تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

والحاصل : أنّ هنا حيثيتين : حيثية المقدّمة ، وحيثية التوصّل إلى ذي المقدّمة ، والتقييدية التي أخذت قيدا في المأمور به بالأمر الغيري هي الأولى ، وأمّا الثانية فهي تعليلية فحسب.

وإن شئت قلت : إنّ الأمر يتعلّق بكلّ واحدة من آحاد المقدّمات بعنوان كونها مقدّمة لغرض التمكّن من الوصول إلى ذي المقدّمة بمقدار ما يحصل من تلك المقدّمة من التمكّن ، لا لغرض التوصّل الفعلي بها ، فإنّه لا يحصل بها وحدها ، وإنّما هو يحصل بمجموع المقدّمات ، وذلك الغرض حاصل مع كلّ واحدة من المقدّمات على تقدير وجودها ، فيكون المأمور به حاصلا مع ما يكون الغرض منه أيضا ، فإن شاء المستدلّ فليسمّ ذلك الغرض حيثية تقييدية (١).

ومما حقّقنا ظهر فساد تعريفه للواجب الغيري أيضا (٢) ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد يورد على ذلك المستدلّ بأنّ ذلك التفصيل ـ باعتبار أخذ قيد التوصّل في موضوع الأمر الغيري ـ مستلزم للالتزام بعدم التفصيل وإلغاء ذلك القيد ، ويلزم منه الالتزام بأحد أمرين : إمّا القول بوجوب المقدّمة مطلقا ، وإمّا القول بعدم وجوبها كذلك.

بيان ذلك : أنّ المقدّمة الموصلة مركّبة من جزءين : أحدهما نفس طبيعة المقدّمة ، وثانيهما القيد كما في سائر المقيّدات ، فيكون كلّ من الجزءين مقدّمة لذلك المركّب الّذي هو مقدّمة الواجب ، وداخلا في محلّ النزاع لرجوعه إلى كونه مقدّمة للواجب ، لأنّ مقدّمة الشيء مقدّمة لذلك الشيء بالضرورة.

__________________

(١) وبالجملة : صريح الوجدان شاهد بأنّ العقل إنّما يحكم بوجوب المقدّمة بصفة المقدّمية الموجودة فيها الموجبة لتمكّن المكلّف من ذيها ، لا لأجل الإيصال إليه. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) ولذا عدلنا نحن عنه أيضا ، وعرّفناه بما عرفت. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٢١

ونحن ننقل الكلام في الجزء الأوّل ـ وهو (١) الحصّة الموجودة من طبيعة المقدّمة في ضمن ذلك المركّب ـ ونقول :

إنّ المفصّل : إمّا أن يقول بوجوب تلك الحصّة من باب كونها مقدّمة لذلك المركّب الّذي هو مقدّمة للواجب ، أو من باب كونها مقدّمة للواجب بالأخرة ، أو لا.

وعلى الأوّل : إمّا أن يقول بوجوبها بوصف كونها موصلة إلى ما هي مقدّمة [ له ] ، وهو ذلك المركّب أو الواجب (٢) الّذي هو (٣) مقدّمة له ، أو بدون اعتبار ذلك الوصف.

لا سبيل إلى أوّل هذين الشقّين ، وهو القول بوجوبها باعتبار ذلك الوصف ، نظرا إلى أنّها حينئذ أيضا مركّبة من الجزءين كالمركّب الأوّل ، ويكون كلّ جزء مقدّمة له ، وننقل الكلام في الحصّة الموجودة في ضمن هذا المركّب الثاني ، فإن قال حينئذ أيضا بوجوبها باعتبار ذلك الوصف فننقل الكلام إلى المركّب الثالث ، وهكذا ، فإن قال في كلّ من المقدّمات تلك المركّبات بوجوبها باعتبار ذلك الوصف يلزم التسلسل ، وأن وقف في مرتبة وقال في تلك المرتبة إمّا بعدم وجوبها

__________________

(١) في الأصل : وهي.

(٢) لا يقال : لا يمكن القول بوجوبها باعتبار كونها موصلة إلى الواجب ، وإنّما هي موصلة إلى مقدّمته ، لا إليه.

لأنّا نقول : قد مرّ أنّ المراد بالموصلة ليس العلّة التامّة للإيصال ، مع أنّه نقول بوجوبها حينئذ باعتبار الإيصال إلى مقدّمته أيضا ، ضرورة أنّها أحد الجزءين وهو غير كاف في وجود المركّب ، بل المراد فعلية الإيصال ، وهي تابعة لها بالنسبة إلى الواجب أيضا ، وليست حاصلة لها ولو بضميمة أمور أخرى ، فلا تغفل. لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) كذا في الأصل ، لكن الصحيح ظاهرا : ( هي ).

٣٢٢

أصلا ، أو بوجوبها مطلقا بالنّسبة إلى هذا الوصف ، فهو ـ مع ما يرد عليه (١) : من أنّه لا معنى للترقّي إلى تلك المرتبة الخاصّة مع اعتبار ذلك الوصف في كلّ مرتبة متقدّمة عليها وإلغاء اعتباره في تلك المرتبة ، لعدم خصوصية في نظر العقل لبعض المراتب ومزيّة له على غيره فيما هو مناط حكمه بالوجوب المقدّمي ـ راجع إلى أحد الوجهين الآخرين ، وستعرف بطلانهما أيضا.

وأمّا ثانيهما (٢) : فهو مستلزم لوجوب القول بوجوب المقدّمة مطلقا إذ لا خصوصيّة لبعض المقدّمات ـ كما عرفت ـ على بعض من حيث تقدّم بعضها على بعض طبعا أو وصفا ، أو من حيث كون بعضها مقدّمة للواجب وكون البعض الآخر مقدّمة للمقدّمة ، فإذا وجب هذه لزم وجوب مطلق المقدّمات للواجب.

وأمّا الوجه الآخر وهو عدم وجوبه مطلقا فهو مستلزم لعدم وجوب المقدّمة مطلقا ، لما ذكر من عدم خصوصية في نظر العقل بالنسبة إلى بعض المقدّمات.

هذا ، [ و ] قال ـ دام ظلّه ـ : لكنّ الإنصاف عدم ورود ذلك على المفصّل ، فإنّ غرضه ليس وجوب المقدّمة الموصلة بقيد الإيصال ، بأن يكون ذلك الوصف معتبرا في موضوع الوجوب ، بل غرضه وجوب ذات تلك المقدّمة الخاصّة الممتازة عن غيرها بوجودها الخارجيّ ، كما هو الحال في سائر الموجودات الخارجية ، واعتبار ذلك الوصف إنّما هو من باب تعريف المقدّمة الواجبة ، وهي تلك المقدّمة الخاصّة به ، فيكون ذلك الوصف معرّفا لا قيدا مأخوذا في موضوع الوجوب المقدّمي (٣).

__________________

(١) قولنا : ( هو ) في قولنا : ( فهو مع ما يرد عليه ) مبتدأ ، وخبره قولنا : ( راجع ). [ لمحرّره عفا الله عنه ].

(٢) ( أي ثاني الشقين المذكورين ) على ما جاء في هامش الأصل.

(٣) بمعنى أنّ الواجب من المقدّمة عنده هو فرد خاصّ من المقدّمة ممتاز بوجوده الخارجي عمّا عداه

٣٢٣

مع أنّه في نفسه غير معقول أيضا ، فإنّ وصف الإيصال ليس كسائر الأوصاف الصالحة لاعتبارها في موضوع الحكم كما هو الحال في الرقبة المؤمنة ، ضرورة أنّه وصف منتزع عن تعقّب ذي المقدّمة ووجوده بعد تلك المقدّمة ، فلو اعتبر في موضوع الوجوب المقدّمي لكان مستلزما لتعلّق الأمر المقدّمي الغيري بنفس الواجب النفسيّ أيضا ، مع كون ذلك الوجوب الغيري ناشئا من الأمر النفسيّ المتعلّق بذلك الواجب ، فيكون الواجب النفسيّ واجبا من باب المقدّمة لنفسه أيضا ، وهو غير معقول.

بيان الملازمة : أنّ الأمر بالمقيّد أمر بكلّ واحد من جزأيه ، حيث إنّه مركّب منهما ، ولا يحصل إلاّ بهما ، فيجب تحصيل القيد أيضا من باب المقدّمة ، كوجوب تحصيل ذات المقيّد كذلك ، وذلك القيد إذا كان من الأمور المتأصّلة فلا إشكال ، وإن كان من الأمور المنتزعة فيرجع وجوب إيجاده إلى وجوب إيجاد منشأ الانتزاع في الحقيقة ، إذ لا حقيقة للأمر الانتزاعي حتّى يكون الواجب هو في الحقيقة ، فإذا بنينا على اعتبار وصف الإيصال في موضوع الوجوب المقدّمي مع أنه وصف منتزع من وجود ذي المقدّمة الّذي هو الواجب النفسيّ ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى وجوب ذلك الواجب النفسيّ بالوجوب الغيري من باب المقدّمة لنفسه.

هذا مضافا إلى أنّ الأمر المقدّمي لا يتعلّق بالأجزاء العقلية ، بل إنّما هو متعلّق بالأجزاء الخارجيّة ، وذلك لأنّ المقدّمة حقيقة إنّما هي الأشخاص ، لأنّها مما يتوقّف عليه وجود الواجب لا المفاهيم الكلية ، إذ لا توقّف له عليها أصلا ، إذ

__________________

من الأفراد ، لكن لمّا أراد المستدلّ إراءته لنا وتعيينه ، ولا شبهة أنّ تعيين الشيء إما بالإشارة الحسّية إليه ، وإمّا بالتعبير عنه بوصف خاصّ به مساو له ، والأوّل غير ممكن هنا ، فعيّنه بالثاني وعرّفه به ، فإنّه لا وصف له خاصّ به إلاّ وصف الإيصال وتعقّب ذي المقدّمة معه. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٢٤

ليس هي من حيث هي مؤثّرة في وجوده أصلا ، ولا ريب أنّ المقيّدات وإن كانت مركّبة عقلا وفي ظرف الذهن إلاّ أنّها في الخارج بسيطة البتّة ، وليس لها فيه جزء حتى يكون الأمر بها أمرا به من باب المقدّمة ، فالمقدّمة الموصلة ليس لها جزءان في الخارج حتى ينقل الكلام إليهما ، بل هي أمر بسيط في الخارج ، فعلى هذا فلا وجه للإيراد المذكور على تقدير اعتبار صفة الإيصال في موضوع الأمر المقدّمي أيضا ، فافهم.

أقول : لا يخفى أنّ الجواب عن الإيراد بجعل الوصف معرّفا غير مجد للمفصّل ، فإنه جعله قيدا في موضوع الأمر المقدّمي الغيري ، كما ينادي به تعريفه الواجب الغيري : بأنّه ما يكون الحامل على إيجابه التوصّل إلى الغير ، ويكون التوصّل مأخوذا في موضوعه ، بمعنى أنّ الواجب هو المقدّمة بهذا الوصف ، وبهذا فرّق بينه وبين الواجب النفسيّ ، وقال : إنّ الواجب النفسيّ ما لا يكون الحامل على الإيجاب ـ وهو التوصّل إلى الغير ـ مأخوذا في موضوع الأمر.

وكذا كلامه الآخر في طيّ احتجاجه على ما صار إليه : وهو أنّ وجود ذي المقدّمة بعدها شرط الوجود للمقدّمة ، لا شرط الوجوب ، إذ لا ريب أنّ الوصف المعرّف لا دخل له في وجود شيء أصلا وإن كان لا ينفكّ عنه ، فحينئذ يتّجه عليه أيضا ما ذكرنا من عدم معقولية اعتبار ذلك الوصف لكونه منتزعا من وجود ذي المقدّمة ، ولا مدفع عنه أصلا على فرض دفع الإيراد المتقدّم بالوجه الثاني من الدفع ، فتدبّر (١).

__________________

(١) اعلم أنّ ثمرة النزاع في أنّ الواجب من المقدّمة هي الموصلة منها أو الأعم تظهر في مواضع

٣٢٥

[ التوصلي والتعبّدي ]

وقد ينقسم باعتبار آخر إلى التوصّلي والتعبّدي :

والأوّل ـ ما يكون الغرض منه حصول نفسه على أيّ وجه كان ، وبعبارة أخرى : ما يكون الغرض منه الوصلة إلى نفسه ـ كما يشعر به اسمه ـ بحيث لو فرض تحقّقه ووجوده بأيّ نحو كان لكان مطابقا للغرض.

والثاني ـ ما يكون الغرض منه وجوده على وجه التعبّد والامتثال ، لا مطلقا ، بمعنى أنّه لا يكفي وجود المأمور به الواجب في حصول الغرض ، بل إنّما يحصل هو به إذا وقع على وجه التعبّد والامتثال ، وذلك أحسن ما عرّفوهما به.

ثمّ إنّ الواجب التوصّلي قد يكون من المعاملات ، وهي ما لا يتوقّف صحّتها على نيّة القربة ، وقد يكون من العبادات ، وهي ما يتوقّف صحّتها عليها ، وذلك بأن يكون المأمور به نفس العبادة ، كما [ في ] أوامر السجود لله أو الخضوع له أو الركوع له ، وهكذا ، بأن يكون وقوع تلك الأفعال لله قيدا للمأمور به ، ومعتبرا فيه ، لا غرضا خارجا عن المأمور به كما في الواجب التعبّدي ، فيكون الفرق بين هذا القسم من التوصّلي وبين التعبّدي : أنّ هذا القسم بنفسه عبادة ،

__________________

تعرض لها المفصّل المذكور (أ) بعد تعريف الواجب الغيري والنفسيّ (ب) ، وذكر هذا النزاع عنده ، فإنه تعرّض له في موضعين : أحدهما ما عرفت ، وثانيهما أواخر البحث في مقدّمة الواجب وفي تنبيهاته (ج) ، وذكر الثمرات في الموضع الأوّل ، فراجع. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) وهو صاحب الفصول قدّه.

(ب) الفصول : ٨٠ ـ ٨١.

(ج) الفصول : ٨٦ ، في التنبيه الأوّل.

٣٢٦

بخلاف الواجب التعبّدي ، فإنّه إنّما يقع عبادة إذا وقع بداعي الغرض المقصود منه ، وهو الامتثال ، وذلك أنّ العبادة إنّما تتقوّم بقصد الامتثال ، وكلّما وقع الفعل بداعيه يصير عبادة ، والقسم المذكور لمّا كان قصد الامتثال مأخوذا في حقيقته وموضوعه للأمر فتوقّفه على قصد الامتثال لأجل توقّف موضوعه عليه ، وهو من قبيل توقّف المركّب على جزئه ، وبعد قصد الامتثال يتحقّق موضوعه ، ويكون عبادة بمجرّد تحقّق موضوعه ، ضرورة أنّه لا حاجة فيه إلى قصد امتثال آخر ، هذا بخلاف الواجب التعبّدي ، حيث إنّ قصد الامتثال خارج عن موضوعه ، وليس محقّقا له ، بل يكون غرضا من الأمر به ، فلا يكفي وجوده بنفسه في صيرورته عبادة.

وإن شئت قلت : إنّ الفرق بينهما : أنّ هذا القسم من التوصّلي يكون قصد الامتثال معتبرا فيه على وجه القيدية لموضوعه ، وأما في التعبّدي فهو معتبر على وجه الغرضية بحيث يكون خارجا عن المأمور به ، وليس من القيود المعتبرة فيه ، بل من القيود المعتبرة في الغرض من الأمر به.

فإن قلت : إنّ الفرق الأوّل ـ وهو أنّ هذا القسم من التوصّلي يقع عبادة بمجرّد وجوده ، بخلاف التعبّدي ، حيث إنّه لا يقع عبادة إلاّ بقصد الامتثال ـ إنّما يستقيم بناء على وضع ألفاظ العبادات للأعمّ ، وأمّا بناء على كونها أسامي للصحيحة ـ كما هو المختار ـ فلا ، نظرا إلى أنّها لا تقع صحيحة إلاّ بقصد الامتثال ، ومع وقوعها معه تكون هي بمجرّد وجودها عبادة.

قلنا : قد حقّقنا ـ في محلّه ـ أنّها على فرض وضعها للصحيحة ـ كما هو المختار ـ يكون معناها هو ما يكون موضوعا للأمر ، وأنّه لا بدّ أن يكون المراد بالصحيح هذا المعنى ، لا الموافق للأمر ، أو الواقع ـ على وجه التّعبّد والامتثال الّذي مرجعه إلى الموافق للأمر ـ ، إذ لا يعقل ذلك في الأمر لأدائه إلى وقوع الشيء موضوعا لنفسه المستلزم للدور ، والّذي يعقل إنّما هو اعتبار ذلك من حيث

٣٢٧

كونه غرضا خارجا عن المأمور به ، مع إفادته بخطاب آخر لعدم صلاحية ذلك الأمر لذلك ، فالموضوع له لتلك ـ حينئذ أيضا ـ أعمّ ممّا يقع على وجه التعبّد والامتثال ، فلا يكفي وجوده بمجرّده لصيرورته عبادة ، بل إنّما يكفي إذا تحقّق على وجه خاصّ.

ومن هنا ظهر : أنّ المأمور به في التعبديّات أعمّ من الغرض مطلقا ، سواء قلنا بوضع ألفاظ العبادات للصحيحة أو للأعمّ ، وفي التوصّليات إما أخصّ أو مساو كما في القسم المذكور من التوصّلي ، وهو ما يكون نفسه من العبادات.

ثمّ إنّك قد عرفت الفرق بين الواجب التوصّلي وبين التعبّدي ممّا عرّفناهما به من أنّ الفرق بينهما : أنّ الأوّل ما يكون الغرض منه الوصلة إلى نفسه كيف ما اتّفق ، وأنّ الثاني ما يكون الغرض منه إيقاعه على وجه التعبّد والامتثال.

وقد يفرّق (١) بينهما من حيث اللازم : بأنّ الأوّل يجوز اجتماعه مع الحرام دون الثاني ، وظاهر ذلك أنّ من آثار التوصّلي جواز وقوعه موردا للأمر والنهي بحيث يجتمعان فيه ، ومن آثار الثاني امتناع ذلك فيه.

لكن لا يخفى فساد ذلك على من له أدنى تأمّل ، ضرورة أنّ مناط امتناع اجتماع الأمر والنهي عند العقل ـ على القول به ـ إنّما هو التناقض بين نفس الأمر والنهي ، لا كونها أمرا تعبديّا ، وذلك لا يفرّق فيه بين ما إذا كان متعلّقهما من التوصّليات أو التعبّديات ، فإن امتنع امتنع مطلقا ، وإن جاز جاز كذلك ،

__________________

(١) ( هذا الفرق من صاحب المعالم (أ) ( قدّه ) ، على ما في هامش الأصل.

__________________

(أ) معالم الدين ـ الطبعة الحجرية ـ : ٩٩ عند قوله : ( والجواب عن الأوّل ). ، لكنّه (ره) ترقّى في الجواب بعد ذلك ، فمنع كونه مطيعا في خياطته الثوب في المكان المخصوص المنهيّ عن الكون فيه ، فتأمّل ).

٣٢٨

فالتفصيل غير معقول.

وكون الغرض من التوصّلي الوصلة إلى نفسه كيف ما اتفق ، ومن التعبّدي إيقاعه على وجه التعبّد ، لا يصلح لكونه منشأ للفرق في حكم العقل بامتناع الاجتماع لوجود ما هو المناط في حكمه في المقامين من غير فرق أصلا.

هذا ، لكن الظاهر أنّ مراد القائل بالاجتماع إنّما هو سقوط الأمر بمعنى أنّ الأمر في الواجب التوصّلي وإن تعلّق بالمباح ، لكن الإتيان بالفرد المحرّم من مصاديق الفعل المأمور به يوجب سقوط ذلك الأمر عن الأفراد المباحة. هذا بخلاف التعبّدي فإنّ الفرد المحرّم لا يصلح لسقوط الأمر عن المباح منه. وهذا المطلب حقّ لا غبار عليه.

والوجه في ذلك : أنّ الغرض في الواجبات التوصّلية أعمّ من المأمور به ، فإنّ الغرض فيها ـ كما عرفت ـ إنّما هو حصول الفعل من المكلّف لا مقيّدا بوقوعه منه على وجه الامتثال ، فيكفي في تحصيل الغرض منها إيجادها في ضمن الفرد المحرّم أيضا وإن لم يكف ذلك في امتثال الأمر ، حيث إنّه لا يصلح لتعلّقه بالفعل بهذا الإطلاق ، فإنّ النهي عن الفرد المحرّم يمنع عن تعلّقه بالفعل على وجه الإطلاق بالنسبة إلى هذا الفرد ، كما أنّ غفلة المكلّف ـ فيما إذا كان غافلا بالنوم أو الإغماء أو غير ذلك ـ مانعة عن تعلّقه به بالنسبة إلى حال الغفلة ، مع أنّه لو أتى بالفعل لكان منطبقا على غرض الآمر ، وموجبا لسقوط الأمر عن الفعل بعده.

وبالجملة : الغرض في الواجب التوصّلي إنّما يكون على وجه يحصل بالإتيان بالفعل على أيّ وجه اتّفق ، بحيث لو لم يكن مانع خارجي عن الأمر به بهذا الإطلاق لكان مأمورا به كذلك ، لتساوي جميع أفراد الفعل ـ من الأفراد الصالحة للأمر بها وغيرها ـ في تحقّق المصلحة الداعية للأمر بتلك الأفراد الصالحة له التي يكون الغرض من الأمر حصولها ، فيكون الإتيان بغير الفرد

٣٢٩

المأمور به محصّلا لما يحصل من الفرد المأمور به من الغرض ، فيكون مسقطا للأمر عن ذلك الفرد لذلك ، لأنّه لا يبقى الأمر بعد حصول الغرض.

هذا بخلاف الواجب التعبّدي ، فإنّ الفرد الغير المأمور به فيه ليس مساويا للفرد المأمور به في تحصيل الغرض منه ، حتى يكون حصوله مسقطا للأمر عنه ، لأنّ الغرض منه إنّما هو الامتثال ، وهو لا يحصل إلاّ بإيقاع الفعل بداعي الأمر ، والفرد الغير المأمور به لا أمر فيه ، حتى يوقع بداعيه ، فيكون منطبقا على الغرض ، فعدم الأمر بالفرد المحرّم من الفعل حينئذ من جهة عدم المقتضي في ذلك الفرد ، لا من جهة وجود المانع عن تعلّق الأمر كما في التوصّلي ، فالغرض في التعبّدي لا يحصل إلاّ بالإتيان بالفرد المأمور به لا غير ، فهو فيه إما مساو للمأمور به ، أو أخصّ كما مرّ اختياره منّا.

هذا ، لكن الإنصاف : أنّ كون الفرد المحرّم مسقطا للأمر عن المباح في الواجب التوصّلي لا يصحّ القول به مطلقا ، إذ ليس لازمه كون الغرض منه أعمّ من المأمور به المتحقّق بالفرد المحرّم ، بأن كان عدم تعلّق الأمر بالفرد المحرّم مطلقا من جهة مزاحمة النهي عن ذلك مع بقائه على المصلحة الموجودة في الفرد المباح وتساويه له في تحصيلها ، بل قد يكون الغرض فيه مساويا للمأمور به ، ويكون عدم تعلّقه بالمحرّم من جهة كونه فاقدا لتلك المصلحة ، لا من جهة مزاحمة النهي وإن كان المفروض كونه كذلك.

وبعبارة أخرى : يكون ذلك الفرد مشتملا على جهة المبغوضية الموجبة للنهي عنه فحسب ، وليس كالقسم الأوّل من حيث كونه مشتملا على جهتي المحبوبية والمبغوضية من المصلحة والمفسدة ، وروعي فيه جانب المفسدة ، فنهي عنه لحصول تلك المصلحة المقصودة بغير ذلك الفرد من الأفراد المباحة ، فحينئذ لا يعقل كونه مسقطا للأمر عن الفرد المباح.

هذا مضافا إلى أنّ المأمور به في بعض الواجبات التوصّلية ـ كالسجود

٣٣٠

لله والركوع وغيرهما مما يكون من العبادات ـ لا يمكن حصوله بالمحرّم كما لا يخفى ، والغرض فيه مساو للمأمور به لا محالة.

ثمّ إنّه إذا كانت المادّة المعروضة للأمر مقيّدة بالأفراد المباحة ـ بأن ثبت تقيّدها بها : إمّا من دليل خارجي غير النهي عن الفرد المحرّم ، بأن دلّ على أنّ المقصود والغرض إنّما هو إيجادها في ضمن الأفراد المباحة ، أو من ذلك النهي ولو بضميمة بعض القرائن ـ فلا إشكال حينئذ في كون الغرض مساويا للمأمور به ، فلا يحصل بالفرد المحرّم.

وأما إذا لم تكن المادّة مقيّدة ، بل إنّما هي مطلقة فهل يجوز التمسّك بإطلاقها ـ فيما إذا كان المقام مقام البيان الّذي هو شرط التمسّك بالإطلاق ـ على أعمّية الغرض ، وكون الغرض هو حصول المادّة كيف كان وإن كان في ضمن فرد محرّم ، أو لا؟.

قد يتخيّل الثاني بتوهّم أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ فيما لو كان المراد من المطلق المقيّد لتوهّم إرادة الإطلاق ، نظرا إلى إطلاق اللفظ ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فإنّه لا يتوهّم فيه إرادة الإطلاق مطلقا حتى في صورة إطلاق المادّة.

لكن الظاهر هو الأوّل لفساد التخيّل المذكور بأنّ عدم تعلّق الأمر بشيء مع تعلّقه بغيره قد يكون من باب قصره على ذلك الغير وتخصيصه به مع صلاحيته لتعلّقه بذلك الشيء لو لا التخصيص ، كما إذا قيل : أكرم زيدا إن جاءك ، فإنّ الأمر المذكور صالح لتعلّقه بإكرام زيد مطلقا ـ لو لا تخصيصه بالشرط المذكور ـ بأن يقول : أكرم زيدا جاءك أو لم يجئ ، وقد يكون من جهة قصور ذلك الأمر وعدم صلاحيته لشموله له ، بحيث لا يجوز للآمر تعليقه بذلك الغير أيضا ، وعدم تعلّق الأمر بشيء إنّما يكون كاشفا عن خروجه عن المقصود والغرض إذا كان على الوجه الأوّل ، وأمّا على الثاني ـ كما هو الحال فيما نحن فيه ـ فلا يجوز القطع بكون المقصود مقصورا على مورد الأمر حينئذ ، بل يحتمل

٣٣١

كونه أعمّ بحيث يشمل الفرد المحرّم ، فيوهم إرادة كون المادّة غرضا مطلقا ، فيصحّ التمسّك بإطلاقها على إطلاق كونها غرضا فيما إذا كان المقام جامعا لشرائط التمسّك بالإطلاق.

توضيح المقال : أنّ القيود الطارئة على المأمور به على ثلاثة أقسام :

الأوّل ـ ما يلحقه قبل تعلّق الأمر به بمعنى أنّه من الأمور التي يلاحظها الآمر ويجعلها قيودا للمأمور به ، فيورد الأمر على ذلك المقيّد.

والثاني ـ ما يلحقه بعد تعلّق الأمر به ، بحيث لا يمكن تقييد المأمور به قبل الأمر وإيراد الأمر على الفعل المقيّد به ، بل لا بدّ في إفادة اعتباره فيه من أمر آخر ، وهذا كالامتثال المعتبر في العبادات ، فإنّه لا يمكن جعل المأمور به مقيّدا بكونه على وجه الامتثال في الأمر الأوّل ، بل لا بدّ من آخر دلّ على اعتباره فيه.

والثالث ـ ما يلحقه بعد تعلّق الأمر به ، ولا يمكن لحوقه قبله لكونه من الأوصاف المنتزعة عن الأمر ككون الشيء مطلوبا ومأمورا به.

لا إشكال في جواز التمسك بإطلاق المادّة على نفي القسم الأوّل عند الشكّ في صورة اجتماع شرائط التمسّك ، وعلى كون الغرض أعم من المقيّد بذلك القيد المشكوك في اعتباره ، فإنه ممّا يصلح لتقييد المادّة به ، ويتوهّم الإطلاق من إطلاق المادّة بالنسبة إليه.

وأمّا القسم الثاني : فلا يجوز التمسّك به على نفيه ، لأنه ليس من شأنه تقييد المادّة به.

وأمّا الثالث : فهو كالثاني ، فإنّه مما لا يمكن اعتباره في المأمور به قبل الأمر ، بل وصف منتزع منه ، فليس من شأنه تقييد المادّة به ، بل لا بدّ في تقييده من دليل آخر.

والقيد المحتمل ـ فيما نحن فيه ـ اعتباره في المادّة من جهة كونها غرضا

٣٣٢

إنّما هو من القسم الأوّل ، فإنّ الشكّ في المقام : أنّ المادّة ـ من جهة كونها غرضا ـ هل هي مقيّدة في نظر الآمر بكونها في ضمن الأفراد المباحة ، أو مطلقة؟ ولا ريب أنّ هذا التقييد مما يلاحظه الآمر قبل الأمر ، فلا مانع من التمسّك بإطلاقها من هذه الجهة ، وأمّا المانع من جهة عدم تعلّق الأمر بها بالنسبة إلى الفرد المحرّم فقد عرفت الكلام فيه ، فافهم.

ثمّ إنّه قد يفرّق بين الواجب التوصّلي وبين التعبّدي بكون الأوّل بحيث يسقط بفعل الغير وبالفعل الغير الاختياري الصادر من المأمور ، بخلاف التعبّدي ، فإنّه بحيث لا يسقط إلاّ بفعل المأمور نفسه مع صدوره منه عن اختياره وشعوره به.

لكن لا يخفى على المتفطّن فساد ذلك الفرق بإطلاقه ، فإنّ ما ذكر بالنسبة إلى التعبّدي وإن كان صحيحا على وجه الإطلاق ، لكن بالنسبة إلى التوصّلي لا يصحّ كذلك ، فإنّه إنّما يتمّ بالنسبة إلى التوصّليات التي يكون غرض الشارع حصولها في الخارج من غير مدخلية لمباشرة المأمور أو لاختياره ، وإنّما يكون أمره للمكلّف (١) من جهة أنّ غرضه يتوقّف على سبب موجد له ، وهو من الأسباب الموجدة له ، بحيث يكون هو وغيره من جهة السببية سواء.

وأمّا بالنسبة إلى التوصّليات التي لمباشرة المأمور أو لاختياره دخل في تحقّق الغرض منها فلا ، ولا يمكن القول بانحصار التوصّلي في الخارج في القسم الأوّل ، فإن المضاجعة مع الزوجة ووطأها من الواجبات التوصّلية بلا شبهة مع أنهما لا يسقطان بفعل الغير ، ونظير ذلك في الواجبات التوصّلية فوق حد الإحصاء.

ثمّ إنّه هل يمكن التمسّك هنا أيضا في مقام الشكّ بإطلاق المادّة على

__________________

(١) في الأصل : بالمكلّف ..

٣٣٣

أعمّية الغرض بالنسبة إلى صدورها من الغير أو من غير اختيار المكلّف كما مرّ في المقدّمة المحرّمة ، أو لا؟.

لا شبهة في عدم جواز التمسّك بإطلاقها على أعمّية كونها غرضا بالنسبة إلى فعل الغير ، فإنّها وإن كانت صادقة على فعل الغير أيضا إلاّ أنّ ظاهر الأمر كون الغرض صدورها من خصوص المأمور ، فإنّ ظاهره هو الطلب منه نفسه ، بحيث يرجع عند العقل إلى تقييد المادّة.

وبعبارة أخرى : إنه بحسب القواعد اللفظية وإن كان المأمور به مطلقا إلاّ أنّه بعد ملاحظة طلبه من هذا المكلّف الخاصّ على ما هو ظاهر الأمر يكون (١) المطلوب والمقصود بالدّقة العقليّة هو الفعل المقيّد بصدوره من ذلك المكلّف الخاصّ.

وأمّا بالنسبة إلى فعل نفس المأمور إذا صدر من غير اختياره فالأولى التفصيل بين مراتب الصدور من غير اختيار بجواز التمسّك في بعضها دون أخرى.

بيان ذلك : أنّ الفعل الغير الاختياري قد يصدر منه على وجه يكون هو بمنزلة الآلة ، كما إذا كان نائما ـ مثلا ـ فأخذ بيده (٢) أحد فضرب بها آخر ، وقد يصدر منه على وجه المباشرة ، لكنّه غير ملتفت إلى عنوان الفعل ولا إلى أصله ولا إلى مورده ، كما إذا كان نائما أو مغمى عليه ، فحرّك يده فضرب بها آخر ، وقد يصدر منه على وجه المباشرة مع قصده والتفاته إلى أصل الفعل وعنوانه ، مع عدم قصده إلى مورده كأن قصد المأمور بضرب زيد ضرب شخص خاصّ معتقدا بأنه عمرو ، فضربه وبان كونه زيدا.

__________________

(١) في الأصل : فيكون ..

(٢) في الأصل : من يده ..

٣٣٤

لا إشكال في صدق المادّة على هذه الأفعال الغير الاختيارية في جميع تلك المراتب ، لكن الظاهر انصرافها في ضمن هيئات الأفعال إلى غير الصادر منها في المرتبة الأولى ، فإنّه يصدق فيها أنّه لم يضرب ، وإنّما ضرب الّذي أخذ يده (١) وضرب بها آخر ، فحينئذ إذا كان مأمورا بضرب ذلك المضروب لم يكن ذلك مسقطا للأمر عنه ، فإنّ ظاهر ( اضرب ) ـ مثلا ـ هو طلب الضرب منه على وجه المباشرة ، فيكون الحكم في تلك المرتبة كما في فعل الغير.

وبالجملة : المادّة في ضمن هيئة الأمر منصرفة إلى ما ينصرف إليه في ضمن هيئتي الماضي والمضارع ، فيكون المطلوب والمقصود هو هذا المعنى المنصرفة إليه المادّة ، فلا بدّ في سقوط الغرض من إحراز صدق انتساب المادّة إلى هذا الشخص المأمور بصيغة الماضي ـ مثلا ـ ، بأن يصدق على الفعل الصادر منه أنه فعله حتى يكون آتيا بالغرض من امر ( افعل ) ، ولا ريب أنّه لا يصدق في الصورة المذكورة أنّه ضرب فلانا ، وإنّما يصدق ذلك بالنسبة إلى الآخذ بيده الضارب بها ذلك الشخص الثالث.

وبعبارة أخرى : إنّ ظاهر الأمر طلب الفعل من المأمور نفسه على وجه يكون هو الموقع إيّاه والموجد له ، فيكون الغرض بظاهر الأمر هو الفعل الصادر من نفسه على وجه يصدق عليه أنه أوقعه وأوجده ، وهذا المعنى لا يصدق في الصورة المذكورة على فعل النائم المذكور.

هذا في المرتبة الأولى.

وأمّا في سائر المراتب فلا يبعد دعوى هذا الانصراف في غير الأخيرتين منها ، وأما فيهما فلا يبعد دعوى صدق الانتساب على الوجه المذكور ، فيمكن التمسّك بإطلاق المادّة فيهما على إطلاق الغرض بالنسبة إليهما لصلاحية تقيّدها

__________________

(١) في الأصل : أخذ من يده ..

٣٣٥

بهما ، وتوهّم الإطلاق لو كان المراد المقيّد مع عدم تقيّد اللفظ وإن لم تكونا صالحتين لتعلّق الأمر بهما إلاّ أنّه لقصور الأمر ـ كما مرّ في الفرد المحرّم ـ فيكون الفعل الصادر فيهما مبرئا للذمّة عن التكليف ، فإنّ العقل لا يلزم المكلّف بأزيد (١) من إطاعة الأمر بمعناها الأعمّ ، وهو تحصيل غرض المولى حذرا من تبعة المؤاخذة والعقاب ، فإنّه المدار في المؤاخذة واستحقاق العقاب ، إلاّ أنّ مصاديق الغرض مختلفة ، فإنّها في التوصّليات على وجه لم يعتبر في حصوله قصد الامتثال ، فيكتفي العقل بإيجاد الفعل ولو على غير جهة الامتثال ، وفي التعبديّات على وجه اعتبر في حصوله قصد الامتثال ، فيلزم العقل بإيجاده مقرونا بقصد الامتثال ، لتوقّف حصول الغرض عليه الّذي هو المدار في استحقاق العقاب.

__________________

(١) في الأصل : إلى أزيد.

٣٣٦

في تأسيس الأصل المعوّل عليه عند الشك

في التعبدية والتوصّلية

ثمّ إنّه إذا ثبت وجوب شيء وتردّد بين كونه تعبديّا متوقّفا حصوله على قصد الامتثال وبين كونه توصّليا غير متوقّف حصوله عليه ، فهل هنا أصل يشخّص أحد الأمرين من جهة الأمر أو من الخارج ـ من الأصول العقلية العملية أو اللفظية من العموم والإطلاق ـ أو لا؟.

فلا بدّ من إيراد الكلام في مقامات ثلاثة : الأوّل في اقتضاء الأمر لأحد الأمرين وعدمه ، والثاني في الأصول العقلية ، والثالث في العموم أو الإطلاق المستفادين من الأدلّة الشرعية ، فنقول :

أمّا المقام الأوّل : فالحقّ فيه عدم ما يقتضي تعيين أحد الأمرين : أمّا عدم ما يقتضي التعبّدية فواضح لا يحتاج إلى البيان ، وأمّا عدم ما يقتضي التوصّلية فلأنّ الدالّ عليها لو كان فهو إمّا إطلاق الهيئة ، أو إطلاق المادّة ، ولا شبهة في بطلان التمسّك بواحد منهما عليها :

أمّا الأوّل ـ فهو لأنّ قصد الامتثال على تقدير اعتباره ليس من القيود الراجعة إلى الهيئة كما في الواجب المشروط ، حيث إنّ التقييد فيه راجع إلى مفاد الهيئة ، بل إنّما هو من قيود المادّة كما لا يخفى ، فلا يلزم من اعتباره تقيّدها ، حتى يمكن التمسّك بإطلاقها على نفيه عند الشكّ.

وأمّا الثاني ـ فهو وإن كان ربما يتوهّم ، نظرا إلى أنّ قصد الامتثال على تقدير اعتباره من قيود المادّة إلاّ أنّه فاسد أيضا ، بأنّ صحّة التمسّك بإطلاق مطلق إنّما هي فيما إذا كان من شأنه تقيّده بالقيد المشكوك في اعتباره ، وما نحن فيه ليس منه ، ضرورة أنّه لا يعقل اعتبار قصد امتثال أمر في ذلك الأمر ، لرجوعه

٣٣٧

إلى كون الشيء موضوعا لنفسه المستلزم لتقدّمه على نفسه طبعا ، ضرورة تقدّم الموضوع على الحكم كذلك ، بل لا بدّ في اعتباره من أمرين : أوّلهما [ الأمر ] بذات الفعل ، وثانيهما [ الأمر ] به مقيّدا بقصد امتثال الأمر.

نعم هنا شيء آخر : يقوم مقام الإطلاق في إثبات التوصّلية ، بل أقوى منه ، وهو أنّ اعتبار قصد الامتثال وإن لم يتعقّل في الأمر الابتدائي ، إلاّ أنّه ممكن بأمر آخر ـ كما مرّ ـ فحينئذ إذا أحرزنا مقام البيان ـ أعني كون المتكلّم في مقام بيان مقصوده من جهة التوصّلية والتعبديّة ، كما هو المعتبر في المطلقات مع عدم بيان اعتبار ذلك القيد بأمر آخر ـ فنقول :

إنّ سكوته حينئذ عن الأمر الآخر وعدم تعقيب الأمر الأوّل به يفيد كون ذات الفعل تمام المقصود ، لأنّ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر ـ أعني حصر المقصود في المذكور ـ فثبت به كون الواجب توصّليا.

ووجه كون ذلك أقوى من الإطلاق اللفظي : أنّ هذا الحصر المستفاد منه إنّما هو من الظهورات الحالية التي هي أقوى الظهورات حتى الظهورات الناشئة عن الوضع كما لا يخفى ، فهو من الأدلّة الاجتهادية ، بخلاف إطلاق المطلق ، فإنّ مفاده ليس من الظهورات أصلا ، فكيف بكونه مساويا لما ذكر أو أقوى ، بل الأخذ به إنّما هو من باب التعبّد العقلي المبنيّ على قبح التكليف بلا بيان.

هذا ....

وأمّا المقام الثاني : ففيه وجهان :

أحدهما ـ يقتضي البناء على التعبّد به ولزوم الإتيان بالفعل بقصد الامتثال.

وثانيهما ـ يقتضي التوصّلية وعدم لزوم قصد الامتثال.

أمّا الوجه الأوّل : فغاية ما يمكن أن يقرّر به هو أن يقال :

٣٣٨

إنّ الشكّ في اعتبار قصد الامتثال حقيقة راجع إلى الشكّ في كيفية الإطاعة ، ولا دخل له بالشكّ في المكلّف به ، فإذا ثبت التكليف بفعل ، فشكّ في كيفية إطاعته من جهة قصد الامتثال وعدمه ، فهذا الشكّ لا يوجب إجمال المكلّف به ، لأنّه ليس من القيود المعتبرة فيه كما في الشرائط والأجزاء للمأمور به ، بل خارج عنه ، فحينئذ يكون المأمور به مبيّنا ، والشكّ فيما يتحقّق به ، وحينئذ يحكم العقل بتحصيل القطع بالخروج عن عهدة التكليف به ، وهو لا يحصل إلاّ بقصد الامتثال ، فيحكم العقل بوجوبه لذلك.

ويمكن أن يقرّر بوجه آخر ، ولعله أحسن : وهو أنّه إذا ثبت التكليف بشيء فالعقل يحكم بلزوم الإتيان به على وجه يطابق غرض الآمر ، فإذا تردّد الغرض بين أمرين : ذات الفعل كيف كان ، أو التعبّد به ، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بالفعل على وجه يحصل القطع بتحصيل الغرض ، وهو لا يكون إلاّ بالإتيان به بقصد الامتثال.

وهذا التقرير ناظر إلى جعل الغرض دائرا بين المتباينين ، فلذا يجب الاحتياط بكلا الأمرين اللذين هما طرفا الشبهة له.

هذا ، ولكن لا يخفى [ ما ] فيه من الضعف ، وسيظهر ضعفه من الوجه الثاني ، فانتظر.

واما الوجه الثاني : فيقرّر على وجهين :

أحدهما : أنّ الشكّ فيما نحن فيه أيضا من الشكّ في اعتبار شيء في المكلّف به شطرا أو شرطا ، فيكون الحال في المقام هي الحال في صورة الشكّ في شرطية شيء أو جزئيته للمأمور به ، فعلى القول بالبراءة هناك ـ كما هو المختار ـ نقول بها هنا أيضا.

توضيح رجوع الشكّ هنا إلى الشكّ في اعتبار شيء في المكلّف به : أنّ المكلّف به قد يكون بحيث يمكن إرادته بأمر واحد بجميع ما يعتبر فيه من

٣٣٩

القيود ، وقد يكون بحيث لا يمكن إرادته بأمر واحد بجميع قيوده المعتبرة فيه ، نظرا إلى عدم إمكان ذلك بالنسبة إلى بعض قيوده ، ولا يختصّ الشكّ في اعتبار شيء في المكلّف به بالقسم الأوّل ، بل يجري في الثاني أيضا ، وما نحن فيه منه ، فيكون الشكّ في اعتبار قصد الامتثال راجعا إلى الشكّ في اعتباره في المكلّف به ، فعلى المختار فالمرجع فيه هي أصالة البراءة ، فإنّه إذا كان المكلّف به هو المقيّد بقصد الامتثال ، والمفروض عدم بيانه ، فالعقل قاض بالبراءة عنه لقبح العقاب عليه حينئذ ، والمنجّز على المكلّف فعلا لا يكون إلاّ المقدار المعلوم ، لأنّه على تقدير كونه هو المكلّف به تمّت الحجّة فيه لبيانه.

ثانيهما : أنّه لو سلّم خروج ما نحن فيه عن مقولة الشكّ في اعتبار شيء في المكلّف به ، وكون قصد الامتثال من مقولة الأغراض ، فالعقل قاض أيضا بالبراءة عن وجوبه ، فإنّ ما هو المناط عند العقل في حكمه بالبراءة ـ عند الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به ـ موجود هنا بنفسه ، وهو قبح العقاب بلا بيان ، فالإتيان بالغرض إنّما يكون لازما مع بيانه ، وأمّا مع عدم البيان فلا يلزم العقل بتحصيله بالاحتياط ، ولا ريب أنّ بيان الغرض في التكاليف الشرعية من شأن الشارع وعليه بيانه ، فإذا شكّ في كون شيء غرضا له مع عدم بيان منه فالعقل قاض بالبراءة عنه لقبح العقاب عليه من غير بيان ، ودخول ما نحن فيه في دوران الأمر بين المتباينين أيضا لا يقدح بالحكم بالبراءة عن المشكوك فيه ، وهو لزوم قصد الامتثال ، فإنّه على تسليمه من باب الشبهة المحصورة التي قام الدليل على بعض أطرافها ، إذ المفروض قيام الدليل على وجوب ذات الفعل التي هي أحد طرفي المعلوم الإجمالي من الغرض ، فلا يجري فيها الأصل ، فيبقى الأصل في الطرف الآخر سليما عن المعارض ، فيثبت جواز ترك ذلك الطرف الآخر المحتمل وجوبه ظاهرا إن كان ذلك الأصل الاستصحاب ، لكونه مخرجا مورده عن تحت موضوع لزوم تحصيل الغرض ، أو عدم العقاب عليه إن كان

٣٤٠