تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

الحال فيها فيما إذا حملت عليها من جهة قاعدة الحكمة بالنظر إلى الثمرة الآتية بين كون الوجوب موضوعا للنفسي أو كونه للأعمّ ، وأنّه محمول على النفسيّ من باب قاعدة الحكمة إذا جرت في مورد.

نعم قد قيل : إنّ الانصرافات من قبيل المجاز بمعنى أنّ اللفظ مستعمل في خصوص معنى المنصرف إليه.

وقد يقال : إنّها من جهة الوضع في العرف بمعنى أنّ المطلقات في الأصل وإن كانت موضوعة للطبائع المهملة ، لكنّها في العرف نقلت إلى ما ينصرف إليه (١).

وعلى هذين القولين ـ أي على أيّ منهما ـ يخالف حكم المطلقات المنصرفة ـ بأحد أسباب الانصراف إلى المعاني المطلقة أو الأفراد الشائعة أو غيرها ـ حكمها إذا حملت على المعاني المطلقة من جهة قاعدة الحكمة المذكورة بالنظر إلى الثمرة الآتية.

لكن لا يخفى على المتأمّل فساد هذين القولين كليهما.

ثمّ إنّه يسري (٢) ـ من الخلاف في أنّ الانصرافات من قبيل تعدّد الدّال ووحدة المطلوب كما هو المختار عندنا ، أو أنّها من قبيل المجاز كما هو قول بعض ، أو من باب الوضع العرفي كما هو مذهب آخرين ـ الخلاف في أنّ ظهور الأمر وغيره ـ مما يدلّ على الوجوب ـ في الوجوب النفسيّ العرفي هل هو من باب تعدّد الدالّ ووحدة المطلوب أو من باب المجاز أو الوضع العرفي (٣) لكون المقام

__________________

(١) بمعنى أنّ المطلقات بوصف إطلاقها ، أي حال كونها مطلقة نقلت إلى ما ينصرف إليه عند الإطلاق. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) في الأصل : ( يتسرّى ) ، ولا يوجد في اللغة هذا الفعل من السراية ، فالصحيح ما أثبتناه

(٣) اعلم أنه إذا قام قرينة على عدم إرادة الوجوب النفسيّ يحمل (أ) على الوجوب الغيري ، لأنّه أقرب من الاستحباب ، وإن علم عدم إرادة الوجوب الغيري أيضا فعلى الاستحباب النفسيّ ، فإنّه أقرب من

__________________

(أ) في الأصل : فيحمل.

٣٠١

من أفراد موضوع ذلك الخلاف؟ والمختار هنا هو المختار ثمة.

ويتفرّع على هذا الخلاف اختلاف المراد في المفهوم فيما إذا وقع الأمر وما يحذو حذوه ممّا يدلّ على الوجوب ـ في حيّز ما يفيد الانتفاء عند الانتفاء من الشرط والغاية والوصف على القول بالمفهوم له :

فعلى ما اخترنا ـ من كون المراد من اللفظ هي نفس الطبيعة المهملة ، وأنّ إفادة الخصوصية إنّما هي بدالّ آخر ـ يكون (١) المفهوم في المقام هو انتفاء مطلق الوجوب الأعمّ من كلّ من النفسيّ والغيري.

وأمّا على القولين الآخرين فيكون هو انتفاء الوجوب النفسيّ بالخصوص ، والسرّ في ذلك أنّ قاعدة أخذ المفهوم هي نفي الحكم المراد من اللفظ في المنطوق عن غير مورد القيد ، ولما كان المراد منه على المختار هو مطلق الوجوب فيكون المنفيّ حينئذ هو لا غير ، وعلى القولين الآخرين هو خصوص النفسيّ ، فيكون المنفيّ هو بالخصوص.

فهذه الثمرة ثابتة بين ما اخترنا وبين كلا القولين الأخيرين ، وأما بين هذين فهي منتفية جدّاً كانتفائها بين ما اخترنا من ظهور الأمر في النفسيّ عند الإطلاق من غير جهة قاعدة الحكمة وبين ظهوره فيه من جهة تلك القاعدة (٢).

ثمّ إنّ من ذهب إلى ظهور الأمر لغة في الوجوب النفسيّ موافق للقائلين بذينك القولين من حيث تلك الثمرة المذكورة ، فافهم.

__________________

الغيري حينئذ ، وإن علم عدم إرادة ذلك أيضا فعلى الاستحباب الغيري.

وأما الوجوب الإرشادي فهو ليس في هذه السلسلة لاجتماعه مع النفسيّ والغيري كليهما ، والفرق بينه وبين الوجوب الغيري بعد اشتراكهما في أصل المطلوبية أنه لمحض اللطف ، بخلاف الغيري ، فإنّه إنّما هو لأجل التوصّل به إلى المطلوب النفسيّ من دون النّظر فيه إلى الإرشاد واللطف والهداية أصلا ، وإن كان يترتب عليه اللطف والهداية أيضا. لمحرّره عفا الله عنه.

(١) إذ على كلّ منهما يكون اللفظ مستعملا في نفس الطبيعة. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) في الأصل : فيكون ..

٣٠٢

تنبيه : اختلفوا في أنّ امتثال الواجب الغيري وإيقاعه على وجه الطاعة من جهة وجوبه الغيري هل يتوقّف على قصد ترتّب ذلك الغير عليه ـ بأن يفعله لأجل التوصّل به إليه ، فلا بدّ من العزم الجزمي على إيجاد ذي المقدّمة أيضا ـ أولا ، بل يكفي إيجاده بأيّ وجه اتفق ولو كان شاكّا في إيجاده لذي المقدّمة بعده ، بل ولو كان عازما على عدمه أيضا؟

ذهب جماعة (١) ـ على ما حكي عنهم ـ إلى الثاني ، وآخرون إلى الأوّل ، وهو الحقّ.

والّذي يمكن كونه سندا للأوّلين أنّ الأمر الغيري الناشئ عن الأمر بذي المقدّمة إنّما تعلّق بذات المقدمة ، لا بها بعنوان كونها مقدّمة ، فإذا كان المطلوب منه هي الذات ، وأتى بها لداعي ذلك الأمر ، فقد حصل الامتثال والطاعة ، ولا يعتبر في امتثال ذلك الأمر قصد ما دعي إليه بأن يفعل الواجب الغيري بداعي ذلك الأمر الغيري بوصف كونه أمرا غيريا وإلاّ يجري مثله في الواجبات النفسيّة أيضا ، حيث إنّ كلّ واجب له داع لا محالة ، وهو قد يكون واجبا آخر كما في المقام ، وقد يكون أمرا آخر غير الواجب كسائر المصالح الداعية إلى الأمر ، فلو لزم قصد داعي الأمر أيضا وجب قصد إيقاع الواجبات النفسيّة أيضا بداعي الأمر النفسيّ بوصف كونه نفسيا أو بوصف كونه ناشئا عن المصلحة الفلانية ، ككون الفعل مقرّبا مثلا.

اللازم باطل بالبديهة ، فالملزوم مثله ، والملازمة واضحة.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في الاستدلال لذلك القول ، لكن ستعرف ضعفه ممّا سيأتي منا.

__________________

(١) منهم فخر الدين ( قده ) ، حيث قال : ( أن من كان بالعراق يوم النحر يجوز له الوضوء لطواف الحجّ ، ويصحّ منه ذلك ، مع أنه غير عازم على الحجّ ، فإنّه غير متمكّن منه في ذلك اليوم ). لمحرّره عفا الله عنه.

٣٠٣

لنا على ما اخترناه وجهان :

الأوّل ـ أنّ الّذي يستفيد وجوبه العقل من وجوب ذي المقدّمة إنّما هو عنوان المقدّمة لا غير ، فإنّه لما رأى أنّ ذا المقدّمة لا يحصل إلاّ بإيجاد ما يتوقّف عليه ، فيحكم لذلك بالملازمة بين وجوبه ووجوب ما يتوقّف عليه من حيث إنّه المتوقّف عليه الواجب ، لا وجوب ذات المقدّمة وإن كانت هي لا تنفكّ في الخارج عن ذلك العنوان ، ويسقط بها الوجوب الغيري كيف ما اتفقت إذا لم تكن من العبادات ، أو كانت منها لكن يمكن إيقاعها على وجه الطاعة المحقّقة للعبادية إذا تعلّق بها أمر آخر نفسي وجوبي أو ندبي بأن يؤتى بها لداعي ذلك الأمر.

لكن الكلام ليس في السقوط ولا في تحقّق الامتثال مطلقا (١) ، بل في تحقّق الامتثال من جهة وجوبها الغيري كما أشرنا إليه سابقا ، فإذا كان عنوان الوجوب الغيري هو المقدّمة ـ لا الذوات التي هي مصاديقها ـ يتوقّف (٢) صيرورة الإتيان بتلك الذوات امتثالا وإطاعة لذلك الأمر على إيجادها بعنوان المقدّمية ، فإن الامتثال لا يحصل إلاّ بإتيان الفعل بالعنوان الّذي تعلّق الأمر به بذلك العنوان ، إذ لو قصد غير ذلك العنوان من سائر العناوين الصادقة على هذا الفعل لم يكن آتيا بالفعل لداعي ذلك الأمر ، إذ المفروض تعلّقه بالعنوان الّذي لم يقصد حصوله ، فلا يعقل كون ذلك الأمر داعيا لإيجاد الفعل بغير هذا العنوان ، بل إنّما هو داع لإيجاده بالعنوان الّذي تعلّقت به لا غير ، فإذا لم يقع الفعل بداعي ذلك الأمر فلا يقع امتثالا له جدّاً ، فإذا لزم قصد ذلك العنوان ـ أي عنوان المقدّمة ـ

__________________

(١) ويؤكّد عدم إمكان تحقّق الامتثال والطاعة بمجرّد الإتيان بالمقدّمة ـ مع عدم العزم على ترتيب ذيها عليها فيما إذا كان عازما على ترك ذي المقدّمة بالمرّة أو شاكّا في الإتيان به بعدها ـ أنّه متجرّ في الإتيان بها في تينك الصورتين بالنسبة إلى ذي المقدّمة ، ولا يعقل اجتماع التجرّي مع الامتثال والطاعة بالضرورة. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) في الأصل : فيتوقف ..

٣٠٤

فلا ريب أنّ قصده عبارة عن إيجاد الفعل بقصد التوصّل به إلى ذلك الغير ، وإلاّ لم يكن قاصدا له البتّة.

لا يقال : إنّ الّذي ذكرت من لزوم قصد التوصّل راجع إلى ما سيأتي من التفصيل بين وجوب المقدّمة الموصلة وبين غيرها ، لأنّ المراد بالمقدّمة الموصلة في التفصيل الآتي هي ما يترتّب عليها ذوها في الخارج سواء كان إيجادها بقصد التوصّل إلى ذيها ، أولا.

والّذي نقوله في المقام إنّما هو لزوم قصد التوصّل في تحصيل الامتثال سواء ترتّب عليها ذوها في الخارج أيضا ، أو لم يترتّب لمانع من الموانع بحيث لو أتى بالمقدّمة بقصد الترتّب والتوصّل بها إليه لوقع ذلك امتثالا وإطاعة ، ولو لم يترتّب عليها ذوها بعد في الخارج لمانع ، فأين هذا من التفصيل الآتي؟!

فإن قيل : إن الّذي ذكرت إنّما يتمّ في المقدّمات التي هي من العبادات ، ولم يأت المكلّف بها لداعي أوامره النفسيّة إذا كانت هي مأمورا بها بالأمر النفسيّ ، أو لم يكن لها أمر آخر أصلا فإن سبيل وقوعها عبادة منحصر في إيجادها بقصد الترتّب والتوصّل به إلى الغير ، فيجب إتيانها بهذا القصد ، وإلاّ لم يأت بالمقدّمات ، حيث إنّ وقوعها على جهة الطاعة والعبادة مأخوذ في مطلوبيتها الغيرية ومقدميتها.

وأمّا في المقدّمات التوصّلية الموجب فعلها كيف ما اتفق لسقوط الأمر الغيري عنها فلا يلزم فيها ذلك فان المطلوب فيها إنما هو ذوات تلك المقدّمات ، وإلاّ لم يكن معنى لكونها مسقطة ، إذ لا يعقل كون غير المطلوب مسقطا للطلب ، فسقوط الطلب بذواتها كاشف عن أنّ المطلوب هي ، فيحصل الامتثال والطاعة بإيجادها كيف ما اتفقت ، إذ الامتثال ليس إلاّ إيجاد المأمور به على وجهه.

٣٠٥

قلنا : إنّ المقدّمات التوصّلية وإن كان إيجادها كيف ما اتفقت مسقطا للأمر الغيري بها ، إلاّ أنّ السقوط أعمّ من حصول الامتثال ، إذ الأوّل يتوقّف على إيجاد المأمور به على وجه يحصل به الغرض الداعي إلى الأمر به في نظر الآمر ، ويحصل بمجرّد وقوع العمل على هذا الوجه ، بخلاف الثاني ، فإنه يتوقف مضافا إلى توقفه على ما ذكر على شيء آخر.

ألا ترى أنه لو أمر مولى عبده بإتيان الماء ، وكان غرضه رفع العطش عن نفسه ، فأتى به العبد بتشهّي نفسه ، لا لداعي أمر المولى ، لا يبقى بعده وجوب لإتيان الماء ، بل يسقط بحصول غرض المولى بذلك الإتيان ، مع أنه لم يمتثل ولم يطع قطعا.

فنقول : المقدّمات التوصلية نمنع كون المطلوب فيها نفس الذوات أوّلا ، بل المطلوب إنّما هو عنوان المقدّمة الصادق عليها كما في المقدّمات التعبّدية أيضا ، فحينئذ يتوقّف وقوعها على وجه الامتثال على قصد ترتّب ذيها بتقريب ما مرّ.

وأما سقوط الأمر عنها بعد إتيانها بدونه فهو لحصول الغرض ، وهو التوصّل ، لا الامتثال.

ونسلّم كون المطلوب فيها هي الذوات ثانيا ، لكن بمجرّد الإتيان بها كيف كان لا يحصل الامتثال وإن كان يسقط الأمر لحصول الغرض.

وبالجملة : سقوط الأمر أعمّ من حصول الامتثال ، فإنّ الأوّل ـ كما عرفت ـ يحصل بحصول الغرض ، والغرض قد يكون أعمّ من الامتثال ، كما أنّه قد يكون أعمّ من المطلوب أيضا كأعميّة المطلوب من الامتثال كذلك ، بمعنى أنّه قد يكون المطلوب أعمّ ممّا يتحقّق به الامتثال بحيث لا يلزم من وجوده تحقّقه.

أمّا أعمّية الغرض من المطلوب فهو كما في الواجبات التوصّلية التي تحصل بإيجادها بأيّ وجه اتّفقت كغسل الثوب ـ مثلا ـ حيث إنّه يحصل بدون

٣٠٦

قصد القربة ، بل بلا قصد وشعور كالنائم ، بل يحصل بفعل الغير بحيث يسقط الأمر ، فإنه لا ريب أنه لا يعقل أن يكون المطلوب هو غسل الثوب من المكلّف حتّى في حال الغفلة والذهول والنوم ، إذ لا يعقل تكليف الغافل ، بل الطلب متعلّق به حال الذّكر والالتفات ، لكن الغرض ليس غسل الثوب في حال الذّكر بل أعمّ ، فلذا يسقط الأمر بإيجاده كيف ما اتّفق.

وكيف كان ، فتحقيق الكلام في الوجه المذكور لتوقّف الامتثال على قصد الغير في الواجبات الغيرية : أنّ الفعل الّذي يصدق عليه عناوين متعدّدة إذا تعلّق به الأمر بأحد تلك العناوين ، فلا يخلو الحال من أنّه إمّا أن يتوقّف (١) تحقّق ذلك العنوان على قصده كما في القيام ، حيث إنّه مشترك بين عنواني التعظيم

__________________

(١) اعلم أنّ الوجه الأوّل من دليل المختار إنّما هو مبنيّ على أخذ الغيرية والمقدّمية في عنوان الأمر الغيري كما عرفت ، بمعنى أنّ المأمور به هو هذا العنوان ، وهو كان يقتضي قصد الغير في مقام الامتثال كما علمت.

ويمكن أن يجعل الغيرية من خصوصيات الأمر الغيري ، بأن يقال : إن المأمور به هي ذات المقدمة لكن الأمر بها إنّما تعلّق بعنوان الغيرية ، بمعنى أنّ الآمر طلبها لأجل التوصّل بها إلى الغير ، وغرضه من ذلك الأمر هذا ، فعلى هذا لا يصدق الامتثال إلا بالإتيان بها على طبق غرضه ، فإنّ معنى الامتثال بالفارسية حقيقت : ( خواهش مولا را بعمل آوردن است ) ، وهذا إنّما يصدق إذا أتى بالمأمور به بعنوان تحصيل غرض المولى ، فيتوقّف صدق الامتثال في المقام على الإتيان بالمقدّمة لأجل التوصّل بها إلى الغير ، فإنّه هو الغرض الداعي للأمر بها ، وهذا القصد لا يمكن إلاّ بقيد الإتيان بذلك الغير.

فظهر أنّ وجوب القصد إلى الغير في تحقّق الامتثال لا يتوقّف على كون عنوان الأمر الغيري هو عنوان المقدّمة ، بل يجب مع تجريده عن ذلك العنوان أيضا لما عرفت الآن ، فذلك وجه ثالث لما اخترناه.

ثمّ إنّ الوجه الثاني المذكور في المتن غير متفرّع على خصوص شيء من التقديرين المذكورين ، بل يجري على كلّ واحد منهما ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٠٧

والاستهزاء ـ مثلا ـ ولا يتحقّق شيء من ذينك العنوانين إلاّ بقصده ، أو لا يتوقّف.

لا شبهة في وجوب قصد ذلك العنوان على الأوّل سواء كان الأمر به تعبّديا أو توصّليا ، إذ على الثاني لا بدّ من إيجاد نفس المأمور به لا محالة ، والمفروض أنّه لا يحصل إلاّ بقصده.

وأمّا على الثاني فإذا كان الفعل من العبادات أو من المعاملات لكن أراد المكلّف الإتيان به على وجه العبادة والطاعة ، فلا ينبغي الإشكال أيضا على توقّف حصول الامتثال والطاعة على قصد ذلك العنوان الّذي تعلّق الأمر بالفعل من جهة ذلك العنوان (١) بحيث يكون الداعي والمحرّك له إلى إيجاد ذلك تحصيل ذلك العنوان.

وذلك لأنّ الإتيان بالفعل لداعي أمر المولى معتبر في تحقّق الامتثال والطاعة بالضرورة ، فلا يحصل الفعل في الخارج على وجه الطاعة إلاّ بأن يكون الداعي إلى الإتيان به هو أمر المولى ، ولا ريب أنه لا يعقل كون الأمر داعيا ومحرّكا للمكلّف إلى إيجاد وتحصيل غير العنوان الّذي تعلّق هو به ، بل إنّما هو محرّك له إلى إيجاد وتحصيل العنوان المتعلّق هو به لا غير.

ألا ترى أنه لو أمر مولى عبده بالقيام بعنوان التعظيم لزيد عند مجيئه ، فإذا جاء زيد قام العبد لا لأجل تحصيل ذلك العنوان ، بل لرفع التعب عن نفسه أو للاستهزاء أو لغير ذلك من العناوين الصادقة على القيام لا يعدّ ممتثلا ومطيعا أصلا ، وكذا لو أمره بقتل عدوّه ، فقتله لا لكونه عدوّا لمولاه ، بل لأجل كونه عدوّا لنفسه ، فإذا ثبت توقّف الامتثال على قصد عنوان الأمر فلا بدّ من قصده.

ثمّ إنّ ذلك العنوان قد يكون من المفاهيم المستقلّة الغير المتوقّفة على

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأجود هكذا : ... من جهته ...

٣٠٨

ملاحظة أمر آخر فلا حاجة إذن إلى أزيد من قصد نفس ذلك العنوان ، كما هو الشأن في الواجبات النفسيّة ، وقد يكون من المفاهيم الغير المستقلّة الحاصلة في غيرها كالمعاني الحرفية ، فيتوقّف قصد ذلك العنوان على قصد ذلك الغير أيضا ، فإنّ التبعيّة ـ والتطفّل ـ مأخوذة في ذلك العنوان حينئذ ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن قصد التابع بما هو تابع إلاّ بقصد متبوعه ، فيجب حينئذ ـ زائدا على قصد الإتيان بذات ذلك العنوان ـ القصد إلى ذلك الغير الّذي أخذت التبعية بالنسبة إليه.

وبعبارة أخرى : إنّه إذا كان ذلك من الأمور التبعية فالتبعية مأخوذة في حقيقته وواقعه ، فيجب قصد الغير الّذي لوحظت التبعية بالنسبة إليه ، وإلاّ لم يكن قاصدا لذلك العنوان ، إذ المفروض اعتبار التبعية في حقيقته ، وقد مرّ وجوب القصد إلى عنوان المأمور به في مقام الامتثال.

فإذا علم ذلك فنقول : إنّه لا ريب أنّ الواجبات الغيرية بأسرها إنّما يكون العنوان للأمر الغيري فيها هو عنوان المقدّمية والتوصّل بها إلى الغير ، فتكون هي بأسرها من الأمور التبعية بالنسبة إلى الواجبات النفسيّة التي هي مقدّمات لها ، فيتوقف الإتيان بها على وجه الطاعة على قصد تلك الواجبات النفسيّة أيضا بالتقريب المتقدّم (١).

__________________

(١) اعلم أنّ الإتيان بالمقدّمة وإيجادها : تارة يكون على وجه أخذ المقدّمة عنوانا مستقلا ومعنى اسميّا ، وهو بأن يكون الغرض ذات المقدّمة ، ويكون المحرّك لإيجادها هي ـ لا عنوان المقدّمة ، وإن كانت هي صفة لازمة لها لا تنفكّ عنها ـ وحاصل ذلك : أنه يأتي بما يعلم أنّ من خواصّه التوصّل إلى واجب آخر ، لا أنه يأتي به لأجل التوصّل به إليه.

وأخرى يكون على وجه أخذها بعنوان الآلية والتبعية التي هي من قبيل المعنى الحرفي ، وهذا إنّما يكون بأن يأتي بالشيء لأجل التوصّل إلى الغير ، بأن يكون الداعي إلى إيجاده ذلك لا غير ، وهذا هو معنى كون الداعي هو عنوان المقدّمة الّذي قلنا بلزومه في مقام الامتثال. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٠٩

الثاني (١) ـ أنه لا شبهة أنّ الأمر الغيري المتعلّق بالمقدّمات إنّما هو شأن من شئون الأمر بذي المقدّمة وشعبة من شعبه ، فإن العقل إنّما يأخذه منه ، فيكون حقيقة امتثاله امتثال ذلك الأمر المتعلّق بذي المقدّمة ، فيجب حينئذ قصد ذلك الأمر.

هذا ما يحضرنا من الوجه لما صرنا إليه ، والمعتمد هو الوجه الأوّل ، وبعده الثاني ، فافهم.

ثمّ إنّه يشكل الأمر على ما اخترناه في الحكم بصحّة وضوء من توضّأ بعد دخول وقت العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة إذا لم يكن عازما على فعل تلك العبادة في ذلك الوقت أصلا ، أو كان لكن [ لا ] بهذا الوضوء ، بل قصد بذلك الوضوء غاية أخرى غير الإتيان بتلك العبادة ، حيث إنّ صحّته متوقّفة على وقوعه على وجه الامتثال والطاعة ، والمفروض أنّه لم يأت به بعزم التوصّل به إلى ما هو مقدّمة له ، فلم يقع بداعي ذلك الأمر المقدّمي الناشئ من الأمر بتلك العبادة فلم يقع طاعة من تلك الجهة بمقتضى ما اخترناه (٢).

وأمّا إيقاعه بداعي أمره الاستحبابي ليقع صحيحا من هذه الجهة فهو غير ممكن ، إذ بعد تعلّق الأمر الوجوبيّ به ـ وهو الأمر المقدّمي الناشئ من الأمر

__________________

(١) [ أي ] الوجه الثاني ، [ كما في هامش الأصل ].

(٢) ثمّ إنّه تظهر الثمرة بين القولين في الواجبات التي هي من العبادات ، وكان جهة الامتثال فيها منحصرة في الأمر الغيري ، بأن لم يكن لها أمر من جهة أخرى أصلا ـ لا وجوبا ولا ندبا ـ بل أمرها منحصر في المقدّمي ، فعلى ما اخترناه لا تقع هي صحيحة إلاّ بقصد الإتيان بما تكون هي مقدّمات له ، وعلى القول الآخر تصحّ بدون ذلك القصد أيضا.

وكذلك تظهر الثمرة المذكورة في الواجبات التي هي من العبادات إذا كان لها أمر من غير جهة المقدّمية أيضا ، لكن المكلّف لم يأت بها لداعي ذلك الأمر ، بل لداعي أمرها المقدّمي. وقد أشير إلى تلك الثمرة في طيّ كلماتنا المتقدّمة ، وإنّما أردنا بذلك توضيحا لما

٣١٠

بتلك العبادة ـ لا يعقل بقاء ذلك الأمر الندبي لأدائه إلى التناقض لاستلزامه اجتماع حكمين متناقضين في موضوع واحد في آن واحد ، نظرا إلى أنّ الوضوء حقيقة واحدة على المختار ، وليس كالغسل ليكون بالنظر إلى كلّ واحدة من الغايات حقيقة على حدة ، حتى يمكن بقاء أمره الاستحبابي إذا أراد به غاية أخرى ، فلا يكون إذن أمر ندبي حتى يمكن إيقاعه بداعيه ليقع صحيحا من جهته ، فلم يبق جهة صحة لذلك الوضوء أصلا.

لكن التحقيق اندفاعه : بأنّ ارتفاع الأمر الندبي قد يكون بانتفاء المصلحة والجهة المقتضية له بالمرّة ، وقد يكون لمزاحمة الأمر الوجوبيّ له من حيث منافاة (١) فصله لفصله مع بقاء المصلحة والجهة المقتضية له على ما كانت عليه أوّلا ، كما هو الحال فيما نحن فيه ، ضرورة أنه لا منافاة بين المصلحة المقتضية للوجوب وبين المصلحة المقتضية للاستحباب (٢) ، بل الأولى مؤكّدة للثانية جدّاً ، ولا بين الثانية وبين الأمر الوجوبيّ قطعا.

وإنّما المنافاة بين نفس الأمرين من جهة تنافي فصلهما وعدم إمكان تحقّق الامتثال من جهة الاستحباب إنّما هو في الصورة الأولى ، وأمّا في الثانية فهو يحصل بالإتيان بالفعل لداعي المصلحة والجهة الاستحبابية ، بأن يفعله لأجل تحصيل تلك المصلحة ، فإنّه إذا كان ارتفاع الأمر من جهة مانع خارجي مع بقاء المصلحة المقتضية له لم يكن المحبوبية ساقطة عن ذلك الشيء ، بل هو في تلك

__________________

أشير إليه. لمحرّره عفا الله عنه.

(١) في الأصل : تنافي.

(٢) وذلك لأنّ المصلحة الاستحبابية إنّما هي بحيث تقتضي رجحان الفعل ، لكن ليست بمثابة تقتضي المنع من الترك ، فعدم المنع من الترك في المستحبّ لعدم المقتضي للمنع ، والمصلحة الوجوبية هي بمثابة تقتضي كلا الأمرين ، فتغاير المصلحتين بالنسبة إلى المنع من الترك من باب اقتضاء أحد الأمرين لشيء وعدم اقتضاء الآخر له ، ولا شبهة في عدم التنافي بينهما.

٣١١

الحال أيضا محبوب للآمر ، والإتيان به مطابق لغرضه ، فيعدّ ذلك لذلك إطاعة وامتثالا.

وبالجملة : الإطاعة لا تنحصر في صورة وجود الأمر فعلا ، بل تعمّ صورة وجوده الشأني.

وبعبارة أخرى : الإطاعة ـ والامتثال ـ تدور مدار صدق التعبّد الّذي معناه بالفارسية : ( بندگى كردن ) ، وهذا إنّما يكون بالإتيان بغرض المولى (١).

والإتيان بالفعل في صورة وجود الأمر فعلا إنّما يعدّ إطاعة لكونه إتيانا لغرضه وتحصيلا له ، وهذا موجود في صورة عدم الأمر مع بقاء المصلحة والمحبوبية ، فافهم.

بقي هنا شيئان ينبغي التنبيه عليهما :

الأوّل ـ أنّه إذا علم وجوب شيء من العبادات وتردّد بين كونه نفسيا أو غيريّا فمقتضى قاعدة الشغل الإتيان به على وجه جامع للامتثال الغيري أيضا ، وهو إنّما يكون بالقصد إلى إيجاد ما يحتمل كونه مقدّمة له أيضا ، فإنّه لو اقتصر على امتثال الغيري أو النفسيّ لا يقطع بوقوع الفعل على وجه الطاعة والامتثال ، لاحتمال عدم ذلك الوجوب الّذي يأتي بالفعل لأجله ، ومعه لا يقع الامتثال من جهته ، إذ هو يتقوّم بأمرين : وجود الأمر واقعا ، وإيقاع الفعل بداعيه ، فإذا لم يقطع بوقوعه على وجه الطاعة على فرض الاقتصار ، فيجب عليه الجمع بين وجهي الامتثال تحصيلا للبراءة اليقينية.

__________________

لمحرّره عفا الله عنه.

(١) وبعبارة أخرى : ( اينكه امتثال حقيقة عمل بميل واشتهاى مولا است وماداميكه مصلحت استحبابيّه باقى است اشتهاى مولا باقي است بحيثى كه هر گاه ممكن بود امر او بمقتضاى اين مصلحت از جهت اجتماعش با جهت امر وجوبى امر ميكرد لكن عدم امر بجهت عدم امكان دو امر است ). لمحرّره عفا الله عنه.

٣١٢

ومن هنا تبيّن الفرق بين صورة الشك والتردّد في كون الشيء واجبا نفسيا أو غيريا وبين صورة العلم بكونه واجبا من جهتين ، فإنّ الأمر من كل واحد منهما محرز ، فيكون الاقتصار على الامتثال من تلك الجهة محقّقا لوقوع الفعل على وجه الطاعة قطعا.

فإن قيل : إنه كما يجب مراعاة جهة الغيرية وامتثالها كذلك يجب مراعاة جهة النفسيّة وامتثالها ، وهاتان الجهتان متضادّتان لا يمكن اجتماعهما في القصد ، فلا يمكن الجمع بين الامتثالين في إيجاد واحد للفعل ، بل يجب تارة إيجاده بعنوان كونه واجبا نفسيا ، وأخرى بعنوان كونه غيريا.

قلنا : إنّ المطلوبية نفسا ليست بشرط عدم الغير ، بل إنّما هي لا بشرط ، فلا ينافي قصد الغير أيضا ، وإلاّ لما جاز القصد إلى فعل واجب نفسيّ آخر فيما بعد حين الاشتغال بواجب نفسي ، وهو باطل بالضرورة.

فإن قيل : إنّ مجرّد القصد إلى فعل الغير ليس محققا للامتثال الغيري ، بل إنّما يحقّقه إذا كان على وجه يكون هو المحرّك لإيجاد هذا الفعل ، وإلاّ لم يكن إيجاده إتيانا بعنوان المقدّمة من حيث المقدّمية ، وقد مرّ لزوم الإتيان به بهذا العنوان في مقام الامتثال ، فلا بدّ حينئذ أيضا من تكرار العمل كما مرّ.

قلنا : إنّ ما ذكر إنّما هو مسلّم في صورة العلم بكون ذلك مقدّمة لذلك الغير ، وأمّا في مقام الشكّ فيكفي مجرّد قصد الإتيان به أيضا.

أقول : وللنفس في ذلك الأمر تأمّل وتزلزل ، فالأحوط هو التكرار على الوجه المذكور.

ثمّ إنّه يشكل الأمر في العبادات المردّدة بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين من الأجزاء على القول بالتمسّك بأصالة البراءة في الزائد المشكوك فيه ، فإن الأجزاء الباقية المتيقّنة مردّدة بين كونها واجبة نفسا وبين كونها واجبة مقدّمة

٣١٣

للكلّ المؤلّف منها ومن الأجزاء الباقية المنفية بأصالة البراءة ، ضرورة أنّ أصالة البراءة إنّما تنفي التكليف والعقاب عن الزائد المشكوك فيه ، ولا تصلح لتعيين المأمور به حتى يثبت بها كون المأمور به هي الأجزاء والشرائط الباقية ، فيثبت بذلك كون تلك الباقية واجبة نفسا.

وحاصل الإشكال وخلاصته : أنه بعد البناء على عدم الإتيان بالأجزاء المشكوك فيها اعتمادا على أصالة البراءة لا يعقل تحقّق الامتثال الغيري وإن بني على الإتيان بها أيضا فهو راجع بالأخرة إلى الالتزام بمقتضى الاحتياط لا أصالة البراءة.

لكن التحقيق : أنّ هذا الإشكال إنّما يرد على من تمسّك بالبراءة في الزائد مع التزامه بكون الأقلّ منجّزا (١) على كلّ تقدير حتى على تقدير كون الواجب في الواقع هو الأكثر ، لكن على المختار ـ من أنّ التكليف به إنّما يكون منجّزا موجبا لاستحقاق العقاب على الترك لو كان الواجب في الواقع هو لا الزائد ، ولزوم الإتيان به إنّما هو لأجل تمامية الحجّة بالنسبة إليه وتمامه لو كان الواجب هو في الواقع ، وعدم معذورية المكلّف على تركه لو صادف كونه هو الواجب لذلك ـ فلا مجال لهذا الإشكال أصلا ، فإنّا مأمونون بحكم العقل من العقاب على الأكثر لو كان هو المكلّف به في الواقع مع عدم بيانه لنا ، والتكليف بالباقي واستحقاق العقاب عليه ـ من جهة كونه جزء من ذلك الأكثر ـ غير معقول بعد ارتفاع التكليف والعقاب عن الأكثر ، فلا يجب علينا مراعاة الجهة الغيرية في تلك الأجزاء المتيقّنة الباقية ـ وهي الأقلّ ـ حتّى يجب علينا قصد ما يحتمل كون ذلك مقدّمة له ليرد الإشكال ، وإنّما الواجب علينا بحكم العقل

__________________

(١) بمعنى استحقاق العقاب على تركه على كلّ تقدير. لمحرّره عفا الله عنه.

٣١٤

مراعاة جهة وجوبه النفسيّ ، فيأتي به حينئذ لداعي وجوبه النفسيّ الاحتمالي (١) ، فافهم.

الثاني (٢) ـ أنّه هل الحال في مستحبّات الغيرية ـ من جهة توقّف تحقّق الامتثال على قصد الغير وعدمه ـ هي الحال في الواجبات الغيرية ، أو لا؟.

لا شبهة في عدم حصول الامتثال إذا أتى بها مع العزم على ترك ذلك الغير بالمرّة ، أو على عدم إيجاده بها ، وأما إذا أتى بها لأجل احتمال فعل ذلك الغير به فيما بعد فقال سيّدنا الأستاذ ـ دام ظلّه ـ : ( لا يبعد صدق الامتثال بذلك ). ولا يرد عليه ما يرد على الواجب الغيري في هذه الصورة من عدم إمكان اجتماع التجرّي مع الإطاعة ، فإنّه لا يجري في المندوبات أصلا ، للإذن في تركها ، فلا مانع من تلك الجهة.

لكن للنفس في ما اختاره ـ دام ظلّه ـ تأمّل وتزلزل.

ثمّ إنه لا بأس بالتنبيه على أمرين ـ قد علما إيماء من مطاوي كلماتنا السابقة (٣) مع زيادة على بعض منهما ـ :

الأوّل ـ أنّ الثمرة بين القولين ـ في قصد الغير في الواجب الغيري في مقام الامتثال ـ تظهر في العبادات التي كان جهة امتثالها منحصرة في الغيري ـ

__________________

(١) ثمّ إنّه قد يكون الشيء واجبا نفسا ولأجل الغير كما في الاعتقاد بأصول الدين ، فحينئذ إذا كان من العبادات أو أراد إيقاعه على وجه الطاعة إذا كان من التوصّليات ، فيكفي فيه إيقاعه بداعي أمره النفسيّ أو الغيريّ على الوجه المتقدّم على سبيل منع الخلوّ ، وليس كصورة التردّد والشكّ بين كونه نفسيّا أو غيريّا حتّى يجب الجمع بين الامتثالين لما قد مرّ سابقا ، فراجع. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) أي ( الشيء الثاني ). على ما جاء في هامش الأصل.

(٣) وكذا مما مرّ من بعض الحواشي. لمحرّره عفا الله عنه.

٣١٥

بمعنى انه ليس لها أمر سوى الغيري ـ أو غير منحصرة فيه ، لكنّ المكلّف لم يرد إيقاعها وامتثالها من غير جهة الوجوب الغيري :

فعلى ما اخترناه من لزوم قصد الغير حينئذ لا يقع الفعل إطاعة أصلا إذا لم يكن مع ذلك القصد.

وعلى القول الآخر يقع طاعة حينئذ ، فيكون مبرئا للذمة ومحقّقا لشرط تلك العبادة المشروطة بذلك الفعل.

ومن أمثلة ذلك ـ التي ذكرها بعضهم ، بل جمع على ما نسب إليهم ـ وضوء من عليه قضاء الصلوات مع عدم إرادته لفعلها بذلك الوضوء ، بل إرادته غاية أخرى غير الإتيان بها كأن فعله للزيارة أو لقراءة القرآن ونحوهما ، وهذا مما انحصر جهة الامتثال فيه في الوجوب الغيري ، فإنّ الظاهر انّ الوضوء حقيقة واحدة مع تعدّد غاياتها ، وليس هو لغاية معيّنة مخصوصة حقيقة غيره مع غاية أخرى (١) ، كما انّ الحال في الغسل كذلك ، حيث إنه بالنسبة إلى كلّ غاية حقيقة مغايرة له بالنسبة إلى غاية أخرى ، فغسل الجنابة غير غسل الزيارة ، وهو لمسّ الميّت غيره للحيض أو النفاس أو الاستحاضة ، بخلاف الوضوء ، حيث إنه مع كلّ غاية حقيقة متّحدة معه مع غاية أخرى (٢) ، ولا ريب أنّه إذا كان حقيقة

__________________

(١) ولذا قال ثاني الشهيدين ( قدهما ) ـ في الروضة في مبحث الوضوء بعد ذكر لزوم نيّة القربة فيه كما في أمثاله ـ : ( وكذا تميّز العبادة عن غيرها حيث يكون الفعل مشتركا ، إلاّ أنّه لا اشتراك في الوضوء حتى في الوجوب والندب ، لأنّه في وقت العبادة الواجبة المشروطة ، به لا يكون إلاّ واجبا ، وبدونه ينتفي ). انتهى كلامه.

وأشار بقوله : ( إلاّ أنّه لا اشتراك في الوضوء .. ). إلى آخر ما ذكره : إلى ردّ الشهيد الأوّل ( قده ) حيث إنّه عبّر بنيّة الوجوب أو الندب في الوضوء. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) لا تخلو العبارة من تشويش ، وسليمها هكذا : حيث إنّه مع كلّ غاية حقيقة واحدة متّحدة مع غاية أخرى.

٣١٦

واحدة فلا يعقل بعد تعلّق الوجوب الغيري به ثبوت حكم آخر ندبي كما مرّ سابقا ، بل الأمر الفعلي به إنّما هو الغيري لا غير ، فيكون جهة الامتثال فيه إذن منحصرة في الغيري.

نعم يجري فيه التوجيه المتقدّم لصحّة وضوء من توضّأ بعد دخول وقت العبادة الحاضرة مع عدم إرادته لفعل تلك العبادة بذلك الوضوء ، فلا تغفل.

الثاني ـ أنّه لا يختصّ الإشكال المتقدّم في الوضوء بعد دخول وقت العبادة الحاضرة المشروطة به إذا لم يرد به إيقاع وإيجاد تلك العبادة بالوضوء فقط ، بل يجري في كلّ غسل من الأغسال المشروطة بها العبادات الواجبة بعد دخول وقتها إذا وقعت تلك الأغسال لا لإتيان تلك العبادات ، فإنّ كلّ واحد من تلك الأغسال حقيقة واحدة بالنسبة إلى [ ما ] قبل دخول وقت العبادة المشروطة به و [ ما ] بعده ، ويكون مستحبّا في الأوّل وواجبا في الثاني من باب كونه مقدّمة للواجب ، ففي الثاني لا يعقل بقاء الأمر الاستحبابي فيه ، لما مرّ في الوضوء بعد دخول الوقت ، فغسل الجنابة ـ مثلا ـ قبل دخول العبادة المشروطة به مستحبّ ، وبعده واجب مقدّمة لها لا غير ، فيجري فيه الإشكال المتقدّم في الوضوء إذا لم يقصد به الإتيان بتلك العبادة المشروطة به ، لكنّه مدفوع بما مرّ في دفعه عن الوضوء ، فتدبّر.

٣١٧

[ المقدّمة الموصلة ]

ثمّ إنّ ممّا يتعلّق بالوجوب الغيري أنّه ذهب بعض متأخّري المتأخّرين (١) إلى أنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبية ـ من حيث كونها مقدّمة ـ إلاّ إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، لا بمعنى أنّ وجوبها مشروط بوجوده ، بل بمعنى أنّ وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب ، حتى أنّها إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف الوجوب والمطلوبية لعدم وجودها على الوجه المعتبر ، فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها ، لا شرط الوجوب.

وحاصل مرامه : أنّ الواجب بالوجوب الغيري ليس مطلق المقدّمة ـ أي ما يتوقف عليه وجود الغير ـ بل فرد خاصّ منه ، وهو ما يتعقّبه ذو المقدّمة ، ويوصل به إليه ولو بضميمة ومعونة أمور أخرى (٢).

وبرهانه على ذلك حقيقة هو الّذي اختاره في تعريف الواجب الغيري.

والفرق بينه وبين النفسيّ أنّ التوصّل بالواجب الغيري إلى ما يكون مقدّمة له مأخوذ فيه على وجه التقييد ، بمعنى أنّ موضوع الوجوب الغيري

__________________

(١) وهو صاحب الفصول (ره) في كتابه : ٨١ و ٨٦ في التنبيه الأوّل.

(٢) قولنا : ( ولو بضميمة ومعونة أمور أخرى ) يعني أنّ مراده ليس وجوب ما يكون علّة تامّة لوجود ذي المقدّمة حتّى ينحصر الوجوب الغيري ـ على هذا (أ) ـ فيها ، بل مراده ما يوجد بعده ذو المقدمة ولو بمعونة أمور أخرى. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) هنا كلمتان في الأصل غير مقروءتين أثبتناهما استظهارا ).

٣١٨

إنّما هو ما يتوصّل به إلى الغير من حيث كونه كذلك ، ويكون الداعي والحامل على الوجوب الغيري أيضا هو التوصّل إلى الغير ، وبذلك يفرق بين الواجب الغيري والنفسيّ ، حيث إنّ الحامل في كلّ منهما إنّما هو التوصّل إلى شيء آخر وتحصيله ، وهو في الواجب الغيري هو وجود ذي المقدّمة ، وفي النفسيّ الغايات الداعية إلى الأمر به ، إلاّ أنّ الحامل ـ وهو التوصّل ـ مطلوب أيضا ومأخوذ في موضوع الطلب في الوجوب الغيري دون النفسيّ ، فإنّه فيه خارج عن المطلوب وموضوع الأمر ، بل الموضوع فيه إنّما هو الفعل بدون تقييده بذلك.

والوجوه الثلاثة التي ذكرها المستدلّ في هذا المقام كلّها راجعة إلى ذلك وشواهد عليه :

وحاصل أوّلها ـ أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة إنّما هو العقل لا غير ، والّذي يحكم هو بوجوبها ليس مطلق المقدّمة ، بل ذلك المقدار ـ أي ما يوصل بها إلى الغير ـ فموضوع الوجوب الغيري هو ذلك لا غير.

وحاصل ثانيها ـ بتوضيح منّا : أنّه يجوز عند العقل تصريح الآمر الحكيم بعدم وجوب غير ما يتوصّل به إلى الغير ، ولا يعلم التناقض بينه وبين أمره بذي المقدّمة ، بخلاف تصريحه بعدم وجوب ما يتوصّل به إليه ، فإنّه مناقض لأمره بذي المقدّمة.

وأيضا لو كان الموضوع في الوجوب الغيري هو مطلق المقدّمة ، ولم يلحظ فيه غير جهة المقدّمية لقبح ذلك التفصيل ، إذ لا اختصاص للموصلة من المقدّمات على غيرها حينئذ فيما يكون المناط في موضوع الوجوب الغيري ، والموجود من المزية فيها غير ملحوظة فيه أصلا بالفرض.

وحاصل ثالثها ـ دعوى شهادة الوجدان على أنّ الموضوع لذلك الوجوب إنّما هي الموصلة لا غير.

والوجهان الأخيران دليلان إجماليان ومن الشواهد والمؤيّدات للوجه

٣١٩

الأوّل حقيقة ، وهو دليل تفصيلي على المدعى.

هذا ، لكن الإنصاف فساد هذا التفصيل كفساد مبناه ، وهو كون الموضوع في الوجوب الغيري هو ما يترتّب عليه ذو المقدّمة ، فإنّ موضوعه ـ على ما نجد من أنفسنا بعد المراجعة إلى عقلنا الّذي هو المرجع في محلّ النزاع كما رجع إليه ذلك المستدلّ أيضا ـ هو عنوان المقدّمة ـ أي ما يتوقّف عليه الواجب ـ كما ذكرنا في التنبيه المتقدّم من غير تقييد العقل إياه بالتوصّلي الفعلي إلى ذي المقدّمة.

نعم هو غرض العقل في ذلك الأمر الغيري المقدّمي ، بمعنى أنّ العقل ـ بعد ملاحظة الواجب وملاحظة أنّه لا يحصل إلاّ بأمور ـ يحكم بلزوم الإتيان بتلك الأمور بعنوان كونها مقدّمات للواجب لغرض التوصّل بها إلى الواجب ، فحيثية التوصّل الفعلي وإن كانت ملحوظة عند العقل ، إلاّ أنّها تعليلية ، لا تقييدية كما زعمها المستدلّ ، فحينئذ إذا وجدت المقدّمة فهي متّصفة بالوجوب سواء تعقّبها ذوها ، أو لا ، فإنّ الاتّصاف يدور مدار انطباق الفرد الموجود على المأمور به ، والمفروض ـ على ما حققنا ـ أنّه هو الشيء بعنوان كونه مقدمة ، والمفروض الإتيان به على هذا الوجه ، فيكون منطبقا عليه ومتّصفا بالوجوب جدّاً.

وكان منشأ اشتباه الحال على المستدلّ أنّه رأى أنّه لو أتى بالمقدّمة ولم يتعقّبها ذوها لكانت (١) هي خالية عن الفائدة ، فزعم أنّ العقل لا يطلب ما يكون كذلك ، ولم يتفطّن أنّ الغرض غير المأمور به ، وأنّ كلّ واحدة من المقدّمات لمّا لم تكن علّة تامّة لحصوله فلو تحقّقت واحدة منها وحدها لتجرّدت عن تلك الفائدة.

وبالجملة : منشأ اشتباه الأمر زعم كون الغرض من قيود المأمور به ، وقد عرفت فساده.

__________________

(١) في الأصل : ( لتكون ). ، وما أثبتناه هو الصحيح.

٣٢٠