تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

المجازات ، بل ربما يقال (١) بدلالتها على الاهتمام بالطلب آكد من دلالة الأمر عليه.

وفيه : أنّ الأقربية الاعتبارية لا عبرة بها ، فإنّ المدار في تقديم بعض المجازات على الآخر إنّما هو ظهوره من اللفظ بعد قيام القرينة الصارفة دونه ، وهي لا توجب ذلك ، فإنّ آكدية معنى في العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي لا يوجب رجحان إرادة ذلك المعنى عند المتكلم ظهوره عند المخاطب ، كما هو في الأقربية الاستعمالية كذلك.

نعم قد يبلغ تأكّد العلاقة والمناسبة بين المعنى المجازي والحقيقي إلى حدّ يوجب كونه كأنّه المعنى الحقيقي ، فحينئذ لو لم يعارضه جهة أخرى فلا يبعد كونه موجبا لتعهّد هذا المعنى بعد قيام القرينة الصارفة وظهوره من اللفظ حينئذ ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ثمّ إنّ هذا مبنيّ على دعوى استعمال الجمل في خصوص الوجوب ، لكنّا مستريحون عن ذلك ، فانّ الّذي نحن بصدده ظهور الوجوب منها في المقام مع احتمال أن تكون الجملة مستعملة في الطلب المطلق ويكون منصرفا إليه لإطلاقه ، كما مرّ في الصيغة.

ثمّ إنّ العلاقة بين معنى الإخبار والإنشاء من الوجوب والندب وإن كانت موجودة قطعا لكنّا لم نقدر بعد على أنّها أيّ قسم من العلائق ، ودعوى الأقربية المذكورة متوقّفة على إحراز ذلك ، ثمّ ملاحظة أنّ تلك العلاقة في

__________________

(١) قال دام ظلّه : إنّما تدلّ على آكديّة الطلب إذا ظهر منها إرادة الوجوب ، فمن منع ظهوره فيها يمنع (١) من ذلك ـ أيضا ـ ، نعم هو سلّم أنّه لو علم إرادة الوجوب منها فهو آكد من الوجوب المستفاد من الأمر. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(١) في الأصل : فيمنع.

٤١

الوجوب آكد منها في غيره ، بل لا ريب في تحقّق العلاقة أيضا بين الإذن الّذي هو أيضا من مقولة الإنشاء وبين مفاد الجملة وتستعمل الجملة الخبرية أيضا فيه ، كاستعمالها في الوجوب والندب ، كما أنّ الصيغة أيضا تستعمل فيه ، فإنّه كما إذا سئلت عن فعل شيء ، فيقال لك : أفعل؟ فتقول : ( افعل ) مريدا به الترخيص ، فكذلك تقول حينئذ : ( تفعل ) مريدا به ذلك.

وكيف كان ، فلمّا كانت العلائق غير محصورة فالإنسان لا يقدر في بعض المقامات على أن يجد اسما لتلك العلاقة ، مع أنه قاطع بوجودها وتحقّقها واعتبارها في تصحيح الاستعمال المجازي.

قال دام ظلّه : التدبّر في تشخيص العلائق وإمعان النّظر فيها ـ ليعرف أنّها داخلة في أيّ اسم ـ من قبيل صيد الخنزير ، حيث إنه لا بدّ فيها من مشقّة كثيرة مع عدم الفائدة فيه لعدم الانتفاع بلحمه.

هذا ، ثمّ إنّ الكلام يجري في الجمل الخبرية المنفيّة المستعملة في معنى النهي ، فإنّها أيضا كالنهي ظاهرة في التحريم ، كما أنّ المثبتة كانت كالأمر ظاهرة في الوجوب ، والوجه الوجه ، فتدبّر.

الخامسة (١) : اختلف القائلون بدلالة الأمر على الوجوب في أنّ وقوعه عقيب الحظر هل يصلح لأن يكون قرينة صارفة له عن الوجوب إلى غيره ، أو لا ، بل وروده عقيبه كوقوعه في سائر الموارد في ظهوره في الوجوب أيضا؟ وعن جماعة ـ منهم الشيخ (٢) والمحقق (٣) والعلامة (٤) والشهيد الثاني (٥) وجماعة من العامة

__________________

(١) أي ( الفائدة الخامسة ) على ما في هامش الأصل.

(٢) عدّة الأصول : ١ ـ ٦٨.

(٣) معارج الأصول : ٦٥.

(٤) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٥٢.

(٥) تمهيد القواعد ( ملحق بذكرى الشيعة ) : ١٦ ـ القاعدة : ٣٢.

٤٢

منهم الرازي (١) والبيضاوي (٢) الثاني ، وعن الإحكام (٣) نسبته إلى المعتزلة.

ثمّ القائلون بالأوّل (٤) اختلفوا على أقوال :

أحدها : انه حينئذ يفيد الإباحة ، وهذا هو المحكي عن الأكثر ، وعن ظاهر الإحكام أنّ المراد بالإباحة في المقام هو رفع الحجر ، دون الإباحة الخاصة ، وعن بعض الأفاضل انه صرح بتفسير الإباحة هنا بمعنى الرخصة في الفعل (٥).

وثانيها : التفصيل بين ما إذا علّق الأمر بارتفاع علّة عروض النهي وما لم يعلّق عليه ، فيفيد الإباحة في الأوّل دون الثاني بمعنى أنّ وقوعه عقيب الحظر حينئذ لا يصلح للصرف ، بل محمول على الوجوب.

ثالثها : أنّه وقوعه عقيبه صارف عن ظاهره إذا لم يكن حكم ما قبل النهي هو الوجوب ، وإلاّ فهو ظاهر في الوجوب أيضا ، كسائر الموارد ، ثمّ إنّه إن كان حكم ما قبل النهي غير الوجوب والندب والكراهة فيفيد الأمر حينئذ هذا الحكم.

ورابعها : أنّه صارف مطلقا وهو حينئذ يفيد الندب.

وخامسها : الوقف بمعنى إجمال اللفظ حكي نسبته عن الأحكام (٦) إلى إمام الحرمين.

وقبل الخوض في المرام لا بدّ من تحرير محلّ النزاع ، كي يندفع به بعض

__________________

(١) نسبه السبكي إلى الإمام في الإبهاج في شرح المنهاج : ٢ ـ ٤٣.

(٢) المنهاج ـ الموجود ضمن الإبهاج ـ : ٢ ـ ٤٣.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام : ٢ ـ ٣٩٨.

(٤) قولنا : ( ثمّ القائلون بالأوّل ) نعني : القائلين به في الجملة ، فلا ينافي ما سيأتي من التفصيل. لمحرّره [ عفا الله عنه ].

(٥) في الأصل : الرخصة به في الفعل.

(٦) الإحكام في أصول الأحكام : ٢ ـ ٣٩٨.

٤٣

المغالطات الصادرة عن بعض في مقام الاستدلال ، فنقول : إنّ النزاع في المقام إنّما هو في الأمر الواقع عقيب الحظر ـ كما يشهد به عنوان كلامهم كما عرفت ـ لا الحاصل قبله الشامل بعمومه أو إطلاقه لما بعد الحظر بأن يكون النهي من قبيل المخصّص أو المقيّد له بالنسبة إلى زمان النهي.

وبعبارة أخرى : النزاع من جهة وقوع الأمر بعد الحظر وعقيبه لا من جهة كون المنهيّ عنه مأمورا به بعد النهي ، فيدخل فيه ما إذا كان ثبوت الأمر له بعده من جهة الأمر السابق على النهي بعمومه أو إطلاقه.

فعلى هذا فيخرج أمر الحائض والنفساء بالصلاة بعد كونهما منهيّتين عنها حال الحيض والنفاس عن محلّ النزاع ، فإنّ كونهما مأمورتين بها بعد القرء إنّما هو بالأمر السابق على النهي لإطلاقه بالنسبة إلى جميع حالاتهما ، وإنّما ورد التقييد بسبب النهي بالنسبة إلى حال القرء فقط ، فتبقى حالاتهما الاخر داخلة في إطلاق الأمر السابق ، فالحكم بوجوب الصلاة عليهما بعد القرء لذلك ، لا لأنّ هذا المورد من وقوع الأمر عقيب الحظر ، ومع ذلك حكموا بوجوبها عليهما بعده ، لمنع صلاحية وقوعه بعده للصرف.

هذا ، وأيضا النزاع في صلاحيته للصرف وعدمها إنّما هو فيما إذا كان المخاطب عالما بالنهي السابق ، وملتفتا إليه أيضا حال الأمر ، وكذلك المتكلّم الآمر يكون عالما به وملتفتا إليه حينئذ ، وكيف كان فلا بدّ أن يكون كلاهما عالمين به وملتفتين إليه حينئذ.

ثمّ المراد بالأمر في المقام إنّما هو الأمر اللفظي ـ لا اللبّي (١) ـ فإنّ هذا النزاع ـ كما عرفت ـ إنّما هو بين القائلين بظهور صيغة الأمر في الوجوب ، ويكون غرضهم تحقّق أنّه إذا وقع عقيب الحظر ، فهو هل يصلح لصرفها عن

__________________

(١) الأمر اللبّي لا يكون له ظاهر وخلاف ظاهر ، حتّى يجري فيه ذلك. لمحرّره عفا الله عنه.

٤٤

ظاهرها أو لا؟ وتعرّضهم لذلك دون سائر القرائن إنّما لضبطه وكليّته ـ كما في المجاز المشهور ـ دون سائر القرائن الشخصية اللاحقة لخصوصيّات الموارد ، لكنّ المراد بالنهي في المقام أعمّ من اللفظي وغيره ، فإنّ النّظر في القرينة والصرف إنّما هو إلى مجرّد وقوع الأمر عقيب النهي ، لا إلى ما دلّ على النهي والحظر.

وهل المراد به الأعمّ من الشرعي والعقلي أو خصوص الأوّل؟

الظاهر الثاني ، كما يشهد به احتجاج القائل (١) بأنّ الأمر حينئذ للوجوب بأنّه إذا وقع عقيب الحظر العقلي يكون للوجوب اتّفاقا ، فكذلك ما نحن فيه ، فإنّ القياس لا يتمّ إلاّ بعد الفراغ عن حكم المقيس عليه ، وكونه مسلّما بين الفريقين.

وكيف كان ، فالظاهر اختصاص النزاع بالنهي الشرعي ، لا العقلي ، أو الأعم ، لشهرة ما عرفت به وإن كان في نفس الاستدلال ما لا يخفى على المتأمّل من منع المقيس عليه صغرى وكبرى ، كما سيأتي بيانه عن قريب إن شاء الله.

ثمّ إنّ النّظر في المقام فيما إذا كان متعلّق الأمر عين ما تعلّق به النهي ، كما يدلّ عليه اعتبارهم وقوعه عقيبه ، فإنّ معناه وقوعه في محلّ عقيب النهي ، وبالفارسية : ( امرى كه پاى در جاى پاى نهى گذارد ، واين كنايه است از ورود او بموضوعى كه نهى متعلّق باو است.

فعلى هذا يخرج ما إذا ورد الأمر بعد النهي ، لكن على موضوع مغاير لمتعلّق النهي بحسب المفهوم وإن كان الموضوعان متلازمين في الوجود ، أو متّحدين في المصداق في بعض الأحوال ، فبذلك يتّجه المنع على قياس المستدلّ ـ على إفادة الأمر الواقع عقيب الحظر ـ المقام بالأوامر الشرعية الواردة بعد النهي

__________________

(١) الذريعة : ١ ـ ٧٤.

٤٥

العقليّ ، فإنّه على تسليم حكم العقل بالحظر قبل العثور على الأمر الشرعي ، فلا ريب أنّ موضوع حكمه إنّما هو عنوان المجهول كونه مأمورا به ، وموضوع الأوامر الشرعية إنّما هو ذوات الأفعال من حيث هي ، إذ لا يعقل ورود الأمر الشرعي على موضوع حكم العقل بحرمته مطلقا ، سواء كان من أحكامه الواقعيّة كحكمه بحرمة الظلم وقبحه ، أو من أحكامه الظاهرية كحكمه بحرمة فعل ما لم يعلم بكونه مأمورا به ، وقبحه ، لامتناع توجّه الأمر شرعا إلى ما حكم العقل بقبحه ، وكيف كان ، فهما مفهومان متغايران. نعم اتّفق اتّحادهما في المصداق ، وهو غير مجد ، فبطل القياس ، لخروج المقيس عليه عن عنوان الكلام.

ومن هنا يتّجه الإشكال على المستدلّ المذكور أيضا في استدلاله على ما صار إليه بظهور الأمر بالذهاب إلى المكتب بعد النهي عن الخروج عن المحبس ، إذ لا ريب أنّ متعلّق النهي إنّما هو الخروج عن المحبس ، ومتعلّق الأمر إنّما هو الذهاب إلى المكتب ، وهما مفهومان متغايران ، فيخرج ذلك عن محلّ الكلام.

لا يقال : إنّ المثال الّذي ذكره المستدلّ هو قولنا : ( اخرج من المحبس إلى المكتب ) بعد النهي عن الخروج عنه ، فمتعلّق الأمر فرد من الخروج المطلق الّذي هو متعلّق النهي ، فيدخل في محلّ الكلام ، فعلى تقدير تسليم ظهور الأمر حينئذ في الوجوب يتمّ استدلاله.

لأنّا نقول : إنّ قولنا : اخرج منه إلى مكان كذا إنّما هو عبارة أخرى عن قولنا : اذهب إلى المكان المذكور بقرينة كلمة ( إلى ) ، فإنّها دالّة على أنّ المراد من الخروج الذهاب ، فتأمّل (١).

__________________

(١) وجه التأمّل : أنّه يمكن أن يكون ذلك على وجه التضمين. لمحرّره عفا الله عنه.

٤٦

ثمّ إنّ المعتبر في اتّحاد موضوعي الأمر والنهي إنّما هو كونهما من سنخ واحد ، سواء اتّحدا في الإطلاق والتقييد أيضا ، أو لا ، لإطلاق كلامهم في محلّ النزاع ، مضافا إلى عدم الفرق بين الصورتين من جهة جريان دليلي المنع والإثبات ، كما سيأتي.

ثمّ الظاهر عموم النزاع بالنسبة إلى النهي الغيري أيضا ، لإطلاق كلامهم ، ولاتّحاد المناط ، وجريان دليل المنع والإثبات في كلّ من النفسيّ والغيري من غير فرق.

وهل يعمّ النهي التنزيهي؟ الظاهر لا ، لأنّه ليس بحظر ، مع أنّه لا معنى لإيراد الأمر عقيبه لإفادة الرخصة ، فإنّها حاصلة قبلها ، إذ معنى التنزيه ذلك ، فلا وجه للخروج عن ظاهر الأمر بمجرّد وقوعه عقيبه.

وليس الغرض في المقام دعوى كون الأمر حينئذ ظاهرا في الإباحة الخاصّة حتى يقال : إنّها غير حاصلة قبلها ، بل إنّما هو إثبات ظهوره في الإباحة بالمعنى الأعمّ ، وهي موجودة في الكراهة ، فافهم.

ثمّ إنّه لا يشترط في المقام ورود الأمر عقيب الحظر بلا فصل زمان ، بل المعتبر وروده عقيبه بحيث لولاه لكان الفعل محظورا عنه ، وإن كان زمان ورود الحظر والنهي قبله بألف سنة.

والحاصل : أنّ المعتبر ورود الأمر بعد ثبوت النهي لمورده.

فإذا عرفت ذلك كلّه فنقول :

الحقّ أنّ وقوع الأمر عقيب الحظر بنفسه موجب لظهور الأمر في توجّهه إلى ارتفاع النهي السابق ، وأنّ المراد منه الرخصة في الفعل ، ظهورا نوعيّا غير مختصّ بمقام دون آخر ، أو بمتكلّم دون آخر ، بحيث يكون بمثابة الوضع في أنّه

٤٧

لو كان المراد به حينئذ غير ما ذكر لكان خلاف ظاهر اللفظ ، ومحتاجا إلى قرينة صارفة عن هذا الظهور النوعيّ العرفيّ ، وكأنّ السرّ في كون الوقوع المذكور موجبا لذلك : أنّه لمّا كان المفروض في المقام التفات كلّ من الآمر والمأمور [ إلى ] النهي (١) السابق ، وعلم الآمر والتفاته إلى التفات المأمور [ إلى ] النهي (٢) السابق ، وأنّ حالته حالة انتظار الرخصة ، فحينئذ لو كان المراد بالأمر غير الرخصة لبعد وروده في تلك الحال.

وهذا نظير ما إذا استأذن ذلك الشخص المنهيّ من الناهي ارتكاب ما نهى عنه بقوله : أفعله؟ فقال : افعل ، فإنّه يمكن إعراضه عن جوابه وإرادة حكم آخر ، إلاّ أنّه بعيد عن ظاهر المقام ، فكما أنّ ذلك يوجب ظهور الأمر في مجرّد الرخصة وصرفه عن الوجوب إليه بلا خلاف أجده ، فكذلك حالة انتظاره للإذن والرخصة مع علم الآمر والتفاته إليها توجب ذلك ، من غير فرق أصلا ، فيكون دلالة الأمر على الرخصة من قبيل دلالة التنبيه والإيماء.

ومنشأ ظهور المقام في ذلك ليس هو الغلبة ، بل إنّما هو ظهور حال الآمر ، فإنّ الظاهر من حاله حينئذ أنّ غرضه إنّما هو رفع الحظر السابق ، فلذا يتحقق ذلك فيمن كان أمره ذلك أوّل أمره الصادر منه بعد الحظر.

وإنّما قلنا بإفادة الأمر حينئذ مجرّد الرخصة ، ـ أعني الرخصة النوعيّة التي [ هي ] جنس للأحكام الأربعة غير الحرمة ـ مع أنّ ارتفاع النهي يمكن بإرادة أحد الأربعة بالخصوص ، من الوجوب ، والندب ، والكراهة ، والإباحة الخاصّة ، لظهور المقام في أنّ المراد بهذا الأمر إنّما هو مجرّد رفع النهي السابق ، فحينئذ لو كان المراد منه أحد الأربعة بالخصوص ، فليس النّظر فيه أصالة إلى رفع النهي

__________________

(١) في الأصل : بالنهي ..

(٢) في الأصل : بالنهي ..

٤٨

السابق وإن كان يرتفع حينئذ تبعا ، بل [ النّظر ](١) إنّما هو إلى إثبات حكم جديد مستقلّ مقابل للحرمة يلزمه تبعا ارتفاع الحظر السابق.

والحاصل : أنّه لمّا كان المقام ظاهرا في توجّه هذا الأمر إلى النهي السابق ، وأنّ الداعي إليه إنّما هو رفعه ، فيكون هو بنفسه حينئذ ظاهرا في مجرّد الرخصة النوعية ، فلو كان المراد به حينئذ أحد الأربعة بالخصوص ، لم يكن هو متوجّها إلى النهي السابق بأن يكون الغرض منه رفعه ، بل يكون الغرض حكما مقابلا للحرمة يلزم من إرادته ارتفاعه تبعا ، فيكون إرادة أحدها بالخصوص مخالفا لظاهر الأمر في المقام.

نعم يمكن إرادة خصوصية أحد الأربعة من الخارج ، بمعنى الدلالة عليها بقرينة خارجيّة ، لعدم المنافاة بين إثبات مجرّد الرخصة في مورد بسبب الأمر ، وبين تعيّنها بعد ذلك في ضمن أحد الأربعة.

وكيف كان ، فالذي نجد من أنفسنا ، ومن العرف في المقام إنّما هو ظهور الأمر حينئذ في مجرّد الرخصة النوعية المتوجّهة إلى النهي السابق ، بحيث لو كان المراد به أحد الأربعة بالخصوص لكان مخالفا لهذا الظهور العرفي للتبادر ، فإنّه كما يثبت به الوضع ، فكذلك يثبت به الظهورات النوعية العرفية (٢) وإن كان مجازيا ، ولا ينبغي أن يشكّ فيه من له أدنى تأمّل وتدبّر ، وكفى به حجّة ودليلا.

حجّة القول بأنّ الأمر حينئذ للوجوب وجوه :

أحدها : أنّ الصيغة موضوعة له ، فلا بدّ من حملها عليه إلى أن يتبيّن

__________________

(١) في الأصل : الغرض.

(٢) فإنّ تبادر معنى خاصّ من اللفظ بواسطة اقترانه بشيء مع قطع النّظر عن سائر خصوصيّات الموارد دليل على أنّ الشيء المذكور قرينة على ذلك المعنى وموجب لظهوره من اللفظ إلاّ أن تقوم قرينة على خلاف ذلك الشيء. لمحرّره عفا الله عنه.

٤٩

المخرج عنه ، ومجرّد وقوعها عقيب الحظر لا يصلح لذلك ، لجواز الانتقال من الحرمة إلى الوجوب ، بأن يكون شيء محرّما إلى زمان ، فيصير واجبا بعد ذلك الزمان ، كما يجوز الانتقال منه إلى الإباحة.

وكيف كان ، فجواز كلّ من الانتقالين على حدّ سواء في نظر العقل ، وليس النهي السابق منافيا للوجوب بعده ، حتّى يصلح وقوع الصيغة للصرف ، كما هو شأن القرينة في المجاز.

والحاصل : أنّ صلوحه للصرف مبني على امتناع الانتقال من أحد الضدّين إلى الآخر ، وهو باطل ، مع أنّه يجري بالنسبة إلى الإباحة أيضا ، فإنّها ضدّ للحرمة أيضا.

ثانيها : أنّه لا كلام عند القائل بكون الصيغة للوجوب أنّ ورودها عقيب الحظر العقلي لا ينافي حملها على الوجوب ، بل يحمل أوامر العبادات الواقعة بعده ـ حيث انّ العقل كان يحكم بالحظر ، نظرا إلى قبح التشريع ـ على الوجوب إلى أن يعلم المخرج عنه.

ثالثها : أنّه أمرت الحائض والنفساء بالصلاة بعد حظرها عليهما ، ولم يتوقّف أحد في حمل هذا الأمر على الوجوب ، وكذا الحال في قوله تعالى : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) (١) وكذا قول المولى لعبده : ( اخرج من المحبس إلى المكتب ) ، بل لا يستفاد منها سيّما المثال الأخير إلاّ الوجوب كالأوامر الابتدائية.

هذا ، ولا يخفى ما في الكلّ من التأمّل بل المنع ، كما يظهر للمتأمّل.

أمّا الأوّل : فلأنّ مبنى القرينة الصارفة ليس على تنافي إرادة الحقيقة معها ، حتّى يدفع ما نحن فيه بأنّه لا منافاة ، بل المدار فيها على كونها بحيث

__________________

(١) التوبة : ٥.

٥٠

تكون إرادة الحقيقة منافية لظاهر القرينة (١) ، وما نحن فيه كذلك بشهادة التبادر عرفا حينئذ بظهور الصيغة بواسطة المقام في رفع الحظر ، فتكون إرادة الوجوب منافية لهذا الظهور.

وأمّا الثاني : فلما أشرنا إليه آنفا من خروجه عن موضوع البحث في المقام ، نظرا إلى تغاير متعلّقي الحظر والأمر ، لامتناع تعلّق الأمر الشرعي بما هو موضوع عند العقل في حكمه بالحرمة والقبح ، فإنّ القبيح عنده كيف يجوز كونه مأمورا به عند الشارع؟!

هذا على تسليم حكم العقل بالحظر في العبادات قبل الأمر الشرعي ، وإلاّ فيمكن منع هذا الصغرى بأنّ حكمه بذلك مسلّم فيما إذا علم بعدم الأمر ، وأمّا إذا احتمله في الواقع فلا يحكم بقبحه وحرمته من باب التشريع لعدم إحراز موضوعه بعد. اللهم إلاّ أن يدّعى أنّ التشريع هو فعل ما لم يعلم كونه من الدين ، وأنّ العقل يحكم بقبح هذا العنوان ، وكلاهما محلّ نظر.

وكيف كان ، فالجواب ما عرفت من خروج ما ذكر عن موضوع البحث (٢).

__________________

(١) وبعبارة أخرى : ليس المدار على التنافي بين إرادة الحقيقة ووجود القرينة ، بل على التنافي بينها وبين ظاهر القرينة ، وهذا موجود في المقام كما عرفت. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) المثال المطابق للمقام قوله صلّى الله عليه وآله : « كنت نهيتكم عن ادّخار الأضاحي ، ألا فادّخروها » (١) ، فهل يجد المصنف من نفسه من هذا الكلام مع قطع النّظر عن الأمور الخارجيّة إلاّ الرخصة فيما نهى صلّى الله عليه وآله عنه أوّلا؟ لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(١) سنن النسائي : ٧ ـ ٢٢٣ ـ ٢٣٥ ، سنن الدارمي : ٢ ـ ٧٩ ، سنن الترمذي : ٤ ـ ٩٤ ـ ح : ١٥١٠ ، صحيح مسلم : ٣ ـ ١٥٦١ ـ ح : ٢٨ وصفحة : ١٥٦٢ ـ ح : ٢٩ و ٣٣ ، سنن ابن ماجة : ٢ ـ ١٠٥٥ ، مسند أحمد : ٢ ـ ٦٣ و ٦٦ و ٨٥ و ٣٨٨ ، وجزء : ٥ ـ ٧٦ و ٣٥٦ سنن أبي داود : ٣ ـ ٩٩ ـ ح : ٢٨١٢ ، وصفحة : ١٠٠ ـ ح : ٢٨١٣. والحديث منقول بالمعنى.

٥١

وأمّا الثالث : فلما عرفت من خروج أمر الحائض والنفساء ، وكذا أمر المولى بالخروج إلى المكتب عن موضوع البحث لسبق الأمر على الحظر في الأوّل ، وأنّ الحظر في زمان خاصّ كان مقيّدا له بذلك ، فيكون ثبوت الوجوب لما بعده بإطلاق ذلك الأمر ، ولاختلاف موضوعهما في الثاني.

وأمّا الأمر بقتل المشركين بعد الأشهر الحرم فكونه للإيجاب إنّما هو لقيام الإجماع عليه ، فيكون هو مخرجا للأمر عن هذا الظهور العرفيّ وصارفا عنه ، وكلامنا إنّما هو في الأمر الواقع عقيبه الحظر بالنظر إلى وقوعه بعده مع قطع النّظر عن سائر القرائن.

ومن هنا نقول : إنّ أمر الحائض والنفساء ، وكذا الأمر بالخروج إلى المكتب على تسليم دخولهما في موضوع النزاع إنّما حملا على الوجوب بسبب القرينة ، وهي الإجماع في الأوّل ، والعلم بمطلوبية الذهاب إلى المكتب في الثاني.

ومن هنا يندفع القول بظهور الأمر حينئذ في الحكم السابق على الحظر ، فإنّه على تقدير تسليمه إنّما هو لأجل القرينة الخاصّة وهي ثبوت الوجوب أو الإباحة قبله ، مع أنّ كون الحكم السابق قرينة على ظهور الأمر حينئذ فيه محلّ نظر.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ حجج الأقوال الأخر إنّما هي دعوى ظهور الأمر حينئذ عرفا فيما صاروا إليه فكلّ يدّعيه على طبق مدّعاه.

وأمّا القائل بالوقف والإجمال : فحجّته أنّه يرى التعادل بين ما يقتضي الحمل على الحقيقة ، وبين ما يقتضي حمله على المجاز فتوقّف.

وجوابه قد علم ممّا سبق ، فإنّ المنصف يجد ظهوره فيما اخترنا دون ما صاروا إليه ، وبهذا الظهور يندفع القول بالوقف ، فإنّ ما يقتضي حمله على الحقيقة مقهور بالنسبة إلى ما يقتضي حمله على المجاز ، فيؤخذ بالثاني ، فلا وجه للتوقّف.

٥٢

ثمّ إنّ الّذي اخترنا بالنسبة إلى ما يكون النهي السابق غير مغيا بزمان ورود الأمر لا إشكال فيه ، وأمّا بالنسبة إليه فالإنصاف أنّه لا يتمشّى فيه الوجه المتقدّم ، لكونه منشأ للظهور ، فإنّ المكلّف عالم حينئذ بعدم النهي بعد ذلك الزمان بمقتضى مفهوم الغاية ، فليس له حالة منتظرة إلى الرخصة حتّى يكون الأمر حينئذ ظاهرا فيها لذلك.

والحقّ أن يقال في وجهه : أنّ ظهوره فيها حينئذ إنّما هو بقرينة المقابلة بمعنى أنّ ذكر الأمر في قبال النهي المغيا قرينة عرفا على أنّ المراد به رفع ذلك النهي وأنّه تأكيد لمفهوم الغاية ، وهذا ظاهر لا إشكال فيه ، إلاّ أنّه فيما إذا كان الأمر متصلا بالنهي أظهر ، فتدبّر.

لا يقال : إنّ هذا القسم خارج عن موضوع البحث ، فإنّ متعلّق النهي وموضوعه هو الفعل المقيّد بقطعة من الزمان ، وموضوع الأمر هو مقيّدا بقطعة أخرى منه ، فاختلف موضوعاهما.

لأنّا نقول : إنّ الغاية قيد للحكم ، والموضوع هو الفعل المطلق ، وكذا موضوع الأمر ، ولو لا ذلك لدخل مفهوم الغاية في مفهوم اللقب المختلف فيه ، وهو باطل بالضرورة.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا ـ من كون التقابل قرينة على ظهور الأمر في رفع النهي ـ يجري في غير النهي التحريمي والأمر أيضا ، كما إذا كان تنزيهيّا ، فإنّه حينئذ وإن لم يكن موجبا لظهوره في الرخصة ـ كما مرّ ـ إلاّ أنّه يوجب الظهور في رفع الكراهة النفسيّة ، فافهم ، بل يجري فيه الوجه المتقدّم أيضا ، فإنّ المكلّف حينئذ وإن لم يكن له حالة منتظرة إلى الرخصة إلاّ أنّ له حالة انتظار رفع الكراهة ، فتدبّر جيّدا.

٥٣

تنبيهات :

الأوّل : هل الحال في النهي الواقع عقيب الأمر كحال الأمر الواقع عقيبه أو لا؟ الظاهر الثاني.

ووجهه : أنّ الرخصة في ترك المأمور به إنّما يقع غالبا بغير صيغة النهي من لفظ ( لا بأس ، ولا حرج ) وأمثالهما ، ووقوعها بها نادر جدّاً ، فهذا يوهن إرادة الرخصة من النهي ، ألا ترى أنّه إذا استأذنك أحد في ترك شيء ، فأردت ترخيصه ، فإنّما ترخّصه غالبا بقولك : ( لا بأس ، ولا حرج ، وليس عليك ) وأمثالها ، وقلّ أن تقول : لا تفعل.

بل الإنصاف أنّا لم نظفر باستعمال (١) النهي فيها ، والنواهي التنزيهية إنّما استعملت في المنع ، ودلّ معها على الرخصة من الخارج ، كما في الأوامر الندبية ، حيث إنّها مستعملة في الطلب ودلّ معها على الرخصة من الخارج ، هذا بخلاف الرخصة في فعل المنهيّ عنه ، فإنّ الغالب مجيئها بلفظ الأمر ، فأنصف وتأمّل ، لئلا يختلط عليك الأمر.

ونحو ذلك النهي التنزيهي الواقع عقيب الأمر الندبي ، والوجه الوجه.

الثاني : أنّهم وإن حرّروا الكلام في الأمر الواقع عقيب الحظر المحقّق ، إلاّ أنّ الظاهر جريانه في الواقع بعد ظنّه أو توهّمه ، والمختار فيه أيضا المختار ، والوجه الوجه ، فإنّ من ظنّ أو توهّم النهي فله حالة انتظار الرخصة جدّاً.

الثالث : أنّ الّذي مرّ كان على القول بكون صيغة الأمر للوجوب ، لكن

__________________

(١) في الأصل : على استعمال.

٥٤

الإنصاف جريان الكلام على كونها لمطلق الطلب أو الندب ، والمختار حينئذ أيضا المختار ، والوجه الوجه ، والله الهادي إلى سواء الطريق.

السادسة (١) : قال صاحب المعالم ـ قدّس سرّه ـ بعد اختياره أن صيغة الأمر للوجوب.

فائدة : يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة ـ عليهم [ الصلاة و ](٢) السلام ـ أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي ، فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم ـ عليهم السلام (٣) ـ.

قال ـ دام ظله ـ ووافقه في ذلك صاحب الذخيرة (٤) والمشارق (٥) ، ثم قال : لا يخفى أنّه جمع في كلامه بين وصفين متضادّين ، وهما التساوي والرجحان ، فلا بدّ أن يكون متعلّقاهما متغايرين ، ومن المعلوم بمقتضى صريح العبارة أنّ متعلّق الأوّل هو احتمال الإرادة من اللفظ ، فحينئذ يحتمل أن يكون متعلّق (٦) الثاني هو الحقيقة بحسب الاستعمال ، فيكون قوله : ( المساوي احتمالها ) صفة بعد صفة للمجازات ، ويحتمل أن يكون سائر المجازات ، يعني الراجحة على سائر

__________________

(١) أي ( الفائدة السادسة ) على ما جاء في هامش الأصل.

(٢) أثبتنا ما بين المعقوفين من المصدر ، ولم يرد في الأصل.

(٣) المعالم : ٤٨ ـ ٤٩.

(٤) ذخيرة المعاد : ٣.

(٥) مشارق الشموس آخر صفحة : ١٢.

(٦) أي الملحوظ فيه ، فإنّه أمر إضافيّ لا بدّ من ملاحظته بين أمرين : فأحد طرفيه إمّا هو المجاز ، وطرفه الآخر المعبّر عنه بالمرجوح : إمّا الحقيقة من حيث الاستعمال ، أو سائر المجازات من حيث الاستعمال ، أو الاحتمال ، أو مطلقا. لمحرّره عفا الله عنه.

٥٥

المجازات ، فيكون غرضه أنّه صار مجازا مشهورا ، وحينئذ يحتمل أن يكون قوله : ( المساوي ) صفة بعد صفة حقيقة احترازا عن بعض أقسام المجاز المشهور.

وعلى هذا فيكون ذلك تنبيها ضمنا على أنّه ليس مطلق المجاز المشهور مما يتوقّف بينه وبين الحقيقة ، بل هذا مختصّ بما إذا كان احتماله مساويا لاحتمال الحقيقة ، فعلى هذا يستفاد أنّ مذهبه في المجاز المشهور ليس التوقّف مطلقا ، ويحتمل أن يكون حكما للمجاز المشهور ، لا قيدا احترازيّا وإن كان قد أتي به بصورة الوصف ، فيكون غرضه التنبيه ضمنا على أنّ حكم المجاز المشهور مطلقا ذلك ، ويكون غرضه الأصلي من أخذ هذا الوصف في كلامه جعله برهانا على مطلبه ، وهو قوله : ( فيشكل إلى آخره ) ، فيكون ذلك قياسا ، وهذا نتيجة له ، فتصير الاحتمالات ثلاثة ، ولا يبعد أن يكون المراد الأخير.

أقول : بل أربعة ، إذ على الشقّ الأوّل ، وهو ملاحظة الرجحان بالنسبة إلى الحقيقة يمكن أن يكون قوله : ( المساوي ) وصفا حقيقة ، كما هو مقتضى ظاهره ، وأن يكون حكما جيء به بصورة الوصف أخذا له قياسا لمطلبه ، وأيضا المجاز الراجح على الحقيقة من حيث الاستعمال قسم من المجاز المشهور ، لا قسيم له ، فيكون غرضه دعوى كون الصيغة مجازا مشهورا في الندب ، ولازم المجاز المشهور أيضا بجميع أقسامه كونه راجحا على سائر المجازات من حيث الاستعمال ، وإلاّ لم يسمّ به اصطلاحا :

أمّا على تقدير عدم رجحانه عليها أصلا فواضح.

وأمّا على تقدير رجحانه عليها من حيث الاحتمال إذا لم يكن مسبّبا عن أكثرية الاستعمال فلأنّه حينئذ يسمّى بأظهر المجازات لا مشهورها ، فافهم.

وقد أجاد بعض المحققين من المتأخّرين (١) فيما علّقه على المعالم حيث

__________________

(١) وهو المحقّق الشيخ محمد تقي (ره) في هدايته : ١٥٢ ـ ١٥٣.

٥٦

فسّر قول المصنف : بأنّ مقصوده كون الصيغة مجازا مشهورا في الندب.

وكيف كان فعلى جميع التقادير غرضه دعوى كثرة استعمال الصيغة في الندب مجازا إلى حدّ أوجب تساوي احتماله منها مجرّدة عن القرينة لاحتمال الوجوب ، ومقتضاه التوقّف.

ثمّ إنّ أوّل من ورد على تلك العبارة وأورد عليها هو سلطان العلماء ـ قدّس سرّه ـ فيما علّقه على المعالم ، قال :

( أقول : شيوع الاستعمال في الندب مع القرينة (١) لا يستلزم تساوي الاحتمالين في المجرد عن القرينة.

نعم إن ثبت شيوع الاستعمال بدون القرينة الصارفة ، بان يكون استعمالهم فيه مطلقا ، ويعلم بدليل منفصل أنّ مرادهم الندب ، فلا يبعد ما ذكر ، وكان (٢) هذا مراد المصنف ، لكن إثبات مثل هذا الشيوع لا يخلو عن إشكال ، فتدبّر ) (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

قال ـ دام ظله ـ : وكأنّ وجه الفرق عنده بين كثرة الاستعمال مع القرينة المتّصلة وبينها مع المنفصلة زعم أنّ المستعمل في الأوّل هو اللفظ مع القرينة لا اللفظ وحده ، بخلاف الثاني ، فإنّه فيه اللفظ وحده ، فعلى هذا يتمّ الفرق ، فإنّ تساوي الاحتمالين إنّما يتسبّب من حصول استئناس بين اللفظ والمعنى المجازي بسبب شيوع استعماله فيه في نظر المخاطب ، فيعادل استئناسه الحاصل بينه وبين المعنى الحقيقي من جهة الوضع ، وهذا إنّما يتمّ في المقام على تقدير كون المستعمل اللفظ وحده ليحصل الاستئناس بين نفس هذا اللفظ وبين المعنى المجازي ،

__________________

(١) يعني القرينة المتصلة. [ لمحرّره عفا الله عنه ].

(٢) الظاهر أنّ الصحيح : كأنّ ...

(٣) معالم الدين ، هامش صفحة : ٤٨.

٥٧

حتى يكون ذلك منشأ لتساوي الاحتمالين عند فقد الأمور الخارجيّة المعيّنة للمراد منه إذا ورد مطلقا.

هذا بخلاف ما إذا كان المستعمل اللفظ مع القرينة ، بأن تكون هي جزء منه ، فإنّ شيوع استعمال المركّب في معنى لا يوجب حصول الاستئناس بين أحد جزئيه وبين ذلك المعنى.

ألا ترى أنّه لو شاع استعمال قولك : ( ضارب زيد ) مثلا في ( عمرو ) غاية الشيوع ، بل إلى حيث بلغ مرتبة النقل ، فذلك لا يستلزم تساوي إرادة ( عمرو ) من ( الضارب ) وحده ، أو من ( زيد ) كذلك لإرادة كلّي الضارب ، أو الشخص المخصوص المسمّى بزيد.

وكيف كان ، فالنسبة بين المركّب وجزئه كالنسبة بين المفردين هي التباين ، فلا يلزم من حصول وصف للمركّب حصوله لجزئه.

والحاصل : أنّ شيوع الاستعمال إنّما يوجب الاستئناس [ بين ](١) المستعمل وبين المعنى المستعمل فيه ، فإن كان هو المركّب فهو حاصل بين مجموع الأجزاء وبين المعنى المستعمل فيه اللفظ لا غير ، فإذا فرضنا أنّ المستعمل في الندب ليست الصيغة وحدها ، بل هي مع القرينة فلا استئناس بينها وبين الندب حتّى يوجب تساوي احتماله [ مع ] احتمال (٢) الوجوب عند تجرّدها عن القرينة.

ثمّ قال دام ظلّه : وهذا الفرق على تقدير كون القرينة جزء من المستعمل في غاية المتانة ، إلاّ أنّ الظاهر خلافه ، فإنّ الظاهر أنّها شرط دلالة اللفظ على المعنى المجازي ، لا جزء من المستعمل ، فالمستعمل هو اللفظ وحده.

ثمّ الظاهر إمكان بلوغ كثرة الاستعمال مع القرينة المتّصلة إلى حدّ

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) في الأصل : لاحتمال.

٥٨

أوجب الاستئناس بين اللفظ والمعنى المجازي بحيث يمكن معه اعتماد المتكلّم في تفهيم المعنى المجازي على نفس مثل هذه الشهرة ، إلاّ أنّ الفرق بينها وبين المنفصلة أنّ الثانية أقرب من الأولى من حيث السببية للاستئناس بين اللفظ والمعنى المجازي ، حيث إنّه يحصل معها الاستئناس المذكور بعدّة استعمالات كذلك ، بخلاف الأولى لاحتياجها إلى البلوغ في الكثرة غايتها.

لا يقال : كيف يمكن كون الأولى سببا لذلك مع أنّه ليس في الألفاظ المجازية أكثر استعمالا من لفظ الأسد في الرّجل الشجاع ، فإنّه قد بلغ استعماله فيه مع القرينة المتّصلة في كلّ عصر إلى حدّ لا مزيد عليه ، ومع ذلك لو أطلق مجرّدا عنها لا نرى أحدا يتوقّف بين إرادة المعنى المجازي أو الحقيقي ، بل يحملونه حينئذ على حقيقته بلا تأمّل وتوقّف؟!

لأنّا نقول : إنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي كثيرا ـ سواء كان بالقرينة المتّصلة أو المنفصلة ـ إنّما يوجب تساوي الاحتمالين إذا تحقّق من مستعمل واحد ، ونحن نمنع بلوغه في لفظ الأسد بالنسبة إلى كلّ المستعملين أو بعضهم إلى هذا الحدّ ، بل لو تأمّلت استعماله بالنسبة إلى آحاد الناس تجده قليلا غاية القلّة ، فتدبّر.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم دفع ما ذكره السلطان ـ من منع بلوغ استعمال الأمر مع القرينة المنفصلة في الندب إلى حيث يوجب تساوي الاحتمالين في اللفظ المجرّد ـ : بأنّه لا شبهة ولا ريب أنّا بعد ما لاحظنا الأوامر المطلقة المجرّدة عن القرينة نجد أكثرها أنّ المراد بها الندب بقرينة الإجماع ، أو بدليل آخر ، بحيث يكون ما كان المراد به الندب ضعف ما كان المراد به الوجوب ، بل أضعافه ، فثبت شيوع استعمال صيغة الأمر مجرّدة عن القرينة المتّصلة في الندب.

لكنه مدفوع أوّلا : بأنّ العلم بكون المراد بأكثرها هو الندب لا يستلزم استعمالها فيه بلا قرينة متّصلة ، بل يحتمل أن يكون معها قرائن متّصلة بها تفهم

٥٩

المخاطبين ، واختفت علينا ، مع أنّ الاجتماع إنّما هو قرينة بالنسبة إلينا لا إليهم ، فلا بدّ أن تكون شيئا آخر غيره بخطاب آخر متأخّر عن ذلك الأمر مقرون بوقت الحاجة.

وثانيا : بأنّ العلم بكون المراد بأكثرها الندب ممنوع ، فإنّ المسلّم أنّ المندوبات أكثر من الواجبات ، لكن لا ريب أنّ أكثر المندوبات إنّما ثبتت بقاعدة التسامح ، ولا ريب أنّ الحكم بالندب فيما إذا ورد أمر من جهة تلك القاعدة ليس راجعا إلى حمل اللفظ عليه ، بل إنّما هو حينئذ حكم على طبق الندب ، لا على أنّ المراد بالأمر ذلك ، فلذا تجري تلك القاعدة فيما إذا علمنا أنّ ذلك الأمر على تقدير صدوره لم يكن معه قرينة أصلا ، وكيف كان فمهما ضعف خبر سندا أو من حيث وجه الصدور ـ وبعبارة أخرى : لم يكن جامعا لشرائط الدليليّة ـ فحكمهم حينئذ بالندب من باب التسامح ، لا من باب حمل الأمر حينئذ على الندب ، وشتّان ما بينهما.

وكيف كان ، فالإنصاف عدم تحقّق شيوع استعمال صيغة الأمر في الندب بكلا قسميه (١) ، لما عرفت من الجواب عن التّوهم المذكور.

ولو سلّمنا تحقّقه في الجملة فهو إنّما بالنسبة إلى استعمالات مجموع الأئمة عليهم السلام وهو لا يجدي.

فإن قيل : إنّ مجموعهم عليهم السلام في حكم متكلّم واحد ، فيكون الشيوع من المتكلّم الواحد.

قلنا : كونهم عليهم السلام في حكم شخص واحد إنّما هو من جهة أنّ بعضهم لا يخالف قوله قول الباقين ، بل أقوالهم وآراؤهم متّحدة ، وأمّا من جهة أنّ ما استعمله بعضهم استعمله الآخرون فممنوع.

__________________

(١) أي سواء كان مع القرينة المتصلة أو المنفصلة. لمحرّره [ عفا الله عنه ].

٦٠