تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

والحاصل : أنّ إثبات اقتضاء الأمر الثاني للإجزاء بالنسبة إلى الأمر الأوّل الواقعي مبنيّ على مقدّمتين :

إحداهما : أن يدلّ هو على بدلية متعلّقه عن المأمور به الواقعي وانقلاب الأمر الواقعي إلى متعلّقه بالفعل.

وثانيتهما : أن يثبت الملازمة عقلا بين الإتيان بالمأمور به بأمر بالفعل على وجهه وبين الإجزاء بالنسبة إلى ذلك الأمر.

فإذا فرض الاتّفاق على الثانية وخروجها عن محلّ الخلاف يكون (١) مورده منحصرا في الأولى ، فيكون المسألة لفظية ، ويشعر به إيرادهم لها في باب الأوامر.

هذا ، لكن الإنصاف عدم ثبوت الاتفاق المذكور ، بل حكي عن بعض من العامّة (٢) خلاف ما ادّعي الاتفاق عليه (٣) ، فالظاهر ثبوت الخلاف في المقامين وإن كان في أحدهما هنا.

فيظهر من ذلك رجوع التحرير الأوّل في المعنى إلى الثاني وأنّ المراد باقتضاء الأمر ليس دلالته لفظا بإحدى الدلالات الثلاث ، بل المراد دلالته على

__________________

(١) في الأصل : فيكون ...

(٢) وهو أبو هاشم وعبد الجبّار على ما حكي عنهما. لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) نعم المخالف فيه شاذّ لا يعبأ به ، فلذا ترى الفقهاء يتعرّضون لتلك القضية ـ وهي أنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، أو لا يقتضيه ـ في مقام نفي الإعادة والقضاء ، أو (أ) إثباتهما في الأمر الثاني عند انكشاف مخالفة متعلّقه للواقع أو زوال العذر ، فمنهم من يستدلّ بها على نفي الإعادة والقضاء ، ومنهم من ينكرها ، وأمّا فيما ، إذا أتى بالمأمور به واقعا على وجهه فلم يقل أحد منهم حينئذ بعدم الإجزاء ، وكذا إذا أتى بالمأمور به بالأمر الثانوي الواقعي أو الظاهري ، فلم يقل أحد منهم بعدم الإجزاء بالنسبة إلى نفس ذلك الأمر ، وسيأتي توضيح ذلك ، فانتظر.

__________________

(أ) في الأصل : أو على إثباتهما.

١٤١

الإجزاء عقلا ، فمدّعي الدلالة نظره إلى ثبوت الملازمة بين الإتيان بالفعل المطلوب على وجهه والإجزاء عن التعبّد به ثانيا بالنظر إلى هذا الطلب المتعلّق به ، فإنّه إذا ثبت تلك الملازمة ـ بين الإتيان بالفعل المطلوب بعنوان كونه مطلوبا وبين الإجزاء ـ يكون (١) الطلب المتعلّق به دالاّ بالدلالة الالتزامية العقلية على الإجزاء ، فيكون ما دلّ على الطلب ـ وهو الأمر ـ دالاّ عليه كذلك ، نظير دلالته على وجوب المقدّمة وعلى النهي عن ضدّ الواجب على القول بهما.

ومدّعي عدمها نظره إلى منع تلك الملازمة ، إذ بدونها ينتفي الدلالة المذكورة.

والحاصل : أنّ محطّ النّظر في كلّ من التحريرين إلى تلك الملازمة.

وأمّا إيرادهم للمسألة في باب الأوامر فإنّما هو من باب مناسبة ما بينهما ، نظرا إلى أنّ الغالب من الطلب ما يكون باللفظ نظير إيراد مسألتي مقدّمة الواجب واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ فيها.

فظهر أنّه يصحّ تحرير الخلاف بأيّ من التحريرين وإن كان الثاني منهما أطبق بالمقصود (٢) ، لعدم مدخلية الأمر فيه أصلا.

نعم كون الإتيان بالفعل المطلوب مؤثّرا في الإجزاء إنّما هو بعد تعلّق الطلب به ، لأنّه بهذا العنوان المنتزع منه يؤثّر فيه لا مطلقا ، كما في الصلاة قبل وجوبها ، فإنّها لا تقتضيه قطعا ، فالطلب من شروط الاقتضاء ، فافهم.

ثمّ إنّ تقييد بعض من عنوان الخلاف على التحرير الأوّل بقوله : ( إذا أتى بالمأمور به على وجهه ) لأجل أنّ الأمر لا يدلّ على الأجزاء على القول به مطلقا ، بل تختصّ دلالته عليه بذلك التقدير كما هو واضح ، وهذا القيد مطويّ في نظر

__________________

(١) في الأصل : فيكون ..

(٢) الصحيح : ( أكثر مطابقة للمقصود ). ، لأنّ اشتقاق أفعل التفضيل من الفعل الرباعي غير قياسي.

١٤٢

المطلقين أيضا.

الثاني (١) : قد عرفت أنّه ليس الغرض قصر النزاع في خصوص الطلب بالقول ، بل يعمّ كلّ طلب ، لكن اقتصارهم على ذكر الأمر من جهة إغناء الكلام فيه عن سائر أقسام الطلب لاتّحاد المناط في الكلّ.

فهل النزاع في المقام في الطلب الواحد وفي اقتضائه للإجزاء بالنسبة إلى نفسه ، أو يعمّ الطلب الواقعي الثانوي بالنسبة إلى الطلب الأوّل الواقعي ، وكذا الظاهري بالنسبة إليه ، أو يختصّ بالطلب الثاني الشامل للواقعي الثانوي والظاهري بالنسبة إلى الواقعي الأوّلي؟

ظاهر استدلال بعض القائلين بالإجزاء ـ بأنّه لولاه لزم طلب الحاصل ـ يفيد الأوّل ، وظاهر الفقهاء في أبواب الفقه هو الأخير ، حيث إنّهم يتعرّضون لتلك القضية ، أعني قولهم : ( الأمر يقتضي الإجزاء ، أو لا يقتضيه ) في موارد أوامر أولي الأعذار إذا فرض إتيان المكلّف بما أمر به حال عذره في أوّل وقته مع اليأس عن زوال العذر إلى آخره على القول بجواز التقديم ، وكذا في موارد الأوامر الظاهرية ، فانكشف زوال العذر قبل مضيّ الوقت في الأوّل ، ومخالفة المأتيّ به للمأمور به الواقعي في الثاني ، وحينئذ فمنهم من استدلّ بتلك القاعدة على إجزاء المأتيّ به حال العذر أو الجهل بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي ، ومنهم من أنكرها ، وحكم بوجوب الإعادة فيهما لاقتضاء الأمر الأوّل لها حينئذ وبوجوب القضاء ـ في الأوّل إذا لم يعد إلى أن خرج الوقت ، وفي الثاني إذا تبيّن المخالفة بعد الوقت أو قبله مع تأخير الفعل ثانيا إلى ما بعده ـ إمّا بمقتضى الأمر الأوّل ، أو بأمر آخر على اختلاف القولين في دليل القضاء.

__________________

(١) جاء في هامش الأصل هنا : ( الأمر الثاني في بيان المراد من مفردات كلماتهم الواقعة في تحرير النزاع تبصرة في المقام وتوضيحا للمرام ).

١٤٣

وأمّا كفاية الإتيان بالفعل المأمور به بأمر حال بقاء ذلك الأمر عن نفس ذلك الأمر فلم ينكرها أحد منهم قط ، ولم يوجب أحد منهم الإعادة أو القضاء في ذلك قطعا ، فيظهر من ذلك أنّ مورد الخلاف في ثبوت تلك القضية ونفيها إنّما هو الأمر الثاني بالنسبة إلى الأمر الأوّل الواقعي لا غير.

لكن الإنصاف عموم الخلاف للمقامين ، كما أشرنا إليه سابقا :

أمّا ثبوته في الثاني فظاهر للمتتبع في الفقه ، حيث إنّه يجد أنّه ليس شيء من الإجزاء أو عدمه فيه متفقا عليه بينهم ، بل ذهب إلى كل فريق.

مضافا إلى كفاية ملاحظة بعض أدلتهم المذكورة في الأصول المختصّ به ، كما سيأتي إن شاء الله.

وأمّا ثبوته في الأوّل أيضا فلما حكي عن بعض العامّة إنكار اقتضاء الإجزاء فيه ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ وإن كان المشهور فيه ثبوت الاقتضاء.

وبالجملة : وضوح ثبوت الخلاف في الثاني يكفي في نفي اختصاصه بالأوّل مع أنّ الثاني أولى بالاختصاص لقلّة المخالف في الأول وندرته إلى حيث (١) ادّعى بعضهم الاتفاق عليه ، فلا بدّ من صرف الدليل المذكور إلى أنّ المراد إقامته على بعض أفراد محلّ النزاع لا على تمامه ، كما أنّ ثبوت خلاف في الأول أيضا ينفي اختصاصه بالثاني.

والحاصل : أنّ المتأمّل في مجموع أدلة الطرفين مضافا إلى حكاية الخلاف في الأوّل ووضوحه في الثاني يجد ثبوته في المقامين ، ونحن أيضا نتعرّض لكلّ منهما بما فيه من الأدلّة بما فيها ، فانتظر.

ثمّ المراد بالاقتضاء : فقد عرفت أنّه الدلالة على التحرير الأوّل ، والتأثير على الثاني ، وقد عرفت ـ أيضا ـ أنّ النزاع هنا في الالتزام العقلي ،

__________________

(١) كذا ، والأجود : بحيث ... ـ أو ـ إلى حدّ ...

١٤٤

فيناسب أن يكون المراد من اقتضاء الأمر للإجزاء في محلّ النزاع هو دلالته على امتناع وقوع التعبد ثانيا بالفعل المأمور به بأمر بعد الإتيان به على وجهه من جهة ذلك الأمر بأن يطلب التعبّد به ثانيا لذلك الأمر ومن جهته بعد الإتيان به على الوجه الّذي أمر به بذلك الأمر سواء كان ذلك التعبّد ثابتا بذلك الأمر أو بدليل آخر.

وبعبارة أخرى : إنّ المراد به كما حكي عن بعض واختاره ـ دام ظلّه ـ أنّ الأمر يدلّ على امتناع ورود دليل على التعبّد بالفعل المأمور به ثانيا من جهة هذا الأمر بعد الإتيان به على وجه سواء كان ذلك الدليل هو ذلك الأمر ـ بأن يراد حينئذ منه هذا ـ أو دليل آخر.

والعبارة الأولى أوفق بالمراد وأوضح دلالة عليه ، فالقائل بعدم الإجزاء على هذا يقول : إنّه لا يقتضي ذلك الامتناع ، بل يمكن معه التعبّد به ثانيا كذلك.

وقد يقال : إنّ المراد به هو أنّ الأمر لا يقتضي التعبّد بالفعل ثانيا على الوجه المذكور ، فعلى هذا فالقائل بعدم الإجزاء لا بدّ أن يقول بأنّه يقتضي ذلك التعبّد ثانيا ، لا ما ذكره المحقّق القمّي ـ رحمه الله ـ (١) من أنّه يقول : لا مانع من اقتضائه ذلك في الجملة ، إذ محصّله أنّ مراد هذا القائل : أنّه يحتمل أن يدلّ الأمر على التعبّد به ثانيا ، ومنشأ هذا الاحتمال عدم المانع منه ، وهو كما ترى.

وبالجملة : فمقابل أحد طرفي النقيض إنّما هو الطرف الآخر ، فالنافي لعدم الاقتضاء والدلالة لا بدّ أن يكون مثبتا له ، لا محتملا له ، فإنّه ليس نقيضه كما لا يخفى هذا.

وكيف كان ، فعلى هذا الاحتمال في المراد من الاقتضاء يكون القائل بالإجزاء عين القائل بعدمه على الاحتمال الأوّل كما لا يخفى ، ولعلّ الظاهر منه

__________________

(١) قوانين الأصول ١ ـ ١٣١.

١٤٥

في المقام هو الاحتمال الأوّل ، لكونه هو المناسب لكونه موردا للبحث.

هذا ، مضافا ـ إلى ما سيأتي من الإشكال على الاحتمال من عدم الفرق معه بين هذه المسألة وبين مسألة أنّ القضاء بالأمر الأوّل ، أو بأمر جديد.

هذا ، لكن الإنصاف عدم انطباق جميع الأدلّة على الاحتمال الأوّل ، بل لا يجري بعضها إلاّ على الثاني ـ كما سيجيء إن شاء الله ـ فمحلّ النزاع غير محرز ، فلا بدّ إذن من تشقيق صور المسألة بتحقيق الحال في كل منها ، وأنّ أيّتها يجري فيها الأوّل ، وأيّتها تختصّ بالثاني ، وسيأتي ذلك عن قريب إن شاء الله.

ثمّ الإجزاء في اللغة : هي الكفاية ، والظاهر عدم ثبوت النقل فيه في الاصطلاح ، إذ من الظاهر أنّ تحرير هذه المسألة إنّما هو لأجل تحقيق الحال في القضية المعروفة في لسان الفقهاء ـ في موارد الاستدلال على كفاية الفعل وكونه مسقطا للإعادة والقضاء ـ من قولهم : ( الأمر يقتضي الإجزاء ).

والظاهر أنّ مرادهم من الإجزاء هو المراد منه في أخبار الأئمة ـ عليهم السلام ـ الموافق لمعناه اللغوي ، وأمّا التعبير عنه في المسألة بما يأتي فإنّما هو من باب التعبير باللازم ، كما لا يخفى على المتفطّن.

ثمّ إنّه قد يعبّر عنه في المقام : تارة بكون الفعل المأمور به مسقطا للتعبّد به ، وأخرى بكونه مسقطا للقضاء.

وقد يفسّر الأوّل بحصول الامتثال الّذي ليس من محلّ النزاع في شيء ، والثاني بسقوط التعبّد بالفعل ثانيا إعادة وقضاء ، وكلاهما خلاف الظاهر ، بل الظاهر من الأوّل إنّما هو ما فسّر به الثاني من سقوط التعبّد بالفعل ثانيا مطلقا ، ومن الثاني خصوص القضاء المصطلح ، وهو الفعل في خارج الوقت.

وكان الداعي إلى تفسيره بذلك أنّ ذلك المعبّر به إنّما هو في مقام التعبير عن الإجزاء المتنازع فيه في المسألة ، فيكون مراده هو الّذي فسّره ذلك المفسّر ،

١٤٦

لكونه هو محلّ النزاع فيها ، لا خصوص القضاء المصطلح وإن كان لا يساعد عليه ظاهر التعبير ، فلذا حمل التعبير الأوّل على مورد الاتفاق.

والحاصل : أنّه فهم أنّ إعراض ذلك المعبّر عن الأوّل إلى الثاني إنّما هو لأجل أنّ الأوّل ليس محلا للنزاع ، فأراد أن يعبّر عمّا هو مورد الخلاف من الإجزاء.

هذا ، وكيف كان ، فالظاهر من التعبير الأوّل هو ما ذكرنا ، فلا وجه لعدول التعبير عنه إلى الثاني الموهم لخلاف مقصوده.

فإن قيل : لمّا كان إسقاط القضاء ملازما لإسقاط الإعادة ، كما أنّ إسقاطها ملازم لإسقاطه ، فيصحّ التعبير عن المقصود ـ وهو سقوط التعبّد بالفعل ثانيا مطلقا ـ بما ذكره ، فإنّه دلّ حينئذ على أحد فردي ذلك القدر المشترك بالتنصيص والمطابقة ، وعلى فرده الآخر بالالتزام ، فدلّ على سقوط التعبّد ثانيا مطلقا.

قلنا : على هذا التقدير يتّجه عليه :

أوّلا ـ منع تلك الملازمة. نعم الملازمة في العكس موجودة ، وهي لا تجديه.

وثانيا ـ أنّ الملازمة المذكورة على تقدير تسليمها غير مجوّزة لذلك التكلّف من دون داع إليه ، لسهولة التعبير عن المقصود بلفظه الدالّ عليه صريحا ، فيكون هذا أشبه شيء بالأكل من القفا.

هذا ، لكنّ الإنصاف ثبوت الملازمة المذكورة ، واندفاع ما قيل في منعها من أنّ صلاة الناسي للقصر إلى أن خرج الوقت مسقطة للقضاء فقط ، دون الإعادة على القول بالتفصيل : بأنّ الناسي للقصر إن تذكّر قبل خروج الوقت فلا شبهة في وجوب الإعادة عليه ووجوب القضاء أيضا إن لم يفعل إلى أن خرج الوقت على القول بالتفصيل أيضا ، وإن لم يتذكّر إلى أن خرج فلا شيء عليه مطلقا على القول المذكور.

١٤٧

وكيف كان ، فمحلّ النزاع من الإجزاء إنّما هو سقوط التعبّد بالفعل ثانيا من غير خصوصية للقضاء أصلا.

وربما يستشهد لذلك : بأنّه لو كان النزاع في خصوص القضاء لكان للقائل بعدم الإجزاء إذا أتى بالفعل في وقته على وجهه إثبات القضاء عليه بنفس الأمر الأوّل من غير حاجة له إلى دليل آخر ، ولكلّ من الفريقين إثباته بنفس الأمر إذا أخلّ به في وقته لاتّفاقهما على عدم الإجزاء حينئذ ، والتالي باطل ، لما نشاهد من عملهم من أنّهم ليسوا متّفقين على ذلك ، بل يبنون ذلك على مسألة أنّ القضاء بالأمر الأوّل ، أو بأمر جديد :

فمن ذهب منهم إلى الأوّل يثبته بذلك الأمر إذا لم يكن الفعل مجزيا على حسب معتقده.

ومن ذهب إلى الثاني يثبته بأمر آخر ، وليسوا متّفقين على إثباته بالأمر الأوّل ، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ الإجزاء إذا كان عبارة عن إسقاط القضاء فيكون عدمه عبارة عن إتيانه ، فالقائل بعدمه لا بدّ أن يقول بأنّ الأمر يدلّ على ثبوته من غير حاجة إلى أمر آخر. انتهى.

ويدفعه : أنّ مقابل إسقاط القضاء ليس إتيانه بل عدم إسقاطه ، فالقائل بعدم الإجزاء يقول بأنّ الأمر لا يقتضي إسقاطه ، لا أنّه يقتضي ثبوته ، فافهم.

وأيضا على تقدير كون عدم الإجزاء بمعنى الاقتضاء للقضاء لكان ذلك مشترك الورود بين المعمّمين للنزاع بالنسبة إلى الإعادة وبين المخصّصين له بخصوص القضاء كما لا يخفى ، إذ لو يبنى على اقتضاء الأمر لإثبات القضاء فهو مقتض له مع القول بدخول الإعادة في محلّ النزاع.

ثمّ إنّ استلزام سقوط الإعادة لسقوط القضاء عقليّ ـ كما هو ظاهر عند

١٤٨

المتأمّل ـ ضرورة أنّ القضاء إنّما هو تدارك لما فات من المصلحة في الوقت ، لكنه ليس محصّلا لجميع المصالح التي تحصل بفعل الأداء ، فانّ منها ما لا يحصل إلاّ بالوقت المحدود به الفعل ، وهي لا تحصل إلاّ بإيقاعه في الوقت ، فيقبح حينئذ على الحكيم أن يرخّص بترك تحصيل المصلحة التامّة مع التمكّن منها ، ويوجب تحصيل الأنقص لها ، فإنّ ذلك خلاف اللطف ونقض للغرض ، ضرورة أنّ الغرض من الأمر بالقضاء إنّما هو تدارك المصلحة الفائتة ، فيقبح عليه إذا كان غرضه ذلك أن لا يأمر بتحصيلها في الوقت مع كونها أتمّ فيه منها في خارجه.

نعم يمكن أن يكون المصلحة في عدم الأمر بالقضاء في بعض الموارد ، فتزيد هي على مصلحة الفعل ، فلا يأمر به حينئذ.

وكيف كان فلا يعقل أن يقول الشارع للعبد : يجوز لك أن لا تعيد إذا أخللت بما أتيت به ، لكن يجب عليك القضاء.

ومن هنا ظهر ضعف ما تخيّل بعض المتأخرين (١) من أنّ الاستلزام ليس عقليا إلاّ أنّه لم يقع الانفكاك بينهما شرعا ، وأمّا استلزام سقوط القضاء لسقوط الإعادة فالظاهر أنّه ليس عقليا ، بل هو ـ على تقدير ثبوته ـ شرعي لا غير.

ثمّ المراد بالإتيان بالمأمور به على وجهه : هو الإتيان به كما امر به ، كما فسّره العضدي في شرح المختصر (٢).

لكن لا يخفى أنّ زيادة قيد « على وجهه » لا وجه لها لتضمّن المأمور به لهذا القيد ، فإنّه إذا أتى به بعنوان كونه مأمورا [ به ] فقد أتى به كما أمر به ، فيكون القيد مستدركا لا تأسيسا.

__________________

(١) الفصول : ١١٦.

(٢) شرح المختصر : ١ ـ ٢٠٤.

١٤٩

اللهم إلاّ أن يراد بالمأمور به ذات الفعل مع قطع النّظر عن كيفياته المعتبرة فيه شرعا ، وبالوجه تلك الكيفيات ليكون تأسيسا ، وهو كما ترى ، فإنّه ارتكاب للتجوّز في لفظ المأمور به لتصحيح كون القيد تأسيسا.

ثمّ إنّه قد يفسّر الوجه أيضا : تارة بالعنوان ، فيكون المراد الإتيان بالمأمور به على العنوان الّذي امر به بذلك العنوان.

وفيه ـ أيضا ـ ما مرّ من تضمّن المأمور به لذلك ، فإنّ المأمور به هو العنوان لا ذات الفعل ، فإنّه إذا أمر بالقيام لأجل التعظيم فالمأمور به حقيقة هو التعظيم لا القيام.

وأخرى بالوجه الّذي قال المتكلّمون بلزوم قصده في العبادة ، وهو كيفية الطلب من الوجوب والندب.

وفيه : أنّ احتمال إرادة هذا المعنى منه في المقام مقطوع العدم ، لأن الخلاف هنا إنّما هو بعد الإغماض عن سائر الخلافات وفرض الإتيان بالمأمور به كما امر به على مقتضى اعتقاد المأمور ، فان كان اعتقاده بلزوم قصد الوجه يكون (١) مفروض البحث إتيانه به معه ، وإلاّ فلا.

هذا تمام الكلام في بيان المراد من المفردات الواقعة في تحرير الخلاف في المقام.

الثالث : (٢) لا خفاء في الفرق بين هذه المسألة وبين كلّ من مسألتي المرّة والتكرار ، وأن القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد.

أمّا افتراقها عن أولى تينك المسألتين ، فلأنّ الخلاف هناك في تشخيص المأمور به من أنّه هو المرة أو التكرار أو الطبيعة المطلقة ، وفي المقام بعد إحراز

__________________

(١) في الأصل : فيكون ..

(٢) أي ( الأمر الثالث ).

١٥٠

المأمور به وتشخيصه بمقتضى إفادة الخطاب والإتيان به على الوجه الّذي يستفاد منه.

نعم القائل بالتكرار هناك إن كان قائلا بعدم الإجزاء هنا ربما لا يتحقّق له مورد الإعادة والقضاء ، وذلك كما في الأوامر المجرّدة التي لم يقم قرينة على إرادة المرّة أو الطبيعة منها ، فإنّه حينئذ يحمله بمقتضى أصالة الحقيقة على التكرار ، فحينئذ يكون الفعل في كلّ جزء من أجزاء الزمان مأمورا به أصالة ، فلا يبقى زمان للإعادة أو القضاء إذا قال بعدم الإجزاء ، وهذا أيضا لازم القولين الآخرين هناك فيما إذا قام قرينة على إرادة التكرار ، إذ يجب عليهما حينئذ حمل الأمر عليه ، فلا يبقى للإعادة أو القضاء مجال إن قالا بعدم الإجزاء ، بل لا يعقل الإعادة والقضاء في موارد ثبوت التكرار ولو مع الإخلال بالفعل في جزء من الزمان لذلك ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فلا اتّحاد بين هذه المسألة وتلك بوجه ولا استلزام ، بل يجري كلّ من الأقوال في كلّ منهما في كلّ واحد من الأقوال في الأخرى.

وأمّا افتراقها عن ثانيتهما ، فلأنّ الكلام في المقام في إمكان التعبّد بالفعل ثانيا إعادة أو قضاء إذا أتى بالمأمور به على وجهه ، وفي تلك في أنّ دليل القضاء ما ذا؟ بعد الفراغ عن قابليّة المورد لورود التعبّد به ثانيا.

وإن شئت قلت : إنّ الكلام هنا في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه مسقط للقضاء أو لا ، وثمّة في مثبت القضاء من أنّه هو الأمر الأوّل أو أمر جديد.

وبالجملة : فلا خفاء في الفرق بين المسألتين بناء على تفسير الاقتضاء في المقام بالدلالة على امتناع التعبّد بالفعل ثانيا.

نعم يشكل الفرق بينهما بناء على تفسيره بعدم الدلالة على التعبّد به ثانيا ، فإنّ القائل بعدم الإجزاء حينئذ لا بدّ أن يقول بأنّ الأمر دالّ على التعبّد بالفعل ثانيا ـ كما عرفت سابقا ـ وهو عين القول بالتكرار ، ومقابله هو القول

١٥١

بالمرّة أو الطبيعة ، فتدبّر فيه وفي دفعه.

الرابع : (١) ينقسم الأمر باعتبار حالات المكلّف الملحوظة فيه إلى واقعي أوّلي ، وواقعي ثانوي ، وظاهري.

فالأوّل : ما لوحظ فيه خلوّ المأمور عن الموانع والأعذار.

والثاني : ما لوحظ فيه شيء من الأعذار مع كون متعلّقه بدلا عمّا تعلّق به الأمر الواقعي (٢) ـ بمعنى تعلّقه به بعنوان أنّه بدل من ذلك ومربوط إليه ـ لا واجبا مغايرا له بالكلّيّة ، بأن يكون واجبا مشروطا بالعذر من الواقع الأوّلي ، لا بدلا عنه ، فإنّ هذا من الواقعيّات الأوّلية لا غير ، كما هو الحال في سائر الواجبات المشروطة.

وبعبارة أخرى : هو الأمر المتعلّق بما هو بدل عن الواقع الأوّلي لمكان شيء من الأعذار من حيث إنّه بدل عنه مع قيام المقتضي له فعلا إلاّ أنّ العذر منع من تأثيره فعلا.

ثمّ إنّه ليس شيء من هذين القسمين ملحوظا فيه شيء من العلم والجهل ولا مقيّدا بشيء منهما ، كما لا يخفى.

وأمّا الثالث : فهو ما لوحظ فيه اعتقاد المكلّف بالواقع الأوّلي أو الثانوي نفيا أو إثباتا :

أمّا الأوّل : فكما في الأصول العملية ، حيث إنّ الملحوظ فيها إنّما هو عدم اعتقاد المكلّف وشكّه في الواقعة.

وأمّا الثاني : فكما في الطرق والأمارات الشرعية الغير العلمية (٣) ـ المعتبرة من حيث الطريقية ـ فإنّ الأمر بمؤدّياتها إنّما لوحظ فيه ظنّ المكلّف بها

__________________

(١) أي ( الأمر الرابع ).

(٢) وقد يطلق الواقعي الثانوي على الظاهري أيضا. لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) في الأصل : العملية ..

١٥٢

من تلك الطرق أو الأمارات ـ ولو نوعا ـ بالواقع مطلقا.

وبعبارة أخرى : الأمر الظاهري ما تعلّق بالمظنون كونه واقعا أو مشكوكه على أنّه هو الواقع في مرحلة الظاهر مع بقاء الأمر الواقعي على تقديره على حاله ، سواء كان مصادفا لذلك المظنون أو المشكوك ، أو لا ، ولذلك يقال : إنّ الأوامر الظاهرية مرايا للواقعيّة.

ثمّ إنّ تحقّق الأمر الظاهري ـ في موارد الأصول العملية الشرعية أو الطرق والأمارات كذلك ـ واضح.

وأمّا في موارد الأصول العقلية ـ كأصالة البراءة من جهة اعتبارها من باب العقل ، وأصالة التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين ، والطرق العقلية كالظنّ عند انسداد باب العلم بالواقع ، وكذلك القطع أيضا إذا لم يصادف الواقع ففيه إشكال ، بل الظاهر عدمه ، فإنّ غاية ما في تلك الموارد إنّما هي معذورية المكلّف وقبح المؤاخذة عليه ، وأمّا أمر الشارع بمؤدّاها فلا يدلّ عليه نقل ولا عقل ، فلا تغفل.

ثمّ إنّه ظهر : ممّا مرّ في بيان معنى الأمر الواقعي الثانوي والظاهري أنّهما تنزيلان من الشارع لمتعلّقهما منزلة متعلّق الأمر الواقعي الأوّلي إمّا واقعا كما في أوّل ذينك ، أو في مرحلة الظاهر كما في ثانيهما ، فإنّ أمر الشارع بالصلاة مع التيمّم عند العجز عن الوضوء ـ مثلا ـ وكذا أمره بها مع الطهارة المستصحبة أو الثابتة بالبيّنة ـ مثلا ـ ليس معناه إلاّ جعل هاتين بدلين عن الصلاة مع الطهارة الواقعية ـ حال العذر أو الجهل ـ واقعا كما في أولاهما ، أو ظاهرا كما في ثانيتهما ، مع بقاء الأمر الأوّل على حاله ، وإنّما أوجب اختلاف أحوال المكلّف اختلاف مراتب امتثاله ، وليس معناه ارتفاعه وكون الأمر الثاني أمرا حادثا متعلّقا بشيء آخر بعد ارتفاعه ، فلا أمر في شيء من تلك الأحوال المختلفة ـ التي عليها مدار الامتثال واختلاف مراتبه ـ إلاّ ذلك الأمر ، فكأنّ المأمور به بذلك الأمر

١٥٣

اعتبر على وجه يعمّ الواقع الأوّلي وأبداله ـ التي هي متعلّقات الأوامر الثانوية الواقعية ـ والمحكوم بكونه هو في مرحلة الظاهر ـ الّذي هو متعلّق الأوامر الظاهرية ـ فإنّ المقتضي للأخيرتين أيضا إنّما هو الأمر الأوّل الواقعي ، فلذا يؤتى بهما لأجل امتثاله.

والحاصل : أنّ الطالب للامتثال في كلّ من الحالات الثلاث الحاصلة للمكلّف هو الأمر الأوّل ، وأنّ الأمر بخصوص الأبدال عمّا تعلّق هو به مع خلوّ المكلّف عن العذر تفصيل عن إجمال ذلك الأمر ، لا أمر آخر ، وكذلك الأمر بما حكم بكونه هو في مرحلة الظاهر ، فالأمر بالصلاة مع التيمّم أو مع الطهارة المستصحبة أو الثابتة بالبيّنة تفصيل عن إجمال قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ* )(١) لا أنّهما أمران حادثان بعد ارتفاعه ، ويكشف عن ذلك أنّ الإعادة والقضاء على تقدير الإخلال بالأخيرتين إنّما هما لذلك الأمر.

نعم المدار فيهما ـ أيضا ـ على ما عليه مدار الأداء وامتثال ذلك الأمر من الأحوال المختلفة الموجبة لاختلاف مراتب الامتثال.

فعلى هذا يصحّ تحرير النزاع في المسألة : بأنّ الأمر هل يقتضي امتناع التعبّد بمتعلّقه ثانيا من جهته إذا أتى به بإحدى تلك المراتب أو لا؟ إلاّ أن الأولى الإغماض عن ذلك ، وإفراد كلّ من أقسام الأمر بالمقال في مقام مع ملاحظة التعبّد وعدمه بالنسبة إلى الواقع الأوّلي ـ الّذي هو متعلّق الأمر الأوّل الواقعي ـ فإنّه أقرب إلى توضيح المرام.

ثمّ إنّك بعد ما قدّمنا لك إلى هنا فهاهنا مقامات :

الأوّل : (٢) في الأمر الواقعي الأوّلي إذا أتي بمتعلّقه على ما هو عليه

__________________

(١) كما في سورة البقرة : ٤٣ ، وغيرها.

(٢) جاء هنا في هامش الأصل : ( الكلام في أصل المسألة ).

١٥٤

فنقول :

لا ينبغي الارتياب في اقتضائه لامتناع التعبّد به ثانيا من جهته ، لأنّ امتثاله على الوجه المذكور علّة تامّة عقلا لسقوطه ، فلا يعقل التعبّد بمتعلّقه ثانيا من جهته ، لامتناع عود المعدوم ، إذ المفروض انعدامه بالامتثال الأوّل بضرورة العقل ، والتعبّد بمتعلقه ثانيا من جهته لا موضوع له ـ حينئذ ـ فيمتنع لامتناع عوده ثانيا حتّى يتحقّق للتعبّد من جهته موضوع ، وهذا واضح غنيّ [ عن ] الاحتجاج عليه.

نعم هنا شيء ، وهو أنّ هذه العقلية (١) على تقديرها من الأحكام العقلية الغير القابلة للتخصيص ، مع أنّه ورد في مواضع من الشرع استحباب إعادة العبادة بعد الإتيان بها على الوجه المذكور :

منها : ما إذا صلّى الفريضة منفردا ، ثم أقيمت جماعة ، فإنّه ورد استحباب إعادتها جماعة ـ حينئذ ـ بأخبار كثيرة مأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام :

منها : رواية عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام : « عن الرّجل يصلّي الفريضة ، ثم يجد قوما يصلّون جماعة ، أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟ قال عليه السلام : نعم ، بل هو أفضل » (٢).

فإنّ ظاهر السؤال ـ بل صريحه ـ إعادة تلك الفريضة التي قد فعلها ، لا إيجاد صلاة أخرى مستقلّة ، فإنّ اللام في قوله : ( يعيد الصلاة ) للعهد قطعا ، فصريحها كظاهر لفظ ( الإعادة ) الإتيان بالفعل ثانيا على أنّه هو الفريضة.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والمناسب للسياق : هذه القضية العقلية ... ـ أو ـ هذا الحكم العقلي ...

(٢) الوسائل : ٥ ـ ٤٥٦ ـ الباب : ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث : ٩ ، وفي المصدر : نعم وهو أفضل.

١٥٥

عبد الله عليه السلام : أصلي ، ثمّ أدخل المسجد ، فتقام الصلاة وقد صلّيت ، فقال عليه السلام : صلّ معهم يختار الله تعالى أحبّهما إليه » ، وعن سهل ابن زياد مثلها (١).

ومنها : رواية ابن أبي عمير ، عن حفص البختري ، عن أبي عبد الله عليه السلام : « في الرّجل يصلّي الصلاة وحده ، ثمّ يجد جماعة؟ قال ـ عليه السلام ـ : يصلّي معهم ، ويجعلها الفريضة » (٢) ، وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام مثلها (٣).

فإنّ قوله عليه السلام صريح في فعل الصلاة جماعة على أنّها هي الفريضة التي فرضت عليه من قبل ، فيكون معناه إيقاعها من جهة الأمر الأوّل ، وكذا قوله : « يختار الله تعالى أحبّهما إليه » ظاهر أو صريح في احتساب تلك الصلاة عن الفريضة المأمور بها بالأمر الأوّل ، بل في تعيين مورد الامتثال فيها ، فظاهر تلك الأخبار ـ بل صريح بعضها ـ ينافي القاعدة المذكورة في بادئ النّظر بالنظر إلى أنّ منشأ حكم العقل بها إنّما هو سقوط الطلب بالمأتيّ به أوّلا الّذي لا يبقى معه موضوع للتعبّد به ثانيا من غير فرق بين أن يكون التعبّد ثانيا على وجه الإيجاب أو الندب ، فيدور الأمر بين منع هذه القاعدة أو طرح صريح تلك الأخبار وتأويل ظاهرها إلى ما لا ينافيها ، كما فعله بعضهم حيث حمل الإعادة الواردة فيها على إيجاد ذات الفعل ثانيا الّذي هو معنى الأمر بالمماثل الخارج عن محلّ النزاع في المسألة.

لكن مقتضى إمعان النّظر والتدقيق إمكان التوفيق بينهما :

__________________

(١) الوسائل : ٥ ـ ٤٥٦ ـ الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١٠ ، بتفاوت يسير.

(٢) الوسائل : ٥ ـ ٤٥٧ ـ الباب : ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث : ١١.

(٣) الوسائل : ٥ ـ ٤٥٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث : ١ ، ولكن بزيادة ( إن شاء ) في ذيل هذا الحديث.

١٥٦

بأنّ الّذي يقضي به العقل بعد امتثال الأمر على الوجه المذكور إنّما هو امتناع التعبّد بمتعلّقه من جهته ثانيا بحيث يلزم به ثانيا ، ويعاقب على تركه من جهته بأن لا يكون المأتيّ به أوّلا صحيحا من المكلف ومسقطا لذلك الأمر على تقدير اكتفائه به وعدم تعقّبه بفعل آخر ، فالقاعدة المستفادة منه إنّما هي هذه. وأمّا التعبّد بمتعلّقه ثانيا من جهته على وجه يصحّ منه المأتيّ به أوّلا على تقدير الاكتفاء به ، ويخرج به عن عهدة ذلك الأمر وعن تبعته مع بقاء ذمّته مشغولة بالأمر الثاني ، فلا يقضي العقل بامتناعه قطعا ، فيمكن حمل تلك الأخبار على التعبّد ثانيا على هذا الوجه ، فإنّ هذا أيضا إعادة حقيقة ، فلا ينافي ظاهر الإعادة ، بل يتعيّن حملها عليه بعد انحصار محاملها فيه ، وبطلان المصير إلى المجاز بعد التمكّن من الحمل على الحقيقة ، فترتفع المنافاة بينها وبين القاعدة المذكورة.

وتوضيح ذلك : أنّ ارتفاع الأمر بعد الإتيان بمتعلّقه : تارة بارتفاع صفة الحتم والإلزام المستتبع لاستحقاق العقاب على الترك فقط مع بقاء آثاره ولوازمه التي منها محبوبية متعلّقه عند الآمر في جميع أجزاء الوقت المضروب له بجميع أفراده ، وذلك فيما إذا كان هي الطبيعة المطلقة من جميع تلك الجهات.

وأخرى بارتفاع تلك الآثار ـ أيضا ـ وذلك فيما إذا كان متعلّقه مقيّدا بفرد خاصّ ، أو بإتيانه مرّة ، أو في زمان خاصّ ، فإنّه بعد إتيان المأمور بذلك المأمور به على ذلك الوجه لا تبقى محبوبية له فيما بعد أصلا.

ولا يخفى أنّ قضية قاعدة الإجزاء فيما إذا كان المأمور به هي الطبيعة المطلقة من تلك الجهات إنّما هي ارتفاعه على الوجه الأوّل فحسب ، فعلى هذا فالفعل باق بعد ارتفاعه هكذا على صفة المحبوبية المكشوف عنها به ، فإنّ لازم تعلّق الطلب بنفس الطبيعة المطلقة ـ الصادقة على جميع أفرادها على نحو سواء ، المتساوية نسبتها إلى جميع أجزاء الوقت المضروب لها ـ محبوبيّتها ، للأمر بجميع أفرادها الواقعة في أيّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ، واتّصاف كلّ فرد منها مطلقا

١٥٧

بالمحبوبية لانطباقه عليها ، سواء وجد هو وحده أو مع مماثل له من سائر الأفراد ، وسواء كان وجوده مع فرد آخر دفعة أو تدريجا ، وسواء كان ذلك هو الفرد المتأخّر في الوجود أو المتقدّم فيه ، وعلى فرض التأخّر سواء كان هو أفضل ممّا تقدّمه أو مساويا له.

نعم ، الأمر فيما إذا كان أفضل أوضح ، فإذا فرض أنّ المأمور به هو نفس الطبيعة المطلقة من تلك الجهات فلا يرتفع صفة المحبوبية عنها بعد الإتيان بفرد منها ، بل كلّ متأخّر عنه واقع في الوقت المضروب لها يتّصف بالمحبوبيّة البتّة ، فعلى هذا التقدير يمكن وقوع الأفراد المتأخّرة تعبّدا وامتثالا من ذلك الأمر الساقط بصفة الحتم والإلزام جدّاً بالإتيان بها بعنوان انطباقها على تلك الطبيعة المأمور بها المحبوبة للآمر المكشوف عن محبوبيّتها بالأمر ، ولو لم يكن هناك أمر آخر ـ أيضا ـ إذا لم يكن منع من الآمر ـ من جهة من الجهات ـ من إيجادها ، إذ معه يشكل صدق التعبّد والامتثال ، مع احتمال عدم اعتباره ـ أيضا ـ إذا كان المنع غيريّا ، فإذا أمكن ذلك ـ وأتى بها المكلّف على أنّها هو المأمور به بذلك الأمر الأوّل مع فرض عدم المنع من إيجادها ـ فتكون هي واقعة تعبّدا وامتثالا للشارع من جهة ذلك الأمر جدّاً ، لعدم توقّف صدق التعبّد والامتثال على وجود أمر فعلا بصفة الحتم والإلزام ، بل يكفي فيه بقاء الطبيعة المأمور بها على صفة المحبوبية مع الإتيان بالفرد المتأخّر على أنّها هي.

وإن أبيت إلاّ عن توقّف صدق الامتثال على بقاء صفة الحتم والإلزام ـ بزعم أنّه عبارة عن الإطاعة المتوقّفة على وجود الطلب فعلا ـ فلا مناص عن صدق التعبّد عليه لا محالة ، كما لا يخفى على المتأمّل المراجع لطريقة (١) العقلاء.

ألا ترى أنّه لو قال مولى لعبده : ( عظّم لي في هذا اليوم ) مريدا به إيجاب

__________________

(١) في الأصل : المراجع إلى طريقة ..

١٥٨

نفس طبيعة التعظيم المطلقة بالنسبة إلى أجزاء ذلك اليوم ، وبالنسبة إلى أفرادها الواقعة فيه ، فعظّم له العبد دفعة ، ثمّ عظّم له أخرى بعد ساعة مع عدم المنع من المولى منه بعنوان تحصيل تلك الطبيعة المحبوبة لمولاه المكشوف عن محبوبيتها بالأمر ، فلا يرتاب العقلاء في كون ذلك تعبّدا للمولى ، ولا يشكّون في استحقاقه بذلك مزية الثواب عليه ، ضرورة أنّهم يستقلّون بالفرق بينه في هذا الحال وبينه فيما إذا كان مكتفيا بالدفعة الأولى من جهة استحقاقه الثواب وعلوّ الرتبة عند المولى.

وبالجملة : وقوع فعل تعبّدا من جهة أمر متقوّم بأمور ثلاثة من غير حاجة له إلى شيء آخر أزيد منها :

أحدها : انطباقه على المأمور به بذلك الأمر ـ بمعنى صدق ذلك عليه ـ إذ الشيء الأجنبي عنه لا يعقل وقوعه تعبّدا من الأمر المتعلّق به.

وثانيها : بقاء ذلك المأمور به عند إيجاد هذا الفعل على صفة المحبوبية ، إذ بدونها يكون هذا الفعل عبثا خارجا عن التعبّد جدّاً.

وثالثها : عدم منع المولى من إيجاده لمنافاة طلب الترك لوقوعه تعبّدا.

نعم لو كان المنافاة من جهة ارتفاع صفة المحبوبية فيختصّ ذلك بالمنع النفسيّ لا غير ، كما احتملناه سابقا ، إلاّ أنّه يغني الشرط الثاني عنه ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فإذا كان ذلك الفعل مستجمعا لتلك الشروط فأتى به بعنوان انطباقه على محبوب المولى والّذي أمر به من قبل ، إمّا يجعل هذه (١) الجهة وصفا أو غاية ، فيقع تعبّدا من جهة ذلك الأمر جدا من غير حاجة إلى بقائه فعلا على صفة الحتم والإلزام ، بل ولا على صفة الطلب ـ أيضا ـ ومن غير فرق فيه بين أن يكون هو أوّل المأتيّ به من المأمور به الواقع حال وجود الطلب أو ما بعده

__________________

(١) أي جعل هذا العنوان. لمحرّره عفا الله عنه.

١٥٩

الموجود بعد ارتفاعه ، ومن غير فرق فيه في الصورتين بين أن يكون مجامعا مع مثله أو غير مجامع معه ، فإنّه مع وقوعه بعد إحراز تلك الشروط تعبّد للمولى من جهة ذلك الأمر مطلقا وموجب لاستحقاقه الثواب عليه كذلك ، لما عرفت من حكم العقلاء به.

هذا كلّه إذا كان الفرد المأتيّ به ثانيا مساويا للأوّل ، وأمّا إذا كان أفضل منه باشتماله على صفة حسن مفقودة في الأوّل فالأمر فيه أظهر.

فإذا عرفت ذلك فنقول : لا إشكال في أنّ المأمور به في الأوامر الواردة بالصلوات اليومية الخمس الموقتة بأوقاتها المخصوصة إنّما هي الطبيعة من حيث هي ، المطلقة من جهة خصوصيّات الأفراد الواقعة في تلك الأوقات ، ومن جهة خصوصيّات أجزاء تلك الأوقات ، ومن جهة إيقاعها مرة أو مرات ، فيعلم من ذلك أنّ المأمور به في تلك الأوامر محبوب للشارع على الإطلاق بحيث كلّ ما وجد منه في الوقت المحدود له يكون محبوبا له البتّة ، فإنّ ذلك لازم تعلّق الأمر بالطبيعة (١) ، كما عرفت.

فعلى هذا : فإذا أوجد المكلّف بعد الإتيان بفرد منه فردا بلحاظ انطباقه على الطبيعة المأمور بها المحبوبة للشارع بأحد الوجهين المشار إليهما مع عدم المنع من إيجاد ذلك الفرد ، فيقع ذلك تعبّدا للمولى من جهة ذلك الأمر البتّة ، ويصدق عليه الإعادة ـ أيضا ـ على سبيل الحقيقة ، فإنّه ليس إلاّ التعبّد بالفعل ثانيا في الوقت من جهة الأمر الأوّل ، والمفروض حصوله في المقام ، ولا شبهة أيضا ـ في عدم المنع من إعادة الصلاة جماعة ، كما نطقت به الأخبار ـ أيضا ـ فحينئذ يحمل الأمر بالإعادة في تلك الأخبار على هذا المعنى ، فيدفع إشكال المنافاة بينها وبين قاعدة الأجزاء ، فتدبّر.

__________________

(١) في الأصل : تعلّق الأمر على الطبيعة ..

١٦٠