تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

هو الوجوب ومؤدى الآخر هي الحرمة ، إذ اللازم على هذا التقدير حرمة المخالفة العملية للأخبار المختصة بما إذا كانت متضمنة لحكم إلزامي دون الالتزامية ، لكن يمكن إثبات التخيير في غير تلك الصورة ـ حينئذ ـ بأخبار التخيير وإن لم يمكن إثباته بها لمطلق المتزاحمين المحتمل أهمية كل منهما ، لورودها في خصوص الخبرين المتعارضين ، لكن لا حاجة إليها في غيرهما من الواجبات المتزاحمة ، لجريان الوجه الأول فيها ، وإنما الإشكال في جريانه في خصوص الخبرين.

وتوضيح إثبات التخيير بين الخبرين في غير تلك الصورة بأخبار التخيير ـ بناء على اعتبار الأخبار على وجه السببية على المعنى الثاني ـ أن المأخوذ في موضوع تلك الأخبار إنما هو التحير في المراد من الخبرين المتعارضين ، على تقدير صدورهما ، بحيث لا يعلم المراد من واحد منهما إلا ببيان آخر ، وهذا حاصل في كل خبرين متعارضين ، ولو كان مؤدى أحدهما أو كليهما حكما غير إلزامي ، وغاية ما ثبت إنما هي تقييدها بغير صورة وجود مزية لأحدهما راجعة إلى قوة جهة طريقية ذيها مع العلم بموردها ، وفي الحقيقة خروج صورة وجود المزية المذكورة لأحدهما على الوجه المذكور انما هو من باب الاختصاص ، لا التخصيص ، لعدم صدق موضوع تلك الأخبار عليها بعد اعتبار الشارع لتلك المزية في تعيين المنع من المتعارضين ، إذ معه لا يبقى تحير في مراده في مرحلة الظاهر ، فإن الراجح منهما حينئذ محكوم بكون مؤداه هو المراد له ، وإنما كان التحير حاصلا في تلك الصورة مع قطع النّظر عن اعتبار الشارع لتلك المزية ، لعدم صلاحية دليل اعتبارهما لتعيين أحدهما ، لغرض دخول كليهما فيه على حد سواء وإلا لم يكونا متعارضين ، ومن المعلوم ـ أيضا ـ أن اعتبارهما من باب السببية لا يرفع هذا التحير ، فيدخل

__________________

التخيير بين نفس الخبرين ، بمعنى جواز التمسك بأيهما شاء ، وجعله دليلا في مؤداه.

وبعبارة أخرى : إنه راجع إلى التخيير في العمل من حيث العمل والترك ، دون الاستدلال بالخبرين ، فلا تغفل لمحرّره عفا الله عنه.

٢٦١

جميع صور احتمال الأهمية لكل من الخبرين المتعارضين في أخبار التخيير على حد سواء ، وهذا التخيير ليس كالتخيير الآتي من قبل العقل على تقديره ، بل إنما هو تخيير في الأخذ بأي من الخبرين وجعله دليلا في مؤداه.

لكن يشكل تمامية الاستدلال بأخبار التخيير في جميع صور احتمال الأهمية لكل من الخبرين المتعارضين ، بأن الكلام في حكم الخبرين المتعارضين على ذلك التقدير إنما هو على فرض إلغاء المزايا الراجعة إلى جهة الطريقية ، وإنما هو بالنظر إلى احتمال الأهمية ، ولو كان أحدهما مشتملا على شيء من تلك المزايا ، وأخبار التخيير لا يفيد التخيير في صورة اشتمال أحدهما على شيء من تلك المزايا ، فيكون الدليل أخس من المدعى.

لكنه مدفوع بأن الكلام وإن كان عاما لصورة اشتمال أحدهما على شيء من تلك المزايا ، لكنه إنما هو مع الغض عن الأخبار الآمرة بالأخذ بتلك المزايا ، ومن المعلوم حصول التحير في تلك الصورة ـ أيضا ـ مع قطع النّظر عنها الموجب لدخولها في أخبار التخيير ، فافهم.

فقد ظهر أنه لا إشكال في حكم الخبرين المتعارضين بناء على اعتبار الأخبار الآحاد من باب السببية على الشق الثاني من شقي الفرد الثالث من الفروض الثلاثة المتقدمة بكلتا صورتيه ، ولا كلام فيه ظاهرا ـ أيضا ـ هذا.

لكن الإنصاف عدم استقامة الاحتجاج بأخبار التخيير على ثبوته لغير المتضمنين للحكم الإلزامي من الخبرين المتعارضين في هذا المقام ، وإن كان الاحتجاج بها عليه تاما في نفسه ، فإن الكلام في المقام في حكم نوع الواجبين المتزاحمين ، ودخول الخبرين المتعارضين فيه إنما هو بالتبع ، ومن باب كونهما أحد أفراد ذلك النوع ، وقد عرفت أنهما لا يدخلان فيه بناء على كون معنى اعتبار الأخبار على وجه السببية كونها علة لإحداث حكم مماثل لمؤداها ، إلا فيما إذا كانا متضمنين لحكم إلزامي.

٢٦٢

والحاصل أنه كما في الكلام في المقام مع الغض عن أخبار الترجيح ، كذلك هو مع الغض عن أخبار التخيير ـ أيضا ـ وإنما هو في نوع الواجبين المتزاحمين المختص صدقهما على الخبرين المتعارضين بالصورة المذكورة.

ومن هنا يظهر عدم دخولهما في الكلام في المقام الآتي ـ أيضا ـ وهو صورة قيام احتمال الأهمية بخصوص أحد الواجبين المتزاحمين ، فأن الكلام هناك ـ أيضا ـ في حكم الواجبين المتزاحمين ، إلا أنه يفارق هذا المقام من حيث فرض اختصاص احتمال الأهمية بأحد الواجبين المتزاحمين بالخصوص.

وكيف كان ، فلا إشكال في أن الحكم هو التخيير فيما إذا احتمل أهمية كل من الواجبين المتزاحمين ، ولا كلام فيه ظاهرا ـ أيضا ـ وإنما الكلام في ثبوت التخيير فيما إذا اختص احتمالها بأحدهما ، لكن لا ينبغي الإشكال في ثبوته لهما على ذلك التقدير ـ أيضا ـ في الجملة ، لضعف ما يتوهم مانعا منه كلية.

نعم يقع الإشكال في ثبوته لهما فيما إذا كانا مندرجين في عنوانين في بعض الصور.

وتوضيح ذلك : أن الواجبين المتزاحمين المحتمل أهمية خصوص أحدهما إما أن يكونا مندرجين في عنوان واحد بمعنى كون القدر المشترك بينهما هو الموضوع للتلف في الأدلة الشرعية ، كإنقاذ الغريقين ، وإطفاء الحريقين ، وإما أن يكونا مندرجين في عنوانين ، بمعنى عدم كون الموضوع لهما في الأدلة هو القدر المشترك بينهما ، كإنقاذ غريق مع إطفاء حريق.

ومنشأ أهمية أحدهما من الآخر على تقديرها في القسم الأول منهما منحصر في اتحاده مع عنوان آخر واجب ، فيتأكد به وجوبه بالإضافة إلى الآخر ، ويقدم عليه عند الدوران بينهما ، كما إذا دار الأمر بين إعطاء الزكاة بهذا الفقير أو بذاك ، مع كون أحدهما في مخمصة يخاف عليه الموت من المجاعة ، فإن وجوب إعطاء الزكاة في حقه قد تأكد باتحاده مع عنوان آخر واجب وهو حفظ نفس

٢٦٣

المسلم.

ووجه انحصار سبب الأهمية في هذا القسم في ذلك أن المفروض كون الواجبين مندرجين في عنوان واحد ، وكون وجوب كل منهما من جهة دخوله في ذلك العنوان ، حيث أن الدليل قد دل على وجوب ذلك العنوان أولا وبالذات ، وهما في الدخول فيه على حد سواء.

وبعبارة أخرى وجوب كل منهما من جهة تحقق ذلك العنوان في ضمنه ، وهو متحقق في ضمن كل منهما على نحو تحققه في ضمن الآخر ، فيكون المقتضي للوجوب في كل منهما مساويا له في الآخر ، ولا يعقل كونه في أحدهما أقوى وآكد منه في الآخر من الحيثية المذكورة ، بل يتوقف ذلك على اتحاده في أحدهما مع عنوان آخر واجب.

لا يقال : قد يكون الطبيعة مشككة بواسطة شدة تحققها في ضمن بعض أفرادها ، فيكون وجوب ذلك الفرد آكد من غيره.

لأنا نقول : إذا كانت مشككة ، فإما أن يكون الطلب الوجوبيّ في الخطاب الشرعي متعلقا بنفسها من حيث هي ، مع قطع النّظر عن شدة تحققها في الخارج ، وإما أن يكون متعلقا لشدة تحققها فيه ، فيكون موضوعه مرتبة من وجود تلك الطبيعة ، وهي وجودها في الخارج على نحو الشدة ، دون نفسها من حيث هي.

وعلى الأول لا محيص عما ذكرنا من توقف تأكده في بعض الأفراد على اتحاده مع عنوان آخر واجب ، إذ المفروض كون المناط هو نفس الطبيعة لا شدة وجودها ، ونفس الطبيعة موجودة في كل من الأفراد ، فيكون كل منها من حيث وجود المقتضي للطلب فيه مساويا لغيره من الأفراد ، لو لا اتحاده مع عنوان واجب آخر.

وعلى الثاني يخرج عن محلّ الفرض ، إذ الكلام في الواجبين المتزاحمين ،

٢٦٤

فلا بدّ أن يكون كلّ منهما في نفسه واجبا ، بحيث لا مانع من التكليف به فعلا والمؤاخذة عليه إلا مزاحمة الآخر له ، لعجز المكلف من الجمع بينهما ، ومن المعلوم أن الفرد الّذي يضعف فيه تحقق الطبيعة لا وجوب له في نفسه أصلا ، وإنما يختص الفرد الآخر بالوجوب ، فأين التزاحم بين الواجبين.

وأما منشأها في القسم الثاني فلا ينحصر في ذلك ، بل قد يكون هو عظم أحد الواجبين في نظر الشارع بالإضافة إلى الآخر ، من غير اتحاده مع عنوان آخر ـ أيضا ـ بل قد يكون أهم من الآخر في صورة اتحاد الآخر مع عنوان واجب آخر ـ أيضا ـ كما في حفظ بيضة الإسلام بالإضافة إلى غيره من الواجبات ، وبعده حفظ النّفس المحترمة بالإضافة إلى غير الأول ، وكما في حقوق الناس الصرفة بالإضافة إلى حقوق الله تعالى كذلك.

وتظهر الثمرة بين الأهمية الناشئة من الجهة الأولى وبين الناشئة من الثانية عند إيجابها لتنجيز التكليف بالأهم في تعدد العقاب واتحاده ، فإنه إذا تعين الأخذ بالأهم ، فخالف المكلف وعصى ، فإن كان منشأ أهميته هي الجهة الأولى يتعدد عقابه ، فإنه حينئذ حقيقة قد عصى في واجبين ، وإن كان منشأه هي الجهة الثانية يتحد عقابه ، نعم هو على تقديره أعظم من العقاب على عصيان غير الأهم إذا لم يزاحمه الأهم.

لا يقال : إن اتحاد الأهم في الفرض الأول مع عنوان واجب آخر يمنع من تعدد الطلب به ، فإن الشيء الواحد لا يعقل أن يجتمع فيه طلبان ، ولو كانا مثلين ، فإنهما كالنقيضين في امتناع اجتماعهما في محل واحد ، بل الطلب معه واحد ، ومعه لا معنى لتعدد العقاب ، إذ هو يدور مدار تعدد العصيان المتوقف على تعدد الأمر.

لأنا نقول : سلمنا أن الطلب من الكيفيات التي تتداخل فيها أسبابها عند توارد اثنان أو أزيد منها في محل واحد دفعة ، لكن نقول إنه ليس معنى

٢٦٥

تداخل أسبابه أنها عند الاجتماع تؤثر أثر واحد منهما ، بل معناه أنه لا أثر لكل واحد حينئذ يمتاز عن أثر الآخر في الخارج من حيث الذات ، لكن كل منها حينئذ يؤثر أثره الّذي يؤثر فيه حال الانفراد ، وإنما منع وحدة المورد من امتيازه عن أثر الآخر في الخارج ، فهناك طلبات متعددة من حيث الذات ، فيلزم كلا منها ما هو لازم له حال الامتياز من العقاب على العصيان ، لتعدد العصيان حينئذ في الحقيقة ، نعم لا يتعدد الامتثال ، إذ بعد فرض اتحاد متعلقها جميعا يثبت الغرض من الكل بامتثال واحد ، لصدق المطلوب من كل منها عليه (١).

وكيف كان ، فإذا احتمل أهمية أحد الواجبين المتزاحمين من إحدى تينك الجهتين ، ففي الحكم بالتخيير حينئذ مطلقا ـ كصورة القطع بانتفاء الأهمية لأحدهما ـ أو تعين الأخذ بمحتملها مطلقا ، أو التفصيل بين ما إذا كان منشأها هي الجهة الأولى ، وبين ما إذا كان منشأها هي الجهة الثانية باختيار الأول في الأول ، والثاني في الثاني ، وجوه :

للثاني : أنه قد علم المكلف باشتغال ذمته بتكليف مردد بين تعلقه بخصوص محتمل الأهمية وبين تعلقه بكل منهما تخييرا ، لعدم جواز مخالفته لكليهما بالضرورة ، وهو يقتضي القطع بامتثاله المتوقف على الإتيان بمحتملها.

وللثالث : أن قاعدة الاشتغال المذكورة محكمة سليمة عما يحكم عليها فيما إذا كان منشأ الأهمية هي الجهة الثانية ، لعدم جريان أصالة البراءة عن التعيين

__________________

(١) لا يقال : بالفرق بين مقام الامتثال وبين مقام العصيان ، فكما أن الإيجاد الواحد يقع امتثالا عن الجميع ، فلا بد أن يكون ترك أحد تلك العناوين المتصادقة عصيانا عن الجميع ـ أيضا ـ فيتحد عصيانها ـ أيضا ـ.

لأنا نقول : الفرق أن تلك العناوين إنما يتحد في ظرف الوجود فقط ، وتصادقها إنما هو في عالم الوجود دون عالم العدم ، فلا يصدق على ترك أحدها ترك الآخر ، بل على تقدير الترك هناك تروك متعددة ، فيكون كل منها عصيانا للمتروك ، فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.

٢٦٦

حينئذ ، فإن مجراها إنما هو التكليف المشكوك بدوا.

ومن المعلوم أن التكليف بمحتمل الأهمية في الجملة ثابت قطعا ، فلا يمكن نفيه بها رأسا ، وإنما الشك في تعيينه ، وهو من الجهة الثانية ليس تكليفا آخر ، حتى يمكن نفيه بها لغرض الشك فيه ، بل هو على تقديره من كيفيات ذلك التكليف المعلوم تعلقه به الناشئة من قوة جهة ذلك التكليف بالنسبة إلى جهة التكليف بالآخر ، فجهة الأهمية على ذلك التقدير إنما هي عين جهة أصل وجوب الأهم على تقديره ، بمعنى أن جهة وجوبه لما كانت أقوى من جهة الوجوب في غيره فأقوائيتها توجب أقوائية طلب موردها من طلب مورد الجهة الأخرى ، فهي على تقديرها لا يوجب طلبا وتكليفا آخر ، حتى يرجع في نفيه إلى أصالة البراءة ، فقاعدة الاشتغال في القسم المذكور محكمة لسلامتها عما يحكم عليها ، هذا بخلاف ما إذا كان منشأها هي الجهة الأولى ، فإن التكليف بمحتملها حينئذ ـ أيضا ـ وإن كان معلوما في الجملة إلا أن تعيينه على تقديره ناشئ عن تكليف مستقل آخر متعلق بالعنوان الّذي اتحد معه محتملها ، فيكون الشك حقيقة راجعا إلى الشك في التكليف بذلك العنوان بدوا ، فيكون موردا لأصالة البراءة ، وهي أينما تجري تحكم على قاعدة الاشتغال على تقدير جريانها في المورد لولاها.

فان قلت : إن حكومة أصالة البراءة على قاعدة الاشتغال مسلمة فيما إذا كان أمران ، ثبت وجوب كل منهما في الجملة ، وشك في أن وجوب كل منهما إنما هو على سبيل التعيين ، حتى يلزم الإتيان بكليهما معا ، أو التخيير حتى يجوز الاكتفاء بواحد منهما.

وبعبارة أخرى : إنها مسلمة فيما إذا لم يكن منشأ تعيين الوجوب هي الأهمية ، وأما إذا كان منشأه هي فلا ، إذ المفروض في الثاني ـ المتنازع فيه في المقام ـ العلم بثبوت طلب لمحتمل التعيين في الجملة فعلا ، والشك في وجوب الآخر رأسا ، فإنه على تقدير تعيين وجوب الأول لا وجوب للآخر أصلا ، فإنه

٢٦٧

على تقديره تخييري ، واحتمال تعيين وجوب الأول مستلزم للشك في وجوبه التخييري ، ووجوبه التعييني معلوم العدم ، وأصالة البراءة ليس من شأنها إثبات التكليف ، ولا تعيين متعلقه وإثبات مصداقية شيء للواجب ، فإنها ـ سواء أخذت من باب التعبد أو من باب حكم العقل ـ حكم ظاهري ، وهو رفع المنع من ارتكاب محتمل التحريم أو ترك محتمل الوجوب بدوا في مرحلة الظاهر ، لا طريق ، حتى يلزم من طريقيته إلى الملزوم ـ وهو عدم تعيين وجوب الأول ـ طريقيته إلى اللازم ، وهو وجوب الآخر تخييرا ، حتى يكون الإتيان به مسقطا عن التكليف المعلوم تعلقه بمحتمل التعيين ، فغاية ما يترتب عليها رفع المنع من ترك ذلك العنوان المتحد مع محتمل التعيين في حد نفسه وعدم العقاب عليه كذلك ، وأما رفعه من ترك نفس ذلك المحتمل التعيين وعدم المؤاخذة عليه فلا ، للعلم بتعلق الطلب به ، فلا بد من العلم بامتثاله المتوقف على الإتيان بنفسه.

قلنا : نحن لا نحكم أصالة البراءة على قاعدة الاشتغال في المقام بنفسها ، وإلا لزم ما ذكر ، وإنما نحكمها عليها بضميمة شيء آخر وهو أن المفروض في المقام وجود المقتضي للطلب لغير محتمل التعيين في حد نفسه عينا ، وأنه لا مانع من وجوبه فعلا عينا إلا وجود المقتضي له في الآخر كذلك ، ولا من أصل وجوبه في الجملة فعلا المتحقق في ضمن التخييري إلا اختصاص المقتضي في الآخر فعلا بتمام مقتضاه ، وهو الوجوب التعييني من جهة احتمال تأكده باتحاده مع عنوان آخر.

وكيف كان فالمقتضي للوجوب في الجملة المتحقق في ضمن التخييري فيه فعلا محرز قطعا ، والشك في ترتيب مقتضاه عليه كذلك ناشئ من الشك في التكليف بذلك العنوان الّذي اتحد معه صاحبه ، حيث أنه على تقديره يرجح صاحبه عليه ، ويختص ما فيه من المقتضي للوجوب التعييني بمقتضاه فعلا.

ومن المعلوم أنه لا مانع من جريان أصالة البراءة بالنسبة إلى التكليف

٢٦٨

المشكوك المتعلق بذلك العنوان على تقديره واقعا ، فإذا جرت في نفيه ، فينتفي المانع من وجوب غير محتمل التعيين تخييرا ، فيترتب عليه ، لأن وجود المقتضي مع عدم المانع علة تامة لترتيب المقتضي فعلا ، فإذا ثبت وجوبه كذلك فيكون الإتيان به مسقطا عن ذلك الطلب المعلوم تعلقه بمحتمل التعيين.

وليس المراد نفي الطلب عن ذلك العنوان بأصالة البراءة حتى يرد أنه ليس من شأنها ذلك ، بل المراد نفي فعليته على تقديره ، وإثبات المعذورية في مخالفته ، وقد حققناه في مقام رفع التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي في أول مسألة التعادل والترجيح ، وكذلك في مطاوي كلماتنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ أيضا ـ جواز التكليف بأحد طرفي النقيض فعلا ، مع كون المكلف معذورا في الطلب المتعلق بالطرف الآخر ، وكذلك جوازه بأحد الضدين المتزاحمين مع كونه معذورا في الآخر ، بمعنى أن المانع ليس هو الطلب بالنقيض أو الضد ، وإنما هو فعليته ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإذا ثبت معذورية المكلف في ذلك العنوان المتحد معه محتمل التعيين من الواجبين المتزاحمين يجوز التكليف بما يزاحمه ، وهو غير محتمله منهما تعيينا ، فكيف به تخييرا ، ولما كان المفروض العلم بتعلق طلب فعلا بمحتمله إجمالا ، فهو مانع من المصير إلى وجوب غير محتمله عينا فحسب ، فإذا جاز ذلك عقلا مع فرض قيام المقتضي له وعدم المانع بواسطة أصالة البراءة من ترتيب الوجوب التخييري عليه فعلا ، فيترتب عليه ذلك كذلك.

والحاصل أن السؤال المذكور إنما يرد فيما إذا علم وجوب شيء وتردد بين كونه عينيا أو تخييريا بينه وبين شيء آخر لم يحرز فيه الوجوب في نفسه أصلا ، والمقام المتنازع فيه ليس منه.

وبعبارة أخرى أقصر : إن المقتضي للوجوب التخييري لا محالة في غير محتمل التعيين في المقام معلوم ، وأنه لا مانع من ترتيبه عليه إلا تنجز الطلب

٢٦٩

المعلوم تعلقه بمحتمله على وجه لا يجوز مخالفته إلى بدل ، وأصل ذلك الطلب وإن كان معلوما إلا أن كونه على وجه التعيين المستلزم لعدم جواز المصير إلى بدل غير معلوم ، ولم يقم عليه حجة ، ومقتضي أصالة البراءة كون المكلف معذورا في مخالفته إلى بدل ، فإذا ثبت بها عدم ذلك المانع يترتب على ذلك المقتضي مقتضاه ، وهو الوجوب التخييري ، المستلزم لكون مورده مسقطا عن ذلك الطلب المعلوم ، هذا.

وقد قوى ( دام ظله ) هذا الوجه من بين الوجوه الثلاثة.

ولكن الأقوى عندي هو الحكم بالتخيير مطلقا ، لجريان أصالة البراءة في كل من الشقين على حد سواء ، كان مدركها العقل أو الأخبار.

إذ على الأول المناط عند العقل في استقلاله بعدم المنع والإباحة ظاهرا إنما هو قبح العقاب من غير حجة ، وهذا موجود في كل منهما على حد سواء ، إذ على تقدير كون احتمال التعيين لأجل أهمية محتملة في نفسه وإن كان الشك راجعا إلى كيفية من كيفيات الطلب المعلوم تعلقه به في الجملة لا إلى طلب آخر مستقل ، لكن الكيفيات أيضا مما لا طريق إليها للمكلف إلا ببيان الشارع لها ، كنفس التكاليف المستقلة ، ومن المعلوم للمتأمل أن قبح العقاب عند العقل في التكاليف المستقلة المجهولة ليس لخصوصية استقلال المجهول ، بل إنما هو من باب أنه مما لا طريق للمكلف إليه إلا ببيان الشارع ، وأن كل ما كان كذلك يقبح المؤاخذة على مخالفته مع الجهل به.

وعلى الثاني المناط هو الجهل الموجود في كل منهما ، فإن المستفاد من الأخبار إنما هو معذورية الجاهل في مخالفته الواقع المشتبه عن جهله به ، من غير فرق بين أن يكون متعلقه من الأمور المستقلة ، أو من الكيفيات والتوابع ، والاشتغال بمحتمل التعيين في كل من الشقين لم يثبت على الإطلاق ، وإنما المعلوم منه ثبوته على وجه لا يجوز مخالفته لا إلى بدل أصلا ، فلا يقتضي تعيين خصوص محتمل التعيين.

٢٧٠

ومن هنا ظهر أنه لا حاجة في جواز الاكتفاء بغير محتمله إلى التوجيه بحكومة أصالة البراءة ، إذ على هذا التقدير لا ينافيها قاعدة الاشتغال أصلا حتى يحتاج تقديمهما عليها إلى إثبات حكومتها عليها ، فافهم.

ثم إنه بقي أمران ينبغي التنبيه عليها :

الأول : أنه إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين أهم من الآخر في نظر الشارع واقعا حال التزاحم من جهة اتحاده مع عنوان آخر واجب ، فذلك إنما هو فيما إذا انحصر مصداق ذلك العنوان فيه ، بحيث لا يمكن امتثاله في مورد آخر ، وأما معه فلا ، إذ مجرد اتحاده معه لا يقضي بتعيينه ، وإنما هو لأجل أنه لو ترك ذلك يلزم فوت الواجبين ، بخلاف ترك الآخر الغير المتحد معه ، ومن المعلوم أن ترك واجبين لا يلزم إلا في تقدير انحصار مصداق ذلك العنوان فيه ، فإذا كانت أهمية أحدهما محتملة من تلك الجهة ، فلا بد أن يكون المورد مما انحصر مصداق ذلك العنوان المتحد معه المحتمل وجوبه ، وإلا فلا يعقل احتمال أهميته بمجرد اتحاده معه مع فرض المندوحة.

الثاني : أنه إذا اتحد أحد الواجبين المتزاحمين مع عنوان مندوب في نفسه ، بل ومع ألف عنوان كذلك ، لا يوجب ذلك تعينه ، بل الحكم حينئذ أيضا التخيير ، كصورة عدم اتحاده مع شيء منها أصلا.

والدليل عليه ـ بعد الإجماع على عدم تعيين أحد فردي الواجب التخييري باتحاده مع عنوان آخر مندوب ، الّذي يعبر عنه بأفضل فردي الواجب التخييري ، بل ومع اتحاده مع عناوين كذلك ـ العقل.

وتوضيحه : أن تعيين أحد الواجبين المتزاحمين المتخير فيهما لو لا أهمية أحدهما إنما هو على تقديره من جهة تأكد وجوبه بالإضافة إلى وجوب الآخر ، ومن المعلوم أن كان كيفية من الكيفيات لا بد أن يكون مؤكدها كيفية هي من سنخها ونوعها ، كما ترى ذلك في مثل الألوان ، والطعوم.

٢٧١

ومن المعلوم أن الجهات المقتضية للاستحباب وإن اجتمعت آلاف منها في مورد ، لا يعقل تأثيرها في إيجاب المورد ، وإنما يؤثر حينئذ ـ أيضا ـ طلبه ندبا ، غاية الأمر أنه تؤثر ـ حينئذ ـ مرتبة من الطلب الندبي المؤكد.

ومن المعلوم ـ أيضا ـ أن الطلب الندبي ، وإن بلغ ما بلغ من التأكد ، لا يبلغ مرتبة الوجوب ، فلا تسانخه ، فلا يعقل أن يكون مؤكدا له ، فلا يوجب اتحادها مع أحد الواجبين التخييريين ـ بالأصل ، أو لعارض لأجل التزاحم ـ تعيين ما اتحدت معه ، نعم يوجب أفضليته من الآخر.

قوله ـ : (قدس سره) ـ : ( ومرجع التوقف أيضا إلى التخيير إذا لم يجعل الأصل من المرجحات ) (١).

مراده من رجوع التوقف إلى التخيير إنما هو رجوعه إليه بحسب المورد ، بمعنى أنه إذا كان المورد مما كان الأصل الأولي فيه التوقف مع عدم كون الأصل من المرجحات يكون من صور التكافؤ التي هي مورد للتخيير الثابت بأخبار التخيير ، والتقييد بعدم كون الأصل من المرجحات لأجل أنه مع كونه منها يكون قاطعا للأصل الأولي الّذي هو التوقف ، ومعينا للأخذ بموافقه من الخبرين المتعارضين ، فيكون مخرجا للمورد عن أخبار التخيير ، لاختصاصها بما لم يكن لأحدهما مرجح ومعين ، الّذي يعبر عنه بصورة التكافؤ.

وظاهر العبارة يعطي ما لا يخلو من المناقشة والإيراد مع أنه ليس بالمراد ، فإن ظاهرها رجوع نفس التوقف إلى نفس التخيير على التقدير المذكور وهو لا يستقيم ، فإن التوقف والتخيير معنيان متباينان ، لا يعقل صدق أحدهما على الآخر ، إذ الأول عبارة عن عدم التمسك بواحد من الخبرين المتعارضين في خصوص مؤداه ، والثاني عبارة عن جواز التمسك بواحد منهما على البدل في

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٦.

٢٧٢

خصوص مؤداه ، وجعله طريقا إليه ، فالنسبة بينهما هو التباين الكلي ، لتناقضهما.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ومرجع الأخير إلى أنه لو لا الإجماع حكمنا بالترجيح في البينات ـ أيضا ـ ) (١).

أقول : هذا بظاهره لا يستقيم ، فإن الأخير الّذي استظهر منه ذلك هي العبارة المحكية عن النهاية (٢) والمنية (٣) وهي قوله سلمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع.

ولا يخفى أنها ظاهرة ، بل صريحة في إبداء الفرق بين المقام وبين البينات ، بقيام الإجماع على وجوب الترجيح هنا ، ووقوع الخلاف فيه في البينات ، حيث أن أكثر الصحابة على عدم الترجيح فيها ، لا قيام الإجماع على عدم الترجيح فيها ـ كما استظهره (قدس سره) ـ وحاصلها أن الترجيح في المقام للإجماع ، فهو الفارق بينه وبين البينات ، لا أن عدم الترجيح في البينات للإجماع فيها على عدمه ، كما استظهره (قدس سره).

قوله ـ قدس سره ـ : ( ثم إنه يظهر من السيد الصدر الشارح للوافية (٤) الرجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير أو التوقف والاحتياط وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ) (٥).

أقول : لا يخفى أن ما استظهره من السيد المذكور من التخيير أولا ، ثم التوقف والاحتياط ، ظاهره هو التخيير في الفتوى ، ثم التوقف فيه ، والاحتياط

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٠.

(٢) نهاية الوصول ، مخطوط ، انظر باب الترجيح حسبما أحال إليه نفسه في مبحث بناء العام على الخاصّ : ١٥٦ ونحن لاحظنا النسخة فكانت غير كاملة إلى آخر مباحث النسخ.

(٣) منية اللبيب ، مخطوط.

(٤) شرح الوافية للسيد صدر الدين ، مخطوط ، انظر : هامش رقم (٣) ص ٧٧.

(٥) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٠.

٢٧٣

في العمل خلاف صريح العبارة التي حكاها عن السيد المذكور ، وهي أن الأصل التوقف في الفتوى والتخيير في العمل ، فلا تغفل (١).

بيان ما لعله يحتاج إلى البيان في مقبولة عمر بن حنظلة ، وهو أن قوله عليه السلام فيها ( من تحاكم إليهم في حق أو باطل ، فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا ، وإن كان حقه ثابتا ... إلى آخره ) (٢). يشمل المنازعة في الدين والعين الخارجية أيضا ، ويعم ما إذا كان منشؤها في الموضعين اختلاف المتنازعين في الحكم الشرعي ، أو كان اختلافهما صغرويا بعد اتفاقهما على الحكم الشرعي الكلي ، كأن يدعي أحدهما تملكه لدار في يد الآخر مستندا إلى دعوى أنه قد باعها تلك الدار ، وينكره الآخر لإنكار عدم وقوع البيع الّذي يدعيه ، مع اتفاقهما على أن البيع الّذي يدعي مدعيها وقوعه عليها على تقديره سبب ملك شرعا.

لكن يشكل الحكم بحرمة أخذ العين الخارجية المتنازع فيها إذا كان اختلافهما صغرويا مع علم الآخذ بأنها ماله واقعا ، بل الظاهر قيام الإجماع على جواز أخذها حينئذ ، بل ويشكل حرمة أخذ العين المتنازع فيها مع كون النزاع فيها كبرويا ـ أيضا ـ إذا كان الآخذ قاطعا بأنها له شرعا ، كأن ادعى أحدهما تملك ثوب في يد الآخر مستندا إلى اشترائه بالبيع بالصيغة الفارسية مثلا ، وينكره الآخر ، لإنكاره سببية العقد بالفارسي للتملك شرعا مع اعترافه بوقوعه ، لكن المدعي قاطع بسببيته له شرعا ، بل لا أظن بأحد القول بالحرمة في ذلك الفرض ، بل الظاهر جواز أخذها ـ حينئذ ـ لجريان مناط الجواز في معقد الإجماع المذكور فيه ـ أيضا ـ فإن جواز الأخذ هناك ليس حكما تعبديا جديدا ، بل المعلوم أنه من

__________________

(١) لاحظ هامش رقم (٣) ص ٧٧.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٠١ الحديث ٥٢.

٢٧٤

باب سلطنة كل أحد على ماله ، وأن المفروض قطع المدعي بكون العين ماله ، وهذا بعينه موجود في الفرض المذكور.

بل ويشكل ذلك فيما إذا كان مورد النزاع دينا ، مع كون النزاع صغرويا أو كبرويا ، مع كون المدعي قاطعا بمستند دعواه من الحكم إذ انحصر طريق استيفاء الدين في كلتا الصورتين في التحاكم إلى حكام الجور.

وقد يوجه حرمة أخذ الدين في تينك الصورتين بأن الدين كلي لا يتعين في مال إلا بإعطاء المديون إياه بعنوان الإيفاء والأداء ، والمأخوذ بحكم حكام الجور لم يؤخذ بذلك العنوان ، فلا يتعين الدين فيه حتى يكون ملكا للآخذ.

لكن يمكن منعه بمنع توقف تعيينه في مال مخصوص على ما ذكر فيما إذا كان المديون ممتنعا من الأداء ـ كما هو المفروض ـ وإلا فلا نزاع ، بل يتعين فيه حينئذ من باب التقاص ، فالأولى قصر الرواية الشريفة على ما قام الإجماع على حرمة الأخذ فيه ـ أيضا ـ وهو ما إذا كان الآخذ شاكا في تملكه لما يأخذه ، ويكون اعتماده فيه على حكم حاكم الجور ، سواء كان شكه من جهة شكه في الحكم الشرعي الكلي ، أو من جهة شكه في ثبوت الصغرى ، لكن قول السائل فيها ( وكلاهما اختلفا في حديثكم ) يأبى عن عمومها لما كان منشأ النزاع ، النزاع في الصغرى فإن القاطع للنزاع من حيث الصغرى إنما هي البينة والحلف ، لا الحديث

المتكفل لبيان الأحكام الكلية.

فمنه يظهر خروج النزاع من حيث الصغرى ، سواء كان مورده هو العين أو الدين منها.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الإشكال بل الإشكالات من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة إلى قوله ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم

٢٧٥

الآخر ) (١).

أقول : وفيها إشكال آخر ، لم يذكره المصنف (قدس سره) وهو أن ظاهر صدرها الرجوع إلى الحاكم عند المعارضة والمنازعة ، ولا ريب أن الأمر بيد المدعي في اختيار الحاكم في المنازعات وله اختيار من شاء ، وإن كان مفصولا بالنسبة إلى من اختاره المنكر ، فإن الفقيه وإن كان مفصولا ، ينفذ حكمه في الواقعة الشخصية ، لا تفويض الأمر بيد المتنازعين وتحريهما في إعمال المرجحات فكان المناسب أن يجيب عليه السلام بأن الأمر بيد المدعي ، والقول قول من اختاره حكما ، هذا.

ولكن الّذي يقتضيه التأمل اندفاع تلك الإشكالات بأسرها على تقدير تماميتها في أنفسها ، بأن غاية ما ثبت إنما هي المنع منها في القاضي المنصوب خصوصا أو عموما ، وأما قاضي التحكيم الّذي هو المفروض في صدر الرواية كما يقتضيه قول السائل ( فإن كان كل رجل يختار رجلا ) فلم يقم دليل على عدم جواز نقض حكمه ، ولا على عدم جواز تعدده ، ولا على عدم جواز اجتهاد المترافعين بعد تعارض حكمهما ، ولا على عدم جواز اختيار المنكر من شاء أيضا ، فالأمور المذكورة على تقدير لزومها لا محذور فيها ، بل يمكن التمسك على جوازها بصدر الرواية.

هذا مضافا إلى عدم لزوم بعضها ـ أيضا ـ كتعدد الحكمين ، فلأن الظاهر من الرواية فرض السؤال عن تراضي المتخاصمين بكون كلا الشخصين معا حكما فيما شجر بينهما بأن يحكم كل منهما باستصواب الآخر ، لا كونه حكما مستقلا مستندا برأيه ، نظرا إلى قول الراوي ( فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٢.

٢٧٦

وقوله ( فإن كان كل رجل يختار رجلا ) وإن كان في نفسه ظاهرا فيما استظهره المصنف (قدس سره) من تعدد الحكمين ، لكنه بقرينة ما ذكر محمول على اختيار كل منهما رجلا برأسه في أول الأمر ، ثم بنيا على كونهما معا حكما بينهما بالاستصواب.

وبهذا يندفع لزوم حكم أحدهما بعد حكم الآخر ـ أيضا ـ إذ بعد كون كليهما معا حكما لا يجوز أن يحكم واحد منهما مخالفا لما حكم به الآخر ، وكذا لزوم تفويض الأمر في اختيار الحاكم إلى المنكر ـ أيضا ـ.

ويمكن منع لزوم ذلك على تقدير تعدد الحكمين ـ أيضا ـ بحمل الرواية على صورة التداعي ، فإن كلا من المتخاصمين في تلك الصورة مدع ومنكر باعتبارين.

وأما ما ذكره (قدس سره) من لزوم غفلة الحكمين عن المعارض لمدارك حكمه ففيه أن مثل ذلك غير عزيز.

وأيضا يمكن منع اللزوم بأن فتوى كل منهما على خلاف الآخر لعله لاطلاعه على قدح في مستند حكم الآخر ، لم يطلع الآخر عليه من صدوره تقية أو غيره من القوادح ، لا لغفلته عنه رأسا.

فبقي مما ذكره لزوم اجتهاد المترافعين ، ووجه كونه محذورا أن القول قول الحاكم في مقام الدعوى.

لكن لا ضير فيه بعد فرض تعارض الحكمين ـ كما عرفت ـ لعدم قيام دليل على المنع منه.

ثم إن هذا كله على تقدير تسليم ظهور صدر الرواية في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين ، لأجل الحكم بينهما ، بأن يكون الفاصل بينهما هو حكومة الحاكم ، لا روايته.

لكن يمكن دعوى ظهوره في رجوعهما إليهما من حيث الرواية ، وذلك

٢٧٧

لمقدمتين.

إحداهما : ما عرفت سابقا من ظهور الرواية من فرض كون منشأ النزاع بينهما هو الاختلاف في الحكم.

وثانيتهما : أن المتعارف في ذلك الزمان أن كل من يفتي بشيء كان إفتاؤه بنقل الحديث الوارد في الواقعة المسئول عنها ، وكان المستفتى عن شيء إنما يرجع إلى المفتي ، لأجل استعلام ما عنده من الحديث في الواقعة المجهولة الحكم.

والمستنتج من هاتين المقدمتين ان فرض السؤال إنما هو في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين من حيث كونهما راويين ، وكون كل منهما مجتهدا.

ويدل عليه ـ أيضا ـ قول السائل ( وكلاهما اختلفا في حديثكم ) فإنه ظاهر في رجوعهما إليهما من حيث الحديث والرواية ، وجعل الفاصل بينهما هي لا رأى الحاكم ، فلا يرد حينئذ شيء من الإشكالات المتقدمة ، إذ الرواية مما يناسبها التعدد ، ويجوز نقل رواية متعارضة لما يرويه الغير أيضا ، والراوي أيضا لا يجوز له إلزام الغير الّذي له ملكة الاستنباط على ما يراه مما رواه ، بل العبرة بنظر الغير في أحكام نفسه.

نعم يقع التعارض على هذا بين هذه الرواية وبين المرفوعة الآتية كما سيأتي التنبيه عليه.

هذا كله مضافا إلى أن إجمال صدر الرواية الشريفة لا يقدح في الاحتجاج بذيلها ، الصريح بوجوب الأخذ بالمرجحات المذكورة فيه كما اعترف به (قدس سره) أيضا.

قوله ـ قدس سره ـ : ( اللهم إلا أن يمنع ذلك ، فإن الراوي إذا فرض كونه أفقه ... إلى آخره ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٣.

٢٧٨

أقول : لا يخفى أن هذا التعليل إنما يقتضي عدم جواز العمل على العكس ، لا عدم عمل العلماء كذلك ، وظاهره أخذه علة للثاني.

ويمكن توجيهه : بأن غرضه أخذ العلة المذكورة كاشفة عن عدم عمل العلماء كذلك.

ويحتمل كونها علة للأول ، بأن يكون غرضه منع حجية عمل العلماء على إثبات العكس ، وأن الوجه هو الأخذ بصفات الراوي لمكان العلة المذكورة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( حتى بين من هو أفقه من هذا المنفرد برواية الشاذ ) (١).

يعني الأفقه منه في زمانه وعصره ، بأن يكون بعض رواة الرواية المشهورة المعاصرين له أفقه منه ، فلا يجوز ترجيح تلك الرواية الشاذة لأجل أفقهية ذلك المنفرد لوجود تلك العلة فيما يعارضها ، لأن اعتبار الأفقهية على تقديره لا يختص بشخص دون شخص ، أو زمان دون زمان.

قوله ـ قدس سره ـ : ( مع أن أفقهية الحاكم بإحدى الروايتين لا يستلزم أفقهية جميع رواتها ) (٢).

يعني أفقهية جميع رواتها المعاصرين في جميع الطبقات ، فقد يكون بعض رواة الرواية الأخرى في بعض الطبقات المتقدمة على عصر ذلك المنفرد ، أو المتأخرة عنه أفقه منه إن لم يكن بعض رواتها المعاصرين له أفقه منه ، فلا يجوز ترجيح روايته على الرواية المشهورة في تلك الصورة ـ أيضا ـ لما مر ، هذا.

أقول : لا يخفى أن الغرض إنما هو تقديم الأفقهية من حيث هي على الشهرة كذلك في مقام الترجيح ، وعدم تقديمها عليها في الصورتين لا يقدح

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٣.

٢٧٩

بذلك ، فإنه حقيقة ليس لأجل تقديم الشهرة عليها فيهما ، بل إنما هو لأجل اشتراك الروايتين في اشتمالهما عليها ومساواتهما من جهتها ، فليس لإحداهما مزية على الأخرى من جهتها ، وترجيح الرواية المشهورة على الشاذة ـ حينئذ ـ لأجل اشتمالها على مزية أخرى غير تلك الجهة ، ووجوب الأخذ بكل من المرجحات إنما هو فيما لم يوجد في كلا الخبرين معا ، وهذا إنما هو من باب الاختصاص (١) لا التخصيص ، لأن التخصيص إنما هو فيما كان من شأنه عموم الحكم بالنسبة إليه ، ومن المعلوم أنه لا يعقل تعميم وجوب الترجيح بها بالنسبة إلى صورة وجودها في كلا الخبرين.

قوله ـ قدس سره ـ : ( أو تعارض الصفات بعضها مع بعض ) (٢).

فيه : أن فهم السائل جواز الترجيح بكل من الصفات في نفسه لا يغنيه عن حكم تلك الصورة ، إذ غايته جواز الترجيح بكل منها إذا لم يكن لها معارض ، وأما فيما كان لها معارض من الصفات الأخر فلا يقتضي ذلك جواز الترجيح بكل منها حينئذ.

أما تعيينا فواضح ، لامتناعه.

وأما تخييرا ، فلأنه ليس من مدلول قوله عليه السلام.

والحاصل : أن عدم سؤال السائل عن صورة تعارض الصفات بعضها مع بعض لا يصلح قرينة على إرادة وجوب الترجيح بكل منها مستقلا ، لعدم الارتباط بينهما بوجه ، كما عرفت ، بل يمكن جعله قرينة على فهمه وجوب الترجيح بجميعها ، إذ عليه لا حاجة إلى بيان حكم تعارض بعض الصفات مع بعض ، لأنه لا يجب الترجيح حينئذ لفرض عدم اجتماعها في طرف.

__________________

(١) الظاهر ان المراد التخصص ، أي أن هذا من باب الخروج موضوعا ، لا حكما مع الدخول موضوعا.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٣.

٢٨٠