تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

وبعبارة أخرى : إنّه متوجّه إليه بعد حصول التمكّن له من مقدّمات الفعل وإن لم يفعلها بعد ، وإذا فوّت بعد ذلك شيئا من المقدّمات بسوء اختياره يرتفع ذلك الطلب لعدم قابلية المحلّ حينئذ لبقائه لفقد التمكّن ، لا لعدم وجود المقدّمات مع ثبوت استحقاق العقاب حينئذ ـ إمّا في زمان ترك المقدّمة أو في زمان فعل الواجب على اختلاف القولين ـ فلم يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه كذلك ، حتى ينفي استحقاق العقاب ، وليس معنى الواجب المطلق إلاّ هذا ، أعني ما يكون الطلب به متعلّقا مع تمكّن المكلّف منه ولو لم يأت بعد بمقدّماته الوجودية ، ومرتفعا عنه بعد رفع التمكّن ، وموجبا لاستحقاق العقاب إذا كان رفعه بسوء الاختيار ، وهذا بعينه موجود في المقام.

هذا ، ومما حقّقنا ـ من عدم جواز اعتبار إطلاق وجود الشيء أو تقييده بالنسبة إلى تقديري وجود ملزوماته أو لوازمه وعدمها ، وأنّه مختصّ بنفسه في تقدير وجودها ـ يتّضح الحال في الإخبار عن فعل شيء في المستقبل.

وتوضيحه : أنّ وجود المخبر به لا يعقل فيه الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري وجود مقدّماته وعدمها ، لكن نفس الإخبار ليس متقيّدا بتقدير وجودها ، بل بالتمكّن منها ولو لم توجد بعد ، فقوله : ( افعل غدا كذا ) في قوة ( أفعل مع التمكّن منه ) فإذا جاء الغد ولم يفعل مع تمكّنه من مقدّماته وتركه بترك مقدّماته يصحّ (١) تكذيبه لذلك.

هذا خلاصة ما أفاده ـ دام ظلّه ـ.

ومنها : ما ذكره بعضهم من أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز التصريح بجواز

__________________

(١) في الأصل : فيصحّ ..

٤٢١

تركها.

والتالي باطل ، فالمقدّمة مثله.

أمّا الملازمة فلأن انتفاء الوجوب إمّا بانتفاء فصله ، وإما بانتفاء جنسه ، وعلى التقديرين يجوز الترك مع انتفائه ، لأن الجواز يعمّ جميع الأحكام غير الحرمة.

وأمّا القول بالجواز عقلا لا شرعا ـ بعد تسليم التفكيك بين حكميهما ـ مما لا يجدي ، لأنّ المقدّمة المفروضة في محلّ البحث هي ما يكون من مقولة أفعال المكلّف ، فلا بدّ أن تكون محكومة بأحد الأحكام ، ضرورة فساد كون فعل المكلّف خاليا عن الحكم أصلا كأفعال البهائم والمجانين.

وأمّا بطلان التالي فلأنّه لا يرتاب أحد في قبح التصريح بالجواز من الحكيم.

وفيه : أنّ الجواز : تارة يلاحظ بالنظر إلى المقدّمة من حيث هي مع قطع النّظر عن كون تركها مؤدّيا إلى ترك الواجب ، وأخرى بالنظر إليها مع ملاحظة كون تركها مؤدّيا إلى تركه ، وقد عرفت سابقا أنّ الثاني حقيقة راجع إلى جواز ترك الواجب وعبارة أخرى عنه ، فلا يصحّ التصريح به لأجل كونه حقيقة تصريحا بجواز ترك الواجب ، وأن معنى جوازها الّذي يدّعيه القائل به هو الأوّل ، لكنّه لا يلازم جواز التصريح به ، بل يقبح التصريح به كما ذكره المستدلّ ، وقبح التصريح ليس لعدم الجواز واقعا ، بل لخلوّه عن الفائدة ، إذ لا بدّ للمكلّف بالواجب المطلق [ من ] الإتيان بها تحصيلا للواجب ولو لم تكن هي واجبة في نفسها ، فلا يصدر التصريح به عن الحكيم.

نعم التصريح المثمر إنّما هو التصريح بالجواز على الوجه الثاني ، إذ معه يستريح المكلّف عن مشقّة التكليف بالواجب.

لكن عرفت فساده لفرض بقاء الوجوب بالواجب ، ومعه يكون هذا

٤٢٢

التصريح آئلا إلى التناقض.

وكيف كان ، فامتناع التصريح بالجواز لا يلازم انتفاء الجواز شرعا ، حتّى يقال بأنّه يلزم خلوّه عن الأحكام ، بل الجواز الشرعي يمكن ثبوته مع امتناع التصريح به وبيانه ، بل أوكل الشارع بيانه إلى العقل.

وبعبارة أخرى : إنّ للشارع مانعا عن بيان الجواز بلسانه ، فنبّه بلسان العقل وأوكل البيان إليه (١) ، فلا يلزم التفكيك ولا خلوّ الواقعة عن الحكم ، ومراد من قال بأنّ الحكم بجواز الترك هنا عقليّ لا شرعيّ أنّ بيان الجواز هنا إنّما هو بلسان العقل ، لا الشرع لعدم الفائدة فيه ، فيقبح صدوره منه.

ومراده بالتفكيك بين حكمي العقل والشرع إنّما هو التفكيك في البيان ، لا الحكم نفسه ، حتى يمتنع التفكيك.

هذا ، ولهم وجوه أخرى أعرضنا عنها لعدم الفائدة في التعرّض لها (٢) ، والمعتمد هو الوجه الأوّل ، وبعده الثاني ، وعليهما نعوّل ، ونختار وجوب المقدّمة مطلقا بالوجوب الغيري المولوي وفاقا لشيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ ولسيّدنا الأستاذ ـ دام ظلّه ـ (٣) ، ومنهما يظهر فساد حجّة النافين لوجوبها مطلقا أيضا ، وكذا فساد حجج القائلين بالتفصيل أيضا ، فلا نطيل الكلام بذكر حجج النافين مطلقا ، لكن لا بأس بالتعرّض الإجمالي لحجج المفصّلين ، فنقول :

__________________

(١) قال ـ دام ظلّه ـ بالفارسية : بجهت اينكه عقل كارش واقع تجويز است ونظر به قبح ندارد پس در وقتى كه إدراك كرد چيزى را ميگويد كه جائز است وأمّا شارع چون بايد فعل أو مبنيّ بر فائدة بأشد فلذا نميتواند تصريح بجواز ترك نمايد.

(٢) في الأصل : في تعرّضها ..

(٣) هذا من الموارد الدالّة أيضا على أنّ الكتاب الّذي بين يديك تحرير لا تقرير ، خلافا لما ذهب إليه المحقق الحجّة الثبت آغا بزرگ الطهراني (ره) في الذريعة.

٤٢٣

حجّة القول بالتفصيل بين السبب وغيره كما يظهر من صاحب المعالم (١) ـ قدّس سرّه ـ ، أمّا على وجوب السبب فوجهان :

أحدهما : عدم ظهور الخلاف فيه (٢).

وثانيهما : أنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات (٣) ، فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها.

وأيّد الوجه الثاني بقوله : ( بل قد قيل : إنّ الوجوب في الحقيقة لا يتعلّق بالمسبّبات .. ). إلى آخر ما ذكره ، وإن ضعّف هذا القول بمنع عدم تعلّق القدرة بالمسبّبات.

وأما على عدم وجوب غير السبب فينفي (٤) دلالة الأمر عليه مطلقا ، بدعوى صحّة تصريح الآمر بعدم وجوبه. هذا.

ويتّجه على ما احتجّ به على وجوب السبب :

أمّا على الوجه الأوّل فمنع حجّية عدم ظهور الخلاف في إثبات المدّعى.

وأمّا على الثاني فمنع (٥) حجّية الاستبعاد.

ويتّجه على تأييده أيضا ـ بما قيل من تعلّق التكليف بالمسبّبات ـ أنّه (٦)

__________________

(١) معالم الدين : ٥٨ ـ ٦١.

(٢) ومن العامّة نقل الإجماع عليه التفتازاني في شرح الشرح : ١ ـ ٢٤٧ ، بل ونقل فيه القول بأنّه من ضرورة الجبلّة ..

(٣) العبارة في المعالم : ٥٨ هكذا : ( .. مع المسبّبات بدون السبب .. ). ، والصحيح في العبارة هكذا : ( أنّ القدرة غير حاصلة على المسبّبات بدون السبب ) ..

(٤) في الأصل : ينفي ..

(٥) في الأصل : منع ..

(٦) في الأصل : من أنّه ..

٤٢٤

على تقدير ثبوته لا يثبت الوجوب المتنازع فيه في المقام بل إنّما يثبت الوجوب النفسيّ للسبب ، ضرورة أنّ التكليف المتعلّق بالمسبّب نفسي ، فإذا قلنا بتعلّقه بالسبب فهو حينئذ واجب نفسا ، والمقصود في المقام إثبات وجوبه الغيري لا غير.

وعلى ما احتجّ به على نفيه عن غير السبب :

امّا على الوجه الأوّل : فبما عرفت في تحرير محلّ النزاع من أنّه ليس النزاع في إثبات دلالة الأمر عليه ، بل النزاع في ثبوت التلازم عقلا بين وجوب شيء وبين وجوب مقدّمته ، فتأمّل.

وأمّا على الثاني : فأنّه يقبح التصريح بعدم الوجوب قطعا كما يظهر للمتأمّل ، فدعوى صحّته مكابرة للوجدان.

حجّة القول بالتفصيل بين الشرط الشرعي وبين غيره بوجوب الأوّل دون غيره :

أمّا على الثاني : فما احتجّ به النافون للوجوب مطلقا.

وأمّا على الأوّل : فما احتجّ به ابن الحاجب على ما حكي (١) عنه : بأنّه لو لم يكن الشرط الشرعي واجبا لم يكن شرطا ، والتالي باطل لكونه خلاف الفرض (٢) ، فكذا المقدّم.

بيان الملازمة : أنّه [ لو ] لم يجب الشرط لكان للمكلّف تركه ، فحينئذ إذا أتى بالمشروط فلا يخلو إمّا أن يكون آتيا بتمام المأمور به ، أو لا.

لا سبيل إلى الثاني ، فإنّ المفروض أنّ الشرط غير واجب ، فيكون المأتيّ به تمام ما يجب عليه ، فيثبت الأوّل ، فحينئذ لم يكن الشرط شرطا ، لأنّ الإتيان

__________________

(١) العضدي في شرحه للمختصر لابن الحاجب : ١ ـ ٩٠ ـ ٩١.

(٢) ويحتمل أنها ( المفروض ) بحسب نسخة الأصل.

٤٢٥

بتمام المأمور به يقتضي الصحّة والإجزاء ، وتحقّقه بدون الشرط ينافي الشرطية. انتهى.

وكأنّه جعل الشرط أمرا مستقلا ، حيث إنّه حكم بأنّه على تقدير عدم وجوبه يحصل المأمور به بتمامه بدونه.

وكيف كان فيتّجه عليه :

أوّلا ـ النقض بلزوم المحذور المذكور على تقدير وجوبه أيضا ، فإنّه على تقدير وجوبه يكون وجوبه غيريا ، والمأمور به هو ما تعلّق به الوجوب النفسيّ فإذا تركه المكلّف عصيانا وأتى بالمأمور به بدونه فهو آت بتمام المأمور به ، وهو ينافي الشرطية.

وثانيا ـ أنّ الشرط الشرعي وإن كان يفارق الشروط العقلية من حيث إنّه بحيث لو وجد يوجب حدوث وصف في المشروط يكون ذلك الوصف مأخوذا في مطلوبية المشروط كالطهارة ، حيث إنّها إذا وجدت تحدث في الصلاة المشروطة بها وصفا ، وهو كونها مع الطهارة ، ويكون هذا الوصف مأخوذا في مطلوبية الصلاة ، وهكذا سائر الشرائط الشرعية بخلاف الشروط العقلية ، فإنّها لا تحدث عند وجودها وصفا في المشروط يكون ذلك الوصف دخيلا في مطلوبيته ، كنصب السلّم مثلا ـ للصعود إلى السطح ، وكطيّ المسافة للحجّ ، حيث إنّهما على تقدير وجودهما لا يحدثان في المشروط وصفا معتبرا في مطلوبيته.

لكن هذا الفرق لا يصلح وجها للفرق فيما هو المناط في وجوب المقدّمة ، بل التحقيق : أنّ الشروط الشرعية كالعقلية في ذلك ، بل هي في الحقيقة راجعة إلى تلك ، إذ الشارع لا يجعل شيئا شرطا لمطلوبه إلاّ إذا اعتبره على نحو وكيفية لا يحصل هو على تلك الكيفية إلاّ بذلك الشرط ، فبعد اعتباره ذلك في مطلوبه يستحيل وجوده بدون الشرط كما إنّه يستحيل وجود المأمور به بدون الشروط العقلية.

٤٢٦

والحاصل : أنّ الشروط الشرعية وإن كانت نفسها خارجة عن المأمور به ، لكن تقيّدها داخل فيه ، فيستحيل وجوده بدونها كاستحالة وجوده بدون الشروط العقلية الصرفة ، فإذا رجعت الشروط الشرعية إلى العقلية بطل (١) التفصيل المذكور.

ومن العجب أنّه حكم على تقدير عدم وجوب الشرط بكون الآتي بالمأمور به بدونه آتيا بتمام المأمور به ، لأنّ تقيّده ـ كما عرفت ـ داخل فيه ، فكيف يعقل كونه آتيا بتمام المأمور به بدون الإتيان بالشرط؟! فإنّ تماميّته هو الفعل بوصف كونه مقرونا بالشرط الشرعي ، فإذا لم يأت بالشرط ولو لم يكن واجبا كيف يعقل حصول تمام المأمور به؟! ولذا قلنا : كأنّه جعل الشرط الشرعي أمرا مستقلاّ أجنبيا عن المأمور به ، فكان الأولى أن يقول : لا سبيل إلى الأوّل ، لا إلى الثاني. هذا.

ثمّ إنّه لا بأس بذكر عدّة من أدلّة النافين بوجوب المقدّمة مطلقا ، فنقول :

منها : دعوى صحّة التصريح بجواز تركها.

وفيه ما عرفت.

ومنها : أنّها لو كانت واجبة لوصل إلينا على وجه العلم بتواتر ونحوه ، لتوفّر الدواعي وعموم البلوى ولم يصل إلينا ظنا فضلا عن العلم به.

وفيه : أنّ وجوبها مما يدّعى كونه ضروريا ، بل لعلّه كذلك ، فيكون غنيّا عن البيان.

وما ترى من وقوع الخلاف فيه لا ينافي ذلك لوقوع مثله كثيرا في مثله ، بل في ما [ هو ] أوضح منه.

هذا ، مع أنّ الخلاف قد نشأ من المتأخّرين ، وإلاّ فذلك من المسلّمات عند

__________________

(١) في الأصل : فبطل ..

٤٢٧

القدماء ، كما يظهر للمتتبّع في كتبهم.

ومنها : أنّها لو كانت واجبة لعصى تاركها بتركها. التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

وفيه : ما عرفت من منع تحقّق العصيان بترك الواجب الغيري.

ومنها : أنّها لو وجبت لثبت قول الكعبي بنفي المباح ، لأنّ ترك الحرام لا يحصل إلاّ بفعل ضدّه ، فتكون الأفعال المباحة واجبة تخييرا مقدّمة لترك الحرام ، فتخرج عن كونها مباحة.

وفيه : [ ما ] يأتي تفصيله ـ إن شاء الله تعالى ـ فيما بعد من أنّ فعل الضدّ ليس مقدّمة للترك ، بل هو الصارف عن الحرام ، ووجوبه لا يستلزم نفي المباح.

ومنها : أنّها لو كانت واجبة لترتّب الثواب على فعلها ، والتالي [ باطل ] ، فالمقدّم مثله.

وفيه : ما عرفت من عدم تحقّق الإطاعة في الإتيان بالواجب الغيري التي هي المناط في استحقاق الثواب.

ومنها : أنّها لو وجبت لوجب نيّتها ، والتالي [ باطل ] بالإجماع على عدم وجوب نيّة المتوضّئ غسل كلّ جزء جزء من الرّأس (١).

وفيه : أنّ وجوب النيّة إنّما هو في الواجبات النفسيّة التعبّدية ، لا في كلّ واجب.

ومنها : أنّها لو وجبت لكانت زيادة على النصّ (٢) ، والتالي باطل لكونه نسخا.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر أنه أراد : كل جزء جزء من أعضاء الوضوء ...

(٢) إذا ورد دليل على وجوب شيء ، ثمّ جاء دليل آخر على وجوب أمر زائد على ذلك الشيء ـ كأن دلّ دليل على وجوب مركّب ذي خمسة أجزاء ، ثمّ جاء دليل على وجوب جزء آخر في ذلك المركّب ـ

٤٢٨

وفيه : أنّ النّص ـ وهو الأمر بذي المقدّمة ـ متضمّن لوجوب المقدّمة ، بمعنى أنّ وجوبها يستفاد منه تبعا ، ولسنا نقول : إنّ وجوبها على تقديره بدليل آخر ، حتى يكون مثل ما دلّ على وجوب السورة في الصلاة بعد الأمر بها بدون السورة ـ مثلا ـ حتّى يكون زيادة على النصّ ، فيكون نسخا.

هذا تمام الكلام في المرام ختم الله أمورنا بخير ختام بنبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله البررة الكرام.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ الكلام في مقدّمة المندوب هو الكلام في مقدّمة الواجب ، والمختار فيها المختار في تلك بعين ما مرّ ، فالطالب لشيء ندبا يلزمه حصول حالة إجمالية في نفسه بالنسبة إلى مقدّمات المندوب بحيث لو جاءت في قالب اللفظ لكانت طلبا أصليا ندبيا لها (١).

الثاني : أنّ من أقسام الواجب ترك الحرام (٢) ، فتدخل مقدّمته في مقدّمة الواجب ، ويكون من أفرادها.

__________________

يسمّى (أ) الدليل الثاني في الاصطلاح زيادة على النصّ ، ويكون هو ناسخا للحكم الأوّل.

لمحرّره عفا الله عنه.

(١) في الأصل : بها ..

(٢) المراد بترك الحرام الّذي هو من أفراد الواجب هو الترك الاختياري ، فإنه هو الّذي يقبل بتعلّق التكليف به ، ويتصف بالوجوب ، وتدخل مقدّمته في مقدمة الواجب.

لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) في الأصل : فيسمى ..

٤٢٩

وليعلم أنّ مقدّمة الترك منحصرة في السببية ، لما مرّ غير مرّة من أنّ الوجود لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّق جميع المقدّمات من الخارجية والداخلية ، وأمّا العدم فيكفي فيه عدم إحدى مقدّمات الوجود ، ويكون انتفاء واحدة منها وحدها سببا لعدم ذي المقدّمة ، فيكون ترك كلّ مقدّمة منفردة علّة تامّة للترك.

وإن شئت قلت : إنّ ترك شيء لا يكون إلاّ مع وجود سبب الترك ، وكلّ واحدة من مقدّمات الوجود يكون تركها سببا للترك ، فمقدّمة الترك سبب له دائما.

ثمّ إنّه إذا كان للمعلول ـ وجودا كان أو عدما ـ علل متعدّدة فهو مستند إلى الجميع إذا تواردت في المحلّ دفعة واحدة ، فالعلّة له حينئذ هو المجموع ، وإلى أسبق منها وجودا إذا تواردت في المحلّ تدريجا ، لأنّه لا يعقل التفكيك بين المعلول وبين علّته ، والمفروض كون الأولى علّة له ، فمع تحقّقها مفردة عن البواقي يترتّب (١) عليها المعلول ، فلا يعقل إذن تأثير البواقي فيه لاستلزامه لتحصيل الحاصل ، وهذا واضح لا حاجة له إلى البرهان.

وإذا تمهّد هذا فنقول : إنّ الفعل المحرّم لا يكون محرّما إلاّ مع الاختيار ، وإلاّ فمع الاضطرار إليه لا يعقل النهي عنه بالضرورة ، وسبب الترك في الأفعال الاختيارية إنّما هو الصارف عنها ، لا الأفعال المضادّة لها ، وذلك لأنّ عدم كلّ فعل إنّما هو لفقد مقدّمة من مقدّمات وجوده ، فإنّ كلّ واحدة منها من جهة الانتفاء عند الانتفاء علّة تامّة كما مرّت الإشارة إليه ، وقد عرفت أنّه إذا كان لمعلول علل متعدّدة متدرّجة فهو مستند إلى أسبقها ، ومن المعلوم أنّ أسبق علل ترك الفعل الاختياري إنّما هو الصارف عنه وعدم الإرادة له (٢) ، ضرورة أنّ الفعل الاختياري

__________________

(١) في الأصل : فيترتّب ..

(٢) في الأصل : وعدم الإرادة إليه ..

٤٣٠

يجب عند إرادته ، ويمتنع بدونها وإن كان سائر مقدّمات وجوده موجودة ، فعليه عدمه إنّما هو عدم الإرادة المعبّر عنه بالصارف لا غير.

فمن هنا بطل قول الكعبي (١) بمقدّمية فعل المباح لترك الحرام ، فيجب لذلك ، فيلزم انتفاء المباح رأسا ، وسيأتي زيادة توضيح لذلك فيما بعد ـ إن شاء الله ـ فانتظر.

الثالث (٢) : إذا علم مقدّميّة أمر للواجب فقد عرفت الحكم فيه ، وأمّا إذا شكّ في أصل المقدّمية فيجري استصحاب عدم الوجوب الغيري مطلقا واستصحاب عدم جعل ذلك الأمر شرطا أو جزء أو مانعا إذا كان الشكّ في مقدّميّته شرعا ، ولا يعارضه استصحاب شغل الذمّة بما يحتمل كونه شرطا له ، بل هذا حاكم عليه كما لا يخفى.

وأما أصالة البراءة فلا مجال لها فيما إذا كان الشكّ في مقدّميته عقلا أو عادة كاستصحاب عدم المقدّميّة ، ضرورة أنّ الواجب ليس مقيّدا بشيء من المقدّمات العقلية أو العادية وإن كان لا يحصل بدونها ، فليس في تركها مع الإتيان

__________________

(١) راجع شرح المختصر للعضدي : ١ ـ ٩٠ و ٩٦ ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١ : ١٠٧ ، وشرح اللمع للشيرازي ١ : ١٩٢ وغيرها.

والكعبي هو أبو القاسم بن أحمد بن محمد البلخي الكعبي ، من متأخّري متكلّمي المعتزلة البغداديين ، وتنسب إليه الطائفة الكعبيّة ، وله آراء خاصّة في علم الكلام والتفسير وفي الأصول منها هذه الشبهة.

أقام ببغداد مدّة طويلة ، ثم عاد إلى بلخ ، وتوفّي بها في شعبان سنة ٣١٩ ه‍.

من آثاره المقالات ، وهو تفسير كبير في اثني عشر مجلّدا ، وكتب في علم الكلام منها أوائل الأدلّة في أصول الدين.

معجم المؤلّفين ٦ : ٣١ ، وتاريخ بغداد ٩ : ٣٨٤ ، ولسان الميزان ٣ ، ٢٥٥ ، وطبقات المعتزلة : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) أي ( الأمر الثالث ) على ما في هامش المخطوطة.

٤٣١

بالواجب ـ إذا فرض إمكان الإتيان به بدونها ـ احتمال المؤاخذة والعقاب أصلا ، حتى ينفى بأصالة البراءة.

ومن هنا يعلم وجه عدم جريان استصحاب عدم المقدّمية فيها أيضا ، وتوضيحه :

أنّ صفة المقدّميّة في المقدّمات العقلية والعادية إنّما هي من الأمور الملازمة لذات الشيء من أوّل الأمر إلى آخر الأبد ، ولا يعقل فيها تحقّقها في زمان بدون تلك الصفة حتى يستصحب عدمها.

هذا بخلاف المقدّمات الشرعية ، فإنّ صفة المقدّمية فيها إنّما هي من الأحكام الوضعيّة الجعلية المسبوقة بالعدم ، فيجري فيها الاستصحاب لذلك.

وامّا إذا كان الشكّ في مقدّميته شرعا فهذا هو محلّ النزاع في جواز إجراء أصالة البراءة في الشكّ في الجزئية والشرطية ، وتحقيق الكلام فيه يعلم بالنظر إلى تلك المسألة ، والمختار فيها جريانها.

ومجمل الاحتجاج عليه : أنّه لو كان الواجب مقيّدا في الواقع بوجود ذلك الأمر المشكوك ـ في جزئيته أو شرطيته له ـ معه ، أو بعدم ما شكّ في مانعيته له مع عدم قيام حجّة على ثبوت هذا التقيّد لكان التكليف به على ذلك الوجه قبيحا ، ويقبح المؤاخذة عليه عقلا.

هذا مضافا إلى شمول أخبار البراءة لمثل المقام أيضا فأصالة البراءة ـ سواء لوحظت من باب العقل أو من باب التعبّد ـ جارية في المقام ومحكّمة ، ولا يعارضها استصحاب شغل الذمّة بالواجب ، بل هي حاكمة عليه ، بل لا معنى لاستصحاب الشغل أيضا ، فإنّ القدر المعلوم من الشغل قبل الإتيان بالفعل إنّما هو بالنسبة إلى المقدار المعلوم دخوله في المأمور به ، وهو مرتفع بعد الإتيان [ به ] قطعا ، فلا مجرى لاستصحاب عدمه.

٤٣٢

وأمّا بالنسبة إلى أزيد من ذلك المقدار فلا ريب أنّ الجاري إنّما هو استصحاب عدم الشغل ، لا استصحاب بقائه ، فافهم.

الرابع (١) : المرجع في تمييز مقدّمية شيء شرعا وعدمها إنّما هي الأدلّة الشرعيّة ، كما أنّ المرجع في تمييز مقدّميته عقلا أو عادة إنما هما لا غير ، ومن المعلوم عدم طروّ الشكّ في المقدّمية العقليّة والعاديّة وعدمها غالبا ، لإمكان تميّز ذلك بالحسّ كذلك.

نعم قد خفي مقدّمية بعض الأمور عقلا وعدم مقدّميته كذلك ، وهذا كما في مقدّمية ترك أحد الضدّين للآخر وعدمها ، فلا بأس بالتعرّض لتحقيق الحال فيه حسبما يسعنا المجال ، بل لا بدّ منه ، فإنّه إنّما [ هو ] مبنى الكلام في المسألة الآتية المهمّة ، المتفرّعة عليها فروع لا تحصى ، فنقول ـ بعون الله الملك المتعال وحسن توفيقه ـ :

إنّهم اختلفوا في أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر ، أو لا.

المشهور أنّه مقدّمة مطلقا ، وذهب بعض الأعلام (٢) إلى ذلك فيما إذا كان الضدّ موجودا بالفعل في المحلّ ، وأمّا بدونه فلا ، والظاهر هو العدم مطلقا.

والّذي احتجّ به للمشهور أو يمكن أن يحتجّ به هو أن يقال : إنّما لو فرضنا اجتماع جميع أجزاء علّة أحد الضدّين في المحلّ عدا أنّه مشغول بالضّد الآخر نرى أنّه يمتنع عقلا وجود ذلك الضدّ المفروض اجتماع أجزاء علّته ، فيكشف ذلك عن عدم تماميّة علّته ، وإلاّ لامتنع التفكيك ، والمفروض أنّ جهة

__________________

(١) أي ( الأمر الرابع ) ، على ما في هامش المخطوطة.

(٢) وهو المحقق الخوانساري على ما حكي عنه. لمحرّره [ عفا الله عنه ].

٤٣٣

النقصان فيها إنّما هي من حيث اشتغال المحلّ بالضدّ الآخر ، إذ المفروض أنّه لو يشتغل به يحصل ذلك قطعا ، فيكشف ذلك عن مانعية وجود الضدّ للضدّ الآخر وكون عدمه معتبرا في علّة وجوده. هذا.

ويمكن المناقشة فيه :

أمّا أوّلا ـ فبالنقض من وجوه :

الأوّل : بفرض اجتماع جميع أجزاء علّتي الضدّين معا وتواردهما في المحلّ الخالي عنهما دفعة من دون سبقه باشتغاله بأحدهما ، فلو كان جزء علّة كلّ منهما هو عدم الآخر في المحلّ حال وجود سائر أجزاء علّته ـ كما هو نتيجة الدليل المذكور ـ فلا ريب في تحقّقه في تلك الصورة بالنسبة إلى كلّ واحد منهما ، مع أنّه لا شبهة في امتناع وجود شيء منهما فيها ، فيكشف ذلك عن أنّ الشرط شيء آخر غير ما ذكر.

لا يقال : إنّ حكم تحقّق علّة الضدّ الآخر مع علّة الضدّ حكم وجود نفس ذلك الضدّ حال تحقّق علّته ، بمعنى أنّ الشرط إنّما هو عدم وجود الضدّ الآخر أو ما يلزمه مع علّة ذلك الضدّ ، فالشرط في الصورة المفروضة مفقود.

لأنّا نقول : لا تعاند ولا تمانع بين نفس علّتي الضدّين جدّاً ، ولا تنافي بين أنفس هاتين (١) بوجه ، بل إنّما جاء المنافاة من قبل معلوليهما ، فإنّهما اللذان يمتنع اجتماعهما ، فلا معنى لاشتراط عدم العلّة نفسها في وجود الضدّ الآخر ، ويكشف عن ذلك عدم صحّة تخلّل كلمة فاء بين انتفاء أحد الضدين وبين وجود علّة الآخر بان يقال : وجدت تلك فعدم هذا ، كما هو الشأن في العلل مع معلولاتها ، بل يعدّ ذلك مستهجنا جدّاً لعدم الربط بينهما بوجه.

الثاني : بلوازم الضدّين : إذ مع وجود لازم من لوازم أحدهما يمتنع وجود

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح ظاهرا : بين هاتين أنفسهما ..

٤٣٤

الآخر بالضرورة ، مع أنّهم لا يقولون بكون عدم لازم أحد الضدّين مقدّمة للآخر.

الثالث : بالنقيضين وبلوازمهما : بتقريب ما مرّ في لوازم الضدّين ، مع أنّهم لا يقولون بكون انتفاء أحد النقيضين أو انتفاء لازمه مقدّمة لوجود الآخر ، وليس لأحد [ أن ] يلتزمه ، ضرورة أنّ حيثية وجود أحد النقيضين إنّما هو عين حيثية عدم الآخر فإنّ الوجود الّذي هو نقيض للعدم ليس في المعنى إلاّ عدم العدم ، واختلافهما إنّما هو من حيث المفهوم لا اللبّ ، وكذلك العدم إنّما هو عين عدم الوجود في المعنى ، وهكذا الحال في لوازمهما ، فإنّ وجود لازم أحدهما عين عدم الآخر ولازمه ، فالعلّة لتحقّق أحد النقيضين إنّما هي عين علّة عدم الآخر وعدم لازمه ، فهما معلولان لعلّة واحدة كما هو الحال في المتضايفين أيضا ، فليس أحدهما علّة لفناء الآخر ومانعا منه ، حتى يكون عدمه شرطا فيه.

وأمّا ثانيا ـ فبالحلّ ، وتوضيحه :

أنّ الشرط لتحقّق كلّ واحد من الضدّين بعد فرض استجماعه لسائر أجزاء العلّة إنّما هو قابليّة المحلّ لا انتفاء الآخر.

وبعبارة أخرى : الشرط إنّما هو عدم استلزام وجوده محالا ، ففي الصورة التي فرضت في الاستدلال لو وجد أحد الضدّين مع اشتغال المحلّ بالآخر لكان وجوده مستلزما للمحال ، وهو اجتماع الضدّين بل عينه ، فإنّ وجوده مع فرض وجود الآخر اجتماع للضدّين ، فانتفاؤه مستند إلى لزوم هذا المحال ، لا إلى وجود الآخر من حيث هو ، حتى يقال : إنّه علّة لفنائه ، فيكون عدمه من أجزاء العلّة.

فإن قلت : هب أنّ انتفاء أحد الضدّين ليس شرطا من حيث هو أوّلا وبالذات ، لكنّه شرط لما سلّمت شرطيته ، وهو قابلية المحلّ ، إذ معه يخرج المحلّ عن القابلية كما اعترفت به ، والشرط بشرط الشيء شرط لذلك الشيء بالأخرة ، فثبت التوقّف والشرطية.

٤٣٥

قلنا : إنّ ارتفاع الضدّ الآخر الموجود في المحلّ وإن كان يحصل معه قابلية المحلّ لوجود المتأخّر إلاّ أنّ هذا ليس من باب المقدّمية لتحقّق قابلية المحلّ ، بل من أنحائه ، فإنّ خروجه عن القابلية إنّما هو باجتماع الضدّين المحال ، والقابلية عن ارتفاع ذلك المحال ، وله أنحاء :

أحدها : ارتفاعهما جميعا عن المحلّ.

وثانيها : ارتفاع هذا الضدّ.

وثالثها : ارتفاع ذاك ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ قابليّة المحلّ ـ على ما اعترفت به ـ أمر كلّيّ ، وله أفراد ثلاثة منها ارتفاع ذلك الضدّ الخاصّ ، فثبت مقدّمية ذلك الفرد لذلك الكلّي ، لأنّ الفرد مقدّمة لتحصيل الكلّي.

لأنّا نقول : الفرد عين الكلّي لا مقدّمة له ، فإنّه إذا وجد يصير فردا.

هذا ، لكن الإنصاف أنّ منع مقدّمية انتفاء أحد الضدّين لوجود الآخر ـ بعد الاعتراف بأنّه عين قابليّة المحلّ التي هي مقدّمة له البتّة ـ بعيد عن الإنصاف إلى الاعتساف ، فإنّ هذا اعتراف بكون نفس انتفاء أحد الضدّين مقدّمة بلا واسطة ، وهو أولى من كونه مقدّمة معها ، فثبت مطلب المستدلّ.

والحاصل : أنّ للمستدلّ أن يقول حينئذ : إنّه إذا ثبت أنّ وجود أحد الضدّين مخرج للمحلّ عن قابليّة وجود الآخر فيه ، ثبت (١) كونه مانعا من الآخر من تلك الجهة ، فثبت التمانع بين الضدّين ، فيكون عدم كلّ واحد منهما شرطا لتحقّق الآخر ، فحينئذ إذا فرض الضدّان من مقولة الأفعال مع فرض تعلّق الطلب المنجّز بأحدهما ، فهو يقتضي النهي عن الآخر لكونه مانعا ، ويلزمه ارتفاع الأمر من الآخر لامتناع اجتماعه مع النهي ولو كان غيريّا.

__________________

(١) في الأصل : فثبت ..

٤٣٦

مع أنّه لا يعقل بقاؤه من جهة أخرى أيضا : وهي أنّه لو بقي لكان مستلزما لإرادة المحال ، وهو اجتماع الضدّين ، لعدم الفرق بين أن يكون أمر واحد تعلّق بنفس اجتماعهما أو يكون أمران فعلا يتعلّق كلّ منهما بواحد منهما ، ولا يمكن القول برفع هذا المحال برفع الأمر المنجّز لفرض ثبوته كيف كان ، وإن كان على تقدير ارتفاعه يوجب ارتفاع ذلك المحال ، فلا بدّ من أن يكون ارتفاعه بارتفاع الأمر من الضدّ الآخر ، وسيجيء توضيح ذلك في المسألة الآتية ـ إن شاء الله ـ فانتظر.

وقد يورد على المشهور أيضا : بأنّ ثبوت التمانع بين الضدّين ـ كما قالوا به ـ مستلزم للدور ، ضرورة أنّ وجود كلّ من المتمانعين يتوقّف على عدم الآخر ، وعدم الآخر أيضا يتوقّف على وجود ما يتوقّف وجوده على عدمه ، لأنّ توقّف الوجود على العدم إنّما جاء من علّية وجود أحدهما لعدم الآخر ، فيتوقّف وجود كلّ منهما على وجود نفسه ، وهو دور صريح ، وهو باطل ، فملزومه ـ وهو ثبوت التمانع بين الضدّين الّذي صار منشأ للتوقّف ـ مثله.

وأجاب عنه المحقّق الخوانساري ـ قدّس سرّه ـ على ما حكي عنه : بأنّ التوقّف وإن جاء من جهة التمانع ، لكن عدم كلّ منهما لا ينحصر سببه في وجود الآخر (١) ، بل يمكن أن يكون مستندا إلى فقد مقتض له أو شرط من شروطه ، فإنّه كما ينعدم كلّ منهما بوجود الآخر ، كذلك ينعدم بعدم المقتضي أو الشرط ، فلا يتوقّف عدم كلّ منهما على وجود الآخر ، فاندفع الدور.

ثمّ قال قدّس سرّه : وإن فرض في المورد اجتماع جميع مقتضيات وشرائط

__________________

(١) قال دام ظلّه : ويمكن أن يكون العدم مستندا إلى وجود ضدّ ثالث في المحلّ ، كما في الأضداد التي لها ثالث ، فتأمّل.

٤٣٧

كلّ منهما بحيث لم يكن مانع من وجود كلّ منهما إلاّ اجتماعه مع الآخر ، فحينئذ وإن [ كان ] ذلك على فرض تحقّقه مستلزما للدور ، لكن نقول بامتناع ذلك الفرض ، ومعه لا وقع لإيراد الدور.

قال دام ظلّه : وتوضيح عدم توجّه إيراد الدور حينئذ : أنّ مقتضى قاعدة المناظرة في إيراد الدور أن يحرز المورد أوّلا وقوع صورة فرض فيها الدور أو إمكان وقوعها لا محالة ، بأن يكون أصل إمكانها مفروغا عنه من (١) المتخاصمين ، ثمّ يعترض على خصمه : بأنّ لازم مقالتك امتناع تلك الصورة لاستلزامها الدور فيها ، مع أنّ الفرض إمكانها ، فانتفاء الملزوم كاشف عن فساد الملزوم (٢) ، وهو ما يدّعيه ، وأمّا إذا لم يحرز ذلك فللخصم أن يدّعي امتناع تلك الصورة وجعل لزوم الدور فيها دليلا على الامتناع.

هذا ، ثمّ قال المحقّق المذكور ـ قدّس سرّه ـ : وهنا كلام آخر ، وهو أنّا ندّعي : أنّ الترك الّذي هو مقدّمة للوجود إنّما هو الترك المسبوق بالوجود لا مطلقا ، بمعنى أنّ الشرط لوجود كلّ من الضدّين إنّما هو عدم الآخر في المحلّ على تقدير وجوده ، وأمّا عدمه الأزلي فلا. انتهى.

وتوضيح اندفاع الدور على هذا التفصيل : أنّ الصورة المفروضة للدور صورة اجتماع جميع أجزاء علّة كلّ من الضدّين مع عدم اشتغال المحلّ بأحدهما ، ومن المعلوم أن عدم كلّ منهما حينئذ أزلي ، لا مسبوق بالوجود ، فليس شيء من عدميهما (٣) كذلك مقدّمة للآخر حتى يلزم الدور.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح ظاهرا : عند المتخاصمين ..

(٢) في العبارة ملزومان ولازمان : فالملزوم الأوّل هو مقالة الخصم ، ولازمها امتناع الصورة التي فرض فيها الدور. والملزوم الثاني هو نفس الصورة التي فرض فيها الدور ، ولازمها هو الدور.

(٣) كذا في الأصل ، لكن الصحيح ظاهرا : من عدم كلّ منهما ..

٤٣٨

وبهذا يندفع الدور عن صورة اشتغال المحلّ بأحدهما أيضا فإنّ المتأخّر من الضدّين حينئذ وإن كان متوقّفا على عدم السابق بعد وجوده ، لكن وجود السابق لم يكن متوقّفا على عدم اللاحق الأزلي (١).

ثمّ إنّ وجه اختياره ـ قدّس سرّه ـ لهذا التفصيل : أنّه رأى أنّ مقدّميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر إنّما جاءت من جهة التمانع بينهما ، وأنّ المانع من كلّ منهما إنّما هو وجود الآخر في الخارج ، ضرورة عدم التمانع بينهما من حيث التقرّر الماهيتي (٢) والوجود الذهني ، فيكون الشرط لكلّ منهما انتفاء وجود الآخر لا عدمه الأزلي.

لكن يتّجه عليه : أنّ مقتضى التمانع بينهما على تقديره أن لا يكون شيء منهما مقرونا بالآخر عند وجوده ، فالشرط الناشئ من جهته إنّما هو عدم اقتران كلّ منهما عند وجوده ، فلا خصوصية إذن للعدم بعد الوجود ، بل هو أحد الفردين المحصّلين لذلك الشرط كما لا يخفى ، وفرده الآخر هو استمرار عدم الآخر الأزلي إلى زمان الوجود ، فيعود المحذور لو لا دعوى امتناع الصورة المفروضة للدور ، فالتحقيق في دفعه إنّما هي تلك الدعوى ، فإنّها هي التي يتّجه القول بها.

هذا ، والتحقيق في ردّ دليل المشهور : أنّا نرى بالعيان والوجدان أنّ بعض الأضداد مع بعض ليسا من قبيل المتمانعين بحيث يكون كلّ واحد منهما علّة لفناء الآخر ومانعا من وجوده ، كما هو مبنى مقدّميّة ترك أحدهما لوجود الآخر ، بل من قبيل المانع والممنوع ، بحيث لو فرض اشتغال المحلّ بأحدهما

__________________

(١) ثمّ إنّه قال دام ظلّه : لو سلّمنا توقّف كلّ من الضدّين على عدم الآخر من غير تقيّده بكونه مسبوقا بوجوده ، يمكن دفع الدور المذكور : بأنّ كلا منهما يتوقّف على عدم الآخر حين وجوده ، وأمّا عدم الآخر حين وجود ذلك فلا يتوقّف على وجود ذلك في ذلك الحين.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : الماهويّ.

٤٣٩

فوجد المقتضي للآخر لوجد ذلك الآخر ، ويرتفع ما وجد قبله في المحلّ ، ويرى تأثير المقتضي لذلك الآخر فيه حينئذ كتأثيره فيه حال خلوّ المحلّ عن جميع الأضداد ، وهذا كما في السواد مع البياض ، فإنّهما ضدّان بالضرورة ، مع أنّ الثاني لا يمنع من وجود الأوّل إذا كان موجودا قبله ، بل متى تحقّق المقتضي للسواد يؤثّر فيه حال اشتغال المحلّ بالبياض كتأثيره فيه حال خلوّه عنه ، ويرتفع البياض بمجرّد تحقّق المقتضي له ، وكما في كلّ لون قويّ مع الأضعف منه من الألوان ، ضرورة أنّ كلّ قويّ من لون مضادّ مع الضعيف (١) منه ، مع أنّ حال القويّ بالنسبة إلى الضعيف حال السواد بالنسبة إلى البياض ، وهذا بديهيّ غنيّ عن الاحتجاج عليه.

فيتّضح من ذلك أنّ التمانع ليس صفة لازمة للضدّين من حيث إنّهما ضدّان ، وإلاّ لما انفكّ عنهما ، فيظهر فساد دعوى مقدّمية ترك أحدهما للآخر لذلك.

ومن هنا ظهر أيضا اندفاع دعوى المقدّمية من جهة أنّ انتفاء الآخر شرط لقابلية المحلّ لوجود ضدّه فيه ، فإنّ التوقّف من هذه الجهة أيضا متّضح الفساد ممّا ذكرنا في الأمثلة المذكورة من الأضداد.

وتوضيحه : أنّ القويّ من الألوان ـ مع كونه مضادّا (٢) مع الضعيف منها ـ لا يتوقّف وجوده على ارتفاع الضعيف عن المحلّ قبله ، بل يوجد مع اشتغال المحلّ به ، ويرفعه بمجرّد وجوده (٣) ، فظهر أنّ وجود الضعيف لا يوجب خروج

__________________

(١ و ٢) كذا في الأصل ، والمناسب : مضادّ للضعيف منه ..

(٣) فيكون الحال في مثل تلك الأضداد نظير الحال في النقيضين ، فإنّه كما إذا وجد المقتضي لأحد النقيضين يترتّب عليه وجود مقتضاه وارتفاع النقيض الآخر ، فكذلك إذا وجد المقتضي للّون القويّ يترتّب عليه أمران : أحدهما هو ، والآخر ارتفاع اللون الضعيف ، فافهم وتدبّر. لمحرّره عفا الله عنه.

٤٤٠