تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

أصالة البراءة العقلية ، بل تثبت هي أيضا الجواز في مرحلة الظاهر كالاستصحاب.

وبالجملة : العلم الإجمالي إنّما يوجب تنجّز الواقع على المكلّف على سبيل لزوم موافقته القطعية إذا لم يكن في بعض أطرافه مرخّص شرعي أو عقلي ، وأمّا معه ـ كما هو الحال في المقام ـ فلا يقتضي أزيد من عدم جواز مخالفته القطعية ، فيختصّ إيجابه للموافقة القطعية بما إذا كانت الأصول متعارضة في أطرافه ، فافهم.

والحاصل : أنّ التكليف بتحصيل غرض الامتثال لا يتنجّز على المكلّف لعدم بيانه ، فإن كان الغرض الواقعي هو ذلك فلا تكليف على المكلّف أصلا لعدم بيانه.

نعم لو كان هو نفس الفعل فهو منجّز عليه لبيانه بالفرض ، فلزوم الإتيان به حينئذ لأجل كونه منجّزا على المكلّف وموجبا لاستحقاق العقاب عليه على تقدير كونه هو الغرض الواقعي ، فيلزم العقل بلزوم الإتيان به لذلك.

وكيف كان ، فالحقّ في مقام الشكّ في تعبّدية وجوب شيء أو توصّليته بالنظر إلى الأصول العملية هو الحكم بالتوصّلية ، لما عرفت.

وأمّا المقام الثالث : فقد ذهب فيه جماعة إلى أنّ الحاصل ـ المستفاد من عمومات الكتاب والسنّة ـ هي التعبّدية ، زاعمين دلالة بعض الآيات والأخبار على ذلك :

فمن الآيات قوله تعالى ـ حكاية عن تكليف أهل الكتاب ـ : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(١) الآية ، أي ما امر أهل الكتاب في كتبهم ( إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ ) الآية.

__________________

(١) البيّنة : ٥.

٣٤١

وقد نسب الاستدلال إلى العلاّمة ـ قدّس سرّه ـ في النهاية (١) لكن المحكيّ من كلامه عن المنتهى مخالف لذلك فإنّه ـ (قدّس سرّه) على ما حكي عنه في المنتهى (٢) ـ استدلّ (٣) بها على اشتراط العبادة بنيّة القربة قبالا لأبي حنيفة ـ خذله الله تعالى ـ القائل بعدم اشتراط الوضوء بها ، وليس في مقام إثبات أصل كلي يعوّل عليه عند الشكّ.

وكيف كان ، فيمكن الاستدلال بها من وجهين ـ على إثبات أصالة التعبّدية في أوامر أهل الكتاب ، ثم إثبات هذا الحكم في شريعتنا : إمّا بالاستصحاب بناء على اعتباره في الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة ، وإمّا بمقتضى قوله تعالى في آخر الآية : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(٤) ، فإنّ المشار إليه بقوله : ( وَذلِكَ ) هو ما استفيد من صدر الآية من الحكم ، ومعنى ( القيِّمة ) ـ كما فسَّرها المفسرون ـ ( المستقرّة ) التي لا تنسخ وهي صفة لمحذوف ، أي وذلك دين الملّة القيّمة ـ :

الوجه الأوّل : بالنظر إلى قوله تعالى : ( لِيَعْبُدُوا ) ، وتقريب الاستدلال على ذلك :

أنّ العبادة هي الإتيان بالفعل على وجه الإخلاص المرادف للامتثال ، واللام في ( ليعبدوا ) للغاية ، كما يظهر عن بعض في مقام الاستدلال بالآية على خلاف الأشعري القائل بالجزاف في أفعال الله ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ فيكون المعنى : أنّه ما أمر أهل الكتاب بشيء لغاية وغرض من الأغراض إلاّ

__________________

(١) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٧٦ ، والموجود فيها مطابق لما في المنتهى.

(٢) منتهى المطلب : ١ ـ ٥٤.

(٣) في الأصل : انّه استدلّ ..

(٤) البيّنة : ٥.

٣٤٢

لغرض الامتثال والإخلاص ، فتدلّ الآية على انحصار الغرض فيما أمروا به في الامتثال عموما بالنسبة إلى جميع ما أمروا به ، نظرا إلى وقوع الجنس ـ وهو اللام ـ في حيِّز النفي المفيد للعموم فإذا ثبت ذلك الحكم العامّ في حقّهم ثبت في حقّنا بأحد الأمرين المتقدّمين ، فيكون الأصل في واجباتنا أيضا هو التعبّدية إلاّ ما أخرجه الدليل.

وكيف كان ، ففي هذا الوجه يكون قوله تعالى : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) حالا مؤكّدة لقوله : ( لِيَعْبُدُوا ) لتضمّن العبادة على هذا الوجه للإخلاص.

الوجه الثاني : بالنظر إلى قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ، وتقريب الاستدلال به :

أنّ المراد بالدّين هنا إمّا القصد ، وإمّا نفس الأعمال والأفعال بعلاقة السببية والمسببية بينها وبين الجزاء الّذي هو أحد معانيه ، وعلى التقديرين يتمّ به المطلوب ، فإنّه حال من قوله تعالى : ( لِيَعْبُدُوا ).

وعلى تسليم عدم تضمّنه للإخلاص ـ بأن يكون المراد بالعبادة مطلق الإتيان بالفعل المأمور به ـ فيكون مقيّدا بالإخلاص المستفاد من هذا القيد لا محالة.

وعلى تقدير كون المراد بالدّين القصد يكون المعنى : وما أمروا إلاّ لأن يأتوا بما أمروا به على وجه إخلاص القصد فيه ، وعلى تقدير كون المراد به الأعمال يكون المراد : وما أمروا إلاّ لأن يأتوا بما أمروا به على وجه الإخلاص في العمل ، ولا ريب أنّ إخلاص القصد في العمل أو إخلاص نفس العمل لا يكون إلاّ بالإتيان بالمأمور به على وجه التقرّب والامتثال لأمر الآمر.

وكيف كان فالآية تدلّ على لزوم الإتيان بالمأمور به على وجه الإخلاص إمّا باستفادته من قوله : ( لِيَعْبُدُوا ) بناء على تضمّنه له ، وإمّا باستفادته من

٣٤٣

القيد وحده ، والإخلاص لا يكون إلاّ بالإتيان بالمأمور به بداعي الامتثال لأمر الآمر.

هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال بالآية ، لكن لا يخفى على المتفطّن ضعفه :

أمّا على الوجه الأوّل : فلأنّ الظاهر بملاحظة نظائر الآية كون اللام في ( لِيَعْبُدُوا ) من اللام الداخلة على مفعولي الأمر والإرادة كقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ )(١) ، ( وَيَهْدِيَكُمْ* ) (٢)(٣) ، وقوله تعالى : ( أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ )(٤) ، ( وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ )(٥) ، ( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ )(٦) ، و ( أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ )(٧) ، حيث إنّ اللام فيه مقدّرة قبل ( أن ) ، فيكون مدخولها هو المفعول به للفعل السابق عليها ، فتكون العبادة نفس المأمور به لا غايته.

هذا مضافا إلى شهادة عطف ( يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ )(٨) عليه ، كما يؤذن به حذف النون منهما ، فإنه لو جعل اللام في ( ليعبدوا ) للغاية لما صحّ عطف هذين عليه ، فإنّهما نفس المأمور به ، لا الغاية له الخارجة عنه.

__________________

(١) الأحزاب ، آية : ٣٣.

(٢) في الأصل : ( وليهديكم ). ، ولم نعثر على آية بهذا النصّ ، ولكن يوجد ما هو قريب منها ، وهو قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) النساء : ٢٦.

(٣) الأنعام : ٧١.

(٤) الزمر : ١٢.

(٥) الشورى : ١٥.

(٦) الزمر : ١١.

(٧) البيّنة : ٥.

٣٤٤

وبالجملة : اللام هنا غاية للأمر ، فيكون مدخولها نفس المأمور به كما في نظائره من الآيات ومن الأمثلة العرفية ، كما يقال : اؤمر عبدك ليفعل كذا ، أو أمرتك لتفعل كذا ، ونظيره في الفارسية قولهم : بفرما تا آب بياورند ، حيث إنّ الإتيان بالماء نفس المأمور به.

لا يقال : إنّ الاستدلال ليس مبنيّا على جعل اللام غاية للمأمور به بل يتمّ على تقدير كونها غاية للأمر أيضا ، فإنّ معنى الآية على هذا التقدير : أنّه ما امر أهل الكتاب إلاّ بالعبادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فتدلّ الآية على أنّه لم يتوجّه إليهم من الله تعالى أمر إلاّ بالعبادة ، فيكون كلّ ما أمروا به مأمورا به بعنوان كونه عبادة ، ويكون عطف ( يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ) عليه من عطف الخاصّ على العامّ ، ويكون النكتة في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من أفراد العامّ التنبيه على أنّهما عمدتها ، كما ورد بذلك الأخبار أيضا ، فيتمّ المطلوب.

لأنّا نقول : إنّ كون ذلك من عطف الخاصّ على العامّ إنّما يصحّ بعد التنبيه على اعتبار قصد الامتثال في المعطوف أيضا ليعلم فرديته للعامّ ، ومن المعلوم أنّه لا دلالة في الآية على كيفية الصلاة والزكاة من جهة قصد الامتثال ، وإنّما المستفاد منها وجوب الإتيان بأنفسهما مع السكوت عن كيفيتهما ، فيكونان مع ذلك أجنبيّين عن المعطوف عليه ، فتأمّل.

هذا كلّه مضافا إلى منع دلالة الآية على اعتبار التعبّد والامتثال على وجه القيدية فيما امر به أهل الكتاب على تسليم كون اللام لغاية المأمور به ، فإنّ غاية ما يدلّ عليه حينئذ : أنّ كلّ ما أمروا به يكون الغاية المقصودة منه هي العبادة والامتثال ، ومن الواضح أنّ غائية شيء لشيء على وجهين :

أحدهما ـ أن يكون الغاية حقيقة نفس ذلك الشيء ، ويكون المطلوب من الأمر بذي الغاية تحصيل نفس ذلك الشيء ، كما في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء والغسل.

٣٤٥

وثانيهما ـ أن يكون الغاية كون ذي الغاية لطفا في ذلك الشيء ، فيكون الغاية حقيقة كونه لطفا في ذلك الشيء ، لا نفس ذلك الشيء ، كما في التجنّب عن الفحشاء والمنكر بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّ فعلها لطف في التجنّب عنهما.

والاستدلال يتمّ على تقدير كون العبادة غاية لما أمروا به على الوجه الأوّل ، وأما على الثاني بأن يكون الأمر بسائر الواجبات لأجل كونها ألطافا في العبادة ومقرّبة إليها ، فلا.

ولا ظهور للآية في الأوّل إن لم نقل بظهورها في الثاني ، نظرا إلى عطف ( يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ )(١) على ( لِيَعْبُدُوا ) ، إذ حينئذ يجب أن يكون إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أيضا غايتين لما أمروا به ، ولا ريب أنّه لا

يعقل كونهما غايتين لما أمروا به إلاّ على الوجه الثاني ، ضرورة أنّ فعل الصلاة والزكاة لا يحصلان بفعل غيرهما من الواجبات ، بل الممكن حصوله منها إنّما هو حالة التقرّب إليهما ، وقد ذكر جماعة أنّ بعض الواجبات الشرعية لطف في بعضها الآخر كما أنّ كلّها ألطاف في الواجبات العقلية ، فيكون المراد أنّ واجباتهم ـ توصّلية كانت أو تعبدية ـ ألطاف في العبادة ، لا أنّ كلّ ما أمروا به عبادة.

ومع الإغماض عن ذلك كلّه نقول : إنّ الاستدلال مبنيّ على أن يكون المراد بالعبادة في الآية هو فعل الجوارح بقصد الطاعة الّذي يتعلّق به التكليف الفرعي ، ومع تسليم ظهورها في هذا المعنى في نفسها ـ كما هو ليس ببعيد ، نظرا إلى أنّ معناه بالفارسية : ( بندگى كردن ، وفرمانبري ) ، وهذا من فعل الجوارح ـ يمنع من كون المراد منها ذلك في الآية ، بل الظاهر أنّ المراد بها اتخاذ الله تعالى ربّا ، وتوحيده في المعبودية ، ونفي الشريك عنه في مقابل عبادة الأوثان والأصنام ، حيث إنّ المشركين عبدوها وجعلوها شفعاء عند الله ، كما ينادي به قوله تعالى حكاية

__________________

(١) البيّنة : ٥.

٣٤٦

عنهم : ( لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى )(١) ، وذلك لكثرة إطلاقها على هذا المعنى في الكتاب العزيز ، كما في الآيات المتقدّمة الإشارة إليها المذكور فيها لفظ العبادة ، وكما في قوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ )(٢) ، وقوله : ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )(٣) ، وقوله : ( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ )(٤) ، وقوله : ( لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ )(٥) ، بل ولم نقف على موضع من الكتاب يراد بها غير هذا المعنى.

وبالجملة : فهذه الآية مساوقة لسائر الآيات المذكورة فيها لفظ العبادة جدّاً ، فيكون المراد بها بملاحظة اتّحاد السياق هو نفي الشرك وتخليص العبوديّة لله تعالى ليطاع وحده (٦) ، لا أنّ كلّ ما أمرهم به طاعة ، كما هو الحال في أخواتها أيضا ، فالمراد بالعبادة في الآية هو التوحيد الّذي هو أسّ أصول الدين ، كما أنّ الصلاة والزكاة المعطوفتين عليها من أسّ فروعه (٧).

وعلى هذا يصحّ جعل اللام في ( لِيَعْبُدُوا ) لغاية المأمور به على الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين ، فيكون المراد : أنّه لم يؤمر أهل الكتاب بشيء إلاّ لأجل كونه لطفا في التوحيد الّذي هو من أصول الدين ، وفي الصلاة والزكاة اللتين هما

__________________

(١) الزمر : ٣.

(٢) الزمر : ٢.

(٣) الكهف : ١١٠.

(٤) الزمر : ١٥.

(٥) الكافرون : ٢ و ٣.

(٦) في الأصل : ليطاع له وحده ...

(٧) فالآية مشتملة على أمّ المسائل الإلهية والأحكام الشرعية الفرعية ، وهي وجوب الصلاة والزكاة ، كما أنّه تعالى جمع بين التوحيد وبين حقوق الوالدين في قوله : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ). [ الإسراء : ٢٣ ] لمحرّره عفا الله عنه

٣٤٧

من فروعه ، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل الحصر على الإضافي ، كما لا يخفى.

كما أنّه جعلها (١) غاية للأمر ـ بأن يكون مدخولها نفس المأمور به ، فيكون المراد أنّهم لم يؤمروا بشيء من الأصول والفروع إلاّ بهذه الأمور ، ـ فيكون الحصر إضافيا ، ضرورة عدم انحصار ما أمروا به فيها ، ويكون النكتة في إيراد الكلام على الوجه المفيد للحصر التنبيه على كون تلك الأمور عمدة أصول الدين وفروعه ، كما ورد في الصلاة : ( أنّها عمود الدّين إن قبلت قبل (٢) ما سواها ، وإن ردّت ردّ (٣) ما سواها ) (٤).

هذا تمام الكلام في بيان ضعف الاستدلال على الوجه الأوّل.

وأما ضعفه على الوجه الثاني فظاهر للمتأمّل فيما تقدّم منّا في الأوّل.

وتوضيحه : أنّه بعد قيام القرينة على كون المراد بالعبادة في ( لِيَعْبُدُوا ) هو نفي الشرك واتخاذ الله وحده معبودا ، لا مناص عن حمل لفظ الدّين في قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(٥) على الطريقة والملّة ، وذلك لأنّ الدّين له ثلاثة معان :

أحدها ـ الجزاء ، كما في قوله تعالى : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )(٦).

وثانيها ـ القصد.

وثالثها ـ الطريقة والملّة ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ

__________________

(١) أي : كما أنه يصحّ جعلها ..

(٢) في الأصل : قبلت ما سواها ..

(٣) في الأصل : ردّت ما سواها.

(٤) الوسائل : ٣ ـ ٧٨ ـ أبواب المواقيت ـ باب وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها ـ ح : ٢ و ١١ ، والحديث منقول بالمضمون.

(٥) البينة : ٥.

(٦) فاتحة الكتاب : ٣.

٣٤٨

الْإِسْلامُ )(١).

لا سبيل إلى حمله على الأوّل ، لأنّ الجزاء من فعل الله تعالى ولا يمكن لأحد إخلاصه ، مع أنّه غير مجد للمستدلّ ، ولا يقول هو به أيضا.

وكذا لا سبيل إلى الثاني إن حمل إخلاصه على معنى قصد القربة ـ كما هو المجدي للمستدلّ ـ لأنّ شأن الحال كونها مقيّدة للعامل في ذيها ، فيكون مقتضى حمله عليه أن يكون المراد ـ بعد كون المراد بالعبادة هو نفي الشرك واتخاذه تعالى معبودا وحده ـ أنّه وما أمروا إلاّ ليوحّدوا الله تعالى بالمعبوديّة (٢) مخلصين له القصد في التوحيد ، أي قاصدين القربة فيه ، وهذا لا معنى له ، إذ لا يمكن اعتبار قصد القربة في أصول العقائد كما لا يخفى (٣).

فتعيّن حمله على الثالث ، فيكون المراد : مخلصين له الملّة ، فيكون عبارة أخرى عن التوحيد ، فيكون حالا مؤكّدة لقوله : ( لِيَعْبُدُوا ) ، ولا دخل له بمرحلة اعتبار قصد القربة.

نعم يمكن أن يكون المراد به الأعمال وأفعال الجوارح بعلاقة السببية والمسبّبية بينها وبين الجزاء ـ كما مرّ ـ كما في قولهم : ( كما تدين تدان ) (٤) أو الاتّباع كما في قوله تعالى ( وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ )(٥) ، حيث إنّ المراد بقوله ( يَدِينُونَ )

__________________

(١) آل عمران : ١٩.

(٢) في الأصل : للمعبوديّة ..

(٣) نعم يمكن أن يكون المراد به القصد على معنى قصد العبودية لله تعالى ، لكنّه لا ينفع المستدلّ ، لأنّه عبارة أخرى عن العبادة بالمعنى الّذي ذكرنا. لمحرّره عفا الله عنه.

(٤) مجمع الأمثال لأبي الفضل النيسابوري : ٢ ـ ١٥٥ ، رقم المثل : ٣٠٩٣.

(٥) التوبة : ٢٩.

٣٤٩

يتبعون ، والمراد بدين الحقّ ملّته ، أي لا يتّبعون ملّة الحقّ ، ولعلّه مجاز عن القصد ، مع إمكان أن يراد به في المثال المذكور القصد نفسه ، أي لا يقصدون دين الحقّ ، لكن لا شاهد على حمله على الأوّل لكونه معنى مجازيا لا يصار إليه إلاّ لقرينة ظاهرة ، وأمّا الثاني فهو عبارة أخرى عن العبودية ، فيكون المراد على تقديره نفي الشريك عنه تعالى في مقام العبودية له ، فيتّحد مفاده [ مع ] صدر الآية (١) ، ويؤكّده كتأكيده إياه على تقدير إرادة الملّة منه ، كما هو الظاهر من سياق الآية وملاحظة نظائرها المشتملة على لفظ الدّين ، كقوله تعالى : ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )(٢) بعد أمره تعالى نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بنفي الشريك وإخلاص العبودية له ـ [ تعالى ] ـ بقوله [ تعالى ] : ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ )(٣) إلى آخر السورة.

وبالجملة : فمن تأمّل حقّ التأمّل يرى أنّ لفظ ( العبادة ) الوارد في الكتاب العزيز يراد به ما ذكرنا ، وأنّ المراد بلفظ ( الدين ) ـ الوارد في تلوه ـ معنى (٤) الملّة.

هذا كلّه مضافا إلى أنّا لو سلّمنا تمامية دلالة الآية وظهورها في اعتبار قصد القربة والامتثال في كلّ ما امر به أهل الكتاب بأحد الوجهين المتقدّمين أو بكليهما ، لا يمكن الأخذ بظهورها هذا ، لأنّ إرادته مستلزمة لتخصيص الأكثر ، كما لا يخفى ، لأنّ أكثر الواجبات في كلّ شريعة توصّلية جدّاً ، بل التعبّدية منها لقلّتها مضمحلّة في جنب التوصّلية منها ، فيستهجن إرادة اعتبار قصد التقرّب

__________________

(١) في الأصل : لصدر الآية ..

(٢) سورة الكافرون : ٦.

(٣) سورة الكافرون : ١ و ٢.

(٤) في الأصل : بمعنى ..

٣٥٠

المختصّ بهذا المقدار القليل بطريق عموم اللفظ للجميع ، ولا يتمّ الاستدلال بالآية لإثبات اعتبار قصد القربة في واجبات أهل الكتاب ، فكيف بإثبات اعتباره في شريعتنا؟!.

ومع الإغماض عن لزوم تخصيص الأكثر بالنسبة إلى واجباتهم وتسليم تمامية الآية في الدلالة على اعتبار قصد القربة في واجباتهم عموما لا يمكن إثبات هذا الحكم بعمومه بالنسبة إلى شريعتنا ، لاضمحلال الواجبات التعبّدية ، في جنب التوصلية في واجباتنا جدّاً ، وبدونه لا تثبت أصالة التعبّد في شريعتنا ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ تعرّض للآية في تنبيهات رسالته الاستصحابية (١) ، وأجاب عن الاستدلال بها : بأنّ المراد بها نفي الشريك.

ثمّ قال بعد تسليم تمامية دلالتها على المطلوب بالنسبة إلى الشرائع السابقة ما حاصله : أنّ الآية تدلّ على اعتبار قصد القربة في الأفعال الواجبة على أهل الكتاب ، ومقتضى ثبوت هذا الحكم في شريعتنا ـ أيضا إما بالاستصحاب وإما بقوله : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(٢) ـ أنّا لو كنّا مأمورين بتلك الأفعال الخاصّة الواجبة عليهم لوجب علينا قصد القربة والامتثال فيها أيضا ، وأين هذا من وجوبه في كلّ ما يجب علينا حتى تثبت أصالة التعبّد فيما وجب علينا كما هو المطلوب؟! انتهى.

قال ـ دام ظله ـ : لكن الإنصاف اندفاعه بأنّ الظاهر من المستدلّ بالآية جعل اللام في ( لِيَعْبُدُوا ) لغاية المأمور به مع حذف نفس المأمور به عن الكلام ، فيكون المراد على هذا ـ كما مرّ بيانه أيضا ـ أنّه لم يتوجّه إلى أهل الكتاب أمر

__________________

(١) رسائل الشيخ الأنصاري ( قدّه ) ، التنبيه الخامس : ٦٥٧.

(٢) سورة البيّنة : ٥.

٣٥١

من الله تعالى بشيء لغرض وغاية من الغايات إلاّ لغاية العبادة ، فحينئذ يكون النّظر في الكلام بقرينة حذف المفعول به إلى جهة الصدور لا الوقوع ، ويكون الغرض انحصار صدور الأمر منه تعالى إليهم فيما يكون الغاية منه العبادة من غير نظر إلى المفعول به حتى يرد ما ذكر ، فحينئذ فمقتضى اشتراكنا معهم (١) في هذا الحكم عدم توجّه أمر من الله تعالى إلينا إلاّ لغرض العبادة ، فيتمّ المطلوب.

وبالجملة : قوله تعالى ـ : ( وَما أُمِرُوا ) بملاحظة حذف المفعول به ـ وهو المأمور به ـ من قبيل قول القائل : ( زيد يعطي أو يمنع ) بحذف المفعول به فيهما من جهة كون النّظر فيه كما في المثال إلى جهة الصدور هذا.

أقول : الإنصاف اندفاعه أيضا بناء على كون المفعول به أيضا مذكورا بجعله إيّاه مدخول اللام ، فإنّ معنى الآية على هذا انحصار المأمور به في شريعتهم في العبادة ، ومقتضى اشتراكنا معهم (٢) انحصاره في شريعتنا أيضا فيها ، فيتمّ المطلوب.

وكيف كان ـ وبعد الإغماض عن وجوه الإيراد على الاستدلال المتقدّمة وتسليم دلالتها على اعتبار قصد القربة في المأمور به في شريعتهم ـ لا وجه لذلك الإيراد. هذا.

ومنها : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(٣).

وجه الدلالة : أنه تدلّ على وجوب إطاعة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهي لا تكون إلاّ بالإتيان بما أمر به بقصد القربة ، فيكون المراد وجوب الإتيان بما أمر

__________________

(١) في الأصل : اشتراكنا لهم ..

(٢) في الأصل : اشتراكنا لهم ..

(٣) النساء : ٥٩.

٣٥٢

به بقصد القربة ، وليس هذا الأمر كسائر الأوامر التي تسقط عن المكلّف بالإتيان بفرد واحد من المأمور به ، كما في الأمر بالضرب الساقط بإيجاده في ضمن فرد منه بحيث لا يقتضي وجوب إيجاد جميع الأفراد ، بل هذا الأمر ـ نظير قول القائل : أدّ الدّين ، أو أدّ الأمانة ، ونظراءهما ـ ظاهر في إرادة الطبيعة بجميع أفرادها ، ولعلّ القرينة على العموم في المقام الملازمة بين ترك الإطاعة ـ في بعض الأوامر وإن لم تترك كلّية لمخالفة المولى ـ وعصيانه ، وهو قبيح (١) جدّاً ـ فقبح ترك الإطاعة بطريق السلب الجزئي ـ لكونه ملازما للمخالفة والعصيان ـ قرينة على إرادة الإيجاب الكلّي في الأمر بها ، كما أنّ القرينة عليه في مثال الأمر بأداء الدّين أنّ الغرض من أدائه إنّما هو تخليص النّفس عن مهانته ، مضافا إلى الخروج عن تبعة العقاب عليه ، وهو لا يحصل إلاّ بأدائه إلى مثقال ذرّة منه ، وفي مثال الأمر بأداء الأمانة هي التخلّص عن قبح الخيانة ، وهو لا يحصل إلاّ بردّها إلى الدينار منها.

وبالجملة : فالآية دالّة على وجوب الإتيان بجميع ما أمر به ـ سبحانه [ و ] تعالى ـ بقصد الطاعة ، وهو المطلوب.

هذا ، وقد أجيب عن الاستدلال بها بأنّ الإطاعة تطلق على معنيين :

أحدهما الإتيان بالفعل على وجه الامتثال ، كما حملها عليه المستدلّ ، والآخر مجرّد عدم المعصية ، والمتعيّن منهما هنا هو الأخير خاصّة ، إذ إرادة الأوّل مستلزمة لكون قصد الامتثال معتبرا في إطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام كما تقتضيه قاعدة العطف ، وهو فاسد بالإجماع.

لا يقال : إنّ إطاعتهم عين إطاعة الله تعالى فلا ضير في اعتبار قصد الامتثال فيها من هذه الجهة.

__________________

(١) في الأصل : وهي قبيحة ..

٣٥٣

لأنّ ذلك مدفوع : بتكرار الأمر ، فإنّ الظاهر منه تكرار المأمور به أيضا ، فيكون المراد بإطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمّة ـ عليهم السلام ـ إطاعة ما أمروهم عليهم السلام أنفسهم قبال ما أمر به الله تعالى.

وبالجملة : فالمتعيّن في المقام حمل الإطاعة على المعنى الثاني لما ذكر ، مضافا إلى إطلاقها عليه في غير موضع من الكتاب والسنة كقوله ـ في مقام الأمر بإطاعة الوالدين ـ : ( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما )(١) ، وقوله : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً )(٢) ، فإنّ تقابل الطاعة للتولّي أقوى شاهد على ذلك.

ونظيره قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ )(٣).

وفي موضع آخر بعد أمره تعالى بإطاعته وإطاعة الرسول قال : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ )(٤).

ونظير هذه الآيات ما في بعض فقرات الزيارة الجامعة وغيرها من الزيارات : « من أطاعكم فقد أطاع الله ، ومن عصاكم فقد عصى الله » (٥) فجعل الإطاعة مقابلة للعصيان ، فإذا كان المراد بها فيما نحن فيه عدم العصيان فالأمر بها لا يوجب تقييد الأوامر المطلقة ، فإنّ عدم العصيان قد يحصل بدون قصد الامتثال ، كما إذا أتى بالواجبات التوصّلية لا بقصد القربة ، فلم ينحصر عدم

__________________

(١) العنكبوت : ٨.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) النور : ٥٤.

(٤) آل عمران : ٣٢.

(٥) البلد الأمين للكفعمي (ره) : ٣٠٣.

٣٥٤

العصيان في الامتثال حتى يكون الأمر به أمرا به. هذا.

أقول : لا يخفى فساد مبنى (١) هذا الجواب على المتفطّن ، وهو عطف الرسول وأولي الأمر مع تكرار الأمر ، فإنّ تكرار الأمر مشعر بأن المراد بإطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله والأئمّة غير ما أريد من إطاعة الله تعالى وإلاّ لما كان وجه للتكرار ، فهو مؤيّد للمستدلّ لا مضرّ له ، فالمراد بإطاعة الله تعالى هو الإتيان بما أمر به بقصد الامتثال ، وبإطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله والأئمّة هو الإتيان بما أمروا به بعنوان كون إطاعتهم إطاعة الله تعالى ولو اكتفى المجيب في وجه حمل الإطاعة على عدم العصيان بكثرة إطلاقها عليه ـ كما في الأمثلة المذكورة ـ لكان له وجه.

وقد يجاب عن الاستدلال بالآية : بأنه لو حمل الإطاعة على ما زعمه المستدلّ لكان مستلزما لتخصيص الأكثر لخروج أكثر الواجبات عنها كما لا يخفى ، فلا بدّ من حملها على عدم العصيان ، ومعه لا دلالة لها على المطلوب.

لكن الإنصاف : عدم الحاجة إلى تكلّف حمل الإطاعة على عدم العصيان ، ولا داعي له بوجه ، إذ مع حملها على المعنى الأوّل أيضا لا يتمّ مطلوب المستدلّ.

بيان ذلك : أنّ الأمر بالإطاعة في الآية إرشادي وارد على طبق حكم العقل بوجوبها مطلقا ـ حتى في الواجبات التوصّلية ـ وموضوع الإطاعة إنّما هو الأمر ، فالآية تقتضي وجوب الإتيان بالفعل المأمور به بداعي الامتثال ما دام الأمر به باقيا ، كما هو قضية حكم العقل أيضا ، وأمّا مع سقوطه ـ كما إذا أتى المكلّف بالفعل لا بداعي الامتثال ، بل لاشتهاء نفسه ـ مثلا مع كونه توصّليا ـ فلا تقتضي الآية وجوب الإتيان به ثانيا بقصد الامتثال والطاعة لذهاب

__________________

(١) ويحتمل أنّ الكلمة في الأصل : مثل ..

٣٥٥

موضوعها وهو الأمر.

والحاصل : أنّا نقطع بإرادة جميع الواجبات من الآية حتى التوصّليات من غير استثناء ، كما هو الحال في حكم العقل ، ونقسم على ذلك جدّاً.

لكن نقول : إنّها لا تصلح لتقييد الأوامر الخاصّة بحيث تكشف عن جعل الشارع قصد الامتثال معتبرا في متعلّقاتها كلاّ أو بعضا ، بل موضوعها إنّما هو أمر الله تعالى فإنّها دالّة على وجوب إطاعة أمر الله تعالى فلا تقتضي إذن أزيد من أنه لو لم يسقط المكلّف الأمر عن رقبته ـ ولو بالإتيان بالمأمور به بتشهّي نفسه ـ لوجب عليه الإتيان به بداعي أمر الشارع من غير فرق بين الواجبات التعبّدية أو التوصّلية ، بحيث لو فرض سقوط التعبّدية بها بغير قصد الامتثال لما تدلّ الآية على لزوم الإتيان بها ثانيا بقصده ، كما هو الشأن في حكم العقل أيضا.

وبالجملة : الواجبات التعبّدية والتوصّلية سواء من حيث دخولهما تحت الآية وإرادتهما بها ، وهي تدلّ على وجوب الإتيان بكلّ واحدة منهما بقصد الامتثال وبداعيه ما دام الأمر بها باقيا وإن كانت الأولى لا تسقط إلاّ به.

ومن هنا ظهر أنه لا يلزم من ذلك تخصيص في الآية أصلا ، فضلا عن تخصيص الأكثر ، كما زعمه المجيب المتقدّم ، فإنّها شاملة لكل من الواجبات التوصّلية والتعبّدية ما دام الأمر بهما باقيا ، ولا داعي إلى إخراج التوصّلية منها على تقدير كون الأمر به باقيا ، بل يجب دخولها كما لا يخفى ، وساكتة عنهما جميعا إذا ارتفع الأمر عنهما. هذا.

ومن السنّة قوله عليه السلام : « لا عمل إلاّ بنيّة » (١).

تقريب الاستدلال به : أنّ المراد بالعمل هو المأمور به ، والمراد بالنيّة هو

__________________

(١) الوسائل : ١ ـ ٣٣ ـ ٣٤ ـ أبواب مقدّمة العبادات ـ باب ٥ وجوب النية في العبادات الواجبة .. ـ الحديث : ١ و ٢ و ٩.

٣٥٦

نيّة التقرّب ، فالمعنى لا عمل من الأعمال الواجبة إلاّ بنيّة القربة ، ولمّا لم يمكن حمل كلمة ( لا ) على حقيقتها ، وهي نفي الذات ، فلا بدّ من حملها على نفي جميع الآثار المساوق لنفي الصّحة لكونه أقرب إلى الحقيقة بعد تعذّرها ، فيكون المقصود أنه لا يصحّ شيء من الواجبات إلاّ بنيّة القربة ، فيدلّ على اعتبارها في كلّ واجب إلاّ ما أخرجه الدليل ، وهو المطلوب.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه الاستدلال به.

لكن يتّجه عليه : أنّ حمل العمل في الحديث الشريف على خصوص الواجبات ينافي عمومه المستفاد من وقوعه نكرة في حيّز النفي ، فيتوقّف على قرينة ظاهرة عليه ، وهي ممنوعة.

فإن قيل : إنّ حمله على العموم موجب لتخصيص الأكثر لعدم توقّف صحّة الأكثر من غير الواجبات ـ وكثير منها ـ على نيّة القربة ، فلا بدّ من الحمل على الواجبات.

قلنا : المحذور المذكور مشترك الورود بين التقديرين ، ضرورة عدم توقّف صحّة أكثر الواجبات ـ وهي التوصّليات منها ـ على نيّة القربة.

وبالجملة : كلّ الأعمال من الواجبات وغيرها عدا العبادات منهما ـ التي هي في جنب التوصّليات منهما كالشعرة البيضاء في بقرة سوداء ـ إذا أتى بها الفاعل مع قصده عنوان العمل ـ حيث كان مشتركا بين عناوين ـ يترتّب على ما فعله من الآثار المجعولة له شرعا من الوضعيّة والتكليفية من غير توقّف على نيّة القربة أصلا ، فالخبر على تسليم ظهوره بنفسه فيما ذكره المستدلّ لا بدّ من حمله على غيره ، حذرا عن المحذور المذكور.

والأولى حينئذ حمل العمل على خصوص العبادة مطلقا ـ واجبة ومندوبة ـ كما يشهد له إطلاقه عليها كثيرا في الأخبار كقوله عليه السلام : « العالمون

٣٥٧

كلّهم هالكون إلاّ العاملون » (١) ، وقوله عليه السلام : « لا عمل لي أستحقّ به الجنّة » (٢) ، فعلى هذا لا ربط للخبر بمطلوب المستدل أصلا ، إذ معناه حينئذ ـ والله أعلم ـ لا عبادة إلاّ بنيّة القربة ، وهذا مما لا ينكره أحد.

ومنها : قوله عليه السلام : « إنّما الأعمال بالنيّات » (٣) ، وقد ادّعي تواتره لفظا ، لكن المحكيّ عن شيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ أنّ إسناده متصل إلى رئيس الفاسقين (٤).

وكيف كان ، فتقريب الاستدلال به : أنّ كلمة ( إنّما ) بمنزلة كلمة ( إلاّ ) الواقعة بعد ( لا ) ، فتفيد ما تفيده من الحصر ، والمراد بالعمل الواجبات ، وبالنيّة نيّة القربة ـ كما مرّ في الحديث السابق ـ فيتمّ به المطلوب.

لكن يتّجه عليه ـ مضافا إلى ما مرّ من استلزامه لتخصيص الأكثر ، ودعوى ظهور إرادة العبادة من العمل ـ أنّه يحتمل أن يكون المراد بالنيّة في هذه الرواية نيّة التعيّن التي لا بدّ منها في الأفعال المشتركة ، لا القربة ، وهذا الاحتمال إن لم نقل بظهوره ، فهو ليس بأبعد مما صار إليه المستدلّ.

__________________

(١) لم نعثر على هذا الحديث بهذا النصّ ، وإنّما عثرنا على شبيه له في مصباح الشريعة : ٣٧ ، لكنه قد لا يصحّ شاهدا هنا ، فراجع.

(٢) لم نعثر على هذا الحديث بهذا النص وإنّما عثرنا على مضمونه في المصادر التالية : مسند أحمد : ٦ ـ ١٢٥ ، وصحيح مسلم : ٤ ـ ٢١٦٩ ـ ح ٧٢ و ٧٥ ، والعقيدة الطحاوية : ٢ ـ ٦٤١.

(٣) الوسائل : ١ ـ ٣٥ ـ أبواب مقدّمة العبادات ـ باب (٥) وجوب النيّة في العبادات الواجبة .. ـ الحديث : ١٠ ، التهذيب : ٤ ـ ١٨٦ ـ ح ٥١٩.

(٤) صحيح البخاري : ١ ـ ٢ ، ٢ ـ ٢٣١ ، صحيح مسلم : ٣ ـ ١٥١٥ ـ ح ١٥٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ ـ ٢٥ ، سنن البيهقي : ٧ ـ ٣٤١ ، سنن ابن ماجة : ٢ ـ ١٤١٣ ـ ح ٤٢٢٧ ، سنن النسائي : ١ ـ ٥٨ ، سنن الترمذي : ٤ ـ ١٧٩ ـ ح ١٦٤٧ ، سنن أبي داود : ٢ ـ ٢٦٢ ـ ح ٢٢٠١. وفي هذه المصادر جميعها روى هذا الحديث عمر بن الخطّاب عن رسول الله صلى الله عليه وآله.

٣٥٨

ومنها : قوله عليه السلام : « لكلّ امرئ ما نوى » (١) ، ولا ريب أنّ حاله أظهر من سابقه لظهور أنه ليس من قبيل قولنا : المرء مجزيّ بعمله إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا (٢) ، فلا دخل له بالمقام أصلا.

تنبيه : قد عرفت فقد ما يدلّ على أصالة التعبّدية في الواجبات ، فهل يدلّ دليل عامّ على أصالة اعتبار قصد العنوان في الواجبات ، أو لا؟ قولان. لعلّ أوّلهما عن جماعة .. (٣) ..

__________________

(١) الوسائل : ١ ـ ٣٥ ـ أبواب مقدّمة العبادات ـ باب (٥) وجوب النية في العبادات الواجبة ـ الحديث : ١٠.

(٢) الأقوى عند النحويين : إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.

(٣) يوجد هنا في نسخة الأصل ما يعادل ثلاث صفحات تقريبا قد ترك بياضا لم يكتب فيه شيء.

٣٥٩

[ الواجب الأصلي والتبعي ]

وقد ينقسم الواجب باعتبار آخر إلى أصلي وتبعي ، والظاهر عدم ثبوت اصطلاح فيهما ، بل هما على معناهما الأصلي ، فالأصالة والتبعية أمران إضافيان : فقد يلاحظان بالنسبة إلى الاستفادة ، فيسمّى الواجب الّذي استفيد وجوبه من خطاب آخر تبعيا ، والّذي استفيد وجوبه من خطاب مستقلّ أصليا بهذا الاعتبار وان كان نفس المستفاد تبعيا.

وقد يلاحظان بالنسبة إلى نفس المستفاد مع قطع النّظر عن كيفية استفادته ، فيسمّى الواجب الّذي يكون وجوبه تبعيا ـ أعني من باب المقدّمة لواجب آخر ـ تبعيا وان كان وجوبه ثابتا بخطاب مستقلّ ، والّذي يكون وجوبه نفسيا أصليا ولو فرض ثبوت وجوبه بتبع خطاب آخر.

وقد يلاحظان بالنسبة إلى كلا الجهتين ، فيسمّى ما يكون مستقلاّ من كليهما أصليا ، وما يكون تبعيا منهما جميعا تبعيا.

٣٦٠