تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

نفسها مرجحة إلا أنها أيضا كصفات الراوي من حيث عدم إفادتها شيئا ، كما لا يخفى.

فالحري أن يقال : إن المرجح الداخليّ هي المزية الراجعة إما إلى صفات الراوي أو إلى صفات لفظ الرواية ، كالفصاحة والأفصحية ، وككونها منقولة باللفظ والشهرة من حيث الرواية ، والخارجي بخلافه ، فيصدق على موافقة الكتاب والأصل والشهرة الفتوائية ، فإن كلا من الثلاثة من صفات معنى الرواية ، هذا.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وجعل المعتبر مطلقا خصوصا ما لا يؤثر في الخبر من المرجحات لا يخلو عن مسامحة ) (١).

مراده (قدس سره) من الجعل إنما هو جعل العلماء ، يعني تسميتهم المعتبر مرجحا ، لا جعل الشارع بمعنى وضعه وحكمه بلزوم الأخذ به ، فإنه بهذا المعنى واقع في الشريعة حقيقة ومن غير مسامحة ، ولا بمعنى تسميته ، لأنه لم يعبر عنه ولا عن غيره من المرجحات ـ أيضا ـ بلفظ المرجح في الأخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام حتى يقال : إنه على وجه الحقيقة أو المسامحة وإنما سماها العلماء بهذا الاسم.

ووجه المسامحة في تسمية مطلق المعتبر من المرجحات الخارجية بالمرجح أنه قد مر أن المرجح الخارجي هو ما يكون مستقلا بنفسه في الدليليّة على تقدير اعتباره في نفسه ، فإذا فرض اعتباره كذلك فهو بنفسه دليل على الحكم الّذي يفيد أحد الخبرين المتعارضين الموافق له ، فلا بد من الالتزام بذلك الحكم على تقدير الترجيح والعمل بالراجح منهما ، وعلى تقدير عدمه فلا يزيد على تقدير الترجيح به شيء ، بل الترجيح حقيقة راجع إلى العمل به ، لا بالراجح منهما فهو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٣.

٣٠١

مرجع في الحقيقة لا مرجح.

وأما وجه خصوصية ما لا يؤثر (١) منه في الخبر ، أن تسميته بالمرجح مسامحة أخرى وهي أن المرجح حقيقة ما يحدث بسببه رجحان لذيه بالنسبة إلى معادله ، والمفروض عدم إيجاب القسم المذكور ذلك.

والمسامحة من الجهة الأولى المشتركة بين جميع أقسام المعتبر مبنية على تعريفه السابق للمرجح الخارجي ، وقد عرفت ما فيه. وعلى ما ذكرنا فلا يوجد شيء من المرجحات يكون مستقلا بنفسه في الدليليّة على تقدير اعتباره ، فلا يلزم المسامحة من الجهة الأولى.

قوله ـ قدس سره ـ : ( كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقولة بالمعنى ) (٢).

أقول : إن النقل باللفظ وإن كان موجبا لأقربية مضمون المنقول به إلى الحق إلا أنه يكون موجبا لأقربية صدوره ـ أيضا ـ فلا يستقيم عده من المرجحات الراجعة إلى المضمون خاصة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وكالترجيح بشهرة الرواية ونحوها ) (٣).

أقول : أعد الشهرة من المرجحات إلى المضمون كما ترى ، إذ رب رواية مشهورة تحققت شهرة الفتوى على خلافها ، والحري عدها من المرجحات الراجعة إلى الصدور فحسب ، بل هي أقواها ، إذ لا شبهة أن الشهرة من حيث الرواية أقوى في إفادتها أقربية موردها إلى الصدور من صفات الراوي التي عدها المصنف (قدس سره) من المرجحات الراجعة إلى الصدور.

قوله ـ قدس سره ـ : ( بل اقترانهما تحير السائل فيهما ) (٤).

__________________

(١) والصحيح ما أثبتناه في المتن وكان في الأصل ( ما يؤثر ) بدون كلمة ( لا ).

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٣.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٣.

(٤) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٤.

٣٠٢

وذلك لأن العام والخاصّ ـ الذين هما أظهر موارد الجمع العرفي لا يصار معه إلى الأخبار العلاجية ـ ربما يعدان متنافيين متعارضين مع عدم فرض اقترانهما بحيث التحير للإنسان ، لكن إذا فرضهما مقترنين يرفع عنه هذا التحير لعدم فهم التنافي بينهما إذا كانا مقترنين عرفا بوجه ، فلا بد للعامل بالأخبار العلاجية في مورد من فرض صدور كلا المتعارضين وفرض اقترانهما أيضا فإن حصل له التحير ـ حينئذ ـ على وجه يحتاج في فهم مراد الشارع إلى بيان آخر منه فله العمل بتلك الأخبار ، وإلا فلا.

قوله ـ قدس سره ـ : ( نعم قد يظهر من عبارة الشيخ في الاستبصار خلاف ذلك إلى قوله فضلا من الظاهر والأظهر ) (١).

لا بأس بإعادة الكلام في تحقيق المرام في الخبرين المتعارضين على نحو الإجمال توضيحا لضعف مقالة من مال إلى خلاف المذهب المنصور الّذي عليه الجمهور.

فاعلم أن فيهما ثلاثة أقوال من حيث العمل فيهما بالمرجحات وعدمه :

أحدها : ما ربما يظهر من صاحب عوالي اللئالي من مراعاة قاعدة الجمع المتقدمة وإهمال المرجحات رأسا حتى فيما إذا توقف الجمع على التأويل في كليهما معا.

وثانيها : إعمال المرجحات مطلقا حتى في العام والخاصّ منهما كما يظهر من الشيخ قدس سره في الاستبصار.

وثالثها : ما عليه الجمهور الّذي ينبغي القول به من أنه يجب الأخذ بالمرجحات في غير النص والظاهر والظاهر والأظهر ، وفي تينك الصورتين بقاعدة الجمع.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٤.

٣٠٣

لنا على وجوب الأخذ بالمرجحات في الجملة في قبال صاحب عوالي اللئالي ومن وافقه ما مرّ سابقا ، من ظهور أخبار الترجيح فيه مع عدم اكتنافها بشيء يصلح لصرفها عنه ، فيظهر بذلك فساد القول الأول ، وعلى اختصاص الترجيح بتلك المرجحات بغير النص والظاهر والظاهر والأظهر ما مر غير مرة من ظهور تلك الاخبار في الاختصاص بما إذا كان المتعارضان في نظر العرف على وجه يحصل التحير لهم في المراد منهما على تقدير صدورهما من متكلم واحد واقترانهما بحيث يتوقف فهم المراد على بيان آخر غيرهما ، كما لا يخفى على المتأمل فيها حق التأمل ، والتحير على الوجه المذكور لا يحصل إلا في غير النص والظاهر والظاهر والأظهر.

والفارق بين هاتين الصورتين وبين غيرهما من صور التعارض إنما هو حكومة دليل اعتبار صدور النص والأظهر على دليل اعتبار ظهور الظاهر ، بخلاف سائر الصور ، لعدم حكومة لدليل اعتبار صدور واحد من المتعارضين الظاهرين على دليل اعتبار ظهور الآخر كما مرت الإشارة إليه غير مرة.

وتوضيحه : أنه لا ريب أن مقتضى دليل اعتبار صدور الخبر المشكوك الصدور ليس وجوب الاعتقاد بصدوره ، لأنه غير معقول ، إذ مجرد التعبد بذلك كيف يعقل تأثيره في الاعتقاد ولم يقل به أحد أيضا ، بل مقتضاه والمراد به إنما هو وجوب ترتيب الآثار الشرعية على صدوره واقعا عليه عند الشك ، ومن المعلوم أن من آثار صدور النص والأظهر كونهما قرينتين على صرف الظاهر من غير عكس فانه إذا قطع بصدورهما لا يشك أحد في كونهما كذلك.

وهذا في النص ظاهر.

وأما الأظهر هو وان لم يكن كالنص في عدم قابليته للتأويل ، بل يمكن فيه ذلك ، لكنه لا يمكن بمجرد الظاهر ، بل لا بد من قرينة أخرى ، بخلاف التأويل في الظاهر ، فانه يصح الاعتماد فيه على مجرد الأظهر ، فهو مع عدم بيان

٣٠٤

آخر (١) غير الظاهر ـ كما هو المفروض ـ كالنص في عدم قابليته للتأويل عرفا وكونه قرينة على صرف الظاهر ، ومثل ذلك لا يحصل لواحد من الظاهرين على تقدير صدورهما من متكلم واحد واقترانهما ، إذ لا يصلح واحد منهما لكونه متصرفا في ظاهر الآخر ولو كان التصرف في أحدهما خاصة كافيا في رفع التعارض عما بينهما مع كون النسبة بينهما هي العموم من وجه أيضا ، إذ لا شبهة في أنهما إذا كانا عامين من وجه ـ أيضا ـ على تقدير صدورهما واقترانهما يحصل التحير للعرف في فهم المراد منهما ، ولا أولوية عندهم لأحدهما في كونه بيانا للآخر ولا يحكمون ـ أيضا ـ بكون ظهور كل منهما صارفا لظهور الآخر ، ليكون كل منهما في نظرهم من المجملات ، بل ظهور كل منهما في تمام مؤداه متحقق عندهم ، إلا أنهم يتحيرون لأجل تنافي الظهورين في أن مؤدى أيهما هو مراد المتكلم ، فالحاصل عندهم من صدورهما واقترانهما إنما هو الدوران بين إرادة مؤدى هذا الظهور وبين إرادة مؤدى ذاك ، لا إجمال كل منهما في مؤداه ، والدوران المذكور ليس من الآثار المجعولة منهم أيضا ، بل إنما هو من الآثار العقلية الناشئة عن اجتماعهما لكونهما متنافيين (٢).

فمقتضى دليل صدور النص والأظهر ترتيب حكم صدورهما وهو كونهما متصرفين في الظاهر وصارفين له عليهما مع الشك في صدورهما من غير عكس ،

__________________

(١) إذ الكلام في المتعارضين انما هو بالنظر إلى أنفسهما مع قطع النّظر عن بيان آخر لمحرره عفا الله عنه.

(٢) وقد ظهر من ذلك الفرق بين المقام وبين المجملات فإن المجمل ما ليس له ظهور ، إما بداية ـ وهو المعبر عنه بالمجمل الذاتي ـ وإما لاكتنافه بما أوجب صرفه عن ظهوره الّذي كان له بدوا ـ وهو المعبر عنه بالمجمل العرضي ـ والظاهر أنه من المتعارضين مطلقا المفروض كون كل منهما في حد ذاته ظاهرا في مؤداه وقد تحقق أيضا عدم صلاحية واحد منهما على صرف الآخر أيضا فلا يكونان من المجملات مطلقا لعدم الإجمال في شيء منهما لا ذاتا ولا عرضا.

وبعبارة أخرى : المجمل هو الكلام الّذي يشك في المراد منه بعد الفراغ عن إرادة معنى منه لعدم ظهوره في تعيين المراد إما ذاتا أو عرضا ولا شيء من الظاهرين المتعارضين كذلك فإن الشك فيهما في أن ظهور أيهما مراد للمتكلم بعد الفراغ عن ظهور كل منهما. لمحرره عفا الله عنه.

٣٠٥

فيكون حاكما على دليل اعتبار ظهور الظاهر ومفسرا له من غير عكس ، فمعنى التعبد بصدورهما أنه يجب على المخاطب رفع اليد عن مقتضى الظاهر في موردهما في مرحلة الظاهر.

وأما في الظاهرين فلما لم يكن من آثار صدور واحد منهما التصرف في ظاهر الآخر فلا حكومة لدليل اعتبار صدور واحد منهما على دليل اعتبار ظهور الآخر ، بل يقع التعارض والتدافع بين دليل صدور كل منهما وبين دليل ظهور الآخر من غير ترجيح لواحد منهما.

وبالجملة : مقتضى دليل اعتبار صدورهما ليس إلا التعبد بصدور واحد منهما لا بعينه وترتيب الآثار ـ المجعولة شرعا التي يكشف هو عنها ـ عليه ، لا التعبد بصدور كليهما معا ، لا لأجل ما ذكر المصنف (قدس سره) ـ في مسألة أولوية الجمع ـ من كون التعبد بصدور كليهما مع التوقف في مؤداهما لغوا ، لمنعه بأنه إنما يلزم إذا لم يكن له فائدة أصلا ، ومن المعلوم أن نفي الثالث من فوائده ، بل لأجل ما مر من أنه لا يعقل التعبد بهما بالنسبة إلى مدلوليهما المطابقيين معا ، لاستلزام التعبد بما علم كذبه منهما ، بل الجائز انما هو التعبد بواحد منهما بلا عنوان ، فيكون نفي الثالث من آثار أحدهما لا بعينه ، لما مر من أنه مدلول التزامي تابع للمطابقي ، فإذا فرض أن التعبد لم يقع الا بالنسبة إلى المدلول المطابقي لأحدهما فهو تابع له ، لا لكليهما ، فالتعبد به يقتضي التعبد بذلك ، لأن التعبد بكل طريق ظني معناه ترتيب الأحكام الشرعية ـ التي يكشف عنها ذلك الطريق ولو التزاما عقليا ـ عليه مع احتمال مخالفته للواقع ، ومن المعلوم أن إرادة عدم الثالث ملزوم عقلي لإرادة المؤدى المطابقي لأحدهما ، فكشفه عن إرادة المطابقي ملازم مع كشفه عنه ، فيجب التعبد إذا كان من الأحكام الشرعية على تقدير ثبوته لا مطلق الأمر الثالث ولو كان عقليا ، والتأويل في أحدهما أو كليهما

٣٠٦

المستلزم لإجمالهما معا مطلقا (١) المؤدي إلى توقف في مؤدى كل منهما ليس مدلولا لواحد منهما بالضرورة ، ولا لمجموعهما ـ أيضا ـ لأن غاية ما يكشفان عنه حال الاجتماع على تقدير القطع بصدورهما معا إنما هو عدم إرادة ظاهر واحد منهما كما مرت الإشارة إليه ، لا إرادة معنى آخر غير الظاهر مما لم يكن ظاهره مرادا لإمكان عدم إرادة شيء منه أصلا ، واحتمال أن يكون الغرض من صدوره مصلحة أخرى من تقية ونحوها.

وعلى تسليم كشفهما مجتمعين عنه في صورة القطع بصدور كليهما معا فإنما هو من لوازم القطع بصدور كليهما ، ومن باب الاستدلال على تعيين أحد أطراف القضية المنفصلة بانتفاء سائر الأطراف ، لا من باب السببية بين نفس صدورهما معا وبينه حتى يقتضي دليل صدورهما التعبد به ، فيكون دليل صدور كل منهما حاكما على دليل اعتبار ظهور الآخر.

فظهر من ذلك كله عدم تمامية قاعدة الجمع في نفسها في غير النص والظاهر والظاهر والأظهر مطلقا ، حتى في العامين من وجه ، وأن غير تينك الصورتين من موارد عدم إمكان الجمع عرفا والتحير الّذي هو مورد الاخبار العلاجية.

وما قويناها به ـ في مطاوي الكلام فيها سابقا ـ من منع كون التأويل من آثار القطع نظرا إلى لزومه على تقدير جعل القضية فرضية ، خلاف ما يقتضيه دقيق النّظر ، فإن القضية الفرضية وإن كانت صادقة ، إلا أنه لرجوعها حقيقة

__________________

(١) قولنا ( المستلزم لإجمالهما معا مطلقا ) أي سواء كان التأويل في أحدهما أو في كليهما ، إذ على الأول لا يمكن الحكم في الظاهر يكون المؤول أحدهما بالخصوص ، بل إنما هو أحدهما لا بعينه فيسري الإجمال في كل منهما وعلى الثاني واضح اللهم إلا أن يكون للتأويل في كل منهما شاهد كان يكون لكل منهما مجاز شايع فيكون شيوعه معينا للمراد أو غير ذلك من القرائن المعينة بعد إرادة عدم الظاهر. لمحرره عفا الله عنه.

٣٠٧

إلى فرض انتفاء بعض أطراف القضية المنفصلة الموجب للعلم بترددها في سائر الأطراف ، فلا تغفل.

فإذن لا ينبغي الإشكال في شمول الأخبار العلاجية لغير تينك الصورتين مطلقا.

هذا مضافا إلى قيام الإجماع في الجملة والسيرة على عدم إعمال قاعدة الجمع في سائر الصور.

ومع الغض عن ذلك كله ـ أيضا ـ لا يمكن قصر الأخبار العلاجية على النصين المتعارضين بأن يقال : إن المراد منها إنما هو الأخذ بأحكام التعادل والترجيح فيما إذا كان التحير الحاصل للمكلف فيهما من جهة السند فقط فلا يجري في الظاهرين لكون التحير فيهما من جهة الدلالة ـ أيضا ـ لاحتمال التأويل في أحدهما أو كليهما مع عدم صلاحية أحدهما لكونه متصرفا في الآخر وبيانا له لأن ذلك يستلزم قلة مورد تلك الأخبار غاية القلة والندرة ، ضرورة قلة موارد تعارض النصين من الأخبار المتعارضة ، فلا يمكن قصرها عليهما ، ومع التعدي نقطع بعدم الفرق بين ما إذا كان الظاهر على وجه يكفي في الجمع بينهما التأويل في أحدهما وبين ما إذا كان متوقفا على التأويل في كليهما ، وعلى الأول ـ أيضا ـ نقطع بعدم الفرق بين العامين من وجه وبين غيرهما من الظاهرين المتباينين الذين يكفي في الجمع بينهما التأويل في أحدهما كقوله يجب غسل الجمعة وقوله ينبغي غسل الجمعة.

والحاصل : أن المتعارضين إذا كانا من قبيل النص والظاهر أو الظاهر والأظهر يتعين فيهما العمل على مقتضى قاعدة الجمع كما مر.

وإذا كانا نصين فلا شبهة ولا تراع في وجوب الرجوع فيهما إلى الأخبار العلاجية.

وأما إذا كانا ظاهرين فالأمر دائر فيهما بين أمور ثلاثة : العمل فيهما

٣٠٨

بمقتضى الأصل الأولي في كل طريقين متعارضين ، أو العمل بقاعدة الجمع الّذي يوافق العمل بالأصل من حيث عدم حجية أحدهما فعلا في مؤداه ، أو العمل باحكام التعادل والترجيح.

لا سبيل إلى الأول ، لقيام الإجماع على حجية أحدهما ولا إلى الثاني لذلك ، ولعدم اعتبار قاعدة الجمع فيهما في نفسها ـ كما مر ـ مضافا إلى الوجوه الأخر المتقدمة ، فيتعين الثالث وهو المطلوب.

لا يقال : سلمنا وجوب الرجوع في الظاهرين إلى الاخبار العلاجية ، لكن مقتضى القاعدة الرجوع إليها في النص والظاهر ، والظاهر والأظهر ، أيضا ، فإن النص والأظهر وإن كان من شأنهما على تقدير القطع بصدورهما التصرف في الظاهر لكنه من لوازم القطع بصدورهما فإن كل قرينة صارفة لا تكون صارفة الا مع العلم بها.

ألا ترى أن لفظ ( يرمي ) في قولنا رأيت أسدا يرمي ما لم يحصل العلم بصدوره واقترانه بلفظ الأسد لا يصلح لصرف الأسد عن ظاهره.

ومن المعلوم أن دليل صدورهما إنما يفيد التعبد بآثار صدورهما ، لا بآثار القطع بصدورهما ، فلا يكون حاكما على دليل اعتبار ظهور الظاهر ، فيكون الحال في الصورتين أيضا كما في الظاهرين من جهة حصول التحير فيهما في فهم المراد الموجب لدخولهما في الأخبار العلاجية.

لأنا نقول : المتوقف على العلم إنما هو الحكم بالصرف والعمل بمقتضاه ، لا نفس الصرف ، بل إنما هو من لوازم ذات القرينة ، فالعلم معتبر بعنوان الطريقية لا السببية ، فيقوم غيره مقامه.

إن قيل : سلمنا أن الصرف من لوازم صدور النص والأظهر ، لكنه من اللوازم العادية فلا يقتضي دليل صدورهما ترتيبه عليهما حال الشك في الصدور.

٣٠٩

قلنا : كونهما قرينتين في الظاهر ومتصرفين فيه من أحكام المحاورة (١) وهي وان لم يكن أصل جعلها من الشارع ، بل من العرف من زمان آدم عليه السلام منذ بنوا على كشف مقاصدهم بالمحاورة ، لكن بعد جعلها منهم قد اتخذها كل متكلم في أي زمان بعدهم أحكاما لنفسه في محاوراته وأتبعهم فيها من غير أن يحدث في محاوراته أحكاما أخر وراء تلك الأحكام ، فإذا كان هو الشارع ـ كما هو المفروض ـ فهي من أحكامه التي التزم بها في محاوراته المترتبة على كلامه الصادر منه ، فيكون مقتضى دليل صدور ما شك في صدوره عنه ترتيب تلك الأحكام أيضا.

إن قيل هب إن ذلك من الأحكام الشرعية المترتبة على صدور النص والأظهر لكن دليل صدورهما لا يقتضي إلا التعبد بالاحكام الشرعية التي يكشفان عنها وأما الأحكام الشرعية التي أخذ نفس الصادر موضوعا لها لا طريقا إليها فلا ، ومن المعلوم أن النص والأظهر أنفسهما موضوعان لذلك الحكم ، أعني كونهما متصرفين في الظاهر وليسا طريقين إليه ، لعدم كشفهما عنه كشف الطريق عن مؤداه.

قلنا : الظاهر ، بل المعلوم إفادة أدلة اعتبار خبر الواحد التعبد بجميع الأحكام المترتبة على صدوره واقعا ، سواء كانت هي مما يكون ذات الخبر موضوعا لها أو مما يكون هو طريقا إليها ، ويكشف عن ذلك وجوب ترتيب أحكام الإعراب والبناء على الأدعية المحكية عن أهل العصمة عليهم السلام بطريق الآحاد مع أنها من أحكام ذوات تلك الأدعية على تقدير صدورها ، فإن ذلك لا يكون بمقتضي دليل خاص ، بل حكموا به بمقتضى دليل التعبد بصدورها ،

__________________

(١) وهذا نظير أحكام الإعراب والبناء في الألفاظ العربية المجعولة من واضعها فاتخذها غيره أيضا أحكاما لنفسه في محاوراته حتى الشارع. لمحرره عفا الله عنه.

٣١٠

فافهم واغتنم والله العالم.

ثم إن ما ذكرنا من لزوم الأخذ بمقتضي النص والأظهر ، والتأويل في الظاهر إنما هو بالنظر إلى ذات النص والأظهر وإلى ذات الظاهر مع قطع النّظر عن الموانع الخارجية ، إذ قد يكون وجه التأويل في الظاهر في غاية البعد كما إذا كان نسخا ، فبعده يمنع من العمل بقاعدة الجمع بل لا بد من الرجوع إلى الاخبار العلاجية الحاكمة بطرح أحدهما تعيينا أو تخييرا.

ثم إنه ظهر مما ذكرنا ـ من عدم الفرق في الظاهرين بين أقسامهما من حيث حصول التحير في الكل ودخولها في الأخبار العلاجية لذلك حتى العامين من وجه ـ ضعف التفصيل بينهما وبين غيرهما من أقسام الظاهرين الّذي حكاه المصنف (قدس سره) عن بعض بإخراجه إياهما عن مورد الأخبار العلاجية وإدخاله غيرهما فيها محتجا عليه بأن الرجوع إلى المرجحات السندية فيهما على الإطلاق يوجب طرح الخبر المرجوح في مادة الافتراق ، ولا وجه له (١) ، والاقتصار في الترجيح بها في خصوص مادة الاجتماع التي هي محل المعارضة ، وطرح المرجوح بالنسبة إليها مع العمل به في مادة الافتراق بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجية (٢). انتهى.

وكأن نظره في الاستبعاد المذكور إلى ما هو المقرر عند العرف من العمل بأخبارهم من حيث الظن بالصدور ، فزعم أن اعتبار أخبار الآحاد في الشريعة ـ أيضا ـ على ذلك الوجه ، فإنه لا يمكن التبعيض في صدور أحد العامين من وجه فيظن بصدوره في مادة الافتراق وعدم صدوره في مادة الاجتماع.

وتوضيح الضعف : أنا نختار الشق الثاني وهو الترجيح بتلك المرجحات

__________________

(١) وجهه أن التنافي بينه وبين الراجح في مادة الاجتماع لا يقتضي ذلك. لمحرره عفا الله عنه.

(٢) زعم أن ظاهرها انما هو طرح إلى المرجوح رأسا. لمحرره عفا الله عنه.

٣١١

في خصوص مادة الافتراق ولا يلزم منه التبعيض في صدور المرجوح ، فإن اعتبار أخبار الآحاد في الشريعة إنما هو من باب التعبد من غير أن يكون دائرا مدار الظن كما هو الحال في اعتبارها عند العرف.

نعم غلبة مصادفتها للواقع قد لوحظت في اعتبارها على وجه كونها حكمة ومعنى التعبد بها إنما هو وجوب ترتيب الآثار والأحكام الشرعية المترتبة عليها على تقدير صدورها واقعا عليها حال الشك في صدورها ـ كما مر غير مرة ـ ومن المعلوم أن التعبد ليس كالصدور في عدم قابليته للتبعيض ، بل هو قابل له ، فيمكن أن يتعبدنا الشارع بترتيب آثار صدور المرجوح في مورد الافتراق مع عدم تعبده بترتيب آثار صدوره في مورد الاجتماع ، فإذا أمكن فيه ذلك ، والمفروض كونه جامعا لشرائط الحجية والاعتبار ، وأنه لا مانع من إيجاب العمل به إلا معارضته بأقوى منه المتقدم عليه لقوته لأجل المرجح ، فلا بد من رفع اليد عنه بمقدار ما يزاحمه المعارض وهو آثاره بالنسبة إلى مورد الاجتماع فيترتب عليه آثاره في مورد الافتراق ، ووجوب ترجيح الراجح عليه ليس معناه التعبد بعدم صدوره في مورد الاجتماع ، بل معناه التعبد بالراجح فيه ، بمعنى التعبد بآثار الراجح فيه دون آثار المرجوح فيه.

وبعبارة أخرى : معنى وجوب الترجيح بالمرجحات أنه لو فرض الدوران بين ذيها وبين فاقدها في التعبد بآثار صدورهما يجب التعبد بآثار ذيها في مورد الدوران والتعارض دون التعبد بآثار فاقدها فيه ، والدوران إنما هو ينشأ من جهة التعبد بآثارهما ، لا من جهة نفس صدورهما ، ضرورة إمكان صدور النصين المتعارضين فضلا عن الظاهرين المبحوث عنهما ، بل وقوعه في الجملة في الشريعة.

فإن قلت : ما الفرق بين الترجيح بين العامين من وجه على هذا النحو وبين العمل فيهما بقاعدة الجمع ، فإن مقتضاها ـ أيضا ـ أخذ مقتضى أحدهما في مورد الاجتماع حيث أن الجمع بينهما يحصل بالتأويل في أحدهما ، وهو بأن يخرج

٣١٢

مورد الاجتماع عن أحدهما ويدخل في الآخر ويثبت له حكمه.

قلنا : بين المقامين بعد المشرقين فإن المفروض كون العامين وجه المتعارضين ظاهرين وقد عرفت أن معنى الجمع إنما هو التعبد بسندي المتعارضين والحكم بصدورهما ولازمه إجمالهما إذا كانا ظاهرين والتزام التأويل في أحدهما لا بعينه إذا لم يكن شاهد من الخارج على التعيين ، لعدم إمكان الأخذ فيه بالمرجحات السندية ، إذ معنى الأخذ بها إنما هو التعبد بذيها خاصة في مورد التعارض ، والمفروض بمقتضى قاعدة الجمع التعبد بصدور كلا المتعارضين ، وإنما الّذي يمكن الأخذ به فيه هي المرجحات الراجعة إلى قوة الدلالة المفروضة العدم في المقام أو شاهد خارجي وهو غير مفروض في السؤال عن الفرق ، مع أنه لا يجب وجوده في جميع الموارد بل قد يوجد وقد لا يوجد.

هذا بخلاف ما إذا عملنا بالمرجحات السندية على الوجه المتقدم ، إذ حينئذ يكون مورد الاجتماع محكوما بدخوله في ذيها خاصة ـ في مرحلة الظاهر ـ من غير تردد وتحير وانتظار شاهد خارجي ، فاحفظ ولا تنس.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين ) (١).

يعني المحتاجين في الجمع بينهما إلى التأويل في كليهما معا فعبّر عن التأويلين بالشاهدين تنبيها على توقف التأويل ـ فيما إذا لم يكن أحد الخبرين بنفسه قرينة على التصرف والتأويل في الآخر ـ على ورود شاهد من الشارع عليه من غير فرق بين الواحد منه وبين المتعدد ، فلا يجوز المبادرة إليه مطلقا من غير دليل شرعي عليه ، وقد مر مرارا أن غاية ما يتخيل كونه شاهدا عليه في الظاهرين دليل اعتبار صدورهما ، وقد مر دفعه بأنه لا حكومة له على دليل

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٨.

٣١٣

اعتبار الظهور ، بل هما متعارضان من غير أولوية له عليه ، هذا.

ثم إنه بقي شيء كان الأنسب جعله خاتمة لمسألة أولوية الجمع. وقد غفلنا عن ذكرها هناك ، ولما كان ذكرها هنا ـ أيضا ـ لا يخلو عن مناسبة ، فالحري التنبيه عليه هنا ، وهو أن المتعارضين إذا كان أحدهما نصا أو أظهر فيعمل فيهما بقاعدة الجمع بجعل النص والأظهر متصرفين في الظاهر ـ كما مرّ ـ فعلى هذا يكون شأنهما شأن القرائن القطعية الصدور القائمة على إرادة خلاف الظاهر من الخطاب ، فالشأن إذن بيان شأن تلك إظهارا لشأنهما.

فاعلم أنها إما منفصلة أو متصلة ، كالشرط ، والغاية والوصف ، والاستثناء (١) على أظهر الاحتمالين في الأخير.

وشأنها على الأول إنما هو مجرد إفادة أن المراد بالخطاب خلاف ظاهره من غير كونها مزيلة لظهوره ذلك الخطاب العرفي الحاصل له بدونها ، وموجبة لإجماله ، ولا معينة للمراد منه ـ أيضا ـ بل يتوقف التعيين على قرينة أخرى غيرها.

نعم لو وردت قرينة على المراد أولا فهي مغنية عن تلك ، فإن لازمها الكشف عن أصل التأويل أيضا.

والحاصل : أن غاية ما يترتب على تلك إنما كونها دليلا على التأويل فقط. وأن الخطاب معها من المؤوّلات لا المجملات.

وأما على الثاني ، فهي مزيلة لظهور ذلك الكائن له بدونها وموجبة لإجماله ـ أيضا ـ (٢) إذا لم يكن من العمومات أو المطلقات ، بمعنى عدم ظهور معها في

__________________

(١) إذ قد يتوهم كونه من القيود المنفصلة ، ولعله لجعله مقام قولنا أستثنيه فيكون كلاما تاما ، لمحرّره ( عفا الله عنه ).

(٢) إذا الكلام المنكشف بها لا يعدّ في العرف من الظواهر. لمحرّره عفا الله عنه.

٣١٤

المعنى المراد المخالف لظاهره الأولي ـ أيضا ـ فيتوقف تعيينه على قرينة أخرى ـ كما في الفرض الأول ـ فهي حينئذ صارفة فقط ، وأما إذا كان من أحدهما فهي موجبة لظهوره في تمام الباقي فتكون معينة ـ أيضا ـ ولما كان النص والأظهر المبحوث عنهما في المسألة من القسم الأول ، لفرض كون كل منهما كلاما مستقلا حيث أن الكلام في الخبرين المتعارضين ، والخبر لا يكون خبرا إلا بكونه كلاما تاما ، فيكون النص والأظهر المفروضان ـ في المسألة ـ من القرائن المنفصلة ، فلهما شأنها ، وقد أشرنا في طيّ بعض كلماتنا المتقدمة إلى ذلك أيضا.

ومن هنا يظهر أنا لو عملنا في الظاهرين ـ أيضا ـ بقاعدة الجمع فلا يلزم منه إجمال شيء منهما ، بل غاية ما يترتب عليها التزام التأويل في أحدهما إذا حصل الجمع به ، أو في كليهما إذا توقف عليه ، إذ يكون حينئذ كل منهما ـ بمقتضى دليل صدوره ـ دليلا على التأويل في الآخر ، فيعمل بمقتضى كل منهما في الآخر بالتزام التأويل فيه إذا توقف الجمع على التأويل في كليهما ، أو بمقتضى أحدهما لا بعينه ، بمعنى التزام تأويل واحد في أحدهما لا بعينه إذا حصل بتأويل واحد.

وعلى الأول يحتاج كل منهما إلى شاهد على تعيين المراد.

وعلى الثاني يكفي شاهد واحد ، لفرض التزام التأويل في أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره ، بمعنى التزام كون المراد ظاهره ، فالمحتاج إليه إنما هو أحدهما.

نعم على الثاني لا بد من شاهد آخر لتعيين مورد التأويل فيهما ، فيحتاج الجمع على الثاني ـ أيضا ـ إلى شاهدين ، ونظر المصنف (قدس سره) إنما هو إلى الشاهد على تعيين المراد وهو واحد على الثاني ، فلذا عبر عن الظاهرين الذين يحصل الجمع بينهما بتأويل واحد في أحدهما بالمحتاجين إلى شاهد واحد ، والحاجة إلى شاهد آخر على الفرض الثاني إنما هو فيما إذا لم يكن الشاهد على المراد خطابا آخر يفيد كون المراد من خصوص أحدهما خلاف ظاهره ، وأما إذا كان

٣١٥

هو ، فيغني عن الشاهد على مورد التأويل ، إذ لازمه تعيين مورده ـ أيضا ـ إلا أنه بحسب الاعتبار متعدد وان كان بحسب الذات واحدا ، وكيف كان فلا يمكن استفادة مورد التأويل من أحد الظاهرين أو من كليهما على الفرض الثاني ، بخلاف النص والظاهر والظاهر والأظهر ، فإن كلا من النص والأظهر دليل على أصل التأويل وعلى تعيين مورده ـ أيضا ـ إلا أن تعيين المراد يتوقف على قرينة أخرى.

ثم إن القرينة على تعيين المراد بعد ثبوت أصل التأويل وثبوت مورده إنما هي القرينة المعينة له بعد صرف اللفظ عن ظاهره وهي أحد أمور :

أحدهما : انحصار المعنى المخالف للظاهر ـ الّذي يصح إرادته منه بعد عدم إرادة ظاهره ـ في واحد.

وثانيها : أقربية بعض المعاني المخالفة له ـ استعمالا ، أو اعتبارا إن اعتبرناه مطلقا أو حيث اعتبرناه ـ فيما إذا تعددت.

وثالثها : غلبة وجود بعضها إن اعتبرناها.

ورابعها : كون اللفظ المؤول على وجه يكون ظاهرا في إرادة بعض المعاني بنفسه كما في العمومات المخصصة على بعض الوجوه فيها ولعله أظهر ، فإن الظاهر أن ألفاظ العموم في مقام قضايا جزئية متعددة يتعدد أفرادها بحيث يكون ظاهرة في إرادة هذا الفرد وذاك ، وهكذا إلى تمام الأفراد على وجه إذا قامت قرينة على عدم إرادة بعض تلك الأفراد فهي لا يرفع ظهورها في إرادة غير الخارج منها ، الثابت لها بدونها ، بل هي ظاهرة في إرادة غير ذلك الفرد حينئذ بالاقتضاء الأولي ، فكأن تلك القرينة رفعت قضية واحدة جزئية من القضايا الجزئية التي يكون العام في مقامها ، هذا.

أو من غير الأمور المذكورة من الخصوصيات اللاحقة لبعض الموارد الخاصة التي لا تندرج تحت ضابط وقد تكون خطابا مستقلا جيء به ليفسر

٣١٦

المراد به.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وبالجملة إن الخبر الظني إذا دار الأمر بين طرح سنده وحمله وتأويله ، فلا ينبغي التأمل في أن المتعين تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل ) (١).

قد يتوهم التدافع بين هذا الّذي ذكرنا وبين منعه عن الأخذ بقاعدة الجمع في الظاهرين ، وكذا بينه وبين منعه من العمل بها في النص والظاهر ، والظاهر والأظهر ، إذا انحصر وجه الجمع في النسخ.

لكنه مدفوع بقوله ( إذا دار الأمر ) فإن الدوران لا يحصل بين أمرين إلا مع إمكان كل منهما على نحو إمكان الآخر وأما مع امتناع أحدهما فلا ، بل يتعين الآخر ، ومنعه من الأخذ بمقتضى قاعدة الجمع في الظاهرين ، وفي النص والأظهر مع الظاهر إذا انحصر وجهه في النسخ إنما هو لعدة الجمع في تلك الموارد ممتنعا عرفا ، فلا دوران فيها عنده بين الجمع والطرح ، فمرجع كلامه فيها إنما هو إلى تشخيص الصغرى ، ومرجعه هنا إلى الكبرى.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( فلنرجع إلى ما كنا فيه ... ـ إلى قوله ـ :ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر ) (٢).

تخصيصه مورد الترجيح بالظاهر والأظهر لأجل أن الترجيح بين دلالتين فرع تعارضهما ، وقد مر غير مرة أنه لا يصلح ظهور الظاهر لمعارضته لنصوصيّة النص ، لعدم إمكان التأويل في النص ، بخلاف الأظهر ، فإنه يمكن فيه التأويل ، فيمكن معارضة الظاهر معه إلا أنه يقدم عليه لقوله.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( والأظهرية قد تكون بملاحظة خصوص

__________________

(١ و ٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٠.

٣١٧

المتعارضين من جهة القرائن الشخصية وهذه لا يدخل تحت ضابطة ) (١).

وجه عدم دخولها تحت ضابطة اختلافها باختلاف الموارد والأشخاص ، أما اختلافها باختلاف الموارد فواضح ، وأما هو باختلاف الأشخاص ، فلأنه ربما يكون بعض القرائن الشخصية بحيث يتوقف فهمها على الذوق السليم والفطانة ، فلا يكون قرينة لغير الفطن ، وأيضا قد يكون بين متكلم وبين شخص خاص عهد يوجب ذلك أظهرية اللفظ في المعنى المعهود لذلك الشخص دون غيره.

ثم إنه إذا دار الأمر بين الأخذ بمقتضى القرائن الشخصية وبين الأخذ بمقتضى القرائن الصنفية ، أو النوعية ، يتعين الأول ، ضرورة كون اللفظ مع الشخصية ظاهرة فيما تقتضيه هي ، بحيث لا أثر حينئذ لغيرها من القرائن ، وإذا دار الأمر بين الأخذ بمقتضى الصنفية وبين الأخذ بمقتضى النوعية بتعين الأول لما ذكر في وجه تقديم الشخصية.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( في بعض أفراد العام والخاصّ ) (٢).

وهو الخاصّ المتقدم مع العام المتأخر ، فإنه يدور الأمر فيهما بين أن يكون العام ناسخا للخاص وبين كون الخاصّ مخصصا له وبيانا ، وأما العكس وهو صورة تأخر الخاصّ فلا يعقل الدوران بينهما فإن الخاصّ المتأخر إن كان صادرا قبل حضور وقت العمل فيتعين كونه مخصصا ، إذ يشترط في النسخ صدور الناسخ بعده ، وإن كان صادرا بعده ، فيتعين كونه ناسخا : إذ المخصص بيان للعام ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. فتأمل (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٠.

(٣) وجه التأمل أنه يمكن تعبد الشارع بمقتضى عموم العام في مرحلة الظاهر مع كون المراد منه واقعا هو الخاصّ مع عدم بيانه وقت حضور العمل ، فلا يمتنع تأخير البيان عن وقت العمل مطلقا ، بل إنما يمتنع مع عدم إرادة الشارع العمل بمقتضى العام وتعبده به في مرحلة الظاهر ، بل كان مراده العمل به في

٣١٨

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ) (١).

توضيح القياس أنه لا ريب أن النبي صلّى الله عليه وآله ولم يبيّن جميع الأحكام الواقعية للموجودين في زمنه في أول بعثته دفعة ، بل إنما بينها لهم على التدريج إلى يوم ارتحاله إلى الدار الآخرة ، كما يظهر من الأخبار والآثار المأثورة عن أهل بيته الأطهار سلام الله عليهم مع أنهم كانوا مشاركين لغيرهم في جميع الأحكام الواقعية وليس ذلك إلا لأجل أن الشارع جعل أحكامهم ـ في مرحلة الظاهر قبل بيان تلك التكاليف ـ مقتضى أصالة البراءة العقلية وهو التخيير والإباحة لأجل مصلحة من التسهيل عليهم أو غيرها من المصالح ، ورفع ذلك المقتضى عنهم بالنسبة إلى كل مورد ببيان التكليف الواقعي الثابت لذلك المورد واقعا ، فإذا جاز ذلك ، بل ثبت وقوعه ، جاز أن يكون حكمهم في مرحلة الظاهر في موارد الخطابات العامة أو المطلقة هو مقتضى العموم والإطلاق لأجله مصلحة مع كون الحكم الواقعي لهم ثابتا للخاص ، إذ مع عدم فرض المصلحة لا يصح إيقاع المكلف على خلاف الواقع مطلقا ومعها لا فرق بين الموارد قطعا.

وتوهم الفرق بين المقامين بأن غاية ما في المقيس عليه إنما هو عدم بيان الشارع للأحكام الواقعية وهو لا يستلزم قبيحا ، لعدم استناد فوت الواقع على

__________________

بعض أفراده ، ومورد الحاجة إلى البيان حقيقة إنما هو هذا القسم خاصة ، لعدم الحاجة إليه في الأول ، فيصح أن يقال إنه يصح تأخير البيان عن وقت الحاجة بقول مطلق إلا أن ذلك لا يوجب تعيين كون الخاصّ في مورد الفرض ناسخا ، لأنه لم يفرض فيه كون المراد هو العمل بالعامّ في غير مورد الخاصّ على تقدير كونه بيانا ، فمع إمكان ذلك الّذي ذكرنا يتحقق الدوران فيه بين كونه مخصصا وبيانا وبين كونه ناسخا إذا كان مجملا في المورد ، فلا بدّ من فرض امتناع الدوران فيما إذا علم من الخارج عدم تعبد الشارع بمقتضى العموم على تقدير تخصيصه واقعا. لمحرّره عفا الله عنه.

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩١.

٣١٩

المكلف إليه حينئذ ، لمكان إمكان الاحتياط في موارد أصالة البراءة ، بخلاف المقيس ، فإنه ببيانه للعدم يغرّ المكلف حيث أنه يزعم أن مقتضى العموم هو الواقع مع أن الواقع خلافه ، فيكون فوته عليه ـ حينئذ ـ مستندا إليه ، فيكون قبيحا.

مدفوع : بأن مفاد العام ـ أيضا ـ ليس قطعيا حتى لا يمكن معه الاحتياط بل احتمال مخالفته للواقع قائم معه ، فيكون فوته على المكلف مستندا إلى اختياره فتأمل (١) ، وغاية ما يترتب على تجويز الشارع العمل بمقتضى العموم إنما هو عدم العقاب على مخالفة التكاليف الواقعية المسببة من العمل بمقتضى العموم ، ومن المعلوم أنه لا قبح في عدم العقاب ، بل يقبح ثبوته مع تجويزه العمل بالعامّ المؤدي إلى المخالفة كقبح ثبوته في المقيس عليه أيضا ، فإنه وإن فرض فيه عدم بيانه شيئا للمكلف ، إلا أنه لما كان البيان عليه ولا طريق للمكلف إلى تكاليفه سوى بيانه فيكون سكوته بمنزلة بيانه للعدم من حيث استناد مخالفة الواقع إليه فيهما.

والحاصل : أنه مع وجود المصلحة لا قبح في بيانه للعدم ، كعدم قبح سكوته عن البيان معها ، ومع انتفائها يقبح كل منهما ، لأن إخفاء المصالح والمفاسد على المكلف سواء كان بالسكوت عن البيان رأسا أو ببيان العدم قبيح إذا لم تكن مصلحة تقتضيه ، ومعها لا قبح فيه بوجه مطلقا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لأن الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان

__________________

(١) وجه التأمل أن المفروض تكليف الشارع ظاهرا بالعمل بالعموم ، فاحتمال الخلاف إنما هو في مؤدى العموم ، لا في التكليف بالعمل بمقتضاه ، فإنه قد فرض قطعيته ووقوعه واقعا.

وبعبارة أخرى : النزاع في أنه يجوز أن يكلف الشارع بالعمل بمقتضى العموم مع كون مراده الخاصّ أو لا؟ لا في أنه هل يجوز احتمال أن يفعل الشارع هكذا نعم على تقدير ثبوت إمكانه ينفع احتماله في موارد الجمع ، إذ معه يمكن أخذه طريقا للجمع. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٢٠