تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

قد عرض له [ الوجوب أو ] الامتناع العرضي.

فإذا عرفت هذا فالمجيب عن ذلك المستدلّ هنا : إن أراد بذكر تلك القضيّة ما هو المراد بها هناك ـ وهو كون الفعل بعد تفويت مقدّمته أيضا مقدورا بالذات ـ فهي لا تجديه في شيء لتسليم المستدلّ بهذا الطلب ، فإنّه لم يرتّب التالي على الامتناع الذاتي ، ولا يدّعي ذلك أصلا بل على العرضي الحاصل باختيار المكلّف.

وإن أراد بها أنّ القدرة على الواجب مع تفويت المقدّمة باقية على حالها وموجودة فعلا ـ فيكون المراد بالقضية أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي بقاء القدرة حال الامتناع ، فيصحّ بقاء التكليف ـ فالضرورة والحسّ يناديان بفساده ، فإنّا نشاهد أنّه لا يقدر عليه حينئذ.

هذا ، مضافا إلى كونه تناقضا في نفسه ، وإلى أنّه لم يرد بها ما هو المقصود منها في محلّه.

وإن أراد أنّ كون الفعل مقدورا بالذات يصحّح بقاء الطلب له (١) حال امتناعه بالعرض وباختيار المكلّف ، فضرورة العقل تنكره لامتناع طلب الغير المقدور ولو لعارض.

والثاني (٢) : ما ذكره صاحب المعالم (٣) ـ قدّس سرّه ـ من أنّه بعد اختيار بقاء الوجوب أنّ المقدور كيف يكون ممتنعا؟! والكلام إنّما هو في المقدور ، وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول.

والظاهر أنّه فهم من قول المستدلّ : ( وحينئذ ) حين جواز الترك ، لا نفس

__________________

(١) في الأصل : بقاء الطلب به ..

(٢) الوجه الثاني من وجوه الأجوبة. [ على ما في هامش المخطوطة ].

(٣) المعالم : ٦١. وعبارة المتن هي عبارة المعالم بأدنى تغيير.

٤٠١

الترك ، فلذا استوحش بأنّ المقدور كيف يكون ممتنعا؟! وقوله : ( وتأثير الإيجاب في القدرة ) لعلّه أيضا قرينة عليه ، لكن قد عرفت أنّ مراده ليس ما فهمه ـ قدّس سرّه ـ.

والثالث : ما ذكره السلطان ـ قدّس سرّه ـ في حاشيته على المعالم (١) ـ بعد ما أورد على نفسه : بأنّ الامتناع من أيّ (٢) جهات كان (٣) يوجب قبح الطلب من الحكيم ـ من أنّ ( أوامر الشارع للمكلّفين ليس على قياس أوامر الملوك والحكّام الذين غرضهم حصول نفس الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده ، حتى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه سفها وعبثا ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض : أنّ اللائق بحاله كذا ، ( وإن فعل كذا كان أثره كذا ) (٤) ، وان فعل بخلافه كان أثره بخلافه وهذا المعنى باق في جميع المراتب لا ينافيه عروض الامتناع بالاختيار للفعل ، إذ بعد ذلك أيضا يصحّ (٥) أنّه فات عنه ما

__________________

(١) والسلطان ( قده ) أيضا فهم من قول المستدلّ : في حين الترك كما لا يخفى. [ منه عفا الله عنه ].

(٢) العبارة هنا منقولة عن حاشية السلطان ( قدّه ) بتصرّف ونصّ عبارته ـ كما في حاشيته ( قدّه ) المطبوعة في هامش المعالم : ٦١ ـ هي : ( لا يقال : بعد تحقّق الامتناع عليه بأيّ جهة كان يقبح من الحكيم طلب حصول العلم وإيجاده منه.

لأنّا نقول : أوامر الشارع ) ..

(٣) كذا في الأصل وحاشية السلطان ( قدّه ) المطبوعة في هامش المعالم ، أمّا في حاشيته ( قدّه ) المطبوعة مستقلة في ذيل ( شرح معالم الدين ) للمولى محمد صالح المازندراني (ره) : ٢٨٢ فالموجود : ( كانت ) ..

(٤) كذا في الأصل ، أما في حاشية السلطان ( قده ) على المعالم فبدون عطف بواو ، ولا توجد هذه الجملة في حاشية السلطان ( قده ) المطبوعة في ذيل شرح المازندراني (ره) للمعالم.

(٥) كذا في نسختي حاشية السلطان ( قدّه ) ، أما في الأصل فهكذا : ( .. يصحّ أيضا أن يقال ) ..

٤٠٢

هو اللائق بحاله ، ويترتّب على ذلك الفوت ( فوت ) (١) الأثر الّذي كان أثره ، وليس معنى كونه مكلّفا ( حينئذ ) (٢) إلاّ هذا ، ولا يتعلّق للشارع غرض بحصول (٣) ذلك الفعل ووجوده ، حتى قيل (٤) : إنّه لا يتصوّر حينئذ ، وتحقيق المقام يقتضي بسطا ( في الكلام ) (٥) عسى أن نأتي به في رسالة منفردة (٦) ، والله الموفّق ) (٧). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه : أنّ أوامر الشارع وإن لم تكن لوجود مصلحة فيما أمر به عائدة إليه ، كما في أوامر السلطان والحكّام ، بل لمصلحة عائدة إلى العباد ، لكن عدم تعلّق غرضه بصدور المأمور به مطلقا ممنوع.

نعم المسلّم منه أنّه لم يتعلّق غرضه به على نحو الإرادة التكوينية التي لازمها وجوب الأفعال المأمور بها إذا تحقّقت من الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، فيلزم منها خروجها عن اختيار المكلّفين وهي مرتبة من الإرادة متعلّقة بصدور الفعل من العبد بحيث لو فرض كون جوارح العبد للمريد لما انفكّت عن صدوره كما في إرادة الشخص لفعل نفسه ، حيث إنّها تقهر جوارحه على إيقاع ذلك الفعل ، وتلك المرتبة ثابتة في أوامر السلاطين والحكّام ، حيث إنهم لو فرض سلطانهم على جوارح المأمورين لما انفكّ صدور ما أمروا به عن إرادته ، إلا أنّ عدم استلزامها

__________________

(١) هذه الزيادة من حاشية السلطان ( قدّه ) المطبوعة في هامش المعالم.

(٢) أثبتنا هذه الزيادة من نسختي حاشية السلطان ( قده ).

(٣) في نسختي الحاشية : ( لحصول ) ، لكن الصحيح ما أثبتناه من الأصل.

(٤) كذا في نسختي الحاشية ، أما في الأصل فالموجود : ( يقال ) ..

(٥) في الأصل : ( بسطا لما في كلامه ) ، وما أثبتناه موافق للنسختين.

(٦) في حاشية السلطان ( قده ) المطبوعة في ذيل شرح المازندراني (ره) للمعالم : مفردة ..

(٧) معالم الدين هامش صفحة : ٦١ ، وشرح معالم الدين : ٢٨٢.

٤٠٣

لذلك لعدم سلطانهم على جوارح المأمورين ، وأمّا تعلّق غرضه به على نحو الإرادة التشريعية ـ وهي ـ مرتبة من الإرادة أدون من التكوينية متعلّقة بالفعل من غير إلغاء (١) اختيار العبد وقدرته ، بل تعلقت بصدوره منه عن اختياره ـ فلا مجال لإنكاره.

فيفارق أمر الشارع أمر (٢) السلطان والحكّام من وجهين :

الأوّل : أنّ الداعي له في أمرهم هي المصالح العائدة إلى الآمر بخلاف الداعي إليه في أمره تعالى.

والثاني : أنّ الإرادة المقرونة بالأمر بالنسبة إليهم تكوينية ، وبالنسبة إليه تشريعية ، وتشتركان في كون كلّ واحد منهما طلبا مولويا ، لا إرشاديا ، ولا إخبارا عن المصالح ، فيبطل قياسه لأمر الشارع على أوامر الطبيب للمريض ، لما عرفت من أنه ليس إرشاديا ، سيما (٣) مع جعله أمر الطبيب من مقولة الأخبار عن الخاصيّة من المصالح والمفاسد ، كما ينادي به تفسيره له : بأنّ اللائق بحاله كذا ، وأنّه إن فعل كذا فأثره كذا.

فبالجملة : فبعد الإغماض عن فساد تفسيره لأمر الطبيب بما ذكر ، نظرا إلى أنّه من مقولة الطلب ـ وإن كان إرشادا ـ لا الإخبار ، نقول :

إنّ كون أوامر الشارع من مقولة الإخبار عن خاصيّات الأفعال يدفعه :

أوّلا ـ ظواهر أدلّة التكاليف ، حيث إنّها ظاهرة في الطلب ، فإرادة الإخبار منها مناف لظواهرها من غير قرينة عليه.

وثانيا ـ الأدلّة على ثبوت العقاب على مخالفة الأوامر الشرعية ، إذ

__________________

(١) الظاهر في الأصل : إلقاء ..

(٢) في الأصل : لأمر ..

(٣) كذا في الأصل ، والصحيح : ولا سيّما ، كما يصحّ بدون الواو ، وأما ( لا ) فلا يجوز حذفها.

٤٠٤

لا معنى للعقاب على ارتكاب خلاف ما يصلح الفاعل إذا لم يكن هناك عصيان لله تعالى.

اللهمّ إلاّ أن يتأوّل في تلك الأدلّة بحملها على تجسّم الأعمال ، كما ورد به أخبار أيضا ، بمعنى أنّ الأعمال السيّئة تتجسم في الآخرة بصورة النار ، فتأخذ عاملها ، والحسنة تتجسم بصورة الخلد والحور والرضوان ، فينعم بها عاملها ، فيكون الثواب والعقاب بهذين المعنيين من الخواصّ الذاتيّة للأفعال المترتّبة عليها قهرا ، وأوامر الشارع إخبار عن تلك الخاصّيّات.

لكن يدفعه ـ مضافا إلى منافاة ذلك لظواهر تلك بل لنصّها ـ أنّ مذهب التجسّم كاد أن يكون خلاف الضرورة من المذهب لقلّة القائل به منّا.

مضافا إلى عدم تمامية أدلّته بحيث يحصل بها الاعتقاد بذلك ، حتى تكون تلك قرائن صارفة لتلك الأدلّة.

وثالثا ـ أنّ أمر الشارع إذا كان معناه مجرّد الإخبار عن خاصيّة ما تعلّق به يصحّ (١) تعلّقه بالممتنعات بالذات ـ أيضا ـ لعين ما ذكره المحقّق المذكور من صدق أنّه فات عنه ما هو اللائق بحاله ، مع أنّه لم يقل أحد بتعلّق أمره بالممتنعات بالذات ، فتأمّل.

الرابع (٢) : ما أفاد ـ دام ظلّه ـ من أنّ المستدلّ إن أراد ببقاء الوجوب بقاء الطلب ـ وهو الأمر ـ فنحن نلتزم بارتفاعه ، بل لا يعقل بقاؤه ولو حال التمكّن من ذي المقدّمة ، لأنّه من الأمور الغير القارّة ـ بمجرّد وجوده ينعدم ـ لكن لا يلزم من ارتفاعه خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا وإلاّ يجري في جميع الواجبات المطلقة ، إذ قبل ورود الأمر بها لا وجوب لها أصلا ، وبعد وروده

__________________

(١) في الأصل : فيصحّ ..

(٢) أي الرابع من الأجوبة على الأوّل من الوجوه الردّية.

٤٠٥

يرتفع وينعدم ، وكذا إن أراد به بقاء الحالة الطلبية القائمة بنفس الطالب التي إذا جاءت في قالب اللفظ يسمّى طلبا وتحريكا وبعثا ، لامتناع تعلّقها وحصولها بالنسبة إلى الممتنع ولو بالعرض ، ولا يلزم من ارتفاعها أيضا خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا لثبوت استحقاق العقاب على مخالفته ، فإنّ تفويت مقدّمته بعد تنجّز التكليف به مخالفة حكمية له ، ويستحقّ العقاب على هذه المخالفة ، فثبوت استحقاق العقاب محقّق لوجوبه المطلق ومثبت له ، فلا يلزم خروجه عنه وإلاّ يجري ذلك في جميع الواجبات التي خالفها المكلّف عصيانا ، إذ بعد المخالفة لا شبهة في ارتفاع تلك الحالة فلو لم يكن ثبوت استحقاق العقاب كافيا للزم خروجها عن كونها واجبات مطلقة والخروج عنه إنّما هو إذا لم يكن هناك استحقاق عقاب أصلا ، وأمّا معه فلا ، بل ذلك يحقّق إطلاق وجوبه بالنسبة إلى تلك المقدّمة الفائتة ، ويؤكّده.

والحاصل : انّه يكفي في عدم خروجه عن كونه واجبا مطلقا بقاء أثر الوجوب المطلق ، وهو ثبوت استحقاق العقاب على ترك ذي المقدّمة المسبّب من تركها.

الخامس : ما ذكره بعض من النقض بلزوم المحذور المذكور على تقدير وجوب المقدّمة وتركها المكلّف عصيانا ، فإنّه حينئذ يصير ذو المقدّمة ممتنعا ، فحينئذ إمّا أن يبقى التكليف ... إلى آخر ما ذكره المستدلّ. فما هو الجواب عن ذلك فهو الجواب عن المستدلّ على تقدير الجواز.

وقد يجاب عن ذلك : بإبداء الفرق بين التقديرين بأنّ امتناع ذي المقدّمة على تقدير جواز تركها إنّما هو بسوء اختيار الآمر المكلّف ـ بالكسر ـ فإنّه إذا جوّز تركها فتركها المكلّف لم يصدر (١) منه في هذا الترك معصية ، بل إنّما

__________________

(١) في الأصل : فلم يصدر ..

٤٠٦

فعل فعلا جائزا مرخّصا فيه من المولى ، فامتناعه مسبّب من تجويزه تركها ، وحينئذ لا يصحّ العقاب على ترك ذي المقدّمة.

هذا بخلاف تقدير وجوبها ، فإنّ الامتناع المذكور حينئذ إنما هو بسوء اختيار المكلّف ـ بالفتح ـ فيجوز بقاء التكليف بمعنى ثبوت استحقاق العقاب.

وبعبارة أخرى : إنّ المفروض أنّ ترك المقدّمة علّة تامّة لترك ذيها ، فإنّ معنى المقدّمية هو هذا ، أعني كون تركها علّة لترك ذيها ، فتجويز الشارع لتركها مستلزم لجواز ترك نفس الواجب ، إذ لا يعقل تجويز ارتكاب علّة شيء والنهي (١) عن معلوله الّذي لا ينفكّ عنه عقلا ، بل هذا التجويز عبارة أخرى عن تجويز ترك الواجب ، فلا يعقل هنا استحقاق العبد للعقاب على ترك الواجب.

هذا بخلاف تقدير إيجابه للمقدّمة ونهيه عن تركها لبقاء وجوب ذي المقدّمة حينئذ بحاله ، فيصحّ العقاب على تركه المسبّب من سوء اختيار العبد.

هذا ، لكن الإنصاف عدم استقامة هذا الجواب ، لما ذكره بعض الأفاضل المحقّقين (٢) ممّا حاصله بتوضيح منّا :

أنّ كون إيجاب المقدّمة مصحّحا للعقاب على ترك ذيها ، وكذا كون عدم وجوبها موجبا لقبحه كلاهما ممنوع ، بل المصحّح له إنّما هو ترك الواجب مطلقا (٣) مع التمكن من الإتيان به بعد تعلّق التكليف به ، وهذا المناط متحقّق في المقام على التقديرين ، إذ لا ريب أنّ. عدم إيجاب المقدّمة ليس معناه المنع من إيجادها ، وليس مستلزما له أيضا ، بل مراد القائل بعدم وجوبها أنّه ليس في المقدّمة

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأصحّ : مع النهي ..

(٢) وهو المحقّق صاحب الفصول (ره) في كتابه : ٨٥.

(٣) قولنا : ( مطلقا ) إشارة إلى أنّ تركه الحكمي أيضا ـ الحاصل بترك المقدّمة ـ سبب لاستحقاق العقاب. لمحرّره عفا الله عنه.

٤٠٧

جهة موجبة لها.

وبعبارة أخرى : إنّ مراده أنّ المقدّمة معناها ما يتوقّف عليه حصول الواجب ، ولا يلزم من وجوب الواجب وجوب هذا العنوان ، فإذن لا شبهة أنّ عدم وجوب عنوان ما يتوقّف عليه الواجب ليس معناه الإذن في ترك ذلك العنوان من حيث أداؤه إلى ترك الواجب ، ولا مستلزما له.

أمّا على القول بجواز خلوّ الواقعة عن الحكم فواضح ، إذ عليه ليس له حكم آخر غير الوجوب ـ أيضا ـ أصلا حتى الإباحة ، بل الثابت للشيء الّذي صار مقدّمة للواجب إنّما هي الإباحة بالنظر إلى ذاتها لا بالنسبة إلى هذا العنوان العارض عليه ، بل هذا العنوان خال عن الحكم مطلقا ، فلا يلزم من نفي الوجوب إثبات الإباحة أصلا.

وأما على القول بعدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم فلأنّ اللازم ـ حينئذ ـ من نفي الوجوب عن عنوان المقدّمة إنّما هو ثبوت الإذن في ترك نفس ذلك العنوان من حيث هو ـ مع قطع النّظر عن كون تركه سببا لترك الواجب ـ بمعنى أنّ غرض الآمر أنّه يجوز ترك ما يتوقّف عليه الواجب في نفسه ، بمعنى أنّ غرضه إنّما هو حصول الواجب كيف ما اتّفق ، ولم يتعلّق طلبه بمقدّمته أصلا ، بل أراد نفس الواجب وإيجاده من المكلّف المتمكّن منه ، سواء أتى به المكلّف بتوسّط المقدّمة أو بدونها لو فرض إمكانه.

والحاصل : أنّه طلب نفس الواجب مع قطع النّظر عن مقدّمته ـ بما هي مقدّمة له ـ حال تمكّن المكلّف من امتثاله كما هو المفروض ، فاللازم منه جواز ترك المقدّمة في نفسها ، وأما تركها من حيث كونه سببا لترك الواجب فهو ليس مأخوذا في مفهوم المقدّمة ، بل المأخوذ فيه هو توقّف وجود الواجب عليها لا غير ، فإنّ ترك المقدّمة بتلك الحيثية حقيقة عبارة أخرى عن ترك نفس الواجب ، فإنّه مفهوم منتزع من تركه ، لكونه مأخوذا من حيثية تركه ، فتجويزه حقيقة تجويز

٤٠٨

لترك الواجب (١).

والحاصل : أنّ تجويز ترك الواجب له عبارتان : إحداهما أن نقول صريحا : يجوز لك ترك الواجب ، وأخراهما : أن نقول : يجوز تلك ترك ما يؤدّي تركه إلى تركه من حيث كونه مؤدّيا إليه ، فإذا لم يكن معنى عدم إيجاب المقدّمة الإذن في تركها من حيث أداء تركه إلى ترك الواجب ولا مستلزما له ، بل غاية ما يلزم منه على القول المذكور ثبوت الإذن في تركها في نفسها مع قطع النّظر عن هذه الحيثية ، فلم يكن الامتناع باختيار الآمر ، بل باختيار المأمور ، إذ الآمر قد أراد منه الواجب حال تمكّنه من الإتيان به ، مع عدم منعه عن مقدّمته ، فهو متمكّن من امتثاله فتركه المقدّمة حينئذ إقدام على مخالفة التكليف بالواجب لكونه علّة لتركه ومعصية حكمية له ، فيستحقّ العقاب حينئذ كصورة وجوب المقدّمة.

وبالجملة : الامتناع في الصورتين مستند إلى سوء اختيار المكلّف.

ومن هنا ظهر ما في كلام بعض المحقّقين من المتأخّرين (٢) ، حيث إنّه زعم : أنّ عدم جواز ترك المقدّمة ـ من حيث أداؤه إلى ترك ذيها ـ هو معنى وجوبها الغيري.

وتوضيح ضعفه : أنك قد عرفت أنّ تجويزه على هذا الوجه عبارة أخرى عن تجويز ترك نفس الواجب ، فيكون معنى المنع عنه هو وجوب نفس الواجب لا وجوب مقدمته ، فالالتزام بعدم جواز ترك المقدّمة من حيث كونه مؤدّيا إلى ترك

__________________

(١) فإنّ الحكم إذا ثبت لشيء بحيثية مأخوذة من شيء آخر ، يكون موضوعه حقيقة هو ذلك الشيء الآخر.

وإن شئت قلت : إذا ثبت حكم لشيء متقيّدا بحيثية فالموضوع تلك الحيثية ، فإذا فرض كونها منتزعة من شيء آخر فالموضوع حقيقة هو ذلك الشيء الآخر. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) وهو الشيخ محمّد تقي ـ قده ـ على ما في هامش المخطوطة ، وذلك في هداية المسترشدين : ٢٠٥ ٢٠٦.

٤٠٩

الواجب ليس عين وجوبها الغيري ولا مستلزما له.

وكيف كان فغاية ما قيل أو يقال ـ على تقدير عدم وجوب المقدّمة ـ : أنه إذا جاز تركها فلا يعقل استحقاق العقاب على تركها ، فإذا تركها المكلّف لم تعقل (١) معصية في هذا الترك ، وليس هذا الترك أيضا معصية لنفس ذي المقدّمة ، فإنّها إنّما تتحقّق بتركه في تمام وقته المضروب له شرعا ، فهي إنّما تتحقّق بمخالفة التكليف به في آخر وقته الّذي [ هو ] بمقدار فعله ، فهو حين تركه لها لم يصدر منه معصية لا بالنسبة إلى المقدّمة من حيث هي لعدم وجوبه نفسا بالفرض ، ولا بالنسبة إلى ذيها لتوقّف تحقّقها على مجيء آخر الوقت مع بقاء الأمر فيه ، وإذا تركها فصار الواجب ممتنعا في حقّه في آخر الوقت فلا يعقل توجّه الأمر والطلب إليه ولا بقاؤه في ذلك الزمان ، فلم يتحقق منه معصية بالنسبة إلى نفس الواجب لعدم الأمر به حينئذ.

فبالجملة : فعلى تقدير عدم وجوب المقدّمة لا يصدر منه ما يوجب العقاب أصلا من المعصية ، فلا وجه لاستحقاقه للعقاب ، مع أنه خلاف الضرورة من الدين ، فثبوت استحقاقه كاشف عن وجوب المقدّمة.

ومجمل الجواب عنه :

أوّلا ـ بالنقض بلوازم الواجب لعدم وجوبها بالاعتراف من كلّ أحد ، فلا حرج في تركها ، فإذا تركها فلا ريب في امتناع الواجب ، ضرورة امتناع أحد المتلازمين بتفويت الآخر ، فمقتضى ما ذكره عدم العقاب هنا أيضا ، وهو خلاف الضرورة ، فما هو الجواب عن ذلك فهو الجواب عمّا ذكره.

وثانيا ـ بالحلّ بأنّ الموجب لاستحقاق العقاب ليس منحصرا في العصيان الحقيقي ، حتى يقال : إنّه حين ترك المقدّمة لم يتحقّق ، وبعده لا أمر ، بل كما أنّه

__________________

(١) في الأصل : فلم يعقل ..

٤١٠

موجب له كذلك العصيان الحكمي موجب له ، وهو فعل ما يمتنع معه امتثال الواجب في وقته ، ونحن نسلّم بانتفاء (١) الأوّل ، ونقول بثبوت الثاني على التقديرين (٢) ، فإنّ امتناع امتثال الواجب بترك المقدّمة لازم قهري عقلي غير متوقّف على وجوب المقدّمة بالبديهة وبالحسّ ، فإذا تحقّق العصيان الحكمي على كلا التقديرين فاستحقاق العقاب على الواجب مطلقا ثابت وان لم يبق الطلب له (٣) بعد ترك المقدّمة ـ كما مرّ ـ لكن هذا الأمر باق لا يرتفع ، ولا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه كذلك.

والحاصل : أنّ استحقاق العقاب إنّما هو للعصيان الحكمي للواجب الموجب لاستحقاق العقاب ببناء العقلاء كافّة ، ولا دخل لوجوب المقدّمة في ذلك أصلا ، وليس الامتناع على تقدير جوازها من الأمر قطعا ، لما عرفت من أنّ جوازها على القول به إنّما هو بالنظر إلى ذاتها ، وأمّا جواز تركها من حيث أداؤها إلى ترك الواجب فلا ، فإنّه عبارة أخرى عن جواز ترك الواجب ـ كما عرفت ـ فليس معنى عدم جواز تركها من هذه الحيثية الالتزام بوجوبها الغيري ـ كما مرّ تخيّله من بعض المحقّقين (٤) ـ بل معناه وجوب نفس الواجب الّذي هو ذو المقدّمة.

ولعلّ منشأ ذلك التخيّل ما رآه من بيان مرادهم من تعريف الواجب ـ بما يستحقّ تاركه الذمّ والعقاب بعد الإيراد عليهم بعدم شموله للواجب الغيري ـ بأنّ المقصود (٥) كون الواجب سببا لاستحقاق الذمّ والعقاب ولو لم يكن الذمّ

__________________

(١) في الأصل : نسلّم انتفاء ..

(٢) أي على تقديري وجوب المقدّمة وجوازها.

(٣) في الأصل : الطلب به ..

(٤) وهو المحقّق التقيّ (ره) في هدايته ، وقد مرّ آنفا.

(٥) وقولنا : ( بأنّ المقصود ). إلقاء تبصرة لتفسير قولنا : ( بيان مرادهم ) .. لمحرّره عفا الله عنه.

٤١١

والعقاب على نفسه ، فيشمل الواجب الغيري ، حيث إنّ تركه سبب لاستحقاقهما ، فلأجل ذلك لمّا رأى ما نقلنا عن بعض الأفاضل ـ من حكمه بثبوت استحقاق العقاب على الواجب بتفويت مقدّمته المؤدّي إلى امتناعه على القول بجوازها ـ زعم (١) أنّ مراده : أنّ ترك المقدّمة من حيث هو سبب لاستحقاق العقاب فيكون هذا معنى وجوبها الغيري ، ولم يلتفت إلى أنّ غرضه أنّ تركها ـ من حيث كونه عصيانا حكميا للواجب ـ سبب له كما مرّ بيانه بما لا مزيد عليه ، فتدبّر.

هذا مضافا إلى النقض عليه بلوازم الواجب الملازمة له (٢) في الوجود ، كاستدبار الجدي بالنسبة إلى استقبال القبلة ، حيث إنّ تركه سبب لترك الاستقبال الواجب ولاستحقاق العقاب ، مع أنّه لا قائل بوجوب اللوازم كما مرّت الإشارة إليه ، فلا تغفل.

السادس : ما ذكره بعض أفاضل المتأخّرين (٣) من أنّ مؤدّى الدليل المذكور مؤدّ إلى الدور ، ولم يبيّن وجهه كملا ، وكأنّه زعم : أنّ مراد المستدلّ أنّه يشترط في صحّة إيجاب شيء إيجاب مقدّمته أوّلا ، ثمّ إيجاب نفس ذلك الشيء ، لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق ، مع أنّ وجوب المقدّمة من توابع وجوب ذيها يحصل بعد حصوله ، فيكون ذلك دورا لتوقّف وجوب الواجب على وجوب ما يتوقّف وجوبه على وجوبه.

__________________

(١) في الأصل : فزعم ..

(٢) في الأصل : معه ..

(٣) وهو صاحب الفصول ـ قدّه ـ على ما في هامش المخطوطة ، راجع الفصول : ٨٥ عند قوله : ( وأيضا وجوب المقدّمة من لوازم وجوب الواجب وتوابعه المتوقّفة عليه بالضرورة ، فلا يكون ممّا يتوقّف عليه وجوب الواجب ... وإلاّ لكان دورا ) ..

٤١٢

لكن الإنصاف اندفاعه : بأنّ مراده : أنّه لا بدّ من إيجاب المقدّمة عند إيجاب ذيها ولو كان وجوبهما متقارنين في الزمان ، لا أنّه لا بدّ من إيجابها أوّلا ثم إيجاب ذيها ، فمعنى ذلك إنّما هو التلازم بين وجوب الواجب وبين وجوب مقدّمته وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، وهذا غير التوقّف كما لا يخفى.

ومنها : ما عن المحقّق السبزواري في رسالته المعمولة في هذه المسألة : من أنّه لو لم تجب المقدّمة لزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقّا للعقاب أصلا ، لكن التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

وأمّا الملازمة فلأنّه إذا أوجب الشارع الحجّ ولم يوجب طيّ المسافة ـ مثلا ـ فترك المكلّف الحجّ بترك طيّ المسافة ، فهو لو كان مستحقّا للعقاب فإمّا أن يكون زمن الاستحقاق هو زمان ترك المشي ، وإمّا أن يكون زمان فعل الواجب نفسه ، وهو في الحجّ يوم النحر ، لا سبيل إلى شيء منهما :

أمّا الأوّل : فلعدم صدور عصيان منه بعد يستحقّ به العقاب ، لأنّه حينئذ لم يصدر عنه إلاّ ترك المقدّمة ، ولا يعقل كونه سببا لاستحقاقه لفرض جوازه.

وأمّا الثاني : فلعدم الأمر بالواجب بعد امتناعه في وقته بسبب ترك مقدّمته ، فلا يعقل تحقّق العصيان بالنسبة إليه في ذلك الزمان لانتفاء العصيان.

وأمّا بطلان التالي فبديهي لا حاجة له إلى دليل.

هذا ملخّص كلامه ـ قدّس سرّه ـ ، وهذا الدليل عين الدليل السابق المحكي عن أبي الحسين حقيقة ، إلاّ أنّ التغاير بينهما إنّما هو بأنّه ـ قدّس سرّه ـ لم يتردّد في لازم عدم وجوب المقدّمة كما صنعه أبو الحسين ، بل اختار ـ على تقدير ـ

٤١٣

الشقّ الثاني من شقّي الترديد المذكور ثمّة ، وهو انتفاء الوجوب.

والجواب عنه قد علم مما مرّ في الوجه السابق ، وإن شئت توضيحه فنقول :

إنّا نختار استحقاق العقاب في زمان ترك المقدّمة على تقدير جوازها ، فإنّ ترك المقدّمة وإن [ كان ] ـ في حدّ نفسه ـ جائزا بالفرض ، لكنّه لمّا كان تركا حكميّا للواجب المنجّز عليه المتعلّق به حال تمكّنه منه لتمكّنه من مقدّمته بالفرض ، إذ المفروض أنّه تركها اختيارا ، فيكون سببا لاستحقاق العقاب على ترك الواجب الآن ببناء العقلاء كافّة ، ألا ترى أنّه إذا أمر مولى عبده بشيء ففوّت العبد مقدّمته على نفسه ـ بحيث امتنع به امتثال الواجب عليه في وقته ـ لا يتوقّفون العقلاء (١) في استحقاقه للذمّ والعقاب في زمان ترك المقدّمة من غير انتظار (٢) إلى مجيء زمان الواجب.

وبالجملة : فلا ينبغي الارتياب في تحقّق ترك الواجب حكما بترك مقدّمته ولو على تقدير جوازها ، ولا في كونه سببا لاستحقاق الذمّ والعقاب من حينه ، فلا يلزم على تقدير جوازها عدم تحقّق العصيان واستحقاق العقاب على ترك الواجب المطلق.

هذا مضافا إلى النقض عليه بلوازم الواجب ، فإنّه كما يمتنع الواجب بتفويت مقدّمته ، كذلك يمتنع بتفويت ما يلازمه في الوجود ، مع أنّه أيضا لا يقول

__________________

(١) يصحّ ما في المتن على لغة قليلة ، وعلى اللغة المشهورة يكون صحيح العبارة هكذا : لا يتوقّف العقلاء ..

(٢) قال ـ دام ظلّه ـ بالفارسية : بجهت اينكه حضور زمان واجب چيز تازه از براى ايشان ... نمى آورد با اينكه انتظار او را داشته باشند بلكه واجب الآن در حكم متروك شد بحيثى كه ديگر نخواهد.

٤١٤

بوجوب اللوازم ، فما هو الجواب عنها فهو الجواب عن المقدّمة على تقدير جوازها ، فإنّ دفع الإشكال ثمّة بأنّ سبب العقاب هو ترك الواجب حكما فليقل به هنا أيضا.

ولقد أجاد المحقّق الخوانساري في مقام ردّ هذا الوجه وإن اختار أنّ استحقاق العقاب إنّما هو في زمان نفس الواجب ، حيث قال ما هذا لفظه ـ على ما حكي عنه ـ : ( وفيه نظر أمّا أوّلا ـ فبالنقض : فإنّه قد تقرّر في محلّه أنّ كلاّ من طرفي الممكن لم يتحقّق ما لم يصل حدّ الوجوب في الواقع ، وعلى ما ذكر من أنّ الامتناع ولو كان بالاختيار ينافي العقاب يلزم أن لا يصحّ العقاب على ترك أو فعل أصلا.

والفرق بين حصول الامتناع في ذلك الآن الّذي تعلّق التكليف بالفعل فيه وبين حصوله في الآن السابق عليه تحكّم محض ، إذ الإمكان الّذي هو شرط التكليف إنّما يعتبر في زمان كلّف بإيجاد الفعل فيه لا في زمان آخر ، وانتفاؤه في ذلك الزمان حاصل في الصورتين بلا تفرقة ، على أنّ كلّ ما يتحقّق في زمان فلزوم امتناعه حاصل في الأزل بناء على قاعدة الترجيح بلا مرجّح ، وأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، ولزوم التسلسل أو القدم مدفوع في محلّه.

وأما ثانيا ـ فبالحلّ : باختيار أنّ استحقاق العقاب في زمان ترك الحجّ وموسمه المعلوم.

قوله : الحج ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقّا للعقاب بتركه؟

قلنا : امتناعه إنّما نشأ من اختيار سبب العدم ، ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدوريّة ).

والحاصل : أنّ القادر هو الّذي يصدر عنه الفعل ، بان يريد الفعل ، فيجب حينئذ الفعل ، أو لا يريده ، فيجب حينئذ الترك والوجوب الّذي ينشأ من الاختيار لا ينافي الاختيار ، ولا فرق بين أن يكون الوجوب ناشئا من اختيار

٤١٥

أحد طرفي المقدور أو من اختيار سببه.

قال المحقّق الطوسي في التجريد في جواب شبهة النافين لاستناد الأفعال التوليدية إلى قدرتنا واختيارنا : من أنّها لا يصحّ وجودها وعدمها منّا ، فلا تكون مقدورة لنا : ( والوجوب باختيار السبب لاحق ) (١) كيف ولو كان الوجوب باختيار السبب منافيا للمقدورية لزم أن لا يكون الواجب تعالى بالنسبة إلى كثير من أفعاله قادرا ـ تعالى عن ذلك ـ لما تقرّر من أنّ الحوادث اليومية مستندة إلى أسباب موجودة مترتّبة منتهية إليه تعالى. انتهى كلامه.

ولا يذهب عليك : أنّ ما ذكره المحقّق المذكور يوهم جواز التكليف بالممتنع بواسطة الاختيار ، كما استفاد منه بعض من لم تسلم فطرته عن الاعوجاج ، بل المذكور في الجواب هو التحقيق الّذي لا محيص عنه من جواز العقاب على نفس المأمور به من دون مدخلية أمر ، وامتناعه في ذلك الوقت لا يضرّ في العقاب على تركه بعد استناد الترك إلى اختياره ، وكذا ما أفاده المحقّق الطوسي صريح فيما ذكرنا.

نعم قوله : ( ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدورية ) بظاهره يوهم اتّصاف المورد بالمقدورية بعد الاختيار إلاّ أنّ من المقطوع من حال ذلك العلاّمة أنّ مراده المقدورية حال الصدور. هذا.

ومنها : ما عن المحقّق السبزواري أيضا بتوضيح منا : من أنّه لو لم تجب المقدّمة : فإمّا أن يكون الطلب المتعلّق بذيها متعلّقا به مطلقا حتى على تقدير عدم المقدّمة ، وإمّا ان يكون متعلّقا على تقدير وجودها ، ضرورة أنّ الطالب لشيء إذا التفت إلى الأمور المغايرة لمطلوبه فلا يخلو حاله من أنّه إمّا أن يطلبه مطلقا

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ٢٠٠ ، وراجع شرح التجريد للعلاّمة (ره) : ٣٤٠ ، وشرح تجريد العقائد للقوشجي : ٣٤٨. ولم نجد فيها تمام العبارة.

٤١٦

ـ وعلى جميع تقادير تلك الأمور من تقدير وجودها وتقدير عدمها ـ ، وإمّا أن يطلبه على تقدير وجودها ، لكن التالي باطل بكلا قسميه : ـ أمّا الأوّل : فلكونه تكليفا بغير المقدور ، إذ يمتنع إيجاد الفعل حال عدم مقدّمته ، وأمّا الثاني : فلاستلزامه انقلاب الواجب المطلق إلى المشروط ، حيث إنّ الكلام إنّما هو في المقدّمات الغير المتوقّف عليها وجوب ذيها ، ولازم ذلك انتفاء العقاب على تركه بترك مقدّمته لعدم وجوب الواجب عليه قبل وجود المقدّمة ، فلا يكون تركه منشأ للعقاب ، ولا عقاب على ترك المقدّمة أيضا لعدم وجوبها بالفرض ، وهذا خلاف الضرورة ، ضرورة ثبوت استحقاق العقاب حينئذ ـ فكذا المقدم.

قال : ( وإنّما قيّدنا الأمور التي يلتفت إليها الطالب حين طلبه بالمغايرة احترازا عن الأجزاء ).

وهذا الدليل حقيقة عين ما مرّ من أبي الحسين كما لا يخفى ، وعين الدليل السابق منه ـ قدّس سرّه ـ.

والجواب عنه : أوّلا ـ بالنقض بأجزاء نفس الواجب التي أخرجها بقيد المغايرة ، لعدم الفرق بينها وبين المقدّمات الخارجية من حيث مدخليتها في وجود الواجب ، وكون عدمها سببا لانعدامه ، فنقول : إن وجوبه بالنظر إلى تقديري وجودها وعدمها : إما مطلق ، أو مشروط بوجودها :

فعلى الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق.

وعلى الثاني يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا فما هو الواجب عن هذا فهو الجواب عن ذلك.

وثانيا ـ بالنقض بلزوم المحذور المذكور على تقدير وجوب المقدّمة أيضا ، فإنّ منشأه إنّما [ هو ] دوران الأمر بين تعلّق الوجوب بالفعل مطلقا بالنسبة إلى تقديري وجود المقدّمات وعدمها وبين تعلّقه به على تقدير وجودها ، فما هو الجواب عنه فهو الجواب لنا.

٤١٧

وثالثا ـ فلأنّ ذلك لو تمّ لكان مستلزما لنفي الواجب المطلق ونفي العقاب على ترك الواجبات رأسا ، مع أنّه لا يقول به ، ولا دخل له بثبوت وجوب المقدّمة أصلا.

ورابعا ـ أنّه لو تمّ لاستلزم عدم صحّة تكذيب الإخبار عن الأمور المستقبلة.

والتالي باطل بالضرورة ، فكذا المقدّم.

وأمّا الملازمة فلأنّه لا فرق بين الإنشاء والإخبار من حيث كون الأمر في مؤدّى كلّ منهما بالنسبة إلى الأمور المغايرة لمتعلّقاتهما منحصرا في أحد الشقّين المذكورين من الإطلاق والتقييد ، فمن أخبر : بأنّي أشتري اللحم غدا ، يعلم (١) أنّ مراده ليس اشتراء اللحم على تقدير عدم المقدّمات لأول إخباره حينئذ إلى الإخبار عن الممتنع ، فلا بدّ أن يكون مراده اشتراءه على تقدير وجودها ، ولا ريب أنّه على تقدير وجودها يحصل الاشتراء البتّة ، فإذا جاء الغد ولم يشتر اللّحم فهو ليس إلاّ لفقد شيء من مقدّماته ، ولا أقلّ من كونه هي الإرادة ، فلازم ما ذكره عدم صحّة تكذيبه حينئذ ، لأنّه لم يرد اشتراءه على تقدير فقد مقدّمته ، بل على تقدير وجود مقدّماته.

هذا كلّه بطريق النقض.

وأمّا الجواب عنه بالحلّ فتحقيقه : أنّا نختار الشقّ الأوّل ، وهو الطلب على كل من تقديري وجود المقدّمات وعدمها ، ولا محذور فيه ، إذ الكلام في المقدّمات الوجودية المقدورة للمكلّف الصالحة لإطلاق الوجوب بالنسبة إليها ، ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور لفرض قدرة المكلّف على إيجاد المقدّمات ، وأنّ تركها ليس إلاّ باختياره ، فعليه أن لا يتركها حتّى يمتثل الواجب المنجّز عليه.

__________________

(١) في الأصل : فيعلم.

٤١٨

وإن أراد من تقدير عدمها تفويت المكلّف إيّاها بحيث لا يتمكّن منه بعده ، فنقول : نحن نسلّم ارتفاع الطلب به حينئذ مع ثبوت استحقاق العقاب لتركه الواجب وعصيانه الحكمي ـ كما مرّ ـ فارتفاع الطلب حينئذ لم يوجب خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا لثبوت أثره ، وهو استحقاق العقاب.

وبالجملة : الطلب المتعلق بشيء إنّما يكون على تقدير التمكّن من مقدّماته ، لا على تقدير وجودها ، والمفروض حصول التمكّن للمكلّف ، فتفويته مقدّماته بعد تمكّنه عصيان لذلك التكليف ، لا موجب لخروجه عن الوجوب المطلق.

وبذلك يندفع الإشكال عن الإخبار عن الأمور المستقبلة أيضا ، فإنّ اشتراء اللحم ـ مثلا ـ إنّما هو على تقدير التمكّن من مقدّماته ، فإذا لم يشتر اللحم في الغد مع تمكّنه منه فصحّة تكذيبه إنّما هو لذلك ، لا نقول : إنّ القائل يقصد هذا التقيّد ، بل مرادنا أنّ هذا التقييد إنما يثبت من قبل العقل ولو لم يلتفت القائل إليه ، فهذا الاعتبار لكون (١) قوله : ( أشتري اللحم غدا ) في قوّة قوله : ( أشتريه غدا مع تمكّني من مقدّماته ) ، فإذا جاء الغد ولم يشتره مع تمكّنه منه فقد كذب ، فيصحّ تكذيبه لذلك حينئذ ، فتدبّر.

وأجاب ـ دام ظلّه ـ عن الدليل المذكور بنحو آخر أيضا ، وتقريره :

أنّ إطلاق شيء بالنسبة إلى تقديرين أو تقييده بأحدهما ، إنّما يصحّ فيما إذا كان كلّ من التقديرين من أحوال ذلك الشيء بحيث يمكن حصوله على أي منهما ، بأن يكون هو قد يحصل بهذا ، وقد يحصل بذاك كما في الرقبة ـ مثلا ـ بالنسبة إلى تقديري الإيمان والكفر ، فإنّها يمكن حصولها مع كلّ منهما ، فيصح

__________________

(١) في الأصل : « يكون » أو « بكون ».

٤١٩

إطلاقها بالنسبة إليهما ، كما يصحّ تقيّدها بواحد منهما ، لكن هذا غير متأتّ في المقام ، فإن وجود الواجب الّذي تعلّق به الطلب لا يمكن حصوله على كلّ من تقديري وجود مقدّماته وعدمها ، بل حصوله ملازم عقلا لوجودها ، وتقدير عدمها حقيقة إنّما هو تقدير عدم نفس الواجب لامتناع وجوده حينئذ ، فإذن لا يعقل أن يعتبر وجود الطلب عند تعلّق الطلب به مطلقا بالنسبة إلى التقديرين ، وهكذا الكلام في سائر اللوازم والملزومات التي ما نحن فيه منها ، وكذا في كلّ متلازمين فإنّه لا يعقل إطلاق أحدهما بالنسبة إلى تقديري وجود وعدم الآخر لما مرّ ، فإذا لم يصلح الفعل لاعتبار إطلاقه بالنسبة إلى تقدير عدم مقدّماته فلا يعقل اعتبار تقييده بتقدير وجودها أيضا ، فإنّه إنّما هو لأجل دفع توهّم الإطلاق ، وهو مقطوع العدم لرجوعه حقيقة إلى طلب الشيء على تقدير عدمه أيضا ، وهو غير معقول.

هذا كله في نفس الفعل الواجب ، وأمّا الطلب المتعلّق به فيمكن فيه كلّ من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري وجود المقدّمات وعدمها ، فإنّه يمكن حصوله على كلّ منهما ، فإن قيّد بتقدير وجودها يصير الوجوب مشروطا بوجود المقدّمات ، و [ إن ] أطلق فيكون مطلقا بالنسبة إلى المقدّمات حاصلا قبل وجودها وحصولها من المكلّف مع تمكّنه منها ، فإذا علم ذلك فنقول :

إن أراد المستدلّ اعتبار الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى نفس الفعل المأمور به فقد ظهر فساده.

أقول : مع أنّه على تقدير تقييده بتقدير وجود المقدّمات لا يكون ذلك مستلزما لصيرورة الوجوب مشروطا ، بل هو حينئذ أيضا مطلق إلاّ أنّ متعلّقه مقيّد.

وإن أراد اعتبارهما بالنسبة إلى نفس الطلب فنختار إطلاقه بالنسبة إلى التقديرين ، بمعنى أنه متعلّق بالفعل ومتوجّه إلى المكلّف سواء كان المكلّف قد أوجد مقدّماته ، أو لم يوجد منها شيئا.

٤٢٠