تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

من أنّ الفرق بينهما : هو أنّ الطلب في الوجوب والندب لمصلحة أخروية وفي الإرشاد لمصلحة دنيوية ، إذ لا ريب أنّ أوامر الإطاعة كلّها إرشادية ، مع أنّها ليست إلاّ للمصالح الأخروية ، وكذا أوامر بعض المندوبات إنّما هي لمصلحة دنيوية كالأمر بغسل الجمعة لحكمة إزالة الرائحة الكريهة ، وكالأمر بالسواك لمنافع عديدة دنيوية ، مع أنّ الوجوب والندب لا ينحصران في الأوامر الشرعية ، بل يجريان في العرفية أيضا ، إذ لا ريب أنّ بعضها ـ أيضا ـ وجوبي ، وبعضها ندبي ، وبعضها إرشادي ، ولا ريب أنّ الوجوبية والندبية منها ليست إلاّ لمصالح دنيوية ، فبطل الفرق المذكور.

ويتلوه في البطلان ما ربما يتوهّم من أنّ الفرق أنّ الطلب في الوجوب والندب إنّما هو لمصلحة عائدة إلى الآمر ، وفي الإرشاد إنّما هو لمصلحة عائدة إلى المأمور فإنّ الحال في الإرشاد وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ الوجوب والندب لا يلزمهما أن يكون الطلب فيهما لما ذكر ، بل قد يكون لمصلحة راجعة إلى المأمور ، كما إذا كان الآمر يحبّ وصولها إلى المأمور ، فيأمره لذلك ، مع أنّه لو بنى على ذلك لزم كون أوامر الشارع بأسرها إرشادية ، كما لا يخفى ، وفساده أظهر من أن يذكر ، فافهم.

هذا كلّه في إثبات أنّ مفاد الأوامر الإرشادية هو الطلب لا غير.

وأما اتّحاده مع الوجوب والندب بحسب الحقيقة فأوضح من أن يذكر ، ضرورة أنّه ليس حقيقتهما إلاّ الطلب ، فإنّ كونهما من اقتضاء نفس الآمر أمر خارج ، لأنّه داع لهما ، وداعي الشيء خارج عن حقيقة ذلك الشيء ، فيكونان متّحدين مع الإرشاد بحسب الحقيقة ـ حيث إنّ حقيقته أيضا هو الطلب ـ وغايرين معه من حيث الدّواعي الخارجيّة.

٢١

ثمّ إنّه هل يمكن اجتماع جهتي الإرشاد والتكليف في طلب واحد ، أو لا؟

الحقّ التفصيل : بأنّه إن كان متعلّق ذلك الطلب أمرا واحدا يمتنع (١) الاجتماع لأدائه إلى التناقض في نفس الآمر ، فإنّ حيثية الإرشاد ـ كما عرفت ـ إنّما هي أن لا يدخل الآمر نفسه في ذلك الطلب ، ولا يكون هو باقتضائه وميله ، وحيثية التكليف إنّما هي أن يدخل نفسه فيه ، ويطلب من اقتضاء نفسه ، فلا يعقل أن يكون طالبا لشيء واحد من هاتين الجهتين المتناقضتين ، وإن كان أمورا متعدّدة بحيث تعلّق بكلّ منها على سبيل الاستقلال ، كما إذا تعلّق بعامّ ، فيجوز الاجتماع حينئذ ، لأنّ هذا الطلب الواحد إنّما ينحلّ حينئذ إلى طلبات متعدّدة ، كلّ واحد منها متعلّق بشيء من حيثية ، لأنّه حينئذ أوجد طلبات متعدّدة بالصيغة بإطلاق واحد ، فهي موجودات بوجود واحد.

ثم إنّه بعد ما بنينا على اتّحاد حقيقة الإرشاد مع الوجوب والندب ، وأنّها ليس إلاّ الطلب ، فهل الصيغة إذا أطلقت مجرّدة عن القرينة ظاهرة في القدر المشترك بينها ـ وهو مطلق الطلب ـ أو في الإرشاد ، أو في غير الإرشاد ، أو مجملة؟

الحقّ هو الثالث ، لكن هذا الظهور ليس مستندا إلى نفس اللفظ ، فإنّه موضوع لمطلق الطلب ، ويكون إطلاق اللفظ في كلّ من الإرشاد وغيره حقيقة لذلك ، بل مستند إلى حال الطالب ، فإن الظاهر من حاله أنّه إنّما يطلب من اقتضاء نفسه ، وهذا الظهور ليس مستنده الغلبة ، لأنّا لو فرضنا انه لم يخلق بعد إلاّ واحد ـ ولم يطلب هذا بعد ، فأمر حينئذ بشيء وكان هذا الطلب أوّل طلب صادر منه ـ يظهر من حاله ذلك ، نعم الغلبة أيضا موجودة فهي مؤكّدة للظهور

__________________

(١) في الأصل : فيمتنع ...

٢٢

المذكور.

ويؤيّد الأخذ بهذا الظهور أصالة عدم تنزيل الطالب نفسه منزلة الغير ، كما هو الحال في الطلب الإرشادي ، فإنّ طلبه من اقتضاء ما متيقّن على التقديرين ، إلاّ أنّه على تقدير الإرشاد يحتاج إلى التنزيل (١) المذكور أيضا ، وهو أمر زائد مشكوك الحدوث ، فيبنى على عدمه (٢).

ويعيّن الحمل ـ أي حمل الصيغة على الطلب الناشئ من اقتضاء نفس الطالب ـ بناء العقلاء طرّا عليه ، فإنّ بناءهم على أنّه إذا أمر مولى عبده بشيء من غير قرينة على أنّ هذا الطلب من قبل نفسه ، فيجعلون هذا حجّة على العبد ومصحّحا لعقابه لو خالفه معتذرا : بأنّي احتملت أن يكون المولى قد طلب منّي على أنّه رأى صلاحي في هذا الفعل ، فطلب من اقتضاء المصلحة لا من اقتضاء نفسه ، ولا يسمعون منه هذا العذر ، بل يذمّونه حينئذ ، بل يسفّهونه ويجوّزون عقابه من المولى ، وهو الحجّة على تعيين الحمل المذكور.

نعم يبقى أنّ بناءهم هل هو من باب الأصل المذكور ، أو من باب ظهور الحال ، أو الغلبة؟ كلّ محتمل ، والأظهر الثاني.

وكيف كان ، فتعيين منشأ عملهم ليس بمهمّ لنا ، وإنّما الحجّة عملهم ، وهو ثابت ، وظهور الحال هنا نظير ظهور الحال في سائر الأفعال القابلة للنيابة ، فإنّ

__________________

(١) وحاصل التنزيل : أنّه لما كان الشخص طالبا لنفع نفسه فمتى علم به طلبه ، فهذا الشخص الآمر إرشادا ينزّل نفسه منزلة ذلك الشخص ، فيطلب منه فعل ما فيه مصلحة له. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) اعلم أنّ كلّ ما ذكرنا في الأمر ـ بالنسبة إلى الإرشاد والوجوب والندب ـ جار في النهي أيضا بعينه بالنسبة إلى إرادة الإرشاد منه والحرمة والكراهة ، فإنّ حقيقة النهي أيضا هو المنع لا غير ، وهو موجود في الإرشاد أيضا ، فيتّحد حقيقة مع الحرمة والكراهة إلاّ أنّه أيضا كالأمر عند الإطلاق ظاهر في كون المنع من كراهة نفس الناهي والحال في الموارد الدالّة على المنع نظير الحال في الدلالة على الطلب بعينها ، فتدبّر. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٣

الظاهر فيها أيضا أنّها واقعة من قبل نفس الفاعل لا الغير ، بل لو وقعت منه من غير التفات إلى أنّها منه أو من غيره تحمل على الأوّل وتتعيّن فيه ، وهذا أيضا قد قامت الحجّة من العقلاء على العمل به.

ثمّ إنّه يظهر الثمرة فيما قلنا فيما إذا كان الطلب صالحا لوقوعه على الوجهين ومحتملا لهما ، فيخرج ما لم يكن صالحا أصلا ـ كأوامر الإطاعة ، فإنّها لا تصلح إلاّ للإرشاد ـ وما كان صالحا لكن المقام يكشف بقرينة معيّنة لأحد الأمرين.

هذا كله في الطلب الصادر بصيغة الأمر.

وأمّا الصادر منه بمادّة الطلب مريدا بها الإنشاء ، كأن يقول : ( طلبت منك هذا ) قاصدا به حمل المأمور وبعثه نحو الفعل ، لا الإخبار عن كونه طالبا قبل ، فلا خلاف في كونه ظاهرا في كونه من اقتضاء نفسه لظهور المادّة في ذلك بلا خلاف.

الثالثة (١) : الألفاظ الدالّة على الطلب ـ كمادّة الأمر والإرادة والطلب إذا أريد بها الطلب الإنشائيّ ، أعني البعث والتحريك لا الإخبار ، وصيغة الأمر ، وكذا الجمل الإخبارية المراد بها الطلب ـ ظاهرة في الوجوب ، أعني الطلب الحتمي الّذي يلزمه المنع من الترك عند الإطلاق ، سواء كان دلالتها على الطلب مجازا بمعونة القرينة ـ أي القرينة المفيدة لإرادة الطلب من اللفظ المقرون بها ، مع عدم قرينة على أنّ المراد أيّ فرد منه كما في غير صيغة الأمر من الموادّ المذكورة (٢) ، والجمل الإخبارية إذا استعملت في الطلب الإنشائيّ بمعونة القرينة

__________________

(١) أي ( الفائدة الثالثة ) على ما في هامش الأصل.

(٢) قولنا : ( من الموادّ المذكورة ) : اعلم أنّ التجوّز فيها إنّما هو في الهيئة لا المادّة ـ كما سيجيء بيانه

٢٤

مع إطلاقها من جهة أنّه أيّ فرد منه ـ أو حقيقة كما في الصيغة على المختار من أنّها لا تفيد بنفسها إلاّ الطلب المطلق الصالح لتقيّده بأحد الأمرين من الوجوب والندب ، وأنّ استفادة خصوصية أحدهما إنّما هو من الخارج عن الصيغة ـ ولو كان هو الانصراف ـ بل يجري الظهور المذكور في الموادّ المذكورة على تقدير استعمالها في الإخبار أيضا ، فإنّ الفرق حينئذ بينها وبين الصيغة : أنّها استعملت حينئذ في الإخبار عن البعث والتحريك المتحقّق بها فعلا ، فهي ظاهرة عند الإطلاق في الطلب والتحريك الفعلي الحتمي ، وتلك ظاهرة عند الإطلاق في الإخبار عن البعث والتحريك الحتمي ، وإرادة الطلب منها على هذا الوجه ـ أي بعنوان الإخبار ـ على وجه الحقيقة ، فإنّ تلك الموادّ ظاهرة في الطلب وحقيقة فيه ، إلاّ أنّها إذا حوّلت إلى هيئة الماضي والمضارع لا تفيد فعلية الطلب ، وإنّما تفيد الإخبار عنه ، فيكون حقيقة حينئذ من جهة المادّة والهيئة ، فإنّ هيئة الماضي والمضارع لإفادة الإخبار ، وقد استعملت فيه ، والمفروض حقيقية المادّة أيضا في الطلب ، فيكون الإخبار بها عن الطلب حينئذ حقيقة مطلقا.

نعم ، إذا أريد بها فعلية الطلب في ضمن إحدى الهيئتين ، فهذا يوجب التجوّز في الهيئة فقط ، كما يلزم ذلك ، أعني التجوّز في الهيئة في الجمل الإخبارية التي ليست موادّها ظاهرة في الطلب.

وكيف كان ، فعلى هذا ، فالأحسن أن يقرّر المقال : بأنّ الألفاظ الدالّة على الطلب مطلقا ـ سواء كانت دالّة عليه على نحو الإنشاء والإيقاع بها حال الإطلاق كما في صيغة الأمر والجمل الإخبارية المراد بها إنشاء الطلب ، وكما في الموادّ المذكورة إذا تجرّدت عن المعنى الإخباري وأريد بها الإنشاء والإيقاع ،

__________________

كما في الجمل الإخبارية من غير تلك الموادّ أيضا ، وهذا إذا أريد بها إيقاع الطلب فعلا ، وأمّا إذا أريد الإخبار عنه فلا تجوّز فيها أصلا. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٥

سواء كانت بصيغة الماضي ، كقولك : ( أردت ، وطلبت ، وأمرت ) أو بصيغة المضارع ، كقولك : ( آمر ، أو أطلب ، أو أريد ) ، أو بصيغة اسمي الفاعل والمفعول ، كقولك : ( أنا آمر بكذا ، أو طالب كذا ، أو مريد له ، أو هذا مطلوب منك ، أو مراد منك ، أو أنت مأمور به ) ، أو على وجه الإخبار كما في الموادّ المذكورة بالصيغ المذكورة إذا أريد بها الإخبار عن الطلب ـ ظاهرة في إرادة الوجوب إيقاعا أو إخبارا على حسب اختلافها في الدلالة على الطلب ، وهذا الظهور ممّا لا ينبغي الإشكال فيه جدّاً ، وهو متّفق عليه بين القائلين بوضع صيغة الأمر لخصوص الوجوب وبين القائلين بوضعها للأعمّ ، كما هو الظاهر.

نعم القائل باشتراكها بينهما لفظا لعلّه يمنع هذا الظهور ، مع احتمال أن يلتزم به لإمكان ظهور اللفظ المشترك في بعض الموارد في أحد معانيه عند الإطلاق بواسطة بعض الأمور الخارجية الموجبة للانصراف.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ هذا الظهور مستند إلى نفس اللفظ ـ كما يدّعيه القائل بوضع الصيغة للوجوب فقط ـ فلا إشكال.

وإن قلنا : إنّه مستند إلى غيره من الأمور الموجبة للانصراف ، وإنّ اللفظ بنفسه لا يفيد أزيد من الطلب المطلق ، كما هو المختار إلاّ أنّه بواسطة بعض تلك الأمور يظهر في إرادة القدر المشترك باعتبار هذا الفرد ـ أعني الوجوب ـ أي إرادته مقيّدا به ، فيبقى تحقيق أنّ هذا الانصراف من أيّ أمر من الأمور الموجبة للانصراف ، فنقول :

قد يقال : إنّه بسبب الكمال ، فإنّ الطلب الحتميّ أكمل من غيره وأشد ، كما في سائر الأعراض القوية بالنسبة إلى ضعيفها.

وهذا ليس بجيّد ، لأنّ المراد بالكمال هنا ، إن كان ما يقابل النقصان في نوع الطلب وحقيقته ، بمعنى أنّ الوجوب كامل من حيث حقيقة الطلب ، بمعنى أنّه لا نقص فيه من تلك الجهة ، بخلاف الندب ، فإنّه ناقص من تلك الجهة.

٢٦

وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير تسليم الصغرى نمنع استناد الظهور إلى مجرد الكمال بهذا المعنى بأن يكون هو نفسه منشأ له ، بل هو حينئذ مستند إلى انحصار الفرد في الوجوب ، بل هذا التزام بأنّ حقيقة اللفظ ليس إلاّ الوجوب وانه عين مفهوم اللفظ ، فلا معنى لجعل اللفظ مفيدا بنفسه للقدر المشترك إذ بعد فرض أنّ أحد الأمين ناقص فهو خارج عن فرديّته لذلك ، فحينئذ فلا اشتراك في المفهوم ، بل هو عين الفرد الآخر.

وإن كان المراد به الكمال الإضافي ، بمعنى الأكملية في نوع الطلب وحقيقته ، كما هو الظاهر ، فيكون المراد أنّ الوجوب أكمل من الندب من حيث تحقّق القدر المشترك في ضمنه ، ويكون حاله حال الأعراض القويّة.

ففيه منع الكبرى : فإنّ الكمال بهذا المعنى لا يوجب بنفسه الانصراف جدّاً ، وانصراف أسماء الأعراض إلى قويّها ممنوع.

نعم لو بلغ الكمال إلى حدّ بحيث يصير غير الكامل في جنبه بمنزلة المعدوم ـ بحيث كأنّ الكلّي منحصر فيه ـ فلا يضايق حينئذ الانصراف ، لكن ليس هذا الانصراف ناشئا عن هذا الكمال ابتداء وبلا واسطة ، بل إنّما هو ناشئ عن مقهورية هذا للفرد الكامل (١) في الأنظار بسبب الكمال.

ولو كان مراد القائل هذا فيتوجّه عليه منع الصغرى في المقام ، فإنّ كون الوجوب بهذه المثابة من الكمال ممنوع ، هذا.

وربّما يتوهّم : إلزام القائل المذكور بمقتضى ما اعترف به : من كون الوجوب أكمل وأشدّ من الندب كما في سائر الأعراض ، على أنّ مقتضى ذلك حمل اللفظ على الندب وانصرافه إليه ، لأنّه بعد فرض أنّهما فردان من الطلب ، مع اشتمال أحدهما [ على ] مزيّة (٢) زائدة ، فالأصل عدم اعتبار تلك المزيّة ، والأصل

__________________

(١) في الأصل : هذا الفرد الكامل ...

(٢) في الأصل : لمزية ..

٢٧

إطلاق اللفظ بالنسبة إليها ، فيحكم بمقتضى إطلاق اللفظ على إرادة الندب ، لأنّه نفس الصيغة من دون اعتبار شيء زائد.

لكنّه مدفوع : بأنّ كلاّ من الوجوب والندب موجود بإيجاد واحد ، فلا يلزم على تقدير الوجوب إيجاد آخر ـ وهو إيجاد قوّة الطلب ـ حتى يكون هذا حادثا آخر ، فيندفع بالأصل للشكّ في حدوثه ، فيتعيّن به الفرد الآخر ، وكذا لا يتعلّق في الوجوب إرادة بالطلب وأخرى بتأكده ، حتّى يقال : القدر المتيقّن إنّما هو إرادة الطلب المطلق ، وإرادة شيء آخر معه وتقيّده به خلاف الأصل ، فيندفع بالإطلاق ، بل هنا إرادة واحدة على كلّ حال إلاّ أنّ متعلّقها على تقدير إرادة الوجوب مرتبة من الطلب ، وعند إرادة الندب مرتبة أخرى أضعف من السابقة ، وكلّ واحدة من المرتبتين أمر بسيط لا جزء له في القصد أصلا.

ثمّ إنّهم ذكروا من أسباب انصراف المطلق : غلبة الإرادة ، وغلبة الوجود ، فالأولى توجب ظهور تعيّن القدر المشترك في الفرد الّذي أريد غالبا.

وبعبارة أخرى : إنّها توجب ظهور كون القدر المشترك مرادا باعتبار هذا الفرد.

والثانية توجب ظهور كونه مرادا باعتبار الأفراد الغالبة.

ونحن نقول : إنّ سببية الأولى للانصراف مسلّمة حيث إنّها توجب معهودية ذلك الفرد من اللفظ ، فيكون تلك المعهودية المسبّبة عنها قرينة على إرادة الفرد المذكور.

وأمّا الثانية ففيها تأمّل ، نظرا إلى أنّه يشكل كونها بمجرّدها سببا للانصراف ، ولا يلزم منها أيضا معهودية الأفراد الغالبة من اللفظ حتى تكون هي القرينة.

نعم لو بلغت الأفراد الغالبة في الكثرة والشيوع إلى حيث صار غيرها من الأفراد لقلّتها بالنسبة إليها بحيث كأنّها لم تكن ، وكأنّ فرد المطلق منحصر

٢٨

في الأفراد الغالبة بأن تكون تلك الأفراد بحيث تملأ العيون بحيث كأنّها لا ترى من أفراد المطلق إلاّ إيّاها ، فلا تضايق حينئذ كونها منشأ للانصراف.

ثمّ إنّ هاتين على تسليم كلّيتهما لا يجري شيء منهما فيما نحن فيه ، لعدم ثبوت كون الوجوب غالب الإرادة أو الوجود ، بل يمكن دعواهما بالنسبة إلى الندب في الأوامر الشرعية.

ثمّ إنّه ـ دام ظلّه ـ عدّ من أسباب الانصراف أمرين آخرين :

أحدهما : شدّة الحاجة إلى بعض الأفراد ، فهي توجب انصراف المطلق إلى هذا البعض ولو لم يكن هناك غلبة إرادة أو وجود ـ بحيث لو فرض بدو الخلق وابتداء تكلّمهم ـ فهذه توجب هذا الانصراف جدّاً.

وثانيهما : كثرة الحاجة إلى بعض الأفراد ، فهي أيضا توجب انصرافه إلى هذا البعض من غير توقّف على غلبتي الإرادة والوجود بحيث توجبه في الفرض المذكور أيضا.

ثمّ إنّ هذين ـ أيضا ـ لا مساس لهما بما نحن فيه ، فإنّ الوجوب ليس شديد الحاجة أو كثيرها بالنسبة إلى الندب قطعا ، فافهم.

قال دام ظلّه : على تقدير كون ظهور الأمر عند الإطلاق في الوجوب من جهة الانصراف فغاية ما يمكن أن يوجّه به أن يقال : إنّ حقيقة الوجوب إنّما هي الطلب الخالص عن شوب الرجوع ، وحقيقة الندب إنّما هي الطلب المشوب بالرجوع والإذن في الترك ، إذ لا ريب أنّ الإذن فيه بعد الطلب رجوع عن الطلب حقيقة ، إذ ليس الطلب إلاّ البعث والحمل ، وهو ينافي الإذن ، إذ معه لم يبق الطلب بحاله وإنما الباقي هو مجرّد الميل إلى الفعل.

وتوضيح ذلك أنّك إذا أمرت عبدك ندبا فقد قصدت من الصيغة بعثه وحمله لا غير ، فلذا يكون الصيغة مستعملة في معناها الحقيقي ، لكن في قصدك

٢٩

أيضا مع القصد المذكور أن تأذن له في الترك أيضا ، فيئول إلى أنّ قصدك أيضا الرجوع عن هذا الطلب وعدم إبقائه على حاله ، فيكون هذا الطلب مشوبا بقصد الرجوع والإذن ، وفائدة الطلب حينئذ تنبيهه على ميلك إلى الفعل المأمور به ، فإنّ الطلب كاشف عنه جدّاً ، لكن لا يكون ارتفاعه مستلزما لارتفاعه قطعا ، فيكون حاصل الأمر الندبي بعد الإذن هو مجرّد الميل إليه من دون تحريك.

وكيف كان فهنا أمران : الطلب والإذن في الترك ، ولا ريب أنّ الصيغة بنفسها لا تنهض على إفادة الثاني ، بل لا بدّ في ذلك من إيراد دالّ آخر من القرائن البتّة.

هذا بخلاف ما لو أمرته بالأمر الوجوبيّ ، فإنّ قصدك حينئذ إنّما هو الطلب مع عدم قصد الرجوع عنه ، فيكون مفاد الصيغة حينئذ هو الطلب الخالص عن شوب الإذن في الترك ، ولا ريب أنّه يكفي في إفادته الصيغة بنفسها من دون حاجة إلى إيراد دالّ آخر ، فإذا أطلقت الصيغة فهي تفيد الطلب ، ومع عدم اقترانها بالإذن في الترك يكون مفادها هو الطلب الخالص ، وهو الوجوب.

فإذا عرفت فنقول : إنّ وجه انصراف الطلب المستفاد من الصيغة عند إطلاقها وتجريدها عن القرينة إنّما هو تجريدها وإطلاقها من القيد.

وبعبارة أخرى : إنّا بعد ما فرضنا أنّ الصيغة بمجرّدها تكفي ـ إذا لم تنضمّ إليها قرينة ـ تكفي في إفادة الوجوب حيث إنّها دالّة على الطلب ، وإذا لم يلحقه الإذن في الترك فيكون خالصا عن شوبه ، فيتعيّن في الوجوب ، لأنّه الطلب الخالص عنه ، هذا بخلاف الندب ، فإنّ فصله وهو الإذن في الترك لا بدّ في تفهيمه من قرينة خارجيّة غير الصيغة ، فحينئذ إذا ورد أمر مطلق مع إحراز أنّ الآمر قاصد به التفهيم ، وأنّه في صدد تفهيم غرضه المقصود ، فيقال : إنّه لو كان مراده الندب لأقام القرينة على الإذن ، وإلاّ لزم إخلاله بغرضه ، فإذا لم يقم ـ كما هو المفروض ـ فلا بدّ أن يكون مراده هو الطلب مع عدم الإذن في الترك ، فيتعيّن هذا

٣٠

في الوجوب ، فيكون منشأ الانصراف وسببه هو إطلاق اللفظ وتجريده عن قيد زائد ، والحال في انصراف الطلب إلى الوجوب نظير الحال في انصرافه إلى الوجوب العيني لا التخييري ، فكما أنّ إرادة كلّ منهما من الصيغة لا توجب التجوّز في الصيغة أصلا ، حيث إنّ كلاّ منهما نوع من الطلب الّذي وضعت هي بإزائه ، فكذلك الحال في المقام ، وكما أنّ منشأ انصراف الطلب إلى العيني هناك إنّما هو إطلاق اللفظ وتجريده عن قيد زائد ، حيث إنّ طلب شيء إذا لم يشبه الإذن في تركه إلى بدل معيّن في العيني ، إذ هو هو الطلب الخالص عن هذا الشوب ، ويكفي في إفادته نفس الصيغة من دون حاجة إلى أمر آخر ، إذ المفروض أنّها دالّة على طلب هذا الفعل ، وطلبه إذا خلص عن الشوب المذكور يكون طلبا لهذا الشيء بعينه ، هذا بخلاف الوجوب التخييري (١) حيث إنّ الطلب فيه مشوب بالإذن في ترك ذلك الفعل إلى بدل ، ولا يكفي في إفادة ذلك نفس الصيغة ، بل [ لا بدّ ](٢) من إيراد قرينة أخرى ، فيقال بعد قولك : ( افعل هذا ) : أو ذاك ، إذ لو لم تأت بالثاني فالأوّل ظاهر في العيني ، فكذلك منشأ الانصراف فيما نحن [ فيه ] هو تجريد اللفظ وإطلاقه ، كما عرفت ، وسيجيء مزيد تحقيق لذلك في مسألة الوجوب التعيني والتخييري إن شاء الله تعالى ، فافهم.

ثمّ إنّه قال دام ظلّه : وللنفس تأمّل في كلّ من دعوى كون الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب ودعوى كون الانصراف إلى الوجوب ـ على تسليم الأولى ـ مسبّبا من الوجه المذكور ، أو من أحد الوجوه المتقدّمة.

نعم المتيقّن ظهور الأمر عند الإطلاق في الوجوب ، ولم يتحقّق بعد أنّه

__________________

(١) الفرق بين الندب والوجوب التخييري : أنّ الأوّل هو الطلب المقرون بالإذن في الترك لا إلى بدل أصلا ، والثاني هو الطلب المقرون به إلى بدل ، لا مطلقا. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

٣١

من نفس اللفظ أو من الخارج ، وأنّ سببية الانصراف على الثاني ما ذا؟

أقول : الظاهر صدق الدعوى الأولى ، فإنّا لو خلّصنا أنفسنا عن ملاحظة التجريد والتقييد لا يفهم ولا يتبادر من الصيغة حينئذ إلاّ الطلب المطلق ، وهو الحجّة.

وأمّا الدعوى الثانية فالظاهر صدقها بالنسبة إلى الوجه الأخير إلاّ أنّه يوجب تخريب ما بيّنّا آنفا من إمكان إيجاد القدر المشترك وحده ، فإنّ الطلب إذا وجد فهو إمّا مع الإذن في الترك أو مجرّد عنه ، لامتناع ارتفاع النقيضين ، فالأوّل ندب ، والثاني وجوب ، فافهم.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون هذا الانصراف بسبب الكمال فإنّه وإن لم يوجبه مطلقا إلاّ أنّه قد يوجبه كما إذا كان الفرد الغير الكامل بمثابة كأنّه ليس بشيء ، وأنّ فرد الكلي منحصر في الكامل ـ كما عرفت ـ والحال هنا كذلك ، فإنّ الطلب المتعقّب بالإذن في الترك كأنّه ليس بطلب حقيقة ، فينصرف اللفظ لذلك إلى الوجوب ، فتدبّر.

إيقاظ : الحال في النهي من جهة الوضع للقدر المشترك وانصرافه عند الإطلاق إلى الحرمة هو الحال في الأمر ـ كما عرفت ـ والوجه الوجه ، فإنّ المنع الخالص يتعيّن في الحرمة ومع الإذن في الفعل لم يبق حقيقة المنع على حاله.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

الرابعة (١) : اختلفوا في أنّ الجمل الخبرية إذا قامت قرينة على استعمالها في الطلب والإنشاء مع عدم القرينة معها على أنّ المراد أيّ نحو من الإنشاء ،

__________________

(١) أي ( الفائدة الرابعة ) على ما في هامش الأصل.

٣٢

فهل هي حينئذ ظاهرة في الوجوب ، أو لا (١)؟ وعن جماعة الأوّل ، وعن آخرين الثاني.

احتجّ المانعون بأنّها موضوعة للإخبار ، فإذا تعذّر حملها عليه تعيّن (٢) حملها على الإنشاء مجازا ، وكما يصحّ استعمالها في إنشاء الوجوب كذا يصحّ استعمالها في إنشاء الندب ، أو مطلق الطلب ، فإذا تعذّرت الحقيقة وتعدّدت المجازات لزم الوقف بينها ، وقضيّة ذلك ثبوت المعنى المشترك ، وهو مطلق الرجحان ، والثابت به هو الاستحباب بعد ضمّ أصل البراءة إليه إن كان المورد من مواردها ، وإن كان المورد من موارد الاحتياط فيثبت به الوجوب ، وكيف كان فهي ليست ظاهرة في الوجوب أصلا.

والحقّ هو الأوّل لوجوه :

[ الأول ](٣) التبادر عرفا : فإنّهم لا يفرّقون بين صيغة الأمر وبين الجمل الخبرية إذا علموا أنّ المراد بها الإنشاء مجازا في فهم الوجوب واستفادته من اللفظ بشيء أصلا ، فكما يتبادر عندهم من الصيغة عند الإطلاق الوجوب ، فكذا يتبادر منها ذلك عندهم مع قيام القرينة الصارفة عن استعمالها في الإخبار مع عدم القرينة على تعيين أنّ المراد أيّ نحو من الإنشاء ، وكما يثبت بالأوّل ظهور الصيغة وضعا أو انصرافا ـ على تفصيل ما مرّ في الوجوب ـ فكذا يثبت بالثاني ظهور الجمل حينئذ في الوجوب ظهورا عرفيا مستندا إلى قرينة عامّة لازمة للفظ في جميع الموارد على أنّ المراد الوجوب إمّا باستعمال الجمل فيه بخصوصه ، أو أنّها مستعملة في مطلق الطلب ، وهو منصرف

__________________

(١) الظاهر زيادة الواو ، وأنّ العبارة تستقيم بدونها.

(٢) في الأصل : فتعيّن ..

(٣) إضافة يقتضيها السياق.

٣٣

إليه عند الإطلاق بأحد أسباب انصراف المطلق إلى بعض أفراده كما مرّ في الصيغة.

ولا يهمّنا التفتيش عن أنّ هذا الظهور هل من نفس اللفظ حينئذ بأن تكون القرينة العامّة قائمة على استعمال الجمل في خصوص الوجوب ، أو أنّه من جهة انصراف الطلب المطلق إليه بأحد أسباب الانصراف مع استعمالها في الطلب المطلق ، فإنّ الغرض من تشخيص الظهور حمل اللفظ عند الإطلاق على المعنى الظاهر ، ولا فرق فيه بين أن يكون الظهور ناشئا من نفس اللفظ ، أو من إطلاق المعنى وانصرافه إلى الفرد الظاهر ، فإنّ كلاّ منهما يوجب حمل اللفظ ـ عند الإطلاق وعدم القرينة على إرادة المعنى المخالف للظاهر ـ على ذلك المعنى الظاهر ، فلذا لم نفتّش كملا في الأصل ـ أعني صيغة الأمر ـ عن أنّ ظهورها في الوجوب هل من نفس اللفظ ، أو من جهة الانصراف؟

ولو طالبنا الخصم بتعيين : أنّ تلك القرينة ما ذا؟ قلنا : ليس علينا تعيينها ، فإنّ تبادر الوجوب من الجمل حينئذ مطلقا ـ من غير اختصاص له ببعض الأمثلة دون بعض ، وببعض الموارد دون آخر ـ يكشف عن وجود تلك القرينة العامّة قطعا ويلزمه البتّة ، فمن عدم اقتدارنا على أنّها ما ذا لا يلزم عدمها (١) ، ولا ينبغي الارتياب في تحقّقها بعد إحراز الملزوم ، وهو تبادر الوجوب عرفا عند الإطلاق والتجرّد عن القرينة الخاصّة مطلقا ، ونحن قد أحرزناه على سبيل القطع.

ولو قيل : إنّه لا بدّ لمن يدّعي ظهور الجمل حينئذ في الوجوب من إحراز أمرين البتّة : أحدهما ما استعمل في الوجوب ، وثانيهما إحراز قرينة عامّة لازمة

__________________

(١) أي لا يلزم من عدم اقتدارنا على تعيينها انتفاؤها.

٣٤

للمستعمل ـ بالفتح ـ في جميع الموارد ، ومع إمكان الثاني ـ كما مرّ ـ نمنع من إمكان الأوّل ، إذ على تقدير استعمال الجمل حينئذ في الوجوب فالمستعمل إمّا خصوصيات الموادّ بأن يكون في كلّ مورد عبارة عن مادّة غير المادّة المستعملة في المورد الآخر ، وإمّا خصوصيات الهيئات ، أو القدر المشترك بين الأولى ، أو الثانية ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّلان : فللاتّفاق على أنّ المستعمل على تقديره أمر واحد في جميع الموارد ، بمعنى أنّه في كلّ مورد عينه في مورد الآخر ، فلا بدّ أن يكون أمرا كليّا مشتركا بين خصوصيّات الموارد.

وأيضا يردّ الأوّل منهما الاتّفاق على أنّ المستعمل ليس مادّة الجمل أصلا ، بل لو كان فهو هيئاتها ، بمعنى أنّ الهيئات الجزئية مستعملة في الإنشاء.

هذا مضافا إلى أنّه لا يعقل قيام القرينة العامّة على تقدير كون المستعمل خصوصيّات الموادّ أو الهيئات على إرادة الوجوب في جميع الموارد ، إذ لا بدّ فيها من تحقّق أمر عامّ سار في جميع الموارد تكون تلك القرينة لازمة لهذا الأمر العامّ.

وإن شئت قلت : إنّ القرينة العامّة ما لم يلحظ معها خصوصية شيء من الموارد الخاصّة ، بل الملحوظ معها أمر عامّ فأينما تحقّق هذا الأمر العامّ يتحقّق لها تلك القرينة ، وتفيد إرادة مدلولها منه.

ومن هنا يتولّد إشكال آخر : وهو أنّ المستعمل لو كان الخصوصيات لامتنع (١) ظهوره في الوجوب ، إذ المفروض أنّها لم توضع له ، والمفروض أيضا عدم القرينة الخاصّة ، وأمّا العامّة فلا يعقل قيامها على الخصوصيّات بخصوصيّاتها ، لما عرفت من أنّ الملحوظ معها ليست الخصوصيات بوجه ، فيلزم الإجمال.

__________________

(١) في الأصل : فيمتنع ..

٣٥

وأمّا الأخيران : فلأنّه لا يعقل ولا يتصوّر قدر مشترك بين خصوصيّات الموادّ أو الهيئات ، لتباينها واختلافها غاية الاختلاف : أما في الموادّ فواضح ، مع أنّه يردّه الاتّفاق المتقدّم على أنّ المستعمل ليست الموادّ أصلا ، وأمّا الهيئات فلأن الجملة الخبرية بصيغة الماضي لها هيئة مباينة لها بصيغة المضارع ، وهيئتها في كلّ منهما مباينة لهيئتها في الجمل الاسميّة.

هذا ، مع أنّ هيئتها بصيغة الماضي أو المضارع أو الجملة الاسمية أيضا غير منظّمة ، ضرورة اختلاف هيئات الأفعال الدالّة على الماضي باختلاف التجرّد والزيادة على ثلاثة أحرف ، وباختلاف المجهول والمعلوم ، وكذا الحال في الأفعال المضارعة ، وهكذا في الجمل الاسميّة.

فهو مدفوع :

أوّلا ـ فبأنّ هذا لا يخصّنا (١) ، بل على تقدير تماميّته يجري على القول الآخر أيضا ، فإنّهم أيضا يقولون باستعمال الجمل في شيء غير الإخبار ، وهو الإنشاء ، اللهم إنّهم يمنعون من ظهور الوجوب (٢).

وثانيا أنّ المستعمل في معنى الإنشاء ليس مطلق الجمل الخبرية ، بل الفعلية منها ، وهي ما تكون بصيغة الماضي أو المضارع.

فنقول : إنّ المستعمل هو الهيئة لا المادّة ، لكن لا الهيئة الخاصّة ، بل مطلق هيئتي الماضي والمضارع ، وكلتاهما أمر عامّ.

وما قيل ـ من منع القدر المشترك بين هيئات أفعال الماضي أو المضارع ـ مدفوع باتّفاقهم على أنّ الموضوع في الأفعال هي الهيئة العامّة بين هيئات

__________________

(١) في الأصل : يختصّنا.

(٢) كذا في الأصل ، والأسلم في العبارة هكذا : ( اللهمّ إلاّ أنّهم يمنعون من ظهورها في الوجوب ).

٣٦

الماضي في أفعال الماضي مجرّدة أو مزيدا فيها ، وكذا في أفعال المضارع ، فكلّما يتصوّره المستشكل لكونه موضوعا في الأفعال فليفرضه مستعملا في الوجوب في المقام.

هذا ، وكيف كان ، فلا ينبغي التأمّل والارتياب في ظهور الجمل الفعلية الإخبارية حينئذ في الوجوب عرفا من غير قرينة خاصّة موجودة في خصوص المقام ، ويكشف عن ذلك أنّه لو أمر مولى عبده بصيغة الإخبار ـ بأن يقول له : ( تأتيني بالماء ) ـ وعلم العبد أنّ مراده ليس الإخبار ، بل الإنشاء ، فترك الإتيان بالماء ـ معتذرا : بأنّي احتملت أن يكون مراده الندب الغير اللازم عليّ ـ لذمّه العقلاء وأهل العرف ، وجوّزوا (١) عقابه من المولى ، فجعلهم الجملة المجرّدة ـ عن قرينة تعيّن إرادة الوجوب أو الندب ـ حجّة على العبد دليل على ظهورها في الوجوب ، وإلاّ لزم السفه والعبث ، فافهم.

الثاني (٢) : تتبّع الآثار والأخبار المأثورة من المعصومين الأطهار ـ صلوات الله عليهم ، وجعلنا معهم في دار القرار ـ فإنّ من تتبّع الكتب المدوّنة فيها يرى أنّ غالب ما كان المراد بيان وجوب شيء فهو إنّما يبيّن بالجملة الخبرية الخالية عن القرينة اللاحقة لخصوص المورد على تعيينه ، كما في موارد الأمر بالإعادة في العبادات عند عروض الخلل لها ، وكما في موارد الأمر بالوضوء والغسل ، فإنّه أقيم فيها لفظ الجملة الخبرية مقام الأمر ، فجعل في مقام ( أعد ) ( تعيد ) ، وفي مقام ( توضّأ ) ( تتوضّأ ) ، وفي مقام ( اغتسل ) ( تغتسل ) ، وهكذا في غير تلك الموارد من العبادات وغيرها ، حيث أقيمت الجملة الخبرية الفعلية ـ من المضارع والماضي ـ مقام صيغة الأمر ، واكتفى بها ـ مجرّدة عن قرينة تعيّن أنّ المراد أيّ نحو من

__________________

(١) في الأصل : ليذمّونه العقلاء .. ويجوّزون ..

(٢) أي ( الوجه الثاني ) من الوجوه المستدلّ بها على القول بظهور الجملة الخبرية في الوجوب.

٣٧

الطلب ـ عند بيان الوجوب ، فيكشف ذلك عن كون الجملة حينئذ ظاهرة عرفا فيه بحيث لا حاجة لها في إفادته إلى ضمّ قرينة من المتكلّم إليها ، وهو المطلوب.

الثالث : استدلال العلماء والصحابة خلفا عن سلف بالأخبار الواردة بلفظ الخبر ـ المعلوم إرادة الإنشاء منها ـ على إثبات الوجوب من غير نكير عليهم ، كما استدلّوا عليه بصيغة الأمر المجرّدة.

هذا كلّه مضافا إلى ما نرى من بناء بعض من أنكر ذلك ـ لفظا ـ عليه في مصنّفاته ، فراجع كتب من أنكر ، فإنّك تراه أنّه استعمل لفظ الجملة الخبرية في معنى الوجوب في عناوين الفقه من غير قرينة على تعيين الوجوب.

وكيف كان ، فظهور الجمل في الوجوب حينئذ كظهور الأمر في الوجوب بديهي لنا وللعرف ، وعمل الناس طرّا عليه من العرف والعلماء حتّى المنكرين إذا غفلوا (١) عمّا بنوا عليه من جهة بعض الشبهات ، كما وقع عن بعض فإنّه كالجبلّيّ لجميع الناس.

وقد نسب الفاضل النراقي ـ بعد ما استقرب القول بالإنكار على ما حكي عنه في كتاب ( المناهج ) (٢) ـ هذا القول إلى جماعة منهم العلاّمة (٣) في

__________________

(١) هذا هو الأظهر ، ويحتمل أنّ العبارة هكذا : ( إذ أغفلوا ).

(٢) مناهج الأحكام والأصول : ٤١ ، عند قوله : ( منهاج : قد وردت في الآيات والأخبار ألفاظ خبريّة ).

(٣) تذكرة الفقهاء : ١ ـ ٢٥ ، والظاهر أنّ الفاضل النراقي (ره) استفاد قول العلاّمة ( قدّه ) بظهور الجمل الخبرية في الوجوب من مفهوم قوله ( قده ) : ( وقول الكاظم (آ) عليه السلام : « المصحف لا تمسّه (ب) على غير طهر ... إنّ الله تعالى يقول : ( ـ لا يمسّهُ إلاّ المُطهرَّون ـ ) (ج) محمول على الكراهة .. ). ، فلو لا ظهور الجملة الخبرية في التحريم عنده لما التجأ إلى حملها على الكراهة.

__________________

(آ) الوسائل : ١ ـ ٢٦٩ ـ كتاب الطهارة ـ باب : ١٢ من أبواب الوضوء ـ ح : ٣.

(ب) في التذكرة : ( لا يمسّه ) ، وقد أثبتناها كما في الوسائل.

(ج) الواقعة : ٧٩.

٣٨

( التذكرة ) (١) في مسألة جواز مسّ كتابة القرآن بغير طهارة.

وقد نقل بعض أقراننا أنّ الموجود فيها خلاف ما نسب ـ قدّس سرّه ـ بل هو قائل بعدم جواز المسّ (٢) مستدلاّ بقوله تعالى : ( لا يمسّه إلاّ المطهّرون ) (٣) ، فعلى هذا [ هو ] موافق لما اخترناه ، فإنّ الآية من الجمل المستعملة في الإنشاء ، ونسبته ـ قدّس سرّه ـ الخلاف إلى غير العلاّمة (٤) ـ على

__________________

(١) قال دام ظلّه : الظاهر غلطية النسخة ، وأنّ الأصل ( الذخيرة ) (آ) مكان ( التذكرة ) ، فإنّ في الذخيرة ما يدلّ بظاهره على المنع ، فراجع. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) قال ـ دام ظلّه ـ العلاّمة في ( المنتهى ) (ب) في مسألة الحائض استشكل في حديث : « أنّها تلبس درعها ، وتضطجع (ج) معه » (د) ـ أي مع زوجها ـ : بأنّه جملة خبرية ، وهي غير ظاهرة في الوجوب ، بل تفيد الندب.

قال : وهذا النوع من المناقشات كثيرة منه ، مع ما عرفت من استدلاله بالآية على عدم جواز مس كتابة القرآن.

وكيف كان ، فمخالفته ـ سيّما في بعض كتبه ـ لا تضرّنا بعد قيام الدليل على خلافه. لمحرره عفا الله عنه.

(٣) الواقعة : ٧٩.

(٤) قال دام ظلّه : قال المحقّق الثاني (هـ) قدّس سرّه ـ : ( الجملة الخبرية غير صريحة في الوجوب ).

قال دام ظلّه : ولا يبعد ذلك منه ، إذ بناؤه على أنه ليس كثير اعتناء بالظواهر اللفظية ، فلذا يرفع اليد عنها بالظنون الخارجية كالشهرة وأمثالها ، بل يرفع اليد عنها بسبب الأصول العملية ، لكن بعد قيام الدليل القطعي لا نبالي بخلاف هؤلاء ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(آ) المتداولة اليوم هي للمحقّق السبزواري (ره) في شرح ( إرشاد الأذهان ) للعلاّمة ( قدّه ) ، ولا يوجد له ( قده ) كتاب باسم ( الذخيرة ) بحسب فحصنا ، كما لم ينقل المحقّق السبزواري (ره) في ذخيرته قول العلاّمة ( قدّه ) بظهور الجملة الخبرية في الوجوب ، لكن يحتمل أنّه ( ذخيرة ) السيّد المرتضى ( قدّه ) ، ولم نحصل عليه.

(ب) منتهى المطلب : ١ ـ ١١٢.

(ج) الكلمة غير واضحة في الأصل ، فأثبتناها من المصدر.

(د) الوسائل : ٢ ـ ٥٧٢ ـ كتاب الطهارة ـ باب : ٢٦ من أبواب الحيض ـ ح : ٣ ، لكن الحديث في المصدر هكذا : « تلبس درعا ، تمّ تضطجع معه ».

(هـ) جامع المقاصد : ١ ـ ٩٢.

٣٩

تقدير صدقها ـ لا تضرّنا بعد قيام الأدلّة القطعية على المختار ، مع أنّه إنّما استظهر الإنكار ممّن نسب إليهم في بعض الموارد الخاصّة كالمسألة المذكورة ، ولا ريب أنّه لعلّ إنكارهم لحرمة المسّ من جهة إجمال الآية من حيث إنّه فسّرت أيضا بأنّ المراد (١) هو اللوح المحفوظ ، يعني : لا يمسّه ـ اللّوح المحفوظ ـ إلاّ المطهّرون. فعلى هذا يراد بها الإخبار عن ذلك لا غير ، فيخرج عن محلّ الكلام ، إذ هو بعد فرض إرادة الإنشاء من الجملة الخبرية ، ولا ربط لها حينئذ بجواز مسّ كتابة القرآن.

وعلى تقدير أنّهم استشكلوا في الآية من جهة كونها جملة خبرية ، وأنّها ليست ظاهرة في الوجوب ، فيمكن حمل ذلك على أنّهم اعتقدوا حكم المسألة ـ أعني جواز المسّ ـ بدليل آخر.

ثمّ أشكلوا في الآية من باب الشبهة في مقابلة البديهة التي يعلمون خلافها من أنفسهم ، فإنّ الخروج عن ظاهر الآية وإن كان لا بأس به مع العثور على دليل قاهر عليها أظهر منها أو نصّ في الجواز ، إلا أنّ تعليل عدم جواز التمسّك بكونها من الجمل الخبرية وأنّها ليست ظاهرة في الوجوب شبهة في مقابلة البديهة ، وكيف كان ، فيظهر [ أن ] تلك الشبهات غير عزيزة في كلماتهم ، فراجع.

ثمّ إنّا بعد ما حققنا من ظهور الوجوب من الجمل يندفع استدلال المانعين ، فإنّ لزوم الوقف إنّما فيما إذا لم يكن أحد المجازات أظهر من غيره ، وليس المقام كذلك كما عرفت.

ثمّ إنّه احتجّ بعض من وافقنا في المذهب : بأنّ الوجوب أقرب إلى الثبوت والوقوع الّذي هو مدلول الأخبار ، وإذا تعذّرت الحقيقة قدّم أقرب

__________________

(١) أي المراد بالضمير في ( يمسّه ) هو اللوح المحفوظ.

٤٠