء منهما مع اتحاد الفعل المتضمن له مع عنوان السلوك مقتضيا فعليا لما كان يقتضي لو لا اتحاد

__________________

(١) يريد بها مبحث الظن من ( فرائد الأصول ) للشيخ الأعظم ( قده ) المعنون بـ ( المقصد الثاني في الظن ).

١٧١

مورده مع عنوان السلوك ، ضرورة أن المفسدة المتداركة في قوة المعدومة ، وكذا المصلحة المتداركة في قوة الحاصلة.

ومن البديهي أنه مع عدم المفسدة لا يعقل النهي ، وكذا مع وجود البدل لمصلحة فعل لا يعقل الأمر به نفسا ، بل لا بد منه تخييرا ، ولازم ذلك انتفاء الخطاب المشترك بين العالم والجاهل ، وهل هذا إلا من التصويب ، فإن التصويب وإن لم ينحصر فيه ، فإن منه ـ أيضا ـ القول بانتفاء المفسدة والمصلحة الواقعيتين في حق الجاهل رأسا الّذي هو خلاف اتفاق الخاصة.

إلا أن الظاهر أن هذا النوع ـ أيضا ـ خلاف اتفاقهم ، فإن ظاهرهم وجود خطاب مشترك بين العالم والجاهل ، لا مجرد المصلحة والمفسدة.

هذا خلاصة ما أفاده ـ قدس سره ـ في مجلس الدرس.

أقول : ويضعفه ـ أيضا ـ دوران العقاب في مخالفة الأوامر الظاهرية مدار مخالفة الواقع ، فإن لازم كون نفس عنوان السلوك مشتملا على المصلحة ، وكون تلك المصلحة هي الداعية إلى تلك الأوامر كون الفعل المأمور به بتلك الأوامر واجبا نفسيا ، ولازم ذلك كون موافقة تلك الأوامر من حيث هي ـ ولو لم يكن في مواردها أمر واقعي ـ امتثالا حقيقة ، ومنشأ لاستحقاق الثواب على تلك الموافقة من حيث هي موافقة لتلك الأوامر ، وكون مخالفتها ـ من حيث إنها مخالفتها ـ معصية موجبة لاستحقاق العقاب على هذه المعصية ، ولازم ذلك تعدد الثواب والعقاب في صورة مصادفة تلك الأوامر للواقع مع موافقتها أو مخالفتها.

فإن قيل : إنه ما معنى ما اشتهر بينهم من ( أن من أصاب فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر واحد ).

قلنا : مورده إنما هو الاجتهاد ، لا العمل ، وكلامنا في الثاني ، فلا تغفل.

والحاصل : أنه لا يتحقق معصية في مخالفة تلك الأوامر حقيقة ولا امتثال وإطاعة في موافقتها كذلك ، بل المتحقق إنما هو التجري والانقياد ، فلو كان هناك

١٧٢

ثواب فإنما هو على مجرد الانقياد ، أو عقاب فإنه على مجرد التجري.

وكيف كان ، فما اختاره ـ قدس سره ـ في كيفية نصب الطرق خال عن الإشكال.

إن قيل : لم يقم إجمال في الأوامر الظاهرية على دوران العقاب مدار مخالفة الواقع ، بل المصرح به في كلمات جمع من الأعلام الخلاف فيه ، بل ذهب بعض منهم إلى ثبوت العقاب في مخالفتها ولو لم يصادف مخالفة الواقع ، وكيف كان ، فليس عدم العقاب على مخالفة الأوامر الظاهرية أمرا مفروغا عنه حتى يستدل به على ملزومه.

قلنا : هذا الّذي ذكرنا إنما هو بالنظر إلى مخالفة الأوامر الظاهرية من حيث كونها تكاليف شرعية مع قطع النّظر عن ملاحظة اتحاد مخالفتها مع عنوان آخر ، وذلك الخلاف إنما هو في عنوان التجري من حيث أنه تجري على المولى ، فهو غير ما نحن فيه ، ويكشف عن مغايرته للمقام جريانه بالنسبة إلى موارد الطرق العقلية الصرفة ، كالقطع ، والظن عند الانسداد ، ضرورة أنه لا حكم من الشارع هناك حتى يقتضي الامتثال.

وبعبارة أخرى : كلامنا في المقام في ثبوت العقاب وعدمه بعد الفراغ عن ورود أمر من الشارع في مرحلة الظاهر ، وثمة في حرمة التجري من حيث هو ذلك العنوان وأن الشارع هل حرمه كسائر المحرمات الواقعية ولو لم يكن للمورد تكليف في الواقع أصلا ، ومن يدعي حرمته يدعي استحقاق العقاب عليه ، ويحتج به على حرمته شرعا ، فلا تغفل.

فإن قيل : إن حاصل ذلك الوجه : أن الأمر على طبق الطرق والأمارات الغير العلمية أو الأصول ، والسلوك على مقتضاها إنما هو لمصلحة في الأمر ، لا في المأمور به ، فتكون الأوامر الظاهرية ـ التي ليس في مواردها أمر واقعي ـ نظير الأوامر الابتلائية ، فلم تكن تلك الأوامر أوامر حقيقية يقصد منها امتثالها من

١٧٣

حيث هو ، ومقتضى ذلك عدم علم المكلف بكونه مكلفا بشيء قامت الطرق ، أو الأمارات على وجوبه ، أو على حرمته ، أو اقتضى الأصول ذلك ، فحينئذ فما المحرك له نحو الامتثال والسلوك على مقتضاها ، فإن الأمر الغير الحقيقي إنما يكون محركا إذا اعتقد المكلف كونه واقعيا ، وأما مع اعتقاده بكونه غير حقيقي ـ وغير مراد منه الامتثال حقيقة ، وأنه لا يلزم منه عقاب على العصيان لذلك ، وأن تكليفه حقيقة دائر مدار الواقع ـ فلا يعقل ذلك ، واللازم باطل ، ضرورة علم كل أحد بكونه مكلفا بمجرد قيام واحد من الطرق أو الأصول أو الأمارات على ثبوت تكليف في حقه ، فالملزوم مثله.

قلنا : نلتزم بالملزوم ، ونمنع بطلان اللازم ، فإن غاية ما هنا أنه بمجرد قيام شيء من الأمور المذكورة على تكليف يتحرك المكلف نحو الفعل أو الترك إذا لم يكن بانيا على العصيان ، لكنه ليس لأجل علمه بكونه مكلفا واقعا ، بل لأجل احتمال التكليف المحتمل ـ في موارد تلك الأمور ـ المنجز عليه على تقديره واقعا ، فإن تلك الأمور وإن لم تحدث في حقه تكليفا حقيقة ، لكنها توجب تمامية الحجة عليه في التكليف الموجود في مواردها على تقديره ، بحيث لا يكون المكلف معها معذورا في مخالفته ، فيكون المحرك له نحو الفعل أو الترك هو مجرد احتمال العقاب ، هذا ، فافهم واغتنم ، والله العالم بحقائق الأمور.

تنبيه : كل ما ذكرنا في بيان توهم المنافاة بين الأحكام الظاهرية والواقعية إنما هو بعد فرض وجود حكم ظاهري وواقعي ، فيختص مورده بموارد الطرق الشرعية ، فإن الطرق العقلية لا توجب حدوث حكم من الشارع في مرحلة الظاهر على طبق مؤداها حتى يقال : إنه ينافي الحكم الواقعي المخالف له ، أو لا ينافي ، بل غاية ما يترتب عليها إنما هو مجرد معذورية المكلف ورفع العقاب عنه.

ثم إنه بعد ما ظهر عدم المنافاة بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، ظهر

١٧٤

لك أنه لا تعارض بين الأدلة الاجتهادية الكاشفة عن الأحكام الواقعية وبين الأصول العملية المقتضية لخلاف مؤداها.

ثم إن كل دليلين غير متعارضين إن لم يكن الحكم المدلول عليه بأحدهما مترتبا على الجهل بالحكم المدلول عليه بالآخر ، فالمكلف مكلف في جميع الحالات بالعمل بمؤدى كليهما وإلا ـ بأن يكون الجهل بأحد الحكمين مأخوذا في الموضوع الآخر ـ فالمكلف لا يكلف في شيء من الحالات إلا بالعمل بمقتضى أحدهما الّذي علم به ، فإنه حينئذ :

إن كان جاهلا بكليهما معا ، فهو غير مكلف بشيء منهما ، بل له حكم ثالث.

وإن كان عالما بأحدهما : فإن كان ذلك هو الحكم الّذي قد أخذ الجهل به موضوعا للحكم الآخر ، فلا يبقى مورد للآخر حينئذ أصلا لارتفاع موضوعه بالعلم ، وفي حكمه ما إذا دل دليل غير علمي معتبر على ثبوتا ذلك الحكم فإنه وإن كان لا يرفع موضوع الحكم الآخر ، إلا أنه رافع له من باب حكومة دليل اعتباره على الدليل المثبت لذلك الحكم الآخر.

وإن كان هو الحكم الّذي قد أخذ في موضوعه الجهل فهو معذور في الحكم الاخر وغير مكلف به حينئذ أصلا.

ومن هنا ظهر أن وجه ورود الأدلة على الأصول إن كانت علمية ، أو حكومتها عليها إن كانت ظنية ، إنما هو أخذ الجهل بالأحكام الواقعية ـ التي هي مؤديات الأدلة ـ في موضوع الأصول ، فيكون ورودها أو حكومتها عليها مترتبا على ذلك.

وظاهر كلام المصنف ( قده ) ـ حيث إنه بعد بيان عدم المنافاة بين الأحكام

١٧٥

الظاهرية والواقعية قال : ( فحينئذ الدليل المفروض (١) ... إلى آخره ) (٢) ـ أنه يترتب على عدم المنافاة بينهما ، فإن كلمة ( فاء ) ظاهرة في التفريع على ما سبق ، وقد عرفت عدم استقامة ذلك بأن مجرد عدم المنافاة بين الدليلين لا يقتضي بورود أحدهما على الآخر أو بحكومته عليه.

لكن مقصوده ـ قدس سره ـ ما ذكرنا ، نظرا إلى تعليله ما ذكره بقوله ـ بعد ذلك ـ : ( لأنه إنما اقتضى حلية مجهول الحكم ) (٣) ، فما أراده ـ قدس سره ـ حسن ، لكن صدر العبارة ليس بجيدة (٤) ، ولو كان بعده كلمة ( الواو ) مكان ( الفاء ) لكان حسنا.

ويمكن تصحيح إيراد ( الفاء ) المشعر بالتفريع : بأن ورود دليل على دليل آخر ، أو حكومته عليه مبني على أمرين :

أحدهما : عدم التعارض بينهما.

وثانيهما : كون الجهل بالحكم ـ المدلول عليه بذلك الدليل الحاكم أو الوارد ـ موضوعا للحكم المدلول عليه بالدليل الآخر ، فيكون الورود أو

__________________

(١) الموجود في الطبعات المتوفرة لدينا هكذا : « ... مجهول الحكم والدليل المفروض ان كان .... » ، ويبدو أن نسخته قدس سره كانت على ما ذكر.

انظر : طبعة الوجداني : ٤١٠ ، طبعة جماعة المدرسين ( النوراني ) : ٢ : ٧٥٠ ، وطبعة المصطفوي ٤٣١.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٠.

(٣) المناقشة هذه إنما ترد بناء على نسخة المصنف قدس سره ، وأما على الطبعات المتوفرة لدينا فلا ، لما تقدم في الهامش رقم (١).

(٤) حكمه بعدم جودة صدر العبارة يتضح من الهامش الأول والثالث وهو مناسب لنسخة الرسائل التي اعتمدها المحرر ( ره ) والتي نقل منها العبارة السابقة : ( فحينئذ .. ) ـ والظاهر انها نسخة غير مصححة ـ وأما نسخة وجداني والنوراني ومصطفوي فلا خلل فيهما فلاحظهما.

١٧٦

الحكومة متوقفا ومتفرعا على عدم التعارض في الجملة ، وهذا المقدار منه مصحح لإيراد كلمة ( الفاء ) ، فافهم.

ثم إنه لما كان المأخوذ في موضوع الأصول العملية هو الجهل بحكم الواقعة في الواقع ـ إما من جهة الشبهة في نفس الحكم الكلي الواقعي ، أو من جهة الشبهة في مصداقية المورد لموضوعه كما أشرنا إليه ـ فلازم ذلك أنه إذا قام طريق قطعي ـ على نفس الحكم ، أو على تعيين المصداق ـ يكون ذلك الطريق واردا على الأصول الجارية في المورد لولاه ، لكونه بمجرده رافعا لموضوعها حقيقة ، فلا يعقل التعارض بينه وبينها بوجه.

وأما إذا قام طريق ظني ـ من دليل أو أمارة ظنيين ، إما من جهة ظنية دلالتهما ، أو من جهة ظنية السند في الأول أو الصدق في الثاني ، أعني الأمارة ـ ففي وروده أو حكومته عليهما أو تعارضهما وجوه ، وتوضيحها يتوقف على بيان ميزاني الورود والحكومة أولا ، ثم بيان الوجوه المتصورة في كيفية اعتبار ذلك الطريق الظني ، وفي كيفية اعتبار الأصول الشرعية العملية ، وأن الظاهر من أدلة اعتبارهما ما ذا؟

فاعلم أن ميزان الورود : أن يكون الطريق الوارد بحيث يرفع موضوع المورود عليه ، ويخرج مورده حقيقة عن كون مصداقا لموضوع المورود عليه ـ كما أشير إليه ـ وذلك بأن يكون بنفسه رافعا للشك حقيقة.

وأما ميزان الحكومة : فأحسن ما يقال فيه : أن يكون الحاكم ـ أولا وبالذات وبنفسه (١) ـ مفسرا للمراد من المحكوم عليه ، ومبينا لكمية مدلوله ، لكنه غير رافع لموضوعه ، بل هو مع وجود الحاكم صادق على المورد ـ أيضا ـ وإنما

__________________

(١) قولنا : ( بنفسه ) إنما عدلنا إلى ذلك ، ولم نقل : ( بلفظه ) كما صنع المصنف ـ قدس سره ـ ، لأن الحاكم قد

١٧٧

الحاكم أوجب رفع الحكم المعلق عليه عن المورد.

والمراد من كونه مفسرا له أولا : أنه يكون بحيث لا يفهم التنافي بينه وبين المحكوم عليه من أول النّظر ، بل يكون كالقرائن المتصلة من حيث كونه موجبا لظهور المحكوم عليه في اختصاص الحكم الّذي تضمنه بغير مورد الحاكم ابتداء.

وبعبارة أخرى : ميزانه أن يكون بحيث يوجب ظهور المحكوم عليه في إرادة اختصاص الحاكم المعلق على الموضوع المذكور فيه بغير مورد الحاكم مع صدق ذلك الموضوع على ذلك المورد بنفسه ، وذلك بأن يكون ذلك الدليل الحاكم بمنزلة قول المتكلم ، أعني غير هذا المورد.

ومن هنا ظهر الفرق بينه وبين المخصص المنفصل ، فإنه ليس بحيث يوجب ظهور العام في اختصاص الحكم المعلق عليه بغير مورد التخصيص ، بل العام معه ـ أيضا ـ ظاهر في تعميم الحكم بالنسبة إلى ذلك المورد ، وإنما يقدم الخاصّ لترجيح ظهوره على ظهور العام ، فالعام والخاصّ متعارضان إلا أن الترجيح للخاص ، فيقدم عليه ذلك.

بخلاف الحاكم والمحكوم عليه ، فإن المحكوم عليه لا ظهور له في عموم الحكم بالنسبة إلى مورد الحاكم حتى يتعارضا ، بل ظاهر في اختصاصه بغير ذلك المورد وتظهر الثمرة بينهما في الدليلين الظاهرين ، فإنه على تقدير كون أحدهما حاكما على الآخر ، فيقدم على الآخر ، ولو كان من أضعف الظنون المعتبرة ، ولا يقدم عليه الآخر أبدا ، إلا أن تعارض الحاكم وتزاحمه قرينة أخرى غير المحكوم

__________________

يكون دليلا لبيا ، فلا يشمله اللفظ ، ومن هنا ظهر أن إيراده ـ قدس سره ـ ( قوله ) : ( بلفظ ) لا يستقيم. لمحرره عفا الله عنه.

١٧٨

عليه ، فإذا زاحمه أمر آخر يلاحظ (١) أحكام التعارض بينه وبين ذلك الأمر ، لا بينه وبين المحكوم عليه.

هذا بخلاف الخاصّ في مقام التخصيص ، فإنه لا يقتضي بمجرده تقديمه على العام ، بل يدور ذلك مدار رجحان ظهوره على ظهور العام ، فربما يكون ظهور العام أقوى من ظهوره (٢) ، فينعكس فيه الأمر.

والحاصل : أن الحاكم من حيث هو مقدم على المحكوم عليه كذلك دائما ، بخلاف الخاصّ ، فإنه لا يقدم على العام من حيث هو ، بل بملاحظة رجحان ظهوره على ظهوره ، فعليه يدور مدار تقديمه عليه.

والسر في ذلك : ما مر من أن الحاكم مع ظهوره مفسر للمحكوم عليه ، وموجب لظهور المحكوم عليه في اختصاص الحكم الّذي تضمنه بغير مورده ، فيدور تقديمه عليه مدار بقاء ظهوره من دون توقف على أمر آخر.

بخلاف الخاصّ ، فإنه بمجرد ظهوره لا يوجب صرف العام ، حتى يكون بنفسه مقدما عليه ، بل مع رجحان ظهوره ـ أيضا ـ لا يوجب صرفه ، وإنما يوجب ذلك تقديم ظهوره على ظهوره.

هذا ، ثم إن ما ذكره المصنف ـ قدس سره ـ من ميزان الحكومة ـ من كون الحاكم على وجه لو فرض عدم ورود المحكوم عليه لكان لغوا خاليا من المورد ـ ، فيه ما لا يخفى على من له دقة النّظر ، إذ لا يخفى أن أدلة اعتبار الأدلة الاجتهادية بأسرها حاكمة على أدلة اعتبار الأصول العملية الشرعية كما اختاره ـ قدس سره ـ وسيأتي توضيحه أيضا ، مع أنه ليس شيء منها بحيث لو فرض عدم دليل على اعتبار الأصول الشرعية العملية لكان لغوا خاليا عن الفائدة ،

__________________

(١) في الأصل ، فيلاحظ.

(٢) كما في العمومات الآبية عن التخصيص. لمحرره عفا الله عنه.

١٧٩

بل لها فائدة أخرى غير بيان كمية مدلول أدلة اعتبار الأصول الشرعية العملية ـ أيضا ـ وهي ورودها على الأصول العقلية المحكمة في المورد قبل الأصول الشرعية.

وكأنه قدس سره ـ زعم أن الحاكم لا بد أن يكون الغرض منه مجرد التفسير والبيان لدليل آخر ، فلذا يكون لغوا لولاه.

لكنه كما ترى ، بل مدار الحكومة على كون الحاكم على وجه يصلح لأن يكون بيانا ومفسرا لدليل آخر على خلافه على تقدير ذلك الدليل ولو كان الغرض منه غير تفسير ذلك الدليل أيضا.

نعم اتصافه فعلا بذلك العنوان يتوقف على وجود ذلك الدليل.

ثم إن ما ذكره ـ من لغوية دليل النافي لحكم الشك في النافلة ، أو مع كثرة الشك وغير ذلك لو لا الأدلة المثبتة لحكم الشك ـ.

ففيه أنه بدون تلك الأدلة وإن كان حكم الشك منفيا عن النافلة ، أو مع كثرة الشك بحكم العقل بالبراءة ، كنفيه به حينئذ عن غير ذلك المورد ـ أيضا ـ من غير احتياج في نفيه إلى ذلك الدليل أصلا ، لكن ليس كل ما لا يحتاج إليه يكون الإتيان به لغوا ، إذ ربما تكون له فائدة أخرى غير التفسير والبيان ، فيحسن الإتيان به ، وأقلها تأييد حكم العقل وتعاضده بالنقل ، وهو حاصل في المثال المذكور ، فلا وجه للحكم باللغوية على تقدير انتفاء تلك الأدلة ، فافهم.

هذا كله في بيان ميزاني الورود والحكومة.

أما الوجوه المتصورة في كيفية اعتبار الطرق والأمارات الظنية فأربعة :

أحدها : أن يكون اعتبارها على وجه السببية واقعا ، بأن يراد من أدلة اعتبارها علية قيامها لوجوب البناء على مقتضاها والعمل على طبقها.

وثانيها : أن يكون اعتبارها على وجه السببية ظاهرا ، بأن يراد من تلك الأدلة عليتها في مرحلة الظاهر لإحداث حكم بالعمل على طبقها.

١٨٠