تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

لاستمرار جهله بالواقع (١) إلى آخر الوقت.

والحاصل : أنّ القضاء حقيقة فيما يؤتى به في خارج الوقت لأجل تدارك مصلحة فائتة في الوقت ، ومن المعلوم أنّه إذا يبنى على تبعّض المصلحة ، وكون بعض منها يحصل بغير الوقت ـ أيضا ـ فلا يصدق الفوت بالنسبة إلى ذلك البعض قطعا ، لإمكان تحصيله بعد الوقت ، فالإتيان بالفعل لأجل تحصيله ليس لتدارك أمر فائت ، بل لتحصيل أمر بقي زمان تحصيله ولم يحصل بعد ، فيكون هذا إعادة اصطلاحا ، كما في موارد الأوامر الفورية المتعدّدة المطلوب (٢) ، إذ من المعلوم أنّ الفوريّة لها مدخلية في مصلحة لم تحصل إلاّ بها ، ومصلحة أخرى في الفعل تحصل بغيرها ـ أيضا ـ فإذا أخلّ بالفوريّة فالإتيان به ـ حينئذ ـ لتحصيل تلك المصلحة لا يكون قضاء قطعا.

هذا كلّه بناء على توجيه صحّة ورود التعبّد بالفعل في خارج الوقت بإمكان تبعّض المصلحة وأغراض الفعل.

ويمكن توجيهها بوجه آخر يكون الإتيان بالفعل ـ في خارج الوقت بناء عليه ـ قضاء مصطلحا حقيقة ، وهو أنّ اللازم على الشارع ـ عند أمره بالعمل بتلك الطرق والأمارات والأصول مع تمكّن المكلّف من تحصيل الواقع وإدراك مصلحته ـ أن يكون مصلحة للمكلّف في السلوك على مقتضاها بحيث لا تنافي طريقيتها (٣) ـ أيضا ـ فيأمر الشارع بالسلوك على طبقها لأجل

__________________

(١) في الأصل : ( بالواقعة ). ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : المتعدّد المطلوبيّة ..

(٣) بمعنى أنّ تلك المصلحة مصحّحة لأمر الشارع بها على وجه الطريقيّة ، كما أنّه بدونها يقبح أمره بها كذلك ، لا أنّها موجبة لمطلوبيّة العمل بتلك الطرق والأمارات نفسا حتّى يلزم التصويب. لمحرّره عفا الله عنه.

١٨١

تلك المصلحة مع مراعاته لجانب الطريقية ـ أيضا ـ بمعنى أنّه لم يرفع اليد عن الواقع ، بل هو باق على ما كان ، فالسالك بها إن أصاب الواقع فله مصلحتان وأجران ـ مصلحة الواقع ومصلحة السلوك على مقتضاها ـ وإن لم يصب فله مصلحة واحدة لا محالة وأجر واحد ، فلا يلزم على تقدير عدم المصادفة خلوّ يد المكلّف عن المصلحة رأسا حتّى يلزم القبح في امره بالعمل بما ذكر ، ومصلحة السلوك حاصلة للمكلّف مطلقا إذا عمل على طبقها ، لكنّها على تقدير عدم الإصابة ليست متداركة لمصلحة الواقع ، بل مصلحة الواقع فائتة عن المكلّف ـ حينئذ ـ ولم يحصل منها شيء أصلا ، فيمكن التعبّد بالفعل في خارج الوقت مع انكشاف الخلاف لتدارك تلك المصلحة الفائتة حقيقة ، فيكون الإتيان بالفعل في خارج الوقت قضاء مصطلحا حقيقة.

وهذا التوجيه أجود من سابقه ، وعليه جماعة من الأعلام ـ أيضا ـ حيث قالوا : إنّ المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد.

وكيف كان ، فمع اعتبار تلك الطرق والأمارات على وجه الطريقية والعمل بها على هذا الوجه ـ كما هو الظاهر من أدلّة اعتبارها ، وهو الحقّ الّذي عليه أهله ـ لا يعقل كون العمل بها مع مخالفتها للواقع مجزيا عن الواقع بوجه ، بل يكون العمل بها ـ حينئذ ـ كالعمل بالطرق العقلية.

وإنّما الفرق بينهما : أنّ العامل بالطرق العقلية مع عدم المصادفة لم يحصل له شيء أصلا ، بخلاف العامل بها ، فإنّه يحصل له مصلحة السلوك على طبقها لا محالة ، وأمّا مصلحة الواقع فلا ، بل يكون العمل بها بالنظر إلى الواقع كعدمه أصلا ، لما مرّ غير مرّة من أنّ الطريق (١) من حيث كونه طريقا لا يعقل كونه مؤثّرا في ذيه بوجه ، بل إذا عمل به فإن أوصل إليه فهو ، وإلاّ فيكون وجوده

__________________

(١) في الأصل : الطرق ..

١٨٢

كعدمه بالنسبة إلى ذي الطريق.

نعم ، لو كان في نفس العمل بالطريق مصلحة لحصلت (١) هي للمكلّف كما عرفت ، لكنها لا يمكن كونها مؤثّرة في مصلحة الواقع.

وربما يتخيّل أنّه مع فرض تمكّن المكلّف من تحصيل الواقع لا بدّ من التزام التصويب في أمر الشارع بالعمل بتلك الطرق والأمارات والأصول الممكنة التخلّف عنه ، فإنّ الواقع على هذا الفرض إمّا باق على مصلحته الملزمة ، أو لا :

لا سبيل إلى الأوّل : إذ معه يقبح تجويزه العمل بها مع إمكان تخلّفها عن الواقع ، لكونه نقضا للغرض ، وتفويتا للمصلحة اللازمة التحصيل على المكلّف ، فتعيّن الثاني ، ومعه يكون العمل بها في عرض الواقع ، ويكون واجبا مخيّرا بينه وبين الواقع أو معيّنا ، فإنّ الواقع ـ حينئذ ـ إمّا فيه مصلحة في الجملة ، أو لا ، فعلى الأوّل إمّا أن يكون العمل بها مشتملا على مصلحة أيضا ، أو لا :

لا سبيل إلى الثاني ، لأنّ الأمر به مع كونه مؤدّيا إلى تفويت الواقع قبيح جدّاً ، فتعيّن الأوّل ، ومعه يكون الأمر به لأجل تلك المصلحة المساوية لمصلحة الواقع ، فيكون واجبا تخييريّا بينه وبين الإتيان بنفس الواقع.

وعلى الثاني (٢) وإن كان لا يلزم محذور تفويت مصلحة الواقع على المكلّف في الأمر بالعمل بها لفرض عدم المصلحة في الواقع أصلا ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يكون العمل بها ـ حينئذ ـ مشتملا على مصلحة لا محالة ، وإلاّ يلزم العبث ، فيكون واجبا عينيّا. هذا.

لكنّه مدفوع : بأنّ معنى المصلحة الملزمة إنّما هو ما يوجب تنجّز

__________________

(١) في الأصل : ( تحصل ). ويحتمل : ( لحصل ) ..

(٢) أي على فرض خلوّ الواقع عن المصلحة. لمحرّره عفا الله عنه.

١٨٣

التكليف على المكلّف بمجرّد اطّلاعه عليه ، لا ما يجب تحصيله مطلقا ، بحيث يتنجّز على المكلّف على وجه يجب عليه تحصيل الاطّلاع عليه من باب المقدّمة ، كما هو لازم التخيّل المذكور ، وما أبعد بين هذا والتصويب ، فإنّه إنّما يكون إذا خلا الواقع عن ذلك المقدار من المصلحة ، لا معه.

وعلى تقدير تسليم تسمية هذا تصويبا فيطالب مدّعي بطلان هذا النحو من التصويب بدليل بطلانه ، وأنّى له ذلك؟! وكيف يمكن الالتزام به؟! فإنّ جميع الأحكام والتكاليف الشرعية من هذا القبيل ، إذ ما من تكليف إلاّ ويجوز الاكتفاء في مورد احتماله بتلك الطرق والأمارات والأصول.

هذا خلاصة الكلام في تحقيق المرام في المقام.

وبما حقّقنا يظهر ضعف أدلّة من خالفنا ، بل فسادها.

ثمّ إنّ مورد النزاع بين القائلين بالإجزاء والقائلين بعدمه في الأوامر الظاهرية إنّما هو صورة انكشاف الخلاف على سبيل القطع.

وأمّا الكلام في الإجزاء وعدمه فيما إذا انكشف بالظنّ فهو خارج في الحقيقة عن مسألة الإجزاء ، فإنّ مرجع النزاع في الإجزاء وعدمه إلى أنّ الظنّ كالقطع بمقتضى دليل اعتباره في ترتيب آثار متعلّقه عليه مطلقا حتّى الماضية منها ، أو لا ، فيكون النزاع في كيفية نصب الطرق الغير العلمية.

هذا مضافا إلى أنّ هذا النزاع إنّما هو بين القائلين بعدم الإجزاء في صورة انكشاف الخلاف بالقطع ، وأمّا القائلون بالإجزاء في تلك الصورة فهم قائلون به هنا بطريق أولى ، وليس لأحد منهم إنكاره ، وسيجيء التعرّض لحكم صورة انكشاف الخلاف بالظنّ ، فانتظر.

ثمّ إنّ للمحقّق القمّي ـ قدّس سرّه ـ في هذه المسألة كلمات لا يكاد يجمع بينها ، وهي ما ذكره في تحرير موضع الخلاف فيها : من أنّه ( إن كان بالنسبة إلى كلّ واحد من الحالات فلا إشكال في الإجزاء بمعنييه ، لحصول الامتثال وعدم

١٨٤

وجوب القضاء والإعادة ) إلى أن قال : ( وإن كان بالنسبة إلى مطلق الأمر ، أعمّ من البدل والمبدل فلا أظنّ مدّعي الدلالة على سقوط القضاء يدّعي السقوط حتّى بالنسبة إلى المبدل ، ولعلّ النزاع في هذه المسألة لفظي ، فإنّ الّذي يقول بالإجزاء إنّما يقول بالنظر إلى كلّ واحد من الأوامر بالنسبة إلى الحال التي وقع المأمور به عليها ، ومن يقول بعدمه إنّما يقول بالنسبة إلى مطلق الأمر الحاصل في ضمن البدل والمبدل ) (١).

ثمّ اختار بعد ذلك في موضع آخر من كلامه : كون الإتيان بالبدل مجزيا عن المبدل ـ أيضا ـ مع تعميمه للبدل بالنسبة إلى متعلّق الأمر الظاهري ، حيث قال : ( إنّ المكلّف بالصلاة مع الوضوء ـ مثلا ـ إنّما هو مكلّف بصلاة واحدة ، كما هو مقتضى صيغة الأمر من حيث إنّ المطلوب بها الماهيّة لا بشرط ، فإذا تعذّر عليه ذلك فهو مكلّف بهذه الصلاة مع التيمّم ، وهو ـ أيضا ـ لا يقتضي إلاّ فعلها مرّة.

وظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأوّل ، فعوده يحتاج إلى دليل ، والاستصحاب وأصالة العدم وعدم الدليل كلّها يقتضي ذلك ، مضافا إلى فهم العرف واللغة.

وما ترى [ من ] أنّ الصلاة بظنّ الطهارة تقضى بعد انكشاف فساد الظنّ فإنّما هو بأمر جديد ودليل خارجي.

نعم ، لو ثبت من الخارج أنّ كلّ مبدل إنّما يسقط عن المكلّف بفعل البدل ما دام غير متمكّن منه فلما ذكر وجه ، وأنّى لك بإثباته؟!

بل الظاهر الإسقاط مطلقا ، فيرجع النزاع في المسألة إلى إثبات هذه الدعوى ، لا أنّ الأمر مطلقا يقتضي القضاء أو يفيد سقوطه ، فالمسألة تصير

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ ـ ١٣٠ ـ ١٣١.

١٨٥

فقهية ، لا أصولية ) (١).

وقال في المقدّمة الثانية ـ من المقدّمات التي رسمها لتحقيق المسألة بعد البناء على كون متعلّق الأمر الظاهري بدلا عن الواقع ـ : ( والإشكال في أنّ المكلّف مكلّف بالعمل بالظنّ ما دام غير متمكّن عن اليقين ، ومحكوم بإجزاء عمله كذلك ، أو مطلقا ) إلى أن قال : ( وكذلك الكلام في المبدل والبدل ، فمن تيمّم لعذر ثمّ تمكّن من الماء في الوقت ، فإن قلنا : إنّ المكلّف به هو الوضوء في الوقت إلاّ في حال عدم التمكّن منه ، وبعبارة أخرى : إنّه مكلّف بإبداله بالتيمّم ما دام معذورا ، فيجب عليه الإعادة في الوقت.

وإن قلنا : إنّ التكليف الأوّل انقطع ، والتكليف الثاني ـ أيضا ـ مطلق ، فلا.

والظاهر أنّ هذا لا يندرج تحت أصل ، ويختلف باختلاف الموارد فلا بدّ من ملاحظة الخارج ). انتهى (٢).

ما وجدنا من كلماته ـ قدّس سرّه ـ يتهافت بعضها مع بعض ، وتوضيح التهافت : أنّك قد عرفت أنّه ـ قدّس سرّه ـ منع من أن يكون مراد القائل بالإجزاء كون الإتيان بالبدل مسقطا عن التعبّد بقضاء المبدل ، وجعل النزاع في المسألة لفظيا ، مع أنّه ـ قدّس سرّه ـ اختار ذلك في مقام دفع الإيراد على نفسه بقوله : ( وظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأوّل ) إلى آخر ما ذكره من الوجوه [ التي ] أقامها على ذلك.

وأيضا دعوى ظهور الأمر الثاني في إسقاط الأمر الأول واقتضاء أصالة العدم والاستصحاب إسقاط الأمر الأول ينافي ما ذكره من أنّه إذا ثبت بدلية

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ ـ ١٣٢.

(٢) قوانين الأصول : ١ ـ ١٣٠.

١٨٦

شيء وتردّد بين كونه بدلا على الإطلاق أو في الجملة فلا أصل يقتضي شيئا منهما ، إذ من المعلوم أنّ تقريب دلالة الأمر الثاني على سقوط الأمر الأوّل لا بدّ أن يكون بدعوى دلالته على بدلية متعلّقه عن المبدل على الإطلاق وإلاّ لما دلّ على إسقاط الأمر الأوّل.

وهكذا الكلام في سائر الوجوه التي ذكرها ، فإنّه إذا كان بدليّة البدل مقيّدة ببقاء العذر أو الجهل إلى آخر الوقت مع فرض ارتفاعهما قبل مضيّه فلم يرتفع الأوّل حتّى يستصحب عدمه ، وإنّما يرتفع لو اكتفى الشارع في جعل البدل بدلا بتحقّق ذينك في بعض من الوقت وإن لم يستمرّا.

ثمّ إنّ ما يبنى عليه ـ من كون الصلاة مع الطهارة المستصحبة بدلا عن الصلاة مع الطهارة الواقعية كالصلاة مع التيمّم مع العجز عن الوضوء ـ فيه ما لا يخفى على المتأمّل ، فإنّ الأمر بالصلاة مع الطهارة المستصحبة ظاهريّ محض وليس شأنه التصرّف في الواقع ، فإن لم يصادف الواقع يكن (١) العمل به كعدمه.

فدعوى ـ أنّ ظاهر الأمر الثاني بقول مطلق شامل للأمر الظاهري سقوط الأمر الأوّل ـ ظاهرة الفساد.

نعم ، هو متّجه في الأوامر الثانوية الواقعية وهي أوامر أولي الأعذار.

وبالجملة : فيتّجه على قوله : ( وظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأوّل ) إلى قوله : ( فتصير المسألة فقهية لا أصولية ) ما ذكره صاحب الفصول ، فراجع.

مضافا إلى ما ذكره ـ دام ظلّه ـ من أنّ موضوع الاستصحاب إنّما هو عدم الأمر الأوّل ، وإحرازه لا يكون إلاّ بظاهر الأمر الثاني ، فلا يصلح هو لجعله وجها مستقلا.

مع أنّ في احتجاجه بأصالة العدم وعدم الدليل ما لا يخفى ، لعدم ثبوت

__________________

(١) في الأصل : فيكون ..

١٨٧

حجّيّة أصالة العدم لو لم يرجع إلى الاستصحاب ، ومعه ليس وجها آخر ، وعدم الدليل لا يصلح في المقام للاستناد إليه بعد إحراز تكليف محقّق في ذلك الوقت لا بدّ من الخروج عن عهدته مع الشكّ في كون المأتيّ به مبرئا عنه ، فافهم وتأمّل ، والله الهادي.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : قد عرفت أنّ محلّ الكلام في مسألة الإجزاء بالنسبة إلى الأوامر الظاهرية إنّما هو ما إذا انكشف مخالفة متعلّقاتها بعد الإتيان بها للواقع ، وأنّ البحث عن حكم صورة انكشاف الخلاف ظنّا خارج عنها.

لكن لا بأس بالتعرّض لتحقيق الحال في حكم تلك الصورة على نحو الإجمال ، والغرض منه هنا إنّما هو توضيح المقال فيه مع قطع النّظر عن انضمام حكم الحاكم [ إلى ] الفتوى (١) الأولى ، وأمّا حكم صورة الانضمام فمعرفته موكولة إلى المباحث الآتية ـ إن شاء الله تعالى ـ من مباحث الاجتهاد والتقليد ، فنقول :

إذا اجتهد الفقيه في مسألة فأفتى فيها بحكم معتمدا على أحد الطرق التعبّدية الشرعية ، أو العقلية كالقطع والظن عند انسداد باب العلم ، فعمل هو أو أحد من مقلّديه بذلك الّذي أفتى به ، ثم تبدّل رأيه ذلك إلى نقيضه ظنا ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في وجوب بنائه وبناء مقلديه [ عليه ] إذا أرادوا تقليده حينئذ أيضا ، أو تعيّن عليهم تقليده في العمل ـ من حين التبدّل إلى ما بعده بالنسبة إلى الوقائع الحادثة المتأخّرة عن ذلك الحين ـ على الّذي أفتى به ثانيا ، وإنّما الخلاف في الأعمال الواقعة على مقتضى الفتوى الأولى إلى حين التبدّل من جهة وجوب نقض آثارها وعدمه :

__________________

(١) في الأصل : بالفتوى ..

١٨٨

فمنهم (١) من قضى بعدم النقض في العبادات ، وأمّا في غيرها فلم يعلم مذهبه لجفاف قلمه الشريف عند اختتام كلامه ـ قدّس سرّه ـ في العبادات.

ومنهم (٢) من فصّل بين ما إذا كان الفتوى الأولى مقتضية للاستمرار والاستدامة ما لم يطرأ عليها مزيل بحكم وضعي ، وبين ما إذا لم تكن كذلك ، فحكم بعدم النقض في الأوّل ، وبالنقض في الثاني ، ومثّل للأوّل بالفتوى في العقود والإيقاعات ، وللثاني بالفتوى بنجاسة الماء القليل بالملاقاة وعدم نجاسة الكرّ وأمثال ذلك.

ومنهم (٣) من فصّل تفصيلا آخر فقال : ( إن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق ، فيترتّب عليها لوازمها بعد الرجوع ) ، وذكر هناك ما استدل به على عدم النقض في تلك الصورة.

ثمّ قال : ( ولو كانت الواقعة مما لا يتعيّن أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد ).

ومراده من قوله : ( ممّا يتعيّن في وقوعها أخذها بمقتضى الفتوى ) ـ بقرينة تمثيله لذلك بالعبادات والعقود والإيقاعات ، وتمثيله للقسم الثاني ، وهو ما [ لا ] يتعين فيه الأخذ بمقتضى الفتوى بسائر الأمور المعاملية غير العقود والإيقاعات ، كطهارة شيء أو حليّة حيوان ـ هو أن يكون الواقعة ممّا لا يتحقّق موضوعها في الخارج إلاّ بأخذها بمقتضى الفتوى ، فإنّ وقوع شيء شرطا للعبادة أو جزء لها

__________________

(١) ( وهو الشيخ محمد تقي ـ قدّس سرّه ـ ) على ما جاء ( في هامش الأصل ، ). راجع الهداية : ٤٩٠.

(٢) ( وهو المحقّق القمّي ـ قدّس سرّه ـ ) على ما جاء في هامش الأصل ، راجع القوانين : ٢ ـ مبحث الاجتهاد والتقليد.

(٣) ( وهو صاحب الفصول ـ قدّس سرّه ـ ) على ما جاء في هامش الأصل ، راجع الفصول : ٤١٠ ، وعبارة المتن هي عبارة الفصول بأدنى تغيير.

١٨٩

لا يكون إلاّ بإيجاده بمقتضى الفتوى بكونه جزءا أو شرطا ، بحيث لو وجد بدون التديّن بكونه جزء أو شرطا بمقتضى الفتوى لا يقع شيء منهما.

وكذلك زوجيّة الزوجة بالعقد الّذي يراه المجتهد سببا لها لا تقع بذلك إلاّ مع التديّن بمقتضى فتواه بسببيته لها.

هذا بخلاف طهارة الشيء أو حلية لحمه ، فإنّهما لا يدوران مدار الأخذ بالفتوى ، بل يدوران مدار الواقع ، فإن كان ذلك الشيء طاهرا أو حلالا بحكم الشارع في الواقع فهو طاهر وحلال واقعا ، وإلاّ فلا يكون حلالا ولا طاهرا كذلك.

هذا حاصل مرامه ـ رفع مقامه ـ وسيأتي ما في تفصيله ذلك وما في تمثيله للقسم الأوّل بما عرفت.

حجّة القول الأوّل : ـ وهو عدم نقض الآثار في العبادات ـ وجوه :

الأوّل : ما ادّعاه القائل به من ظاهر المذهب حيث قال : ( وإن بلغ اجتهاده الثاني إلى حدّ الظنّ ، أو تردّد في المسألة وقضى أهل الفقاهة عنده بخلاف ما أتى به أوّلا ، فظاهر المذهب عدم وجوب الإعادة والقضاء للعبادات الواقعة منه ومن مقلّديه ).

الثاني : لزوم العسر والحرج في القول بوجوب القضاء.

الثالث : إنّ غاية ما يفيده الدّليل الدالّ على وجوب الأخذ بالظنّ الأخير هو بالنسبة إلى حال حصوله ، وأمّا بالنظر إلى ما قبل حصوله فلا دليل على وجوب الأخذ به ، وقد وقع الفعل المفروض على مقتضى حكم الشرع وما دلّ عليه الدليل الشرعي ، فيكون مجزيا ، والظنّ المذكور القاضي بفساده لم يقم دليل على وجوب الأخذ به بالنسبة إلى الفعل المتقدّم ، وحينئذ فلا داعي إلى الخروج عن مقتضى الظن الأوّل بعد وقوع الفعل حال حصوله ، وكون إيقاعه على ذلك الوجه مطلوبا للشرع ، ومنه يعلم الحال بالنسبة إلى من قلّده.

١٩٠

هذا ، لكن الإنصاف : أنّ الوجه الثاني من تلك الوجوه لا يخلو عن وجه ، لكنّه لا ينهض دليلا على تمام المدّعى ، لعدم اقتضائه لرفع الإعادة.

وأمّا الوجه الأوّل والثالث فلا يخفى على المتأمّل ما فيهما من الضعف :

أمّا الأوّل : فلمنع أصله أوّلا ، ثمّ منع حجّيّته وصيرورته دليلا على المدّعى.

وأمّا الثالث : فلأنّ التحقيق أنّ مقتضى دليل اعتبار الطرق الظنّيّة وجوب جعلها بمنزلة القطع ، وترتيب جميع الآثار المرتّبة على مداليلها حتّى الالتزامية منها ـ كما حقّق ذلك في محلّه ـ ومن المعلوم ـ كما اعترف به القائل المذكور أيضا ـ أنّ مؤدّى الظنّ الثاني التزاما إنّما هو فساد المأتيّ به أوّلا ، فإنّه يدلّ على أنّ المطلوب الواقعي إنّما هو متعلّقه ، فيلزمه عدم كون المأتيّ به أوّلا مطلوبا من المكلّف واقعا ، ولازمه عدم كونه مجزيا ، فيكون فاسدا ، فيترتّب عليه أحكام الفساد من وجوب الإعادة والقضاء.

وبعبارة أخرى : إنّه يحرز بالظنّ الثاني فساد المأتيّ به أوّلا ، فيجب عليه الإعادة بمقتضى الأمر الأوّل والقضاء بمقتضى دليله المعلّق على الفوت ، فإنّ الظنّ الثاني يكشف عن فوت الواقع من المكلّف ويثبته ، فإذا ثبت الصغرى به ثبت حكم كبراها ، وهو وجوب القضاء بدليل القضاء المعلّق على الفوت.

هذا ، مع أنّا لو جعلنا الفوت مجرّد ـ الترك ـ لا أمرا وجوديا ـ فيمكن إحرازه بأصالة عدم الإتيان بالواقع ، إلاّ أنّ هذا خلاف التحقيق.

هذا ، مضافا إلى أنّا لو أغمضنا عن الظنّ الثاني ـ القاضي بفساد المأتيّ به أوّلا ، وفرض حصول التردّد للفقيه بعد الظنّ الأوّل ـ فمقتضى القاعدة حينئذ عدم سقوط الإعادة من المكلّف ، لأنّ الظنّ المذكور طريق محكوم بإجراء العمل على طبقه ما دام باقيا ، وأمّا مع زواله ـ كما هو المفروض ـ فاكتفاء الشارع بما وقع على طبقه غير معلوم ، بل معلوم العدم ، فإذا كان المفروض زواله في الوقت ،

١٩١

والمفروض علم المكلف باشتغال ذمّته بتكليف في ذلك الوقت لا بدّ له من تحصيل البراءة منه ، والإتيان بما يبرئ ذمّته شرعا عنه ، ويخرجها عن تبعته ، والمفروض ـ أيضا ـ كونه شاكّا في كون ما أتى به أوّلا على طبق الظنّ المذكور مبرئا عن ذلك التكليف ، فيجب عليه بحكم العقل حينئذ الإتيان بما تيقّن معه البراءة عن ذلك التكليف ، وهو إيقاع الفعل بجميع ما يحتمل اعتباره فيه شرعا من باب الاحتياط ، أو إيقاعه على مقتضى الظنّ الثاني على فرض حصوله بعد التردّد ، فإنّه حجّة فعليّة له من الشارع.

ومن هنا تبيّن فساد دعوى أنّ عمله السابق قد وقع بحكم الشرع ـ وهو حكمه بالعمل بالظنّ الأوّل ـ فيجزي.

وتوضيح الفساد : أنّ المفروض اشتغال ذمّة المكلّف في ذلك الوقت بتكليف يجب عليه الخروج عن عهدته بالإتيان بما يبرئ ذمّته عنه قطعا ، وغاية ما هناك أنّه اعتقد في حال الظنّ الأوّل بكون العمل على طبقه مبرئا ، ومجرّد تحقّق ذلك الاعتقاد في جزء من وقت مع فرض زواله في الجزء الآخر من ذلك الوقت لا يكفي للاستناد إليه والاحتجاج في مقام المؤاخذة على المطلوب الواقعي.

وبالجملة : لا بدّ للمكلّف من تحصيل المبرئ عن التكليف الثابت ، ولا يكفيه ولا يجديه اعتقاد كون شيء مبرئا مع فرض زوال ذلك الاعتقاد ، وحكم الشارع بالعمل بالظنّ الأوّل لا يقتضي أزيد من اكتفائه ظاهرا بما وقع على طبقه ما دام باقيا ، والمفروض زواله.

هذا إذا كان الظنّ المذكور من الطرق الشرعية الصرفة.

وأمّا إذا كان من الطرق العقلائية ـ التي ليس حكم الشارع بالعمل بها إلاّ من باب الإمضاء ـ فالامر فيه أوضح ، من حيث عدم ترتّب شيء عليه إذا لم يطابق الواقع ، وكون العمل به حينئذ كعدمه.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الشبهة في لزوم الإعادة بعد زوال الظنّ

١٩٢

المذكور وإن لم يحصل بعد ظنّ آخر بخلافه.

وأمّا القضاء فقد عرفت الكلام فيه على تقدير قيام الظنّ الثاني ، وأمّا بدونه فالحكم بعدمه متّجه ، حيث إنّه على المختار بأمر جديد ، وهو غير معلوم ، فينفيه استصحاب عدمه.

حجّة القول الثاني وجوه :

الأوّل : أنّ رخصة الشارع ـ في بناء العمل على الفتوى السابقة فيما يقتضي الاستمرار والدوام ـ رخصة في إدامة أثره أيضا ، فلا ترتفع بالفتوى الثانية ، هذا بخلاف رخصته فيما لا يقتضي الاستمرار ، فإنّها غير مستلزمة للإدامة.

الثاني : أنّ الأمور المقتضية للاستمرار إذا وقعت فهي مقتضية لبقاء الأثر إلى أن يثبت الرافع له ، وتبدّل الرّأي لم يثبت كونه رافعا له ، هذا بخلاف الأمور الغير المقتضية للاستمرار لعدم اقتضائها للبناء على مقتضاها دائما.

الثالث : لزوم العسر والحرج لو لم يبن علي مقتضى الفتوى السابقة في الأمور المقتضية للاستمرار ، وعدم لزومه على تقدير عدم البناء على مقتضى الفتوى السابقة في غيرها.

هذا خلاصة ما استدلّ به هذا القائل ، وقد احتجّ بوجوه أخرى تخريجيّة لا يخفى على المتأمّل ضعفها ، فلا نطيل الكلام بذكرها والتعرّض للجواب عنها.

ويتّجه على أوّل الوجوه المذكورة : أنّ الرخصة فيما يقتضي الاستدامة إنّما تقتضي الرخصة في الإدامة فيما إذا كانت تلك الرخصة واقعية ، لكنّها في المقام ظاهرية محضة مغيّاة بعدم انكشاف الخلاف ، لأنّ أمر الشارع

١٩٣

بالعمل بفتوى الفقيه إنّما هو من باب الطريقية المحضة ، ومن المعلوم أنّ الطريق ليس من شأنه تغيير الواقع ، بل هو على حاله واقتضائه صادفه الطريق أو خالفه ، ولمّا كان المفروض مخالفته له ، فمقتضاه ـ حينئذ ـ عدم كفاية الواقع من العمل قبل الانكشاف في ترتيب الآثار عليه بعده ، إذ المفروض أنّها له واقعا ، وليس لذلك الواقع المخالف له حظّ منها.

هذا ، مع أنّ في جعله العقود والإيقاعات ممّا يقتضي الاستدامة دون نجاسة الماء القليل بالملاقاة وعدم نجاسة الكرّ ما لا يخفى ، إذ من المعلوم عند المتأمّل عدم الفرق بين النجاسة والطهارة وبين النقل والانتقال الّذي هو أثر المنع ـ مثلا ـ فكما أنّ الثاني على تقدير ثبوته يستدام إلى أن يجيء له رافع فكذلك الأوّلان.

وعلى ثانيها : أنّه مسلّم إذا ثبت كون تلك الأمور مقتضية للاستمرار واقعا.

وأمّا إذا كان اقتضاؤها لذلك بالنظر إلى مرحلة الظاهر فمع تبدّل الرّأي يشكّ في كونها مقتضية لتلك الآثار في أوّل الأمر ، فالصغرى غير محرزة.

وعلى ثالثها : منع اختصاصه بخصوص العقود والإيقاعات ، بل يلزم ذلك في العبادات ـ أيضا ـ بالنسبة إلى القضاء ـ كما عرفت من مطاوي كلماتنا المتقدّمة في القول الأوّل ـ فيبطل تخصيصه الحكم بالأخصّ الّذي هي العقود والإيقاعات ، فافهم.

حجّة القول الثالث : أمّا على عدم نقض الآثار فيما يتعيّن أخذه بمقتضى [ الفتوى ] فوجوه :

منها : أنّ الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين لعدم الدليل عليه.

ومنها : أنّ البناء على نقضها يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيين في الشريعة ، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأي واحد.

١٩٤

ومنها : أنّه يؤدّي إلى ارتفاع الوثوق عن قول المجتهد من حيث إنّ الرّجوع في حقه محتمل ، وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد ، ولا يعارض ذلك بصورة القطع لندرته.

ومنها : أصالة بقاء الآثار الواقعة ، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد الأوّل ، ولا قطع على ارتفاعها بعده ، إذ لا دليل على كون الاجتهاد المتأخر رافعا لها.

وأمّا على النقض فيما لا يتعيّن في وقوعه أخذه بمقتضى الفتوى : فهي أنّ رجوع المجتهد فيه عن الفتوى السابقة رجوع عن حكم الموضوع ، وهو لا يثبت بالاجتهاد على الإطلاق ، بل ما دام باقيا على اجتهاده فإذا رجع ارتفع.

ثمّ قال : ( وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد السابق فهي في الحقيقة إمّا من مشخّصات عنوان الموضوع كالملاقاة ، أو من المتفرّعات على حكم الموضوع كالتذكية والعقد فلا أثر لها في بقاء حكم الموضوع ).

ثم قال : ( وربما أمكن التمسّك في بقاء الحكم في هذه الصور (١) بلزوم الحرج وارتفاع الوثوق في العمل ).

ثم قال : ( إلاّ أنّ ذلك مع انتقاضه بصورة الجهل والنسيان والتعويل على الظواهر التي ينتقض حكمها عند ظهور الخلاف لا يصلح بمجرّده دليلا.

أمّا الأوّل فلأنّ الحرج المقتضي لسقوط التكليف قد يكون شخصيا ، فيدور سقوط التكليف به مدار ثبوته ، وقد يكون نوعيا ، وهذا وإن لم يكن سقوط التكليف به دائرا مدار ثبوته ، لكن يعتبر تحقّقه في النوع غالبا ، وإلاّ فما من تكليف إلاّ وقد يتحقّق الحرج على بعض تقاديره ، وانتفاء الغلبة في المقام معلوم.

وأمّا الثاني فوجه استحساني لا ينهض دليلا ، وإنّما تمسّكنا بذلك في المقام

__________________

(١) في الأصل : ( هذه الصورة ) ، والّذي أثبتناه مطابق للمصدر كما أنّه موافق للسياق.

١٩٥

السابق على وجه التأييد ، لا الاستدلال ). انتهى موضع الحاجة من كلامه ـ رفع مقامه (١) ـ.

ويتّجه عليه :

أوّلا ـ أنّه إن كان المراد من توقّف وقوع الواقعة على أخذها بمقتضى الفتوى هو توقّفه عليه واقعا فلا يخفى فساده ، لعدم توقّف وقوع شيء من الوقائع واقعا على ذلك جدّاً حتّى فيما مثّل به لذلك من البناء على عدم جزئية شيء للعبادة ، أو عدم شرطيته لها ، أو على صحّة الصلاة في شعر الأرانب والثعالب ، أو على طهارة شيء ، أو كونه طهورا ، ضرورة أنّ الشيء المشكوك كونه شرطا أو جزء إن كان في الواقع أحدهما يمتنع (٢) وقوع العبادة المأمور بها واقعا بدونه ، وإن لم يكن شيئا منهما [ كان ] الفعل (٣) الفاقد له هي العبادة المأمور بها واقعا من دون توقّف على الأخذ بمقتضى الفتوى أصلا. وهكذا الكلام في سائر الأمثلة.

وإن كان المراد توقّفه عليه في مرحلة الظاهر فجميع الوقائع النظرية الاجتهادية كذلك ، حتّى ما ذكره مثالا لما لا يتعيّن في وقوعه أخذه بمقتضى الفتوى ، كما لا يخفى ، فلم يبق وجه لهذا التفصيل أصلا.

وثانيا ـ أنّ الّذي ذكره وجها للنقض في القسم الثاني بعينه جار في الأوّل أيضا ، فإنّ الرجوع عن عدم جزئية شيء أو عدم شرطيته إلى شرطيته أو جزئيته رجوع عن حكم موضوع ـ وهو ذلك الشيء ـ إلى حكم آخر ، وهكذا

__________________

(١) الفصول : ٤١٠.

(٢) في الأصل : فيمتنع ..

(٣) في الأصل : ( فيقع الفعل ) ..

١٩٦

الكلام في سائر أمثلة القسم الأوّل ، فلم يعلم وجه لذلك التفصيل بوجه.

ثمّ إنّ الوجوه التي ذكرها لعدم النقض في القسم الأوّل فيها ما لا يخفى على المتأمّل :

أمّا الأوّل منها : فلأنّه بعد ثبوت اشتغال الذمّة بتكليف ولزوم تحصيل الفراغ عنه لا بدّ لمن يقتصر على ما وقع منه على وفق الاجتهاد الأوّل من دليل مثبت لاكتفاء الشارع به عن الواقع ، وعدم ذلك الدليل يكفي في لزوم الإعادة في الوقت من غير حاجة إلى ورود دليل على عدم كونه مجزيا. نعم بالنسبة إلى القضاء ـ بناء على كونه بفرض جديد ـ يتمّ لو لا ما قدّمنا سابقا من أنّ أدلّة اعتبار الظنّ الثاني مقتضية لطريقيته بالنسبة إلى جميع ما يؤدّي إليه ولو التزاما ، وأنّه يقتضي فساد ما وقع أوّلا التزاما ، فيحرز به موضوع دليل القضاء فيجب.

وكيف كان ، فلا معنى لإطلاق القول بالاكتفاء في مقام الشكّ في شرطية شيء أو جزئيته في العبادة مستندا إلى ذلك الوجه ، أو في صحة الصلاة مع شعر الأرانب والثّعالب ، أو في كون شيء طاهرا وطهورا ، هذا بالنسبة إلى العبادات.

وأمّا بالنسبة إلى العقود والإيقاعات فلا مساس لذلك الوجه فيهما أصلا ، إذ من المعلوم أنّ بقاء الآثار فيهما يحتاج إلى دليل ، ويكفي في الحكم بانتفائها عدم ورود دليل على البقاء ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا الثاني منها : فلمنع غلبة عدم وقوف المجتهد على رأي واحد إن لم نقل بثبوت غلبة الخلاف.

وأما الثالث منها : فلما ذكره هو في التمسّك به في القسم الثاني.

وأمّا الرابع : فلأنّه إن أراد من ثبوت الآثار حال الاجتهاد الأوّل ثبوتها في مرحلة الظاهر ـ بمقتضى أدلة اعتبار الظن الأوّل ـ فمن المعلوم ارتفاعها بارتفاع ذلك الظن ، إذ الأحكام الظاهرية دائرة مدار بقاء ما يثبتها نفيا وإثباتا.

وإن أراد ثبوتها حال الظنّ الأوّل بالنظر إلى الواقع : ففيه أنّ الأدلّة

١٩٧

الظنّية لا تفيد ثبوت مؤدّياتها في الواقع ظنّا ، فلم تثبت تلك الآثار واقعا في تلك الحال إلاّ على سبيل الظنّ ، ومن المعلوم المتّفق عليه حتّى منه ـ قدّس سرّه ـ أنّه يعتبر في الاستصحاب إحراز المستصحب في الزمان السابق على سبيل القطع ، ودعواه في المقام دونها خرط القتاد ، فإذا شكّ في ثبوتها في تلك الحال يكون (١) المورد مجرى لاستصحاب عدمها ، لا لاستصحاب وجودها كما ذكره ـ قدّس سرّه ـ.

وبالجملة : الّذي يريد استصحابه مردّد بين ما هو معلوم الارتفاع وبين ما هو مشكوك الحدوث ، فلا وجه لاستصحابه بوجه من الوجوه ، بل المتعيّن استصحاب عدمه ، كما عرفت ، هذا خلاصة الكلام في هذا المقام.

والتحقيق فيه ما أشرنا إليه في مطاوي الأجوبة عن القول الأوّل والثاني ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

الثاني : قد عرفت عدم اقتضاء المأتيّ به ـ على مقتضى الطرق الظنية الشرعية ، أو العقلية ، أو الأصول العملية الشرعية ، أو العقلية ، والأمارات ـ للإجزاء عن الواقع إذا انكشف مخالفته له ، فعلى هذا فيشكل الأمر (٢) لو ورد

__________________

(١) في الأصل : فيكون.

(٢) قولنا : ( فيشكل الأمر لو ورد دليل من الشارع على إجزائه ) : اعلم أنّ الإشكال المذكور مختصّ بما إذا ورد الدليل على الإجزاء في صورة انكشاف الخلاف في الوقت أو في صورة انكشافه في خارجه ـ على القول بأنّ القضاء بالأمر الأوّل ـ لاشتراكها [ مع ](أ) الصورة الأولى في إسقاط الأمر الفعلي مع عدم الإتيان بمتعلّقه على وجهه ، إذ على ذلك القول يكون الأمر من باب تعدّد المطلوب ما لم يؤت بمتعلّقه على وجهه ، فيكون موجودا ما لم يؤت بمتعلّقه على وجهه سواء كان في الوقت أو في خارجه.

وأمّا لو ورد الدليل المذكور في صورة انكشافه بعد خروج الوقت على القول بأنّ القضاء

__________________

(أ) في الأصل : لاشتراكها للصورة الأولى ..

١٩٨

دليل من الشارع على إجزائه واكتفائه به عن الواقع ، لمنافاته لاعتبار تلك الطرق والأمارات من باب الطريقية المحضة ، ولاعتبار تلك الأصول مجرّد كونها أحكاما ظاهرية مغيّاة بعدم انكشاف الخلاف ، ولدليل اعتبار ذلك الأمر المفروض عدم الإتيان به مع المأمور به على وجه الإطلاق ، فلا يمكن الجمع بينه وبين بقاء أدلّة اعتبار الطرق والأمارات والأصول على ظاهرها ، وكذا بينه وبين بقاء دليل الواقع المثبت لجزئيّة ما لم يؤت به ، أو شرطيته على إطلاقه فلا بدّ حينئذ ـ إن لم يمكن طرح ذلك الدليل ـ من الجمع بينه وبين سائر الأدلّة بارتكاب خلاف ظاهر في بعضها.

__________________

بأمر جديد فلا إشكال ولا محذور أصلا ، لما قد عرفت سابقا من أنّ إمكان التعبّد بالقضاء بعد امتثال تلك الأوامر الظاهريّة في الوقت كان محتاجا إلى التوجيه بإمكان تبعّض مصلحة الفعل وحصول بعض منها في خارج الوقت أيضا ، فلا يجب على الشارع تداركها جميعا في الوقت ، فيمكن التعبّد بالفعل ثانيا في خارج الوقت تحصيلا لذلك البعض الفائت من المصلحة ، وأمّا إمكان الإجزاء ـ بمعنى كفاية المأتيّ به على ذلك الوجه عن الواقع ولو على وجه التدارك فلا غبار عليه بوجه ـ فإنّ غاية ما أثبتنا أنّ تلك الأوامر في تلك الحال لا تقتضي امتناع التعبّد بالواقع في خارج الوقت ، وأمّا اقتضاؤها لامتناع الاكتفاء بمتعلّقاتها على الوجه المذكور ـ أعني على وجه التدارك بأن يكون الشارع قد تدارك جميع مصلحة الواقع في الوقت مع إمكان تحصيل بعضها في خارجه من باب التفضل ، أو بأن يكون قد تداركها جميعا في الوقت من باب اللزوم بأن يكون المصلحة بتمامها متقوّمة بالوقت بحيث لا يحصل منها شيء في خارجه ـ فكلاّ ، ثمّ كلاّ.

ومن المعلوم أنّ المصلحة المتداركة كالحاصلة ، فمعها لا يكون الإجزاء مخالفا للقاعدة ، لعدم استلزامه حينئذ التصرّف في دليل الواقع أو في أدلّة اعتبار الطرق والأمارات والأصول بوجه ، بل يكون عدم الإجزاء حينئذ مخالفا للقاعدة كما لا يخفى ، فإنّ الأمر بتحصيل المصلحة المتداركة ـ كالأمر بتحصيل المصلحة الحاصلة ـ طلب للحاصل ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه ، وبدّل سيّئاته حسنات بجاه نبيّه وخيرته من خلقه محمّد وآله البررة الهداة صلواته عليه وعليهم إلى يوم الميقات.

١٩٩

وتوضيح المقال في الجمع : أنّ هاهنا مقامين :

أحدهما : ما إذا قامت تلك الطرق والأمارات والأصول على موضوع قد اعتبر تحقّقه في المأمور به بمقتضى دليل الواقع ، ثمّ انكشف الخلاف ، فورد دليل على الإجزاء ، وهذا كما إذا ثبت الطهارة من الحدث أو الخبث بالبيّنة أو بالاستصحاب ـ مثلا ـ أو اعتقد المكلّف أنّه متطهّر فصلّى فيه ، ثمّ انكشف الخلاف ، فورد دليل على إجزاء الصلاة الواقعة بدون الطهارة واقعا عن الصلاة معها كذلك ، التي هي المأمور بها الواقعي (١) ، أو ثبت تذكية جلد حيوان بالبيّنة ، أو بأخذه من سوق المسلمين ، ثمّ انكشف كونه من الميتة ، كما ورد ذلك في الجاهل بالنجاسة من أنّه تمّت صلاته ، وأنّه لا يعيدها (٢).

وثانيهما : ما إذا قامت هي على الحكم دون الموضوع كما إذا ثبت عدم جزئية شيء أو شرطيته في المأمور به بالطرق أو الأصول ، ثمّ انكشف بعد العمل على طبقها الخلاف ، فورد دليل على الإجزاء حينئذ ، كما ورد ذلك في الجاهل بالجهر في موضع الإخفات أو العكس.

والمتصوّر للجمع بين الأدلّة في المقام الأوّل وجوه :

أحدها : أن يخصّص دليل الواقع ـ وهو الّذي يثبت شرطية ما لم يؤت به حال الجهل أو جزئيته مطلقا ـ بغير صورة الجهل مثلا ، وهو صورة العلم ، كما قد يدّعى ذلك في نجاسة النجاسات ، من أنّ الأشياء النجسة لا تتّصف بحكم النجاسة واقعا ما لم تعرف بعينها ، فمثل البول ليس نجسا واقعا ما لم يعلم بكونه بولا ، وهذا هو المعبّر عنه عندهم بالتصويب في الموضوع ، وكذا يخصّص دليل مانعية جلد الميتة مثلا بغير الصورة المذكورة ، فيرتفع المنافاة بينه وبين دليل

__________________

(١) في الأصل : الواقعية ...

(٢) الوسائل : ١٠٥٩ ـ ١٠٦١ ـ كتاب الطهارة ـ باب : ٤٠ من أبواب النجاسات.

٢٠٠