تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

ثمّ إنّه ظهر مما حقّقنا إمكان التعبّد بالفعل ثانيا على الوجه المذكور وجوبا ـ أيضا ـ لما عرفت من عدم توقّفه على وجود أمر بالفعل أصلا ، لا السابق ولا اللاحق ، فيكون ذلك نظير سائر الأفعال والموضوعات الممكنة الوقوع قبل الأمر وبدونه أصلا ، فيصحّ ورود أمر به مطلقا بأن يكون موضوع ذلك الأمر التعبّد ثانيا بالفعل على الوجه المذكور.

هذا ، ثمّ إنّ المنع إذا كان محقّقا في الفرد المتأخّر فلا كلام ، وإن كان محتملا فيمكن نفيه بالأصل فيه أو في سببه ، فإنّ المعتبر في وقوع الفعل تعبّدا ليس هو العلم بعدم المنع منه واقعا ، بل يكفي إحرازه بالطرق والأمارات المعتبرة ، أو الأصول كذلك. هذا.

إيقاظ : قد اعتبر ـ دام ظلّه ـ في مقام عدم المنع ـ الّذي اعتبرناه ـ الإذن في الفعل ، وليس بلازم كما لا يخفى ، ثمّ إنّه جعل دليل الإذن في إعادة الصلاة جماعة هو الأمر المتعلّق بها في تلك الأخبار ، وليس بجيّد كما لا يخفى ، فإنّه إذا فرض توقّف تحقّق التعبّد ـ الّذي هو موضوع تلك الأخبار ـ على ثبوت الإذن مع فرض توقّف ثبوته على نفس تلك الأخبار ، فهذا مستلزم للدور كما لا يخفى.

الثاني : في الأوامر الواقعية الثانوية ـ وهي الملحوظ فيها عذر المكلّف ـ ومصاديقها إنّما هي أوامر أولي الأعذار على أظهر الاحتمالات فيها.

فالأولى النّظر في تلك الأوامر ، وتحقيق الحال على كلّ من الوجوه المحتملة في اعتبار الأعذار فيها ، فنقول :

إنّ اعتبارها فيها يمكن بأحد الوجوه :

الأوّل : أن تكون هي معتبرة على وجه الموضوعية لتلك الأوامر التي يلزمها انحصار المصلحة واقعا في متعلّقات تلك الأوامر المتوجّهة لأولي الأعذار حال كونهم كذلك ، بحيث لا مقتضي واقعا في حقّهم في تلك الحال لأمرهم بما أمر به المتمكّن ، وهذا يتصوّر على وجهين :

١٦١

أحدهما : أن لا يكون مقتض في حقهم في تلك الحال لذلك ولا مصلحة تقتضيه أصلا وأوّلا بالذّات (١).

وثانيهما : أن يكون عدم المصلحة المقتضية له في تلك الحال لمزاحمة مصلحة أقوى من مصلحة الإتيان بما امر به المتمكّن غالبة عليها ، بحيث اضمحلّت هي في جنب تلك المصلحة الغالبة ، فلا تكون موجودة فعلا في تلك الحال لذلك ، وان كانت تلك المصلحة الغالبة هي مصلحة التسهيل على المكلّف ، كما هي الظاهرة في حكمة أمر المسافر بالقصر حال كونه مسافرا ، وعلى أيّ من الوجهين تخرج تلك الأوامر عن كونها أوامر واقعية ثانوية ، بل تكون على كلّ منها من الأوامر الواقعية الأولية ، إذ المعتبر في الأوامر الواقعيّة الثانوية أن تكون متعلّقاتها أبدالا عن الواقع الأوّلي في حال العذر مع بقاء المقتضي فعلا للأمر به ، ومن المعلوم أنّ تعلّق الطلب بمتعلّقاتها ـ على أيّ من الوجهين ـ ليس بعنوان بدليّتها عن واقع آخر وبعنوان كونها محصّلة للغرض منه ولو بعضا ، بل بعنوان أنّها هي الواقع في حقّ أولي الأعذار ، وعدم واقع لهم سواها.

الثاني : أن تكون هي معتبرة من حيث العذر والمانعية الصرفة ، بمعنى بقاء الواقع الأوّلي في حالها على ما كان عليه من المصلحة المقتضية للأمر به ، إلاّ أنّ الشارع قد صرف التكليف عنه إلى متعلّقات تلك الأوامر لعدم تمكّن المكلّف من تحصيله لمكان تلك الأعذار.

وبعبارة أخرى : إنّ الشارع لم يصرف الأمر عنه إلى متعلّقات تلك الأوامر إلاّ لعدم تمكّن المكلّف من إيجاده في الوقت المضروب له ، فجعل متعلّقات تلك الأوامر أبدالا عنه حال تعذّره ، وأمر بها في تلك الحال بعنوان كونها أبدالا عنه وقائمة بالغرض المقصود منه ولو بعضا ، ولازم اعتبارها على هذا الوجه عدم

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأجود : أوّلا وبالذات.

١٦٢

صرف التكليف عن الواقع إلى تلك الأبدال إلا مع استيعابها لتمام الوقت المضروب للواقع ، إذ بدونه يكون المكلّف متمكّنا منه في الوقت فينتفي في حقه علة صرف التكليف عنه إلى تلك الأبدال ، كما أنّ لازم اعتبارها على الوجه الأوّل بكلا الوجهين فيه عدم اشتراط استيعابها لتمام الوقت ، بل يكفي في توجّه الأمر بمتعلّقات تلك الأوامر نحو المكلّف حصولها حال الأمر كما في أمر المسافر بالقصر.

الثالث : أن يكون اعتبارها من حيث العذر مع عدم اعتبار استيعابها لتمام الوقت ، وذلك إنّما يكون إذا انضمّ إلى حيثية العذر جهة أخرى كما لا يخفى ، إذ بدونها يكون الأمر بالبدل مع التمكّن من المبدل منه تفويتا لمصلحة المبدل منه على المكلّف إذا لم يأمره به بعد زوال العذر في الوقت ، وهو قبيح ، أو سفها وعبثا إذا أمر به بعد زوال العذر ، وهو أقبح.

وحاصل تصوير هذا الوجه : أن يلاحظ الشارع في حال تلك الأعذار مصلحة محبوبة الحصول له بحيث لا تحصل هي إلاّ في هذا الجزء من الوقت المقرون بتلك الأعذار مع ملاحظة أنّ المكلف غير متمكن من تحصيلها بفعل المبدل منه لمكان تلك الأعذار ، فيصرف الأمر عنه إلى البدل حينئذ تحصيلا لها ، فتكون علّة صرفه عنه إليه هنا مركّبة من أمرين :

أحدهما : عدم حصول المصلحة المفروضة إلاّ بذلك الجزء من الوقت.

وثانيهما : تعذّر تحصيلها حينئذ بفعل المبدل منه مع كونه محصّلا لها على تقدير التمكّن منه ، ويمكن أن تكون تلك المصلحة هي فضيلة الفعل في أوّل الوقت.

وكيف كان ، فلا مرية أنّ أوامر أولي الأعذار على كلّ واحد من ذينك الوجهين الأخيرين في اعتبار الأعذار فيها من الأوامر الواقعية الثانوية ، كما لا يخفى ، لأنّ الأمر بمتعلّقاتها على أيّ منهما ليس بالأصالة ، بل بعنوان بدليتها عن

١٦٣

شيء آخر ، وهو الواقع الأوّلي مع بقائه على ما كان من المصلحة المقتضية للأمر به.

نعم فرق بين ذينك الوجهين من وجه آخر : وهو أنّه إن كان اعتبار تلك الأعذار في تلك الأوامر على الأوّل منهما ، فلا يصرف الأمر عن المبدل منه إلى البدل ، وهو متعلّقات تلك الأوامر إلاّ على تقدير استيعابها لتمام الوقت ، كما عرفت.

هذا بخلاف اعتبارها على ثانيهما ، إذ عليه يصرف الأمر عن المبدل منه إلى البدل بمجرّد حصول تلك الأعذار للمكلّف من غير توقّف على الاستيعاب أصلا ، فيوافق هذا من هذه الجهة الوجه الأوّل ويفارقه من جهة أخرى ، وهي أنّه إذا لم تستوعب الأعذار الوقت (١) ـ بل كانت حاصلة في بعضه خاصّة ـ فلا تكون مصلحة فعلا في المبدل في حقّ أولي الأعذار حينئذ أصلا على الوجه الأوّل ، بخلاف هذا الوجه ، إذ عليه فيه مصلحة مقتضية للأمر به فعلا إلاّ أنّ العذر منع من اقتضائها فيه.

ثمّ إنّ لازم اعتبار تلك الأعذار على الوجه الأوّل والثالث جواز المبادرة إلى فعل البدل بمجرّد حصولها للعلم حينئذ بكونه مأمورا به فعلا وعدم الأمر بغيره ، كما أنّ لازم اعتبارها على الوجه الثاني عدم جوازها مع القطع بزوالها قبل مضيّ الوقت ، أو مع الشكّ فيه أيضا ، إلاّ بدعوى جوازها حينئذ ، نظرا إلى أنّ انتظار الزوال إلى آخر الوقت حرج أكيد وعسر شديد ، فتنفيه أدلّة نفيه ، أو بالنظر إلى إحراز بقائها إلى آخر الوقت ـ بمقتضى الاستصحاب ـ فحينئذ إن انكشف الخلاف فيكشف عن عدم الأمر بالبدل في هذا الوقت أصلا ، وأنّ أمره به في أوّل الوقت إنّما هو أمر ظاهري.

__________________

(١) في الأصل : .. للوقت.

١٦٤

فإذا عرفت ذلك كلّه ، فاعلم : أنّه إذا أتى أولو الأعذار بمتعلّقات تلك الأوامر في أوّل الوقت إذا كان لهم البدار : فإمّا أن يستوعب عليهم العذر (١) تمام الوقت ، أو يزول عنهم قبل خروجه بمقدار فعل المبدل منه :

فعلى الأوّل لا شبهة في اقتضاء تلك الأوامر لامتناع التعبّد ثانيا إعادة مطلقا ، سواء كان التعبّد ثانيا بمتعلّقاتها أو بالمبدل ، وسواء كان اعتبار تلك الأعذار على الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة المتقدّمة ، أو على أحد الأخيرين منها :

أمّا على الوجه الأوّل فظاهر ، ضرورة أنّ المأتيّ به أوّلا حينئذ إنّما هو واقعي أوّلي بالنسبة إليهم ، وقد مرّ في المقام الأوّل امتناع التعبّد به بعد الإتيان به على وجهه ـ كما هو المفروض فيما نحن فيه ـ وتعبّدهم بالمبدل تعبّد بما لا مصلحة فيه في حقّهم أصلا ، وهو غير معقول ، مضافا إلى عدم تمكّنهم منه ـ أيضا ـ لمكان العذر.

وأمّا على الوجه الثاني والثالث فلأنّ التعبّد ثانيا حينئذ إمّا بالبدل المأتيّ به ، وإمّا بالمبدل منه ، والأوّل خلاف بديهة العقل من اقتضاء كلّ أمر لامتناع التعبّد ثانيا بمتعلّقه من جهته ، والثاني لا مجال له بالضرورة لتعذّر المبدل عليهم ، ولو صحّ هذا لصحّ التعبّد بالمبدل ابتداء من غير انتقال إلى البدل ، والمفروض بطلان التالي ، فكذلك المقدّم.

وأمّا قضاء فلا شبهة في اقتضائها لامتناعه ـ أيضا ـ إذا كان اعتبار تلك الأعذار على الوجه الأوّل ، لما مرّ من كون المأتيّ به أوّلا حينئذ هو الواقع الأوّلي في حقّهم ، فيمتنع التعبّد به مطلقا كما مرّ.

وأمّا على الوجهين الأخيرين فالحقّ إمكانه ، فإنّ فعل البدل في

__________________

(١) في الأصل : .. إلى تمام الوقت.

١٦٥

الوقت وإن كان بدلا عن تمام المبدل منه فيه وقائما مقام امتثاله كذلك ، إلاّ أنّه يمكن تبعّض الغرض المقصود من المبدل منه حال تلك الأعذار ، بأن لا يكون البدل محصّلا لتمام ذلك الغرض بل لبعضه ، وإنّما أمر الشارع به حال تلك الأعذار تحصيلا لبعضه الممكن الحصول بفعل البدل حينئذ ، فإنّ ذلك وان لم يمكن حال التمكّن من المبدل منه ، ضرورة عدم حصول شيء من الغرض المقصود منه بفعل البدل في تلك الحال كما إذا صلّى مع التيمّم مع التمكّن من الوضوء مثلا ، إلاّ أنّه لا يمتنع حال التعذّر ، فعلى هذا فيجوز للشارع الأمر بإتيان المبدل منه خارج الوقت تحصيلا لما فات من الغرض.

فظهر إمكان التعبّد ثانيا قضاء على الوجهين الأخيرين.

وإنّما قلنا : على تقدير التعبّد بتحصيل ما فات من الغرض في خارج الوقت بالتعبّد بالمبدل منه ، لأنّ البدل لا يعقل كونه محصّلا له في خارجه بعد فرض عدم صلاحيته لتحصيله فيه.

والمراد بالتعبّد بالمبدل منه التعبّد بتمامه لا بما تعذّر منه في الوقت لمكان تلك الأعذار من جزء أو شرط ، فإنّ تحصيل ما فات من الغرض لا يكون إلاّ بذلك ، فإنّ تأثير الجزء أو الشرط المتعذّرين فيه إنّما هو متوقّف على انضمامهما إلى غيرهما من أجزاء المبدل وشرائطه لثبوت الارتباط بين أجزائه وشرائطه.

فبهذا يندفع ما ربما يتوهّم فيما إذا كان البدل بعضا من المبدل منه كما في صلاة المريض العاجز عن القيام مثلا ، من أنّ المفروض إتيان المكلّف ببعض المبدل ، فلا يعقل تعبّده ثانيا بذلك البعض.

نعم ، الظاهر (١) كما ادّعاه ـ دام ظلّه ـ أنّ إطلاق القضاء على ذلك

__________________

(١) هذا من الشواهد أيضا على أنّ الكتاب تحرير وتصنيف لا تقريره لبحث أستاذه ( قدّه ) ، فهو ـ هنا ـ يستظهر صحّة ما ذهب إليه أستاذه ، ولا يجزم به.

١٦٦

مسامحة ، فإنّ الظاهر أنّه في الاصطلاح عبارة عمّا أمر به في خارج الوقت لخلل في فعل المأمور به في الوقت ، والمفروض في المقام إتيان المكلّف بما امر به في الوقت على الوجه التامّ من دون خلل فيه أصلا ، إلاّ أنّ الغرض في مسألتنا هذه إنّما هو تحقيق امتناع التعبّد بالفعل ثانيا في الوقت أو في خارجه بعد الإتيان بالمأمور به على وجهه وعدمه من غير نظر إلى كون التعبّد ثانيا قضاء مصطلحا أو إعادة كذلك ، وقد حقّقنا فيما نحن فيه إمكانه في خارج الوقت ، فإن شئت فسمّه قضاء أو باسم آخر ، إذ المناقشة اللفظية خارجة عن وظيفة المحصّلين.

هذا كلّه على التقدير الأوّل.

وأما على الثاني ـ وهو تقدير زوال تلك الأعذار قبل خروج الوقت بمقدار فعل المبدل منه ـ :

فعلى الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة لا شبهة في اقتضاء تلك الأوامر امتناع التعبّد بمتعلّقاتها ثانيا مطلقا إعادة وقضاء ، لما مرّ ، ولا بما امر به المتمكّن (١) ـ أيضا ـ الّذي هو المبدل منه على الوجهين الأخيرين :

أمّا إعادة فلأنّ المأتيّ به أوّلا حينئذ إنّما هو أحد فردي الواجب المخيّر في حقّ المكلّف في ذلك الوقت واقعا ، ولا مرية أنّ الطلب التخييري يقتضي امتناع التعبّد بالفرد الآخر إذا أتى بالأوّل على وجهه.

مضافا إلى خلوّ الفرد الآخر ـ بعد الإتيان بالأوّل ـ عن المصلحة ، لما مرّ سابقا من أنّ المصلحة في الواجبات المخيّرة قائمة بأحدها على البدل ، فإذا وقع أحدها تقوم هي به ، ويخلو البواقي عنها ، فيلغى (٢) طلب البواقي حينئذ.

__________________

(١) أي ويمتنع التعبّد ثانيا ـ بعد فعل البدل حال العذر ـ بفعل المبدل منه بعد ارتفاع العذر ـ إعادة أو قضاء ـ على الوجهين الأخيرين من جهة أنّ مصلحة الواقع الأوّلي ـ المبدأ منه ـ باقية ، لكن يمتنع التعبّد بفعله بعد فعل البدل حال العذر لأنه أحد فردي الواجب التخييري ، ومصلحته في أحدهما ، وبعد فعل أحدهما يخلو الثاني عنها ، فيمتنع التعبّد به.

(٢) كذا في الأصل ، والأنسب : فيلغو ...

١٦٧

وبالجملة : الحال في المقام على هذا التقدير إنّما هي الحال في المسافر في أوّل الوقت الّذي يصير حاضرا في جزء من آخره بمقدار فعل الصلاة تماما إذا صلّى القصر في أوّل الوقت ، لاتّحاد المناط فيهما لقيام الإجماع ـ بل الضرورة ـ على عدم وجوب ظهرين أو عصرين ـ وهكذا إلى آخر الصلوات اليومية ـ في وقت واحد على شخص واحد عينا ، بل إن وجبا ـ وذلك فيما إذا كان المكلّف الواحد في الوقت الواحد صاحب عنوانين لكلّ منهما صلاة مغايرة لما للآخر كما في المثال ـ فإنّما يجبان تخييرا بالضرورة ، وقد عرفت مقتضاه.

وأمّا قضاء فلأنّه على تقديره إمّا متفرّع على الإخلال بالإعادة ، أو على فوت شيء من المصلحة على المكلّف في الوقت ، وكلاهما ضروريّ البطلان :

أمّا الأوّل فلعدم وجوب الإعادة في الوقت من أصلها حتّى يتحقّق الإخلال بها.

وأمّا الثاني فلفرض عدم فوت شيء على المكلّف من المصلحة في الوقت أصلا ، إذ المفروض أنّ ما أتى به فيه كان محصّلا لتمام المصلحة الواقعية في حقّه ، وهذا أوضح من أن يحتجّ عليه.

وعلى الوجه الثاني فلا شبهة في إمكان التعبّد بالمبدل منه إعادة وقضاء أيضا ـ إذا أخلّ بإعادته في الوقت ، بل لا ريب في وجوب الإعادة عليه حينئذ ، ضرورة أنّ أمره بالبدل في أوّل الوقت حينئذ كان أمرا ظاهريا ، حيث إنّه مقتضى الأصول العملية ، فيخرج عن الأوامر الواقعية الثانوية جدّاً ، ويدخل في الأوامر الظاهرية ، وستعرف عدم اقتضائها للإجزاء عن الواقع بعد انكشاف الخلاف ـ كما هو المفروض في المقام ـ فيجب الإعادة حينئذ بالإتيان بنفس الواقع.

وأمّا على الوجه الثالث فالحقّ ـ أيضا ـ إمكان التعبّد بالمبدل مطلقا وصحّته إعادة وقضاء ، لما مرّ في تصحيح التعبّد به قضاء في التقدير الأوّل على كلا الوجهين الأخيرين ، فإنّه بعينه جار هنا ـ أيضا ـ فإنّه لا يقتضي صحّة التعبّد

١٦٨

به قضاء فقط.

ولا بأس بتوضيح انطباقه على ما نحن فيه وإن كان لا يحتاج إليه فنقول :

إنّه إذا فرض إمكان تبعّض مصلحة المبدل منه بحيث لا يكون البدل قائما بتمامها ، فيجوز للشارع التعبّد ثانيا في الوقت بفعل المبدل منه ، تحصيلا لما لم يحصل منها بفعل البدل.

ويقرّب هذا ما ورد في بعض نظائره شرعا ، وهو ما ورد (١) فيمن منعه زحام الجمعة عن الخروج ليتوضّأ من أنّه يتيمّم ويصلّي الجمعة ، ثم يتوضّأ ، ويعيدها ظهرا (٢).

وقد حكي عن الشيخ ـ قدّس سرّه ـ في بعض كتبه ـ ولعلّه الخلاف (٣) ـ الإفتاء بمضمونه ، فإنّ ذلك وإن لم يكن داخلا فيما نحن فيه ـ نظرا إلى أنّ فعل الجمعة مع التيمّم ليس بدلا عن الظهر جدّاً ، بل بدل إمّا عن فعلها مع الطهارة المائية بناء على كون الجمعة أحد فردي الواجب المخيّر ، أو عن فعل الكلّي معها بناء على كونها فردا من الكلّي الواجب (٤) ، لا واجبة تخييرية شرعا لكن على هذا

__________________

(١) الوسائل : ٢ ـ ٩٦٥ ـ كتاب الطهارة ـ باب : ٣ من أبواب التيمّم ـ ح : ٣ ، والحديث منقول بالمعنى.

(٢) هذا لعلّه (أ) بحسب المعنى دون اللفظ. لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) لم نعثر عليه في كتاب « الخلاف » ، وإنّما عثرنا عليه في كتاب « النهاية » : ٤٧ ، حيث قال قدّس سرّه : ( وإذا حصل الإنسان يوم الجمعة في المسجد الجامع ، فأحدث ما ينقض الوضوء ، ولم يتمكّن من الخروج فليتيمّم وليصلّ ، فإذا انصرف توضّأ وأعاد الصلاة ).

(٤) بناء على أنّ الواجب في يوم الجمعة إنّما هو صلاة الظهر ، وأنّها كلّي مشترك بين صلاة الظهر المقابل للجمعة وبين الجمعة ، إلاّ أنّه على كلّ من التقديرين تكون الجمعة مقدّمة على الظهر. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) يحتمل في هذه الكلمة أنّها : ( نقله ). ، وهي أنسب ، وما أثبتناه أقرب إلى نسخة الأصل ).

١٦٩

التقدير أيضا يرجع بدليّتها إلى بدليّتها عن الجمعة مع الطهارة المائية ، إذ على فرض كونه كلّيا يكون بكون أفراده مترتّبة كما في خصال الكفّارة المرتّبة لتقدّم فعل الجمعة على الظهر على تقدير اجتماع شرائطها ، كما أنّ الحال فيما إذا كانت أحد فردي الواجب التخييري كذلك ـ إلاّ أنّه قريب منه ، فإنّ الوجه المصحّح للأمر بالجمعة مع التيمّم على تقديره الظاهر أنّه نظير ما مرّ في الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة ، بمعنى أنّه لمّا كان هناك مصلحة لا تحصل ولا تتدارك إلاّ بفعل الجمعة ، والمفروض تعذّره على المكلّف مع الطهارة المائية ، فأمر بها مع الترابية تحصيلا لتلك المصلحة ، ولما كان هناك ـ أيضا ـ بعض المصالح والأغراض لم يحصل بذلك مع إمكان تداركها بفعل الظهر ، فأمر به لذلك ، فإذا كان المفروض فيما نحن فيه أنّ أمر الشارع بالبدل في أوّل الوقت نظير أمره بالجمعة مع التيمّم ، وأنّه لم يحصل به تمام الغرض المقصود له من المبدل ، فيصحّ له أن يأمر به بتمامه في الوقت تحصيلا لذلك البعض الّذي لم يحصل بالبدل ، كما صحّ له ذلك في خارجه لذلك ، وفي داخله ـ أيضا ـ كما في أمره بإعادة الجمعة ظهرا.

والحاصل : أنّ صحّة الأمر بإعادة الجمعة ظهرا مع الإتيان بها مع التيمّم في أوّل الوقت مقرّبة لما نحن فيه.

نعم إطلاق الإعادة على مثل ذلك ينافي ظاهرها اصطلاحا ، إذ الظاهر كما ادّعاه ـ دام ظلّه ـ أنّها في عبارة عن المأتيّ به ثانيا في الوقت لخلل في المأتيّ به أوّلا من المأمور به (١) في ذلك الوقت ، والمفروض فيما نحن فيه الإتيان بالمأمور به حال العذر بجميع ما يعتبر فيه من الشرائط والكيفيات ، فلعلّ هذا الإطلاق مبنيّ على التجوّز والتأويل.

لكنّا ـ كما عرفت سابقا ـ لسنا في صدد إثبات إمكان التعبّد بالقضاء

__________________

(١) كذا في الأصل ، ويحتمل زيادة كلمة « به » ، فتأمل.

١٧٠

والإعادة المصطلحين ، بل في صدد إثبات إمكان التعبّد بالمبدل منه بعد الإتيان بالبدل في الوقت أو في خارجه ، فبعد ما أثبتناه إمكانهما فمن شاء فليسمّهما إعادة وقضاء ، ومن لم يشأ لم يسمّ ، وليعبّر عنهما باسم آخر.

ثمّ إنّ ثبوت التعبّد بالمبدل منه في الوقت بعد الإتيان بالبدل على تقديره فهل هو بالأمر المتعلّق بالمبدل منه أو بأمر آخر كما في ثبوت التعبّد به في خارجه على المختار فيه؟

الحقّ فيه التفصيل : بأنّه إذا كان البدل مباينا للمبدل منه ـ بمعنى (١) أنّه ليس بعضا منه ـ فدليل ثبوته إنّما هو الأمر المتعلّق بالمبدل منه إن كان الّذي لم يحصل من مصلحة المبدل منه والغرض المقصود منه بفعل البدل ، مما يلزم تحصيله ، إذ من المعلوم أنّ فعل البدل حينئذ ليس امتثالا لبعض المبدل منه جدّاً ، بل إنّما هو من باب قيامه بالغرض المقصود منه حسبما أمكن ، والمفروض عدم حصوله بتمامه مع فرض الغير الحاصل منه لازم التحصيل ، والأمر بالمبدل منه ـ الّذي كان يقتضي تحصيل تمام الغرض أوّلا وبالذات ـ الآن يقتضي تحصيل ذلك المقدار الغير الحاصل المتوقّف حصوله على فعل المبدل منه بتمامه.

وأمّا إذا كان بعضا منه فوجهان مبنيّان على أنّ فعل البعض حينئذ امتثال لبعض المبدل منه ، فلا يعقل اقتضاء الأمر المتعلّق به ـ حينئذ ـ الإتيان بتمامه ، لأنّه بالنسبة إلى ذلك البعض يكون طلبا للامتثال عقيب الامتثال ، أو أنّه من باب تحصيل الغرض المقصود من المبدل منه والقيام به ، فيكون كالأوّل.

الظاهر هو الوجه الثاني ، فإنّ الظاهر أنّ هذا هو معنى البدلية حقيقة (٢).

__________________

(١) ( اعلم أنّه ليس شيء من الأبدال .. ). هكذا وجدناها في هامش الأصل.

(٢) أقول : لا يخفى أنّه إذا فرض أنّ ما بقي من الغرض من الأغراض اللازمة التحصيل بمقتضي الأمر الأوّل فلا يعقل خروجه عن كونه كذلك بعد حصول بعض تلك الأغراض ، بل هو باق على ما كان من لزوم التحصيل ، فإذا فرض عدم تحصيل تمام الأغراض بفعل البدل فالأمر

١٧١

إيقاظ : لا يتوهّم : أنّه إذا كان الأمر فيما نحن فيه مقتضيا لفعل البدل ـ الّذي هو بعض المبدل منه في حال العذر ـ ولتمام المبدل منه أيضا بعد زواله في الوقت ، فيلزم أن يكون المطلوب به متعدّدا ، وهو خلاف الفرض.

لأنّه مدفوع : أمّا أوّلا ـ فبأنّ المقتضي لفعل البدل حال العذر إنّما هو أمر آخر غير ما يقتضي المبدل منه بعد زواله ففارق المقام ـ للأمر ـ المتعدّد المطلوب (١) ، فتأمّل (٢).

وأمّا ثانيا ـ فلأنّ الأمر المتعدد المطلوب (٣) ما كان مقتضيا لإيجاد الفعل مرّة أو مرّات على سبيل استقلال كلّ من الإيجادين أو الإيجادات في المطلوبية ، بأن يكون كلّ منها واجبا أصالة ، ولا يكون بعضها لأجل تحصيل الغرض من الآخر ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فإنّ كلاّ من المطلوبين ليس مطلوبا أصالة ، بل ليس شيء منهما كذلك ، فإنّ كلاّ منهما مطلوب لتحصيل مجموع الغرض المطلوب ، كما عرفت.

هذا ، ثمّ بعد ما عرفت الحال على كلّ من الوجوه المتصوّرة في اعتبار

__________________

الأوّل مقتض لتحصيل ما بقي في جميع الموارد لذلك. لمحرّره عفا الله عنه.

(١) في الأصل : الأمر التعدّد المطلوبي ..

(٢) وجه التأمّل يظهر ممّا مرّ في بيان معنى الأمر الثانوي الواقعي.

وملخصه : أنّ الأمر بالبدل ليس أمرا آخر غير ما تعلّق بالمبدل منه حال خلوّ المكلّف عن الأعذار ، بل إنّما هو ذلك ، وإنّما وقع الاختلاف في موارد امتثاله على حسب اختلاف حالات المكلّف ، ضرورة أنّ المصلّي مع التيمّم أو بدون القراءة ـ مع العجز عنها ـ إنّما يقصد بهما امتثال قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ* ) المتوجّه إليه حال خلوّه عن الأعذار حتّى فيما إذا ورد خطاب بهما بالخصوص ، مثل قوله : ( صلّ مع التيمّم أو بدون القراءة ) ، إذ هما حينئذ تفصيل عن إجمال الخطاب الأوّل ، لا أمران جديدان بعد ارتفاعه ، وقد مرّ تحقيق ذلك مستوفى ، فراجع. لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) في الأصل : التعدّد المطلوبي.

١٧٢

الأعذار في أوامر أولي الأعذار فتعيين أحد تلك الوجوه موكول إلى الرجوع إلى الأخبار الواردة فيهم المتضمّنة لأوامرهم بتلك الأبدال في تلك الحال ، وملاحظة أنّ ظاهر تلك الأوامر أيّ منها ، ولعلّنا نتعرّض له فيما بعد على وجه الإجمال ـ إن شاء الله ـ مع التعرّض لما تقتضيه القاعدة على فرض تطرّق الاحتمال في تلك الأخبار ، فانتظر.

الثالث : في مؤدّى الطرق والأصول العملية الشرعية منهما والعقلية ، فهاهنا موضعان :

الأوّل : في العمل بمؤدّى الطرق والأصول العقليتين ، فنقول :

لا شبهة في عدم الإجزاء إذا عمل بمقتضاها بعد انكشاف الخلاف ، ضرورة أنّ حكم العقل بالعمل على طبقها إنّما هو إرشادي محض وإرادة لطريق الامتثال بعد انحصار المناص فيها وعدم طريق للامتثال سواها.

وبعبارة أخرى : إنّه بعد ما انحصر طريق الامتثال فيها ـ بأن لا يكون طريق له سواها أصلا ، أو كان لكنّها أقرب منه ـ فالعقل يحكم بأنّه لا بدّ للمكلّف [ من ] جعل هذه طريقا في امتثال تكاليف الشارع ، وأنّه يقبح على الشارع المؤاخذة على العمل بمقتضاها إذا أدّت إلى مخالفة الواقع ، لا أنّه يجب عليه الأمر بالعمل بها في تلك الحال حتّى يكون هذا أمرا شرعيا واقعيا ثانويا أو ظاهريّا ، فلا يستلزم حكم العقل على هذا الوجه أمرا شرعيا بالعمل بها ولا يستكشف به عنه بوجه ، بل لو أمر الشارع حينئذ بالعمل بها فإنّما هو إرشادي محض مطابق لحكم العقل ، كما لا يخفى ، فيكون وجوده كعدمه لأنّه لا يحصل به أزيد مما يحصل بدونه ، فعلى هذا إذا عمل بها المكلف فغاية ما يترتّب عليه إنّما هو معذوريته ما لم ينكشف الخلاف (١).

__________________

(١) في الأصل : .. معذوريّته إلى ما لم ينكشف الخلاف.

١٧٣

وأمّا إذا انكشف فيكون ما فعله كما لم يفعل أصلا ، وحينئذ إذا كان ذلك في الوقت فيجب عليه الإعادة البتّة لبقاء الأمر الواقعي على حاله المقتضي للزوم الإتيان بمتعلّقه وتنجّزه على المكلّف لفرض علمه به حينئذ.

وإذا كان في خارجه فيجب عليه القضاء ـ أيضا ـ إن قلنا بأنّه بالأمر الأوّل ، وإن قلنا : إنّه بأمر جديد فلا يزيد عمله في الوقت بمقتضاها على صورة عدمه فيه أصلا ، لعدم تأثيره فيما هو المطلوب منه واقعا ، ولا في تحصيل شيء من الأغراض المقصودة منه ، فيكون موردا لدليل القضاء البتّة لفوت المطلوب منه في الوقت بالمرّة ، فإنّ ذلك من الصور المتيقّنة الدخول فيه.

وبالجملة : فعدم الإجزاء هنا أوضح من أن يحتجّ عليه.

الثاني : في العمل بمؤدّى الطرق والأمارات والأصول الشرعية :

والحقّ هنا ـ أيضا ـ عدم الإجزاء مطلقا ، وإن لم يكن هو هنا في الوضوح مثله في الموضع الأوّل ، نظرا إلى أمر الشارع فيها بالسلوك على مقتضاها دون الطرق والأصول العقليتين ، فلذا توهّم بعض ثبوت الإجزاء هنا.

وتوضيح ما اخترناه : أنّ الطرق التي عمل بها المكلّف في مقام الامتثال : إمّا من الطرق المجعولة من الشارع في حال الانسداد فقط ، أو ممّا يعمّ اعتبارها حال الانفتاح والتمكّن من تحصيل الواقع علما.

فإن كانت من الأولى : فالحال فيها هي الحال في الطرق العقلية من حيث عدم معقولية الإجزاء معها ، فإنّ أمر الشارع حينئذ بالعمل بمقتضاها ليس إلاّ لمجرّد مصلحة الإيصال الغالبي أو الأغلبي في تلك الطرق ، فليست هي حينئذ إلاّ الطرق الصرفة ، ومن البديهيّات الأوليّة أنّ ما ليس له إلاّ مجرّد صفة الطريقية الصرفة لا يعقل أن يؤثّر في ذي الطريق الّذي هو المكلّف به الواقعي في شيء ، بل فائدته إنّما هي الإيصال إليه ، فإن أصول فهو ، وإلاّ فيكون العمل الواقع على طبقه كعدمه من حيث تأثيره في الواقع ، بمعنى كونه امتثالا عنه ، أو

١٧٤

محصّلا للأغراض المقصودة منه كلاّ أو بعضا ، ولمّا كان المفروض اعتباره في حال الانسداد فلا يجب على الشارع تدارك ما فات على المكلّف من المصلحة بسبب العمل به ـ أيضا ـ كما إذا أدّى إلى خلاف الواقع ، فإنّ ذلك إنّما يكون إذا كان فوتها عليه مستندا إلى الشارع ، وما نحن فيه ليس منه ، فإنّ ما يعتبره الشارع في حال الانسداد إنّما يعتبره ويأمر بالعمل به لأجل كونه غالب المصادفة للواقع بخلاف غيره ، أو لكونه أغلب مصادفة من غيره.

ومن المعلوم : أنّه لو لم يأمر الشارع بالعمل به في حال الانسداد وكان المكلّف عاملا بغيره أو بهما معا لكان فوت المصلحة عليه حينئذ أكثر منه على تقدير أمره بالعمل به وعمل المكلّف بمقتضاه ، ففوت المصلحة عليه في الجملة لا بدّ منه ، لكنّه على تقدير العمل بذلك الطريق أقلّ منه على تقدير العمل بغيره ، فلم يصر الشارع بأمره بالعمل سببا لفوت المصلحة عليه أزيد ممّا يفوته على تقدير عدمه ، بل صار سببا لقلّته ، لأنّ أمره ذلك داع للمكلّف إلى العمل بذلك الطريق الّذي هو غالب المصادفة أو أغلبها ، فذلك تفضّل منه ورحمة ، لا تفويت للمصلحة عليه.

نعم فوت المصلحة الخاصّة الموجودة في مورد ذلك الطريق مستند إليه ، لكنّه معارض لفوت المصالح المتعدّدة عليه في سائر الموارد على تقدير عمله بغيره ، وليست تلك المصلحة الخاصّة مع وحدتها أولى من تلك المصالح ، بل الأمر بالعكس.

فعلى هذا فيكون العمل الواقع على طبق ذلك الطريق إذا لم يوصل إلى الواقع كعدمه أصلا ، فيكون حاله حال الطريق العقلي في عدم الإجزاء ، بل في عدم معقوليّته أيضا.

وأمّا إذا كانت من الثانية : فلمّا كان من الضروري حينئذ أنّه يقبح على الشارع الترخيص في العمل بمقتضاها والأمر بذلك لمجرّد مصلحة

١٧٥

الطريقية والإيصال ـ مع تمكّن المكلّف من تحصيل الواقع علما ، ضرورة وقوع التخلّف فيها ، ومعه يكون ترخيص العمل بها في مقام الامتثال وجعلها طريقا له مع التمكّن من تحصيل الواقع نقضا للغرض وتفويتا للمصلحة الواقعية على المكلّف ، وهذا مناف للّطف والحكمة بالضرورة ـ فلا بدّ من أن يكون أمره بالعمل بها مع التمكّن من تحصيل الواقع على أحد الوجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك لقيام مصلحة قائمة بنفس العمل بها والسلوك على مقتضاها ، بحيث لا يكون لمن قامت هي عنده واقع سوى العمل بها ، وذلك وإن كان في نفسه أمرا ممكنا ، وعلى تقديره يكون العمل بها مقتضيا للإجزاء جدّاً لكونه واقعا أوّلا (١) لمن قامت هي عنده ، إلاّ أنّه قد علم بالضرورة عندنا عدم وقوعه ، فإنّه عين التصويب الباطل عندنا.

هذا مضافا إلى ظهور أدلّة اعتبارها في أنّ اعتبارها إنّما هو من باب الطريقية ، لا الموضوعية.

وثانيهما : أن يكون لأجل مصلحة في العمل بها لا تنافي اعتبارها (٢) على وجه الطريقية ، ولا تؤثّر في مصلحة ذي الطريق أصلا ، ولا في ارتفاع الخطاب عنه ، بل تكون بحيث تكافئ مصلحته على تقدير فوته على المكلّف بسبب العمل بتلك الطرق على وجه تجبرها حينئذ ، بمعنى أنّ كلّ ما فات على المكلّف من مصلحته بسبب العمل بتلك الطرق لا بدّ أن تكون هي جابرة لذلك المقدار الفائت من تلك المصلحة ومتداركة إيّاه ، فإنّ هذا المقدار من المصلحة في العمل بتلك الطرق مصحّح لتجويز العمل بها مع التمكّن عن إدراك الواقع جدّاً ، ولا يجب أزيد منه قطعا ، وهذا هو المتعيّن في كيفية نصب هذه الطرق ، لكونه هو الموافق لاعتبارها

__________________

(١) كذا في الأصل : والأجود أوّليّا ..

(٢) في الأصل : لا تنافي هي لاعتبارها ..

١٧٦

على وجه الطريقية.

وهذا هو المتعيّن في كيفية نصب الأمارات ـ أيضا ـ إذ اعتبارها إنّما هو من باب الطريقية لا غير.

وقس عليهما الحال في الأصول العملية الشرعية المجعولة من الشارع في مقام الشكّ مطلقا من غير اعتبار عدم التمكّن من تحصيل الواقع ، كالاستصحاب ـ بناء على اعتباره من باب التعبّد ـ فإنّ الأمر بمقتضى الحالة السابقة مع التمكّن من تحصيل الواقع نظير الأمر بالطرق أو الأمارات مع التمكن من تحصيله ، فلا بدّ فيه ـ أيضا ـ من اعتبار مصلحة مصحّحة للأمر به ـ حينئذ ـ لا تنافي هي طريقيّة مؤدّاه ومرآتيّته للواقع ، فإنّ أمره بالعمل بمقتضى الحالة السابقة إنّما هو لأجل أنّه حكم بكون المشكوك هو الّذي كان في السابق ، فإنّ أمره بالصلاة مع الطهارة المستصحبة إنّما هو لأجل حكمه بأنّها هي الصلاة مع الطهارة الواقعية الحاصلة سابقا.

هذا ما استفدته من السيّد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ (١).

لكنّ الأولى ـ بل المتعيّن ظاهرا ـ فرض المصلحة المتداركة لما يفوت من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الطرق والأمارات والأصول في نفس الأمر بالسلوك على مقتضاها ، كما صنعه شيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ لا في المأمور به ـ وهو السلوك ـ إذ معه يشكل الخروج عن شبهة التصويب غاية

__________________

(١) هذا من الشواهد القطعية على صحّة ما ذهبنا إليه ـ خلافا للمحقّق الحجّة آغا بزرگ الطهراني (رحمه الله) في الذريعة ـ من كون هذه المخطوطة تصنيفا للمحرّر (رحمه الله) ، لا تقريرا لدرس أستاذه العظيم (قدّس سرّه) حيث إنّه (رحمه الله) يصرّح في مواضع نقل آراء أستاذه (رحمه الله) بذلك كما صنع هنا ، وقد لا يرتضيها ، كما قد يرتضيها أحيانا ، وهكذا دأبه (رحمه الله) مع آراء باقي الأعلام ـ رضي الله عنهم ـ كشيخه الأعظم (قدّس سرّه).

١٧٧

الإشكال ـ كما بيّناه في مسألة نصب الطرق في مسألة حجّيّة المظنّة (١) ـ إلاّ أنّه يجب على الشارع ـ حينئذ ـ تدارك ما فات المكلّف (٢) من مصلحة الواقع بسبب العمل بها ، ولو بإعطاء الثواب بمقدار ثواب ذلك المقدار الفائت.

وكيف كان ، فيجب على الشارع تدارك ذلك المقدار إمّا بإعطاء الثواب ، أو بمصلحة في نفس العمل والسلوك على مقتضاها إن تعقّلنا اجتماعها مع الأمر بها على وجه الطريقية.

فإذا عرفت ذلك فنقول : إذا عمل بها المكلّف المتمكّن من تحصيل الواقع ، فإن انكشف مصادفتها للواقع ، أو لم ينكشف شيء منها ولا من الخلاف إلى آخر عمره فلا إشكال في ثبوت الإجزاء.

وأمّا إذا انكشف الخلاف فهو إمّا في الوقت أو في خارجه :

فعلى الأوّل : لا ينبغي الإشكال في عدم الإجزاء ، والوجه فيه بقاء الأمر الأوّل الواقعي ـ حينئذ ـ على حاله المقتضي للإتيان بمتعلّقه ، لما مرّ من أنّ الأوامر المتعلّقة بالسلوك على مقتضى الطرق والأمارات والاستصحاب إنّما هي أوامر ظاهرية طريقية ، فهي غير قابلة للتصرّف في دليل الواقع ولا في مصلحته أصلا ، فيكون العمل بمقتضاها كالعمل بالطرق العقلية من هذه الحيثيّة ، وإنّما الواجب على الشارع تدارك ما فات على المكلّف بسبب العمل بها ، والمفروض عدم فوت الواقع عليه بسبب العمل بها في أوّل الوقت ، لفرض بقاء وقته بمقدار تحصيله فيه ، فيكون فوته ـ حينئذ ـ مستندا إلى سوء اختيار المكلّف جدّاً ، فإذا فرض بقاء وقته من غير تدارك له فالامر الأوّل الواقعي باق

__________________

(١) مظنّة الشيء ـ بفتح الميم وكسر الظاء ـ موضعه ومألفه الّذي يظنّ كونه فيه ، والجمع مظانّ. مجمع البحرين : ٦ ـ ٢٨٠ ، ولسان العرب : ١٣ ـ ٢٧٤ ـ مادة ظنن. والمظنّة مصدر ميمي لظنّ بمعنى الظنّ مع زيادة توكيد.

(٢) في الأصل : ما فات على المكلّف.

١٧٨

على حاله ، ومقتض لوجوب الإتيان به حينئذ ، لأنّ ارتفاعه لا يكون إلاّ بمخالفته المتوقّفة على مضيّ الوقت ، أو بامتثاله ، أو بحصول الغرض منه ، ولا شيء من هذه الثلاثة في المقام :

أمّا الأوّل فبالفرض.

وكذلك الثاني ، لفرض عدم الإتيان بمتعلّقه.

وأمّا الأخير فلعدم صلاحية الطريق من حيث كونه طريقا في تأثير تحصيل الغرض من ذيه ، كما مرّ بيانه.

وبالجملة : الطرق لا يعقل أن يكون لها حظّ ونصيب من الواقع أصلا ، بل فائدتها الإيصال ، فإذا فرض عدمها فيكون العمل بها كعدمه أصلا ، فيكون الواقع باقيا على حاله مقتضيا لما كان يقتضيه مع فرض عدم العمل بها ، وهذا واضح لا غبار عليه بوجه.

نعم ، لو كان هناك مصلحة زائدة متقوّمة بإتيان الواقع في أوّل الوقت ـ كمصلحة المبادرة إلى العبادة ـ فهي فائتة عليه بسبب العمل بها ، فيجب على الشارع تدارك هذا المقدار.

وأمّا على الثاني فالحقّ ـ أيضا ـ عدم الإجزاء وإمكان التعبّد بالفعل ثانيا في خارج الوقت ، إذ لا مانع منه عدا ما ربما يتخيّل : من أنّ المفروض فوت خصوصية إيقاع الفعل في الوقت على المكلّف بسبب العمل بتلك الطرق والأمارات أو الأصول ، فيجب على الشارع تداركها ، ومن المعلوم أنّ تدارك الخصوصيّة إنّما هو بتدارك الخاصّ ، وهو هنا الفعل الواقع في الوقت ، ضرورة أنّ الخصوصيّة من الأعراض الغير المتقوّمة إلاّ بالمحلّ ، فلا يعقل استقلالها وانفرادها بحكم أو وصف ، بل لا بدّ أن يكون ذانك جاريين على المحلّ باعتبار اشتغاله بها ، فلا بدّ أن يكون تدارك خصوصية إيقاع الفعل في الوقت بتدارك الفعل في الوقت ، ومعه لا يعقل التعبّد به في خارجه ، إذ المصلحة المتداركة في قوّة

١٧٩

الحاصلة ، فلم يكن هنا فوت شيء حتّى يكون ذلك لأجل تحصيله في خارج الوقت.

لكنّه مدفوع : بإمكان أن يكون للمحلّ آثار منها ما لا يتقوّم إلاّ بالخصوصية ، ومنها ما يحصل بدونها ـ أيضا ـ ومعه يمكن أن يكون الحكم المتعلّق بالمحلّ باعتبار تلك الخصوصية متعلّقا به بملاحظة ما لا يتقوّم إلاّ بها من تلك الآثار ، من غير ملاحظة جميعها ، فيمكن بقاء ذلك البعض الغير المتقوّم بها ، ومعه يمكن تعلّق حكم آخر بالمحلّ بملاحظة ذلك البعض.

فنقول فيما نحن فيه : إنّه يمكن أن يكون للفعل المقيّد بإيقاعه في الوقت آثار اخر غير متقوّمة بالوقت ، بل تحصل بدونه ـ أيضا ـ ومن المعلوم أنّه لا يجب على الشارع على تقدير تفويته للأثر المتقوّم به على المكلّف إلا تدارك ذلك الأثر فقط ، وإن كان يمكن تداركه للجميع ـ أيضا ـ من باب التفضّل ، إلاّ أنّه غير لازم ، فيكون عدمه ممكنا ، بل محتملا ، فيمكن التعبّد به في خارج الوقت لأجل تحصيل غير المتدارك من المصالح والآثار.

ثمّ إنّ هذا كلّه بناء على أنّ القضاء بأمر جديد ، كما هو المختار.

وأمّا بناء على كونه بالأمر الأوّل فيجب القضاء بمجرّد احتمال عدم تدارك جميع المصالح والأغراض من الفعل ، لوجوب الخروج عن عهدة ذلك الأمر.

لكن هذا يخرج ـ حينئذ ـ عن القضاء المصطلح ، بل يكون أداء حقيقة ، فإنّ ذلك الأمر ـ حينئذ ـ يكون من الأوامر المتعدّدة المطلوب (١) المقتضية للإتيان بالفعل في كلّ وقت لم يؤت به إمّا عصيانا أو عذرا ـ كما فيما نحن فيه ـ فإنّ العامل بتلك الطرق ـ حينئذ ـ معذور في ترك الواقع في وقته المضروب له ،

__________________

(١) في الأصل : المتعدد المطلوبيّة.

١٨٠