تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

يكون كل منهما حجة ، بل أحدهما ، فالنافي للثالث إنما هو أحدهما ، لا كل منهما ، فارتفع الفرق بين المقامين بما ذكر.

ويمكن دفعه ، بأن غاية ما في المقام إنما هو العلم الإجمالي بكذب أحدهما في مدلوله المطابقي ، وأما كذبه بالنسبة إلى نفي الثالث الّذي هو مدلوله الالتزامي فلا ، ولما كان المفروض وجود مقتضي الحجية في كل منهما وقد مر أنه لا بد بعد إحرازه من ترتيب مقتضاه عليه إلا أن يمنع مانع ، وأنه على تقدير وجود مانع لا بد من الاقتصار في رفع اليد عن مقتضاه بمقدار مانعية ذلك المانع ، فهما بالنسبة إلى مدلوليهما المطابقي كالطريق المعتبر والغير المعتبر المشتبهين ، وأما بالنسبة إلى ذلك المدلول الالتزامي فلا. بل كل منهما حجة عليه فيصح الفرق.

وقد يشكل : بأن القدر المعلوم وإن كان كذب أحدهما في مدلوله المطابقي دون مدلوله الالتزامي الّذي هو عدم الثالث ، لكن مجرد الشك في كذبه في مدلوله الالتزامي لا يصلح لكونه سببا لحجيته فيه ، بل لا بد معه من حجيته في مدلوله المطابقي ـ أيضا ـ بكونه أيضا مشكوكا ، فإن المدلول الالتزامي من توابع المطابقي ، فإذا حكم بعدم إرادة المطابقي ، فيحكم بعدم إرادة الالتزامي ـ أيضا ـ فأحدهما الّذي علم بكذبه لا يكون حجة في نفي الثالث ـ أيضا ـ فارتفع الفرق المذكور لذلك.

ويمكن دفعه ، بأن المدلول الالتزامي لا يدور إرادته مدار إرادة المطابقي نفيا وإثباتا ، بل إثباتا فقط ـ بمعنى أنه لا يمكن انفكاك إرادة الالتزامي عن إرادة المطابقي ـ وأما العكس فهو ممكن ـ كما في المدلول التضمني ـ فتأمل (١).

__________________

وعدم كون الآخر كذلك كالقياس فمن المعلوم حينئذ حصول العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، فلو كان وقوع حجة طرفاً للمعلوم الكذب إجمالاً مانعا من الآخذ به لكان مانعاً منه في الفرض المذكور مع أنه لم يقل به أحد. لمحرره عفا الله عنه.

٢٢١

والّذي يقتضيه دقيق النّظر عدم تمامية الفرق بما ذكر ، ومقتضى التحقيق ثبوت الفرق بين المقامين بوجه آخر : وهو أن أحد الطريقين في المقام وإن لم يكن حجة في مداليله مطلقا لما ذكر في تقرير الإشكالين المتقدمين إلا أنه ليس أحدهما المعين في الواقع المجهول في الظاهر ، كما هو الحال في ذلك المقام ، حيث أن غير

__________________

(١) من الخطاب الدال على إرادة المطابقي إلا بعد حمله على إرادته منه.

وبالجملة استفادة الجزء أو اللازم من حيث كونهما جزء أو لازما متوقفة على استفادة الكل أو الملزوم.

نعم قد يكون استفادته منهما من الخطاب المتعلق بالكل أو الملزوم بوجه آخر غير متوقف على حمله على إرادة الكل أو الملزوم ، بل مبني على عدم إرادتهما وهو أنه إذا قام قرينة على عدم إرادتهما فيحمل الخطاب على إرادة الجزء أو اللازم من جهة أنه إذا تعذر حمل لفظ على حقيقته فلا بد من حمله على أقرب مجازاته إذا كان مجاز أقرب ، وهما أقرب من سائر المجازات ، وحمل العمومات ـ بعد قيام قرينة منفصلة على عدم إرادة العموم ـ على ما عدى ما علم بخروجه من هذا الباب ، فإن القرائن المنفصلة فيها ليست كالمتصلة موجبة لظهور العام في إرادة الباقي فتكون معينة أيضا ، بل إنما هي صارفة صرف ، والتعيين إنما يجيء من جهة أقربية تمام ما عدى الخارج إلى مدلول العام من سائر مراتب الخصوص ، لكن ما نحن فيه أعني الطريقين المتعارضين خارج عن ذلك الباب ، فإن المفروض مساواة الطريقين في كيفية الإفادة من النصوصية والظهور وعدم مزية وقوة لدلالة أحدهما على دلالة الآخر ، ومن المعلوم أنه إذا كانا نصين لا يمكن التصرف في شيء منهما بوجه بحمله على إرادة جزئه أو لازمه ، بل الأمر دائر بين الأخذ بتمام مؤدى هذا وبين الأخذ بتمام مؤدى ذاك ، وأما إذا كانا ظاهرين فكل منهما حينئذ وإن كان قابلا للتأويل والحمل على خلاف ظاهره ، لكن لا بد أن يكون الاعتماد في التصرف على أمر ثالث ، لا على صاحبه المساوي له ، لعدم صلاحيته لذلك ، ولما كان المفروض انتفاء أمر ثالث فلازمه إرادة تمام مدلول هذا أو تمام مدلول ذاك ، فالعلم بكذب أحدهما في مدلوله المطابقي مانع منه من حجيته في مدلوله الالتزامي أيضا ، فأحدهما غير حجة في مداليله مطلقا.

ومن هنا يظهر أن الظاهرين المتعارضين ليس شيء منهما من مقولة الخطاب المجملة من جهة اكتنافها بما أوجب إجمالها ، فإن الشك هناك إنما هو في المراد من الخطاب بعد الفراغ عن إرادة معنى منه في الجملة ، وهنا إنما هو في إرادة معنى الخطاب وعدم إرادته رأسا ، وسيجيء لذلك مزيد بيان في طي بيان جواز التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدمه ، فانتظر.

وكيف كان فقد ظهر الفرق بين المقام وبين العمومات المخصصة ، وبطل قياسه عليها ، فتدبر ولا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.

٢٢٢

الحجة هناك إنما هو معين واقعي ، وهو الخبر الضعيف مثلا مجهول في الظاهر ، لاشتباهه بالصحيح ، بل أحدهما الغير المعنون بعنوان معين له في الواقع الّذي هو في قوة أحدهما على البدل ، لأن غاية ما في المقام العلم بكذب أحدهما مع قيام احتمال كذب الآخر ـ أيضا ـ فلا يعقل أن يكون عنوان معلوم الكذب متعينا في أحدهما بخصوصه في الواقع ، وتعينه فيه فيما إذا علم بصدق الآخر إنما هو من لوازم العلم بصدق الآخر لا من لوازم العلم بكذب أحدهما حتى يجري في صورة الشك في صدق الآخر أيضا.

وبعبارة أخرى أوضح : إنه لا يعقل اعتبار مصادقة الواقع والصدق في نصب الطرق الغير العلمية ، بأن يكون المجعول منه حجة هو المصادف للواقع ، لأن ذلك العنوان إن حصل العلم به فيخرج الطريق المجعول عن كونه طريقا غير علمي ، فلا يكون حجة بمقتضي دليل اعتبار الطريق الغير العلمي ، بل حجيته حينئذ من باب كونه علما ، وهو حجة في نفسه لا يجعل جاعل ، وإن لم يحصل العلم به ، فلا ينفع نصبه طريقا للمكلف في شيء ، فاعتبار الطريق الغير العلمي من حيث كونه طريقا غير علمي يناقضه تقييده بصورة مصادفته للواقع ، كما أنه لا يعقل تقييده بصورة العلم بكذبه تفصيلا ، فإنه حينئذ يخرج عن قابلية الطريقية ، وعدم شمول الحكم له حينئذ من باب التعبد والاختصاص ، لا التقييد والتخصيص.

نعم يمكن تقييده بصورة عدم كونه من أطراف معلوم الكذب إجمالا ، لعدم استلزامه لشيء من المحاذير ، إلا أنه غير واقع إلا فيما إذا كان الطرف الآخر مساويا له في سائر شرائط الحجية التي متحققة فيه ، إذ لا شبهة في حجية الخبر الصحيح الّذي علم إجمالا بكذب الطريق المردد بينه وبين القياس مثلا في الظاهر ، فما يصح اعتباره في اعتبار الطريق الغير العلمي غير وصف مصادفته للواقع ، كعدالة الراوي وضبطه ونحوهما ، والمفروض في تعارض الطريقين اشتمال

٢٢٣

كل منهما على الأوصاف المعتبرة في الاعتبار على نحو اشتمال الآخر عليها وكون كل منهما مندرجين في العنوان الّذي دل الدليل على اعتباره لشرائطه ، وهو خبر العدل الضابط مثلا ، وقد علمنا من جهة تنافي مدلوليهما كذب واحد منهما حيث أنه يمتنع صدق المتنافيين ، لكنه ليس واحدا معينا في الواقع مجهول في الظاهر ، بل هو أحدهما بلا عنوان معين له ، لأن معينه الواقعي إما وصف الكذب وإما العلم بالكذب ، وإما غيرهما ، لا سبيل إلى شيء منهما.

أما الأول : فلفرض احتمال الكذب في كليهما ، إذ من المعلوم أنه على تقدير كذبهما جميعا لا يعقل أن يكون الكذب معينا لأحدهما ، لفرض عدم اختصاصه بواحد منهما.

وأما الثاني : فلأنه لا يعقل اعتباره في متعلقه ، لأنه من جعل الشيء موضوعا لنفسه.

وأما الثالث : فالمفروض كون المتعارضين فيه سواء واقعا من غير اختصاص له بأحدهما حتى يصلح لكونه معينا ، فإذا كان الّذي علم كذبه أحدهما بلا عنوان معين فغير الحجة منهما إنما هو أحدهما بلا عنوان ، كما أن الحجة منهما إنما هو أحدهما كذلك.

هذا مع أن الكذب لا يعقل أخذه واعتباره غاية ، لعدم الحجية ، لاستلزامه لأخذ وصف المصادفة شرطا في الحجية.

والحاصل أن الّذي علم من ملاحظة تنافي مدلوليهما إنما هو كذب أحدهما بلا عنوان ، فأحدهما بلا عنوان غير حجة في مداليله مطلقا ، وأحدهما كذلك حجة في مداليله مطلقا ، لفرض بقاء احتمال (١) صدقه مع اشتماله على شرائط الحجية إلا أنه لما لم يكن له عنوان ما مر فيكون تعيينه في خصوص أحدهما تعيينا بلا

__________________

(١) في النسخة الأصلية ( احتماله ) والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٢٢٤

معين ، فلأجل ذلك لا يعمل بشيء منهما في مؤداه المطابقي ، وإنما بنفي الثالث بأحدهما المحتمل الصدق الغير المعنون بعنوان الّذي هو الحجة.

هذا بخلاف ما إذا اشتبه طريق معتبر بغيره ، فإن المعتبر له عنوان واقعي غير عنوان الغير المعتبر ، فالنافي هناك للثالث إنما هو معين واقعي مجهول في الظاهر ، ففيما إذا اشتبه خبر صحيح بضعيف يكون النافي له هو الصحيح الّذي هو معين في نفسه في الواقع ، فالمقامان اشتركا في حكم التساقط بالنسبة إلى المدلول المطابقي لكل من الطريقين وفي أن النافي للثالث فيهما إنما هو أحدهما لا كل منهما ولا كلاهما معا ، وافترقا في أن النافي له في مقامنا هذا هو أحدهما بلا عنوان معين ، وهناك هو أحدهما المعين.

وكيف كان ، فحاصل ما يقتضيه تدقيق النّظر في تعارض الطريقين تساقطهما في مؤداهما وعدم كون واحد منهما حجة فعلية في إثبات مؤداه المطابقي فإنه لما علم بكذب أحدهما فلا يكون أحدهما حجة لذلك ، وأحدهما وإن لم يعلم بكذبه إلا أنه لما لم يكن له مائز ويكون تعيينه في خصوص واحد منهما ترجيحا بلا مرجح فلا يكون هو ـ أيضا ـ حجة في مؤداه المطابقي فعلا ، لكنه حجة في نفي الثالث ، لفرض وجود المقتضي فيه ، فلا بد من ترتيب مقتضاه عليه مع عدم المانع منه ، والّذي ذكر إنما هو يمنع منه بالنسبة إلى مدلوله المطابقي دون الالتزامي.

لا يقال : قد مر أن المدلول الالتزامي تابع للمطابقي ، فإذا لم يمكن الحكم بإرادة المطابقي فكيف يمكن الحكم بإرادة الالتزامي.

لأنا نقول : إن مقتضى المانع المذكور إنما هو عدم إمكان الحكم بإرادة المدلول المطابقي لأحد الطريقين بالخصوص وأما المدلول المطابقي لأحدهما لا على التعيين فذلك لا يمنع من الحكم بإرادته ، فيحكم بكونه مرادا ، فيتبعه مدلوله الالتزامي الّذي هو عدم الثالث ، فيحكم بعدم الثالث ، فإن البناء على إرادة

٢٢٥

المدلول المطابقي لأحدهما لا على التعيين إنما لا ينفع في الحكم بإرادة خصوص واحد من المدلولين المطابقيين لهما ، وأما في الحكم بعدم إرادة الثالث فيجدي جدا ، فإن المفروض أن كل واحد من الطريقين دال على نفي الثالث التزاما ، فأحدهما لا على التعيين المحكوم بإرادة مدلوله المطابقي في أي منهما تعين ، يقتضي نفي الثالث التزاما.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

واما المقام الثاني : فتوضيح المرام أن المتصور فيه ، بل الممكن وجوه :

أحدهما : أن يكون المستعمل فيه الخطاب الدال على اعتبار الخبر هو الوجوب التعييني ، لكن بالنظر إلى ذات الخبر من غير ملاحظة حال التعارض أو التزاحم ، بأن يوجه به البعث والتحريك إلى العمل به بالنظر إلى ذاته ، كما هو الحال في الخطاب الدال على حلية الأشياء أو طهارتها ، كقوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (١) فإن المراد به إنما هو الرخصة في تناولها بالنظر إلى ذاتها التي لا تنافي المنع عن تناولها في بعض الحالات لأجل عروض مانع ، ككونها مغصوبة مثلا.

نعم المانع عند عروضه مانع من فعليتها مع بقاء مقتضيها.

وفائدة الرخصة ، أو الطلب كذلك ـ فيما إذا اتحد متعلقهما مع عنوان محرم ، فارتكبه المكلف حينئذ ـ أنه يستحق حينئذ عليه عقاب واحد ، وبدونهما ـ بأن يكون أصل الفعل في حد ذاته محرما إذا اتحد مع عنوان آخر محرم كأكل النجس المغصوب مثلا (٢) ـ يتعدد العقاب على الارتكاب.

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) وكوطء الأجنبية الحائض فانه يستحق عليه عقابان أحدهما من جهة كونه وطءا للأجنبية حيث أنه محرم ذاتا وثانيهما من جهة وطئ المرأة حال الحيض ، هذا بخلاف ما إذا كانت الحائض الموطوءة زوجته فإنه حينئذ يستحق عقاب واحد من الجهة الثانية فقط لكون وطئها مباحا في حد ذاتها. لمحرره عفا الله عنه.

٢٢٦

وفائدة الطلب التعييني كذلك بالنسبة إلى ذات الخبرين المتعارضين مع فرض امتناع فعليته في كل منهما ولا في واحد منهما ـ كما مر ـ أنه يشتبه تحرير المقتضي للعمل بكل منهما أو بواحد منهما ـ بناء على ما قويناه أخيرا (١) ـ من أن المقتضي للعمل إنما هو لأحدهما بلا عنوان ، لا لكل منهما ، لفرض العلم بكذب أحدهما كذلك ، فيقال ، في تقرير ثبوت المقتضي لأحدهما بلا عنوان أنه لا شبهة في مساواته للخبر السليم عن المعارض من حيث وجود المقتضي فيه ، وهو كونه خبر عدل غير معلوم الكذب.

وإنما الفرق بينهما أن هذا لما لم يتعين مورده في خصوص أحد المتعارضين ،

__________________

(١) قولنا بناء على ما قويناه .. إلى آخره : يمكن المناقشة فيه بأن المفروض طلب العمل على طبق كل واحد من الخبرين وجعله طريقا في مؤداه في حد ذاته فهو يكشف عن وجود المقتضي للحجية في ذات كل منهما ، ومن المعلوم أن ما ثبت لذات الشيء ثابت له في جميع أحواله التي منها حال التعارض في حمل الغرض ، فكل منهما مشتمل على مقتضي وجوب العمل تعيينا في تلك الحال ، إلا أن التعارض مانع من عينية الوجوب ، فيترتب عليه أصله المتحقق في ضمن التخييري ، كما هو الحال فيهما ، بناء على اعتبارهما من باب السببية.

لكنها مدفوعة بأن وجوب العمل على الفرض المذكور أيضا ـ بناء على اعتبارهما من باب الطريقية ـ لا يتعلق بذات خصوص شيء منهما ، بل إنما هو يتعلق بعنوان الخبر الغير المعلوم الكذب.

وبعبارة أخرى إنه يتعلق بذات ذلك العنوان من حيث هو ، وهذا العنوان صادق على أحدهما الغير المعين في خصوص شيء منهما ، لا على كل منهما فتأمل ، فالمقتضي للحجية إنما هو متحقق في أحدهما بلا عنوان ، لا في كل منهما ، هذا.

وبل يمكن دعوى ذلك بناء على اعتبارهما من باب السببية أيضا ، إذ من المعلوم أنه على ذلك التقدير ـ أيضا ـ لا يجب العمل بالخبر المعلوم الكذب ، بل موضوع وجوب العمل حينئذ ـ أيضا ـ هو المحتمل للصدق منه الصادق في صورة التعارض على أحدهما بلا عنوان.

اللهم إلا أن يقال إنه وإن كان صادقا على أحدهما بلا عنوان إلا أنه صادق على خصوص كل منهما أيضا لفرض عدم معلومية كذب خصوص شيء منهما فثبت المقتضي لوجوب العمل في خصوص كل منهما لذلك والعلم بكذب أحدهما بلا عنوان ربما يمنع من العمل بواحد منهما بالخصوص في مؤداه على وجه الطريقية دون السببية فافهم. لمحرره عفا الله عنه.

٢٢٧

فذلك منع من التمسك وحجيته فعلا في إثبات مؤداه المطابقي.

وأما بالنسبة إلى مؤداه الالتزامي الخالي عن المانع ، فلا فرق بينهما بوجه.

فيقتصر في رفع اليد عنه على مقدار ما يمنعه المانع ـ لما مر ـ من أنه بعد ثبوت المقتضي فلا بد من ترتيب مقتضاه عليه حسبما أمكن.

وقد مر أنه لا مانع من ترتيب نقيض مقتضاه عليه حينئذ ، وهو نفي الثالث ـ بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية ـ والعمل بأحدهما مخيرا ـ بناء على اعتبارها على وجه السببية ـ وكذلك الحال في سائر الواجبات النفسيّة المتزاحمة.

وبالجملة إذا كان الحكم معلقا على ذات الشيء من حيث هو ، فتعليقه عليه على هذا الوجه يكشف عن ثبوت المقتضي له فيه مطلقا في جميع حالاته ، ولازمه ترتيب ذلك الحكم أمرا كان ، أو نهيا عليه إذا لم تزاحمه جهة أخرى خارجية مساوية له ، أو غالبة عليه ، وعلى تقدير التزاحم يقتصر على مقداره.

ثم إن ذلك الشيء إذا عرضته جهة أخرى مؤكدة لما فيه من مقتضي ذلك الحكم بأن اتحد مع عنوان آخر مشتمل على الجهة المقتضية للحكم الّذي تقتضيه جهة ذات ذلك الشيء فلازمه ثبوت مرتبة متأكدة من ذلك الحكم له حينئذ ، فإن كل علتين مشتركتين في معلول إذا وردتا على مورد دفعة فلا يعقل أن يؤثر كل منهما أثرا ممتازا عن أثر الآخر ، بل يؤثر كل منهما حينئذ ذلك المقدار الّذي كانت تؤثر فيه ، فيتداخل أثرهما ويكون الحاصل من كليهما مرتبة بمقدار مجموع المقدارين ، كما في صورة ورود علتين للسواد ، أو الحمرة على مورد دفعة.

والحاصل أنه يؤثر كل منهما حينئذ أثره ، لكن وحدة المورد مانعة من امتياز أثر كل منهما عن أثر الآخر ، نظرا إلى امتناع اجتماع المثلين كاجتماع الضدين في مورد واحد ، ولأجل كون كل منهما مؤثرة ترى أنه تتعدد آثارهما حينئذ ، كتعدد العقاب على الفعل إذا كان الحكم الحرمة ، أو على الترك إذا كان هو الوجوب.

٢٢٨

وثانيها : أن يكون المستعمل فيه اللفظ هو خصوص الوجوب التعييني ـ أيضا ـ لكن مع ملاحظة تقييده بغير صورة التزاحم والتعارض ، فيكون حاله حال سائر التقييدات اللفظية من حيث رجوع التقييد إلى تقييد المصلحة المقتضية للحكم ، هذا بخلاف الوجه الأول ، فإن التقييد بناء عليه إنما هو من جانب العقل ، وهو راجع إلى تقييد فعلية تأثير تلك المصلحة مع ثبوت أصلها مطلقا ، لا إلى تقييد نفسها ، ولازمه عدم ثبوت وجوب العمل للطريقين مطلقا ، لا تخييرا ، ولا تعيينا ، على كل من وجهي اعتبارهما من السببية ، أو الطريقية.

أما الوجوب التعييني فواضح.

وأما التخييري ، فلأنه لا مقتضي حينئذ حتى يترتب عليه مقتضاه على حسب الإمكان ، فيقال ـ بناء على اعتبارهما من باب السببية ـ إن الممتنع إنما هو تأثيره في عينية الوجوب ، دون أصله باعتبار تحققه في ضمن التخييري ، ـ وبناء على اعتبارها من باب الطريقية ـ إن الممتنع إنما هو حجية أحدهما الغير المعلوم الكذب في مؤداه المطابقي ، لما مر غير مرة ، وأما حجيته بالنسبة إلى مدلوله الالتزامي ـ وهو نفي الثالث ـ فممكن ، فيكون حجة عليه لوجود المقتضي بالنسبة إليه وعدم المانع منه.

فعلى هذا ، فاللازم في صورة التعارض ـ بناء على اعتبارهما من باب الطريقية ـ فرض المسألة التي تعارضا فيها كالمسألة الخالية عن النص رأسا والعمل على مقتضى الأصول العملية المقررة لتلك الصورة.

وبناء على اعتبارهما من باب السببية فلا يفرض شك في جواز عدم العمل بواحد منهما ، لفرض تقييده دليل اعتبارهما بغير تلك الصورة ويرجع في الشك في المسألة المتفرعة عليهما إلى تلك الأصول المقررة لصورة فقد النص.

وثالثها : أن يكون المستعمل فيه اللفظ هو خصوص الوجوب التعييني مع إرادة شموله لصورة التزاحم والتعارض ، لكن من باب التوطئة لإفادة حكم

٢٢٩

صورة التزاحم والتعارض على وجه ينطبق على غرضه من مطلوبية العمل بكل من الخبرين حال التعارض ـ أيضا ـ في حد ذاتهما وطلبه للعمل بكل منهما حينئذ تخييرا ـ بناء على اعتبارهما من باب السببية ـ ومن حجية أحدهما بلا عنوان الّذي يجدي في نفي الثالث ـ بناء على اعتبارهما من باب الطريقية ـ بمعونة العقل (١) جمعا بين الحقين من إفادة الغرض على ما هو عليه في نفسه ، والاستراحة عن كلفة إيراد خطاب آخر لبيان حكم خصوص صورة التعارض أو التزاحم.

بيان ذلك : إن الّذي في نفسه إنما [ هو ] وجوب العمل بكل واحد من آحاد الخبر عينا في صورة السلامة عن المعارض مطلقا ، وتخييرا في صورة التعارض ـ بناء على اعتبارها من باب السببية ـ وعدم وجوب العمل بواحد منهما في مؤداه مع العمل بواحد منهما بلا عنوان في نفي الثالث في تلك الصورة.

ومن المعلوم أن حكمها في صورة التزاحم ، أو التعارض مخالف لحكمها في صورة السلامة ، فلا يمكن إفادة الحكمين بخطاب واحد ، لتوقفه على جواز استعمال اللفظ في معنيين ، فلا بد إذن إما من خطابين ، أو خطاب واحد يصلح لإفادة حكم الصورتين ولو بمعونة العقل ، مع عدم استلزامه لمحذور استعماله في معنيين ، ومع إمكان خطاب واحد معه لذلك على الوجه المذكور لا حاجة إلى خطابين ، فإن إيراد خطاب يدل على الوجوب التخييري مثلا وإن لم يكن مفيدا لحكم الصورتين ولو بمعونة العقل نظرا إلى أن غاية ما يترتب عليه إطلاقه بالنسبة إلى صورة السلامة ـ أيضا ـ ، ومن المعلوم أن ثبوت الوجوب التخييري لا يكشف عن مقتضي الوجوب التعييني حتى يحكم بمقتضاه في صورة السلامة ، إلا أن الخطاب الدال (٢) على الوجوب التعييني مع تعميم الوجوب بالنسبة إلى

__________________

(١) قولنا بمعونة العقل متعلق بالإفادة في قولنا لإفادة حكم صورة التعارض. لمحرره عفا الله عنه.

(٢) نعم مع عدم تعميمه بالنسبة إلى تلك الصورة يفهم منه التقييد في المقتضي المستلزم لعدم ثبوت الحكم في تلك الصورة أصلا كما مر سابقا فلا يكون مفيدا لغرضه الكامن في نفسه. لمحرره عفا الله عنه.

٢٣٠

صورة التزاحم والتعارض كاف في إفادة حكم الصورتين بمعونة العقل.

أما إفادته لحكم صورة السلامة عن المعارض والمزاحم فظاهرة.

وأما إفادته لحكم صورة [ عدم ] السلامة عنهما ، فلأنه إما يدل على اعتبار الخبر من باب السببية ، وإما أن يدل عليه باعتبار الطريقية.

فإن كان مفاده هو الأول ، فتقريب استفادة حكم الصورة المذكورة حينئذ أن العقل لما رأى ثبوت الوجوب التعييني لكل منهما مع عجز المكلف عن العمل بكليهما جميعا ومع ملاحظة أن المتكلم حكيم لا يكلف بغير المقدور ، فيستفيد من ذلك كله أن غرض المتكلم من تعميم الوجوب التعييني إلى تلك الصورة إنما هو التنبيه على تمامية المقتضي له في كل منهما فيها وأنه يجب العمل بمقتضاه بما أمكن ، وهو العمل بأحدهما لا تركهما جميعا ، وهكذا يقال : في سائر الواجبات النفسيّة أيضا.

وإن كان مفاده هو الثاني ، فتقريب استفادة حكم الصورة المذكورة حينئذ أن العقل لما رأى إطلاق وجوب العمل بالنسبة إلى تلك الصورة ، وعلم أن الغرض إنما هو العمل بهما بعنوان الطريقية مع ملاحظته أنه لا يعقل التعبد بطريق معلوم الكذب ، بل لا بد فيه من احتمال الإيصال ، وأن التعبد بكل منهما في مؤداه المطابقي عينا مستلزم للتعبد بالطريق المعلوم الكذب كذلك ، وبواحد منهما بالخصوص لا يدل عليه الكلام لفرض مساواتهما في العنوان المأخوذ فيه وأن أحدهما بلا عنوان محتمل له مساو للخبر السليم عن المعارض من حيث اشتماله على الجهة المقتضية للحجية ، إلا أنه لعدم تعينه في شخص خاص لا يمكن التمسك في مؤداه المطابقي مع إمكان التمسك به في مؤداه الالتزامي ، ومع ملاحظة أنه مع وجود المقتضي يترتب عليه مقتضاه إذا لم يمنعه مانع ، فيستفيد من ذلك كله أن الغرض إنما هو حجية أحدهما بلا عنوان في نفي الثالث ، وعدم حجية

٢٣١

شيء منهما في مؤداه المطابقي (١).

ورابعها : أن يكون المستعمل فيه اللفظ هو القدر المشترك بين الوجوب التعييني والتخييري وإيكال إفادة العينية والتخييرية بالنسبة إلى صورتي التزاحم وعدمه إلى العقل ، وكذا إفادة أن التخييري على تقديره ليس كالتخييري المصطلح ، وهو ما يسقط عن مورده المطلوبية والمحبوبية والمصلحة بمجرد الإتيان ببدله ، بل المصلحة موجودة في المبدل بعد الإتيان يبدله أيضا.

أما تقرير استفادة العقل عينية الوجوب بالنسبة إلى غير صورة التزاحم فهو أنه بعد ما علم أنه طلب العمل بالخبر مع فرض عدم جعل بدل له في مقام امتثال ذلك الطلب المتعلق به يحكم بلزوم العمل به عينا ، فإن لازم عدم جعل بدل لواجب عقلا انحصار مورد الامتثال في ذلك الواجب ، كما أن لازم جعل بدل له إنما هو عدم انحصار مورده فيه ، ومنه يظهر وجه استفادة الوجوب التخييري بالنسبة إلى صورة التزاحم.

ويمكن استفادته بوجه آخر أحسن ، بل متعين (٢) وهو أن الطلب المفروض تعلقه بكل من المتزاحمين لا يعقل كونه تعيينيا ، لاستلزامه للتكليف ، بما

__________________

(١) لا يقال : إن المفروض وجود المقتضي لأحدهما بلا عنوان فهو حجة عينا في مؤداه المطابقي أيضا وهو صادق على خصوص كل منهما على حد سواء ولازمه التخيير منهما.

لأنا نقول : المفروض حرمة العمل بأحدهما بلا عنوان أيضا لفرض العلم بكذب أحدهما كذلك وهو صادق على كل منهما فيدور الأمر في كل منهما بين حرمة العمل به في مؤداه المطابقي وبين جوازه فيتساقط الجواز والحرمة في كل بالنسبة إلى مؤداه المطابقي فيرجع إلى الأصل في مؤدى كل منهما. لمحرره عفى الله عنه.

(٢) قولنا بل متعين ، وجهه أن جعل البدل في المقام إنما هو من قبل العقل وهو إنما يحكم به بعد حكمه برفع التعيين عن كل من المتزاحمين مع ثبوت أصل الوجوب لكل منهما تخييرا ، وفي الحقيقة بدلية كل منهما عن الآخر مفهوم منتزع من حكمه برفع التعيين من غير أن تكون هي بحكم آخر منه ، فبدلية كل منهما عن الآخر متوقفة ومتفرعة على رفع التعيين عن كل منهما مع ثبوت الوجوب التخييري له ، فلو توقف حكمه بالتخيير حينئذ على بدلية أحدهما عن الآخر يلزم الدور. لمحرره عفا الله عنه.

٢٣٢

لا يطاق ، فيتعين في التخييري.

وهذا الوجه إنما يجري في الخبرين المتعارضين ـ بناء على اعتبار الاخبار من باب السببية ـ ، وأما ـ بناء على اعتبارها من باب الطريقية ـ فلا يكاد يجري فيهما.

ويمكن إجرائه فيهما بتقريب آخر : وهو أنه أريد من الخطاب وجوب التعبد بكل خبر ، وجعله طريقا في مؤداه من غير ملاحظة التعيين والتخيير فيه ، فحينئذ تلاحظ خصوصية الموارد.

فإن كان المورد قابلا للوجوب التعييني ، بأن يكون الخبر المفروض تعلق الوجوب به سليما عن معارضة مثله في مؤداه ، فيتعين وجوبه في التعيين.

وإن لم يكن قابلا لذلك لأجل معارضته بمثله ، فلا مانع عقلا من كونه حينئذ تخييريا ، وإلا للزم طرح الأخبار الآمرة بالتخيير في المتعارضين المتساويين ، فيتعين في التخييري ، فعلى هذا فيكون التخيير في المتعارضين بمقتضى أدلة اعتبارهما ويكون أصلا أوليا فيهما.

نعم وجوب الترجيح حينئذ ـ فيما إذا كان مرجح لأحدهما ـ إنما هو أصل ثانوي وارد عليه ، لعدم اقتضاء أدلة اعتبارهما ذلك ، إذ المفروض اشتمال كل منهما على الشرائط المعتبرة في الحجية المأخوذة في أدلة اعتبارهما ، والمزية القائمة بأحدهما ـ التي تدل تلك الأخبار على وجوب الترجيح بها ـ خارجة عن تلك الشرائط ، فأولوية الأخذ بذيها إنما جاءت من قبل تلك الأخبار.

فإذا عرفت تلك الوجوه ، فهل الأوفق بأدلة اعتبار الأخبار أي منها؟

لا يخفى أن الثاني منها ـ مع منافاته لظواهر تلك الأدلة حيث أنها ظاهرة في الإطلاق ـ يمنع من المصير إليه الأخبار العلاجية المفيدة لحجية أحد المتعارضين في الجملة.

مضافا إلى قيام الإجماع عليه أيضا ، فلا يمكن حمل تلك الأدلة عليه.

٢٣٣

والرابع منها وإن كان هو مقتضى ظاهر الأمر عرفا ، لما حققنا في محله من أنه ظاهر في مجرد الطلب الحتمي وأن التعيين والتخيير خارجان عن مدلوله يلحقانه باعتبار خصوصيات الموارد المقتضية لأحدهما ، إلا أنه يبعد إرادته من الأوامر الواردة في تلك الأدلة ، إذ لو كانت هي ظاهرة فيه لما يبقى تحير لأحد في حكم صورة التعارض ، فلم يكن داع لتلك الأسئلة في الأخبار العلاجية ، ولا لورود كثير منها مع عدم سبق سؤال ـ أيضا ـ فذلك يكشف عن اكتفاف تلك الأوامر بما أوجب صرفها عنه إلى ما لا يغني عن بيان صورة التعارض ، فلا يكاد يمكن حملها عليه.

فظهر أن الأوفق بتلك الأدلة أحد الوجهين الآخرين ، وهما الأول والثالث ، لعدم منافاتهما لما ذكر.

إلا أنه قد يستشكل في صحة الوجه الأول في نفسه بأن إيراد الحكم إذا كان إباحة ورخصة على ذات الشيء من حيث هو وإن كان جائزا ، بل واقعا أيضا ، لكنه يشكل فيما إذا كان من مقولة الطلب ـ كما هو المفروض في تلك الأدلة ـ فإنه لا يكاد يمكن بقائه فيما إذا اقترن ذلك الشيء بمانع من امتثاله ، لكونه لغوا حينئذ ، فلا يكون ثابتا لذات الشيء من حيث هو ، فإن الثابت له كذلك لا بد من ثبوته له في جميع حالاته كما مر ، فإن الذات متحققة في جميع حالاته اللاحقة له والحكم المعلق على موضوع يدور مدار ذلك الموضوع.

لكنه مدفوع بعدم الفرق بينه وبين الإباحة من تلك الجهة ، لجريان شبهة اللغوية فيها ـ أيضا ـ بعينها ، إذ يقال فيها ـ أيضا ـ أنها لا يعقل بقائها فيما إذا اقترن الشيء بجهة محرمة فيلغى إلى آخر ما ذكر من التقريب.

والّذي يقوي في النّظر أن ذلك الحكم لا يمكن فعليته (١) في صورة وجود

__________________

(١) المراد بالفعلية انما هو فعليته بالنسبة إلى آثاره ـ بمعنى ترتيبها في صورة وجود المانع ـ وبعدم الفعلية

٢٣٤

المانع ، فإنه إنما يمنع من ترتيب آثاره التي هي المؤاخذة على المخالفة إذا كان إلزاما ، أو عدمها وجواز التناول فعلا إذا كان رخصة من غير فرق بين الطلب وغيره ، فافهم.

ثم إنه يظهر من المصنف (قدس سره) اختيار الوجه الثالث ، حيث أنه جعل كلا من المتعارضين مشمولا لدليل الاعتبار ، إلا أنه قيد امتثال الأمر الوارد فيها في كل منهما بصورة عدم العمل بالآخر ـ على تقدير اعتبارهما من باب السببية ـ وجعلهما دليلا على نفي الثالث مع تساقطهما في مؤداهما لأجل التعارض ـ بناء على اعتبارهما من باب الطريقية ـ فتدبر.

ثم إن في كلامه (قدس سره) في مقام تأسيسه للأصل في المتعارضين مواقع للنظر لا يسعني المجال للتعرض لجميعها ، فلنقتصر على واحد منها ، وهو قوله : ( بل وجود المصلحة في كل منهما بخصوصه مقيد بعدم معارضته بمثله ) (١).

ولا يخفى على المتأمل أن وجود مصلحة الإيصال في كل منهما بالخصوص مقيد بعدم وجودها في الآخر ، لا بعدم معارضة موردها للآخر.

وكيف كان ، فالأجود ما ذكرنا في تأسيس الأصل.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وأما أخبار التوقف الدالة على الوجه الثالث ، من حيث أن التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ) (٢).

اعلم أن الوجه الثالث مركب من دعويين :

أحدهما : وجوب التوقف في المتعارضين وعدم الإفتاء بشيء منهما.

وثانيهما : الاحتياط في مقام العمل والرجوع فيه إليه مطلقا.

__________________

ثبوت أصله مع عدم ترتيب تلك الآثار ، فوجوده في تلك الصورة فعلي وآثاره شأنية. لمحرره عفا الله عنه.

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٢.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

٢٣٥

وتقريب الاستدلال بأخبار التوقف على أولهما أنها آمرة بالتوقف في مورد الشبهة ، وكل من التوقف والشبهة عام ، فإن التوقف عبارة عن السكون وعدم المضي ، والشبهة عبارة عن اشتباه الواقع ، فكل منهما يعم المقام ، فان عدم المضي معنى واحد في مقام الفتوى والعمل ، والاختلاف إنما هو في مصاديقه ، حيث أن مصداقه في مقام الفتوى تركه ، وفي مقام العمل ترك العمل المخالف للاحتياط ، وكذلك الاشتباه معنى واحد في جميع الموارد ، والاختلاف إنما هو في مصاديقه ، حيث أنه في الشبهات الحكمية مسبب عن فقد النص ، أو إجماله ، أو عن تعارضه ـ كما هو المفروض في المقام ـ وفي الشبهات الموضوعية مسبب عن اختلاط الأمور الخارجية مع تبين حكم العنوان الكلي ، فتدل تلك الأخبار بإطلاقها على وجوب التوقف في مقام الفتوى في الشبهة الحكمية الناشئة عن تعارض النصين المبحوث عنها في المقام.

وأما تقريب الاستدلال بها على الثانية ، أنه إذا ثبت بمقتضاها وجوب التوقف من حيث الفتوى فثبت وجوبه من حيث العمل أيضا ـ لاستلزام الأول للثاني ، كما ادعاه المصنف (قدس سره).

ووجهه : أن وجوب التوقف من حيث الفتوى على تقدير ثبوته ثابت مطلقا شامل للإفتاء بالحكم الظاهري ، ووجوب التوقف من حيث الحكم الظاهري يستلزم وجوبه من حيث العمل.

لكن الإنصاف : أن الاستلزام غير بين ، بل يمكن منعه لانتقاضه بالشبهات الحكمية التي يرجع فيها إلى أصالة البراءة العقلية ، إذ من المعلوم أن معنى الرجوع أنه يقبح المؤاخذة عقلا على التكليف من غير بيان وحجة ، فلا مؤاخذة على ارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب مع فرض عدم قيام الحجة عليهما ، فيكون الحاصل نفي العقاب بمقتضى حكم العقل وترك الاحتياط في مقام العمل لذلك ، ومن المعلوم أن نفي العقاب كذلك ليس إفتاء

٢٣٦

بالإباحة شرعا ، لا ظاهرا ولا واقعا ، فلا يخالف الاحتياط من حيث الفتوى ، بل يوافقه ، فيتحقق هناك الاحتياط في الفتوى مع عدمه من حيث العمل.

لا يقال : إن غاية ما هناك تحقق الاحتياط في الفتوى مع الرخصة في ترك الاحتياط من حيث العمل ، والمدعى ثبوت التلازم بين وجوب الاحتياط في الفتوى وبينه من حيث العمل ، لا بين تحققه من حيث الفتوى وبين وجوبه من حيث العمل.

لأنّا نقول : إن العمل بالبراءة الأصلية ـ أيضا ـ يقول بوجوب الاحتياط من حيث الفتوى مع قوله بعدم وجوبه من حيث العمل ، فتأمل (١).

والأولى أن يتمسّك بإطلاق أخبار التوقف ، بتقريب أنّها تدل بإطلاقها على وجوب التوقف من حيث العمل في مورد الشبهة ـ أيضا ـ والمفروض في المقام الشبهة في حكم الواقعة لأجل تعارض النصين ، فلا بد من التوقف من حيث العمل ـ أيضا ـ فافهم.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وإلا لوجب التوقف ) (٢).

إشارة إلى وجه توهم دلالة الأخبار الآمرة بالتخيير في المتعارضين على اعتبار الأخبار من باب السببية.

وتوضيحه : أنه لو كان اعتبارها على وجه الطريقية لكان مقتضى القاعدة

__________________

(١) وجه التأمل أنه يمكن دفع النقض بموارد أصالة البراءة بأن ترك الاحتياط فيها من جهة أن المكلف يستكشف من حكم العقل بقبح التكليف من غير حجة إباحة الفعل شرعا في مرحلة الظاهر ، نظرا إلى الملازمة بين حكمه وبين حكم الشرع فتركه العمل بالاحتياط في العمل بعد إفتائه بالإباحة الشرعية ظاهرا واعتماده فيه إليها ، إذ لا معنى للإباحة إلا رفع المنع والجرح عن الفعل ، ومن المعلوم أنه يعلم بحكم العقل المذكور أن الشارع رفع المنع عن الفعل المشكوك حكمه ، فيجوز الإفتاء بالإباحة الظاهرية شرعا فلم يجمع وجوب التوقف في الفتوى مع عدمه في العمل ، بل اجتمع جوازه فيه مع جوازه من حيث العمل فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

٢٣٧

أن يحكم الشارع في المتعارضين منها بالتساقط في مؤداهما ، فإن القاعدة فيهما ـ بناء على اعتبارهما من باب الطريقية ـ إنما هو ذلك ، كما مر غير مرة ، وحكمه بالتخيير يناسب اعتبارها على وجه السببية ، إذ القاعدة فيهما ـ بناء على اعتبارهما كذلك ـ إنما هو ذلك ، وقوله (قدس سره) : ( لقوة احتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريا عمليا ) (١) دفع لذلك الوجه.

وتوضيحه : أن اعتبارها على وجه الطريقية إنما ينافي ثبوت التخيير في المتعارضين على نحو ثبوته للمتزاحمين من الواجبات النفسيّة ، بأن يكون كل منهما مطلوبا نفسيا واقعيا تخييرا.

وأما ثبوته فيهما بعنوان كونه حكما ظاهريا في مقام العمل [ فلا ينافي ](٢) كما مرت الإشارة إليه سابقا ، وأخبار التخيير ليست ظاهرة فيه على الوجه الأول ، بل ساكتة عنه ، فغاية ما ثبت منها إنما هو التخيير بين المتعارضين وهو أعم منه فلا يدل عليه.

ثم إن وجه قوة احتمال كونه على الوجه الثاني ظهور أدلة اعتبار الأخبار في اعتبارها على وجه الطريقية مع عدم ظهور أخبار التخيير على خلافها.

هذا مضافا إلى شهادة الأخبار الآمرة بالأخذ بالمرجحات ، إذ لا ريب أن تلك المرجحات من المزايا التي توجب أقربية ذيها إلى الصدور ، أو أبعدية احتمال عدم صدوره ، ومن المعلوم أن المعتبر في المتزاحمين في مقام الترجيح كون الراجح مشتملا على مزية موجبة لتأكد مطلوبيته وأهميته بالنسبة إلى صاحبه ، ومجرد أقربية صدوره ، أو أبعدية احتمال عدم صدوره بالنسبة إلى صاحبه لا يصلح لجعله أهم سيما مع اشتمال صاحبه ـ أيضا ـ على جميع الشرائط المعتبرة في المطلوبية

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

٢٣٨

المأخوذة في أدلة اعتبارهما.

هذا مضافا إلى ما مر سابقا من أنه لا يتحقق التزاحم بين الخبرين إذا كان اعتبارهما على وجه السببية إلا فيما إذا كان مؤدى أحدهما مطلوبية الفعل ومؤدى الآخر مطلوبية تركه.

وعلى تقدير اعتبارهما على ذلك الوجه لا بد من تخصيص حكمي التخيير والترجيح بتلك الصورة ، لعدم الدوران بينهما في غيرها ، فلا داعي إلى ترك العمل بأحدهما وطرحه ، مع أن مورد الأخبار العلاجية أعم منها قطعا وبلا ريب من أحد فيه.

وأيضا من الظاهر ورود أدلة اعتبار الأخبار في اعتبارها على طبق بناء العقلاء ، ومن المعلوم أن بناءهم على اعتبارها من باب الطريقية ، وقوله : ( بل هو أمر واضح ) (١) إشارة إلى هذا.

فكل من هذه الوجوه شاهد قوي على أن التخيير الثابت في المتعارضين حكم ظاهري ثابت في مورد التوقف.

ثم إن المصنف (قدس سره) لم يذكر أخبار التخيير وإنما ادعى تواترها عليه.

نعم بعض أخبار الترجيح التي ذكرها مشتمل على التخيير مع فقد المرجحات ، فيكون هو من أخبار التخيير ـ أيضا ـ وهو خاص بالنسبة إلى سائر أخباره التي لم يذكر المصنف (قدس سره) وإني لم أتمكن من كتاب من كتب الأخبار المشتملة عليهما مكنني الله تعالى منها عن قريب ، ووفقني للتدبر فيها وشرح صدري ويسر أمري بمحمد وآله الطاهرين صلواته عليهم أجمعين إلى يوم الدين.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

٢٣٩

ثم إن المصنف (قدس سره) ذكر الوجوه الثلاثة في المتعارضين على سبيل الإطلاق المقتضي لجريان كل منهما على القول به في جميع موارد الأصل الأولي ، وهو التساقط ، وظاهر جعله كلا منها مقابلا للأصل السابق ـ أيضا ـ يقتضي ذلك.

لكنه لا يستقم بالنسبة إلى الوجهين الأخيرين المشار إليهما بقوله ( أو العمل بما طابق منهما الاحتياط أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما ) (١) ضرورة أن الأصل المذكور المفروغ عنه يعم جميع موارد تعارض الخبرين حتى ما لا يكون موردا للاحتياط ، بمعنى عدم كون أحدهما موافقا له كما إذا كان مؤدى أحدهما الوجوب ، ومؤدى الآخر الحرمة ، فلا يعقل حينئذ القول بالأخذ بما طابق منهما الاحتياط أو بنفس الاحتياط ولو كان مخالفا لهما ، فكان عليه (قدس سره) أن يقول : ( أو العمل بما طابق منهما الاحتياط إن كان أحدهما موافقا له وإلا فالتخيير ، أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما مع إمكانه ، وإلا فالتخيير ) فحينئذ يجري كل من الوجهين في جميع موارد الأصل المذكور ، وكأنه (قدس سره) اعتمد في إفادة ذلك الّذي ذكرنا على وضوحه ، فلذا اقتصر في التعبير عنه بما ذكر.

ثم إن قوله : ( أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما ) بعد تقييده بما ذكرنا أيضا بظاهره لا يستقيم ، فإن ظاهر قوله ولو كان مخالفا لهما هو الأخذ بما خالف كليهما جميعا.

ومن المعلوم أن عد ذلك وجها من وجوه المسألة بعد البناء على كون أحد الخبرين المتعارضين حجة لا محالة تناقض ظاهر ، فإن لازم كون أحدهما حجة نفي الاحتمال الثالث ، فمع التزامه لا يمكن المصير إلى وجوب الاحتياط المخالف لهما ، نعم يجوز ذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٦٢.

٢٤٠