تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

مرّ مثاله.

ومنها : ما ذكره المحقّق الثاني (١) ـ على ما حكي عنه ـ في مناسك منى ـ أعني الحلق والذبح والرمي ـ من أنّ من عصى وخالف الترتيب صحّ نسكه المتأخّر الّذي قد قدّمه ، ثمّ قاس عليه صحّة صلاة المديون المطالب بالدين المتمكّن من أدائه إذا عصى ولم يقضه ، واشتغل بالصلاة في سعة الوقت.

قال سيّدنا الأستاذ ـ دام ظله ـ : وهذا يجري في كلّ عبادة موسّعة مزاحمة بواجب مضيّق ـ كالصلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة ـ إذا تركه واشتغل بها في سعة الوقت ، وغير ذلك من الأمثلة للواجب المضيّق والضدّ الموسّع.

ومنها : ما ذكره المشهور من صحّة صلاة المأموم إذا خالف الإمام فيما يجب عليه متابعته ، حيث قالوا : إنّه أثم حينئذ ، لكن صحّت صلاته.

وجميع تلك الأمثلة لا وجه للقول بالصحّة فيها إلاّ البناء على ما اخترناه ، كما لا وجه للقول بالفساد فيها إلاّ البناء على مخالفه.

نعم يمكن توجيه الفساد في الأخير ـ كما قيل ـ من جهة تعلّق النهي بالجزء الّذي يأتي به بعد عصيان المتابعة ، فيفسد الكلّ ، لأن النهي عن الجزء مستلزم للنهي عن الكلّ ، فتأمّل.

إيقاظ : اعلم أنّ تعليق الحكم على الشرط المتأخّر على القول بجوازه لا يختصّ بالوجوبي ، بل يجري في سائر الأحكام التكليفية كما لا يخفى ، بل في الوضعيّة بأسرها أيضا. ومن هذا الباب تعليق سببية العقد الفضولي على الإجازة المتأخّرة على القول بكونها كاشفة كما أشرنا إليه سابقا.

ثمّ إنّ لازم التعليق على هذا الوجه كون وجود المعلّق عليه فيما بعد كاشفا عن حصول المعلّق من قبل ، ولازم ذلك ترتّب جميع الأحكام المترتبة عليه شرعا

__________________

(١) جامع المقاصد : ٣ ـ ٢٣٢ ، الفصل السادس ، المطلب الأوّل.

٢٨١

ـ بعد وجود المعلّق عليه ـ عليه قبل وجوده إذا علم بحصول المعلّق عليه فيما بعد ، كما علمت من مطاوي كلماتنا المتقدّمة.

لكن لا يخفى أنّ التزام كون الإجازة من هذا القبيل لا يخلو عن إشكال فإنّ لها على هذا التقدير لوازم يشكل الالتزام بها :

منها : جواز تصرّف الأصيل فيما انتقل إليه مع علمه بأنّ المالك سيجيز ، فإنّه كاد أن يكون مخالفا للإجماع ، مع مخالفته للأدلّة العقلية والنقليّة منها قوله عليه السلام : « لا يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب نفسه » (١) ، فإنه يدلّ على عدم جواز التصرّف قبل تحقّق الإجازة لعدم حصول الطيب بعد ، وهكذا نظائره من الأخبار.

ومنها : عدم جواز بيع ما باعه الشخص فضولا ، فإنّه أيضا كاد أن يكون مخالفا للإجماع إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة ، فتدبّر.

وقد ذهب بعض من المحقّقين من متأخّري المتأخّرين (٢) في فقهه ـ على ما حكي عنه ـ إلى كون الإجازة كاشفة ، والتزم باللازم الأوّل ، وهو جواز تصرّف الأصيل ، وظهر ما فيه ممّا بيّنّا.

وقد يتفصّى عن الإشكال المتقدّم بوجوه أخرى غير ما تقدّم :

منها : التزام كون تلك الواجبات مشروطة ، كما هو ظاهر أدلّة بعضها وصريح أدلّة البعض الآخر ، لكن وجوب تلك المقدّمات قبل وجوب ذواتها (٣)

__________________

(١) الوسائل : ١٧ ـ ٣٠٩ ـ كتاب الغصب ـ باب : ١ ـ ح : ٤ ، ومستدرك الوسائل : ١٧ ـ ٨٨ ـ كتاب الغصب ـ باب : ١ ، ح : ٣ و ٥ ، وسنن الدارقطني : ٣ ـ ٢٦ ـ ح : ٩١ ، وعوالي اللئالي : ٣ ـ ٤٧٣ ـ ح : ٣ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ( وهو الشيخ محمد تقي ـ قدّس سرّه ـ على ما حكي عنه ) على ما جاء في هامش الأصل.

(٣) المراد بذواتها هنا الواجبات النفسيّة التي وجبت مقدّماتها لأجلها ، ومفردها : ( ذو المقدّمة ) ، والقياس في جمعه : ( ذوو المقدّمة ) أما ( ذوات ) فجمع ( ذات ).

٢٨٢

ليس من جهة اقتضاء وجوب ذواتها الّذي لم يحصل بعد ، بل لأجل أنّ تلك المقدّمات من شئون القدرة على الفعل في وقت وجوبه ، بمعنى أنّ المكلّف لو فعلها يصير متمكّنا من ذواتها في وقت وجوبها ، ولو تركها يتعذّر عليه الإتيان بذواتها في ذلك الوقت ، فيفوت عليه التكليف لذلك ، فيكون تركها قبل وقت وجوب ذواتها تفويتا للتكليف بذواتها في وقت وجوبها ، وتفويت التكليف مما يستقلّ العقل بقبحه.

لا يقال : إنّ مقتضى ذلك وجوب تحصيل الشرائط الوجوبية الصرفة للواجب أيضا كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، إذ لا فرق بينها وبين القدرة لكون كلّ واحدة منهما من شرائط الوجوب ، ويكون ترك كلّ منهما تفويتا موجبا لاستحقاق العقاب ، ووجوب تحصيل الشرائط الوجوبية مطلقا خلاف الضرورة ، فإن كان فرق بينهما فبيّنه (١).

لأنّا نقول : نحن لا ندّعي قبح التفويت كلّيّة بل جزئيّة ، وهي فيما إذا كان الفعل في نفسه تامّا من حيث المصلحة ، بحيث لا مانع من التكليف به إلاّ عجز المكلّف من أدائه ، بحيث يكون مع العجز أيضا ذا تلك المصلحة إلاّ أنّ عجزه منعه عن الإتيان به ، والشرائط الوجوبية ليست كلّها من هذا القبيل ، بل بعضها راجع إلى شرط تحقّق تلك المصلحة الداعية للأمر في المأمور به ، بمعنى أنّ الطبيعة المأمور بها لا مصلحة ملزمة فيها بدونه ، بل معه بحيث يكون موضوع

__________________

(١) وأيضا لقائل أن يقول : إنّه قد مرّ أنّه لا خلاف في عدم وجوب المقدّمات الوجوبية ، وإنّما هو في الوجودية فقط.

ولكنّ الجواب عنه : بأنّ هذا ليس من جهة كون القدرة شرطا للوجوب ، بل لأجل أنّ سلبها تفويت للتكليف.

وبعبارة أخرى : نحن لا نقول بوجوب تحصيل القدرة ، بل نقول بعدم جواز سلب الحاصلة منها ، والسؤال إنّما يتّجه على الأوّل لا الثاني ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٨٣

الخطاب هو الجامع لهذا الشرط ، والاستطاعة من هذا القبيل ، حيث إنّه لا مصلحة ملزمة في طبيعة الحجّ بدونها ، ويكون موضوع الأمر ثمّة هو المستطيع ، وبعضها راجع إلى شرط حسن الأمر والإلزام كالقدرة ، فإنّها من شرائط حسن الأمر والإلزام ، لا من شرائط حسن الفعل المأمور به ، بل هو حسن مع العجز أيضا ، ونحن ندّعي قبح التفويت المتحقّق في ضمن القسم الثاني خاصّة لا الأوّل أيضا.

وبعبارة أخرى : إنا ندّعي قبح تعجيز النّفس (١) عن امتثال التكليف سواء كان متّحدا مع عنوان المخالفة والعصيان في الخارج ـ كما إذا عجّز نفسه بعد دخول وقت الواجب ، حيث إنّ سلب القدرة عن نفسه حينئذ مخالفة وعصيان لذلك الواجب المطلق ـ أو لا ـ كما في الواجبات المشروطة قبل مجيء وقت وجوبها ـ والتعجيز يتحقّق بالقسم الثاني لا الأوّل.

هذا حاصل مراد الموجّه بتوضيح من الأستاذ ـ دام ظلّه العالي ـ.

وقد يستشهد لما ادّعاه من قبح تعجيز النّفس واستحقاق العقاب عليه بفروع :

منها : أنّهم اتّفقوا ظاهرا على العقاب على المرتد (٢) الفطري على الفروع

__________________

(١) أقول : ويدلّ على قبح التعجيز : أنه لو وصل طومار من مولى إلى عبده ، وعلم العبد أن لمولاه فيه أوامر مطلقة أو مشروطة ، فضيّع العبد ذلك الطومار ، ومحاه قبل أن يرى ما فيه ، ولم يتمكّن بعد ذلك من العلم بما فيه أيضا ، ولم يقدر على الاحتياط الكلّي أيضا ، فلا يرتابون (أ) العقلاء ـ في ذمّه وتقبيحه على هذا الفعل الموجب لعجزه عن امتثال تلك الأوامر ، ولا يفرّقون في الذمّ والتقبيح بين الأوامر المشروطة والمطلقة ، وإن كانوا يفرّقون بينهما بالحكم لتحقّق المخالفة والعصيان بذلك ، لا بالنسبة إلى الثانية من أوّل الأمر دون الأولى. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) الأقوم في العبارة هكذا : .. على عقاب المرتدّ ..

__________________

(أ) الصحيح بحسب المشهور : ( فلا يرتاب العقلاء ) ، وعبارة المتن تصحّ على لغة ضعيفة.

٢٨٤

مطلقا ـ من الواجبات المطلقة المنجّزة عليه عند الارتداد أو المشروطة التي تحصل شروطها بعده ـ بناء على عدم قبول توبته ، حيث إنّه من أفراد المقام ، إذ الارتداد سلب القدرة على المأمور به ، إذ من شرط العبادة الإسلام ، وهو الآن متعذّر عليه.

ومنها : ما اتّفقوا عليه من وجوب قضاء العبادات على الكفار وعقابهم عليه ، فإنّه أيضا من أفراد المقام ، حيث إنّهم بالكفر سلبوا قدرتهم عن الامتثال والقضاء : أمّا في حال الكفر فظاهر ، وأمّا لو أسلموا فهو (١) يجبّ ما قبله ، فلا يبقى تكليف بالقضاء. وكيف [ كان ] ، فالمقصود الاستشهاد بكونهم معاقبين على القضاء لو ماتوا على الكفر مع عدم قدرتهم عليه.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّ الوجه المذكور محلّ تأمّل ، بل لا يبعد منعه ، فإنّ المراد من قبح التفويت والتعجيز : إن كان إثبات الوجوب النفسيّ (٢) لتلك المقدّمات ولو بأن يقال : إنّ الوجوب النفسيّ لا ينحصر فيما كان المصلحة الداعية إلى الأمر حاصلة في نفسه ، بل يمكن أن يكون ممّا تكون المصلحة الداعية إلى الأمر به هي المصلحة الحاصلة في غيره ، وهي في المقام التأهّل للتكليف بشيء آخر ، فهذا راجع إلى الوجه الأوّل من وجوه دفع الإشكال ، مع أنّ الموجّه في مقام إبداء وجه آخر غير الأوّل والثاني ، بل حكي ـ عن ظاهر بعض عباراته أيضا ـ الطعن منه على من اختار الوجه الأوّل.

وإن كان المراد إثبات الوجوب الغيري لها فهذا ليس توجيها للإشكال ودفعا له ، بل إنّما هو قول بموجبة ، وموافقة لمن قال باتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل وجوب ذيها ، كصاحب الذخيرة والخوانساري ـ قدّس سرّهما ـ مع أنّه في

__________________

(١) أي الإسلام.

(٢) في الأصل : وجوب النفسيّ ..

٢٨٥

مقام التوجيه.

نعم يمكن أن يقال : إن مراده أنّ القدرة على الفعل الواجب ولو في زمان موجبة لتنجّز التكليف بذلك الواجب في وقت وجوبه ولو كان ذلك الوقت متأخّرا عن زمان القدرة ، بمعنى أنّها مجوّزة عند العقل للعقاب على ترك ذلك الواجب لا محالة ولو فاتت وانقطعت قبل وقته إذا كان الفوات باختيار المكلّف وإنّما المسلّم إنّما هو عدم إيجابها للأمر بذلك الواجب والتكليف به في وقته إذا كانت قد فاتت قبله.

والحاصل : أنّ الامتناع بالاختيار ـ سواء كان في وقت وجوب الواجب أو قبله ـ لا ينافي العقاب ، ولو نافى فهو ينافي الأمر ، فإنّ القدرة على الفعل في زمان موجبة لحسن العقاب عليه ـ سواء بقيت إلى وقته أو فوّتها المكلّف قبله ، وإذا قدر المكلّف على المقدّمات في زمان قبل وقت الواجب فهو قادر الآن على الإتيان بذلك الواجب في وقته ، بأن يوجد تلك المقدّمات الآن ، فيفعل الواجب بعدها في وقته ، فيتنجّز عليه ذلك الواجب ، بمعنى حسن العقاب على تركه إذا كان مسبّبا عن تقصيره ، فلزوم الإتيان بتلك المقدّمات حينئذ إنّما هو للتحرّز عن ذلك العقاب ، إذ لو فوّتها فقد فوّت القدرة ، ومعه يستحقّه.

ففارق هذا الوجه الوجه الأوّل ، حيث إنّ وجوبها على هذا الوجه ليس نفسيا ، وليس العقاب المذكور على نفس تلك المقدّمات ، بل وجوبها غيري ، بمعنى أنّه لأجل الغير ، والعقاب إنّما هو على الغير ، إلاّ أنّه يجوز تقديمه على وقت ذلك الغير ، لتحقّق ترك ذلك الغير الواجب الآن لعدم تمكّنه منه بعد تفويت تلك المقدّمات.

وكذا فارق الوجه الثاني ، لأنّ الكلام على هذا الوجه على تقدير عدم حصول وجوب ذي المقدّمة بعد.

ولا يرد أيضا ما ذكر من الالتزام بموجب الإشكال ، فإنّ وجوب تلك

٢٨٦

المقدّمات ناشئ عن عقاب ذواتها ، لا عن وجوب ذواتها ، فافهم.

نعم يمكن أن يكون مراده إثبات العقاب ـ عند ترك المقدّمات ـ على ذواتها ، لا إثبات وجوب تلك قبل وجوب ذواتها ، بل الحال فيها هي الحال في سائر المقدّمات عند حصول وجوب ذواتها ، فإنّه ليس الكلام الآن في وجوب المقدّمة.

ولكن الإنصاف أنّ الظاهر أنّ مراده ليس دعوى وجوب تلك المقدّمات ، بل إنّما هو أوكل الأمر فيها إلى سائر المقدّمات ، بمعنى أنّ حالها إنّما هي حال سائر المقدّمات عند وجوب ذواتها ، فيثبت لها حينئذ ما ثبت لغيرها على اختلاف الآراء.

بل مراده : أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار : بمعنى الأمر كما هو مقالة المشهور ، أو بمعنى العقاب كما هو مقالة آخرين ، وعليه المذهب في الجملة ، وأنّه يكفي في تنجّز التكليف على المكلّف ـ بحيث يصحّ عقابه على تركه ـ قدرته على المكلّف به في الجملة ، ولا يشترط بقاؤها إلى وقت وجوب الواجب إذا لم تفت عليه بسبب غير اختياري له ، ولا ريب أنّه إذا علم الآن بتوجّه خطاب إليه فيما بعد ، وكان الآن متمكّنا من الإتيان بمقدّمات المأمور به التي لو فعلها الآن يقدر على الإتيان به في وقته ، ولو تركها يتعذّر عليه حينئذ ، فهو الآن قادر على الإتيان بالمأمور به في وقته لقدرته الآن [ على ] ما يتوقّف (١) عليه. وهذا القدر من القدرة كاف في تنجّز التكليف عليه فيما بعد بحكم العقل وبناء العقلاء.

ولمّا كان المفروض فيما نحن فيه علم المكلف بتوجه أمر إليه فيما بعد ، وقدرته على مقدّماته التي لو فعلها يتمكّن من فعل المأمور به في وقته ، فهو قادر قبل الوقت على المأمور به في وقته ، فيوجب ذلك تنجّز ذلك الأمر عليه في ذلك

__________________

(١) في الأصل : لما يتوقّف ..

٢٨٧

الوقت ، فحينئذ لو ترك تلك المقدّمات فهو قد فوّت المأمور به عليه بسوء اختياره ، وهو لا ينافي العقاب على المكلّف به لا محالة ، ولو كان بتفويت القدرة قبل مجيء وقت الواجب ، فالعقل يحكم حينئذ بلزوم التحرّز عن ذلك العقاب وقبح إيقاع النّفس فيه ، ولا ريب أنّ ترك المقدّمات حينئذ إيقاع للنفس في مهلكة العذاب ، فوجوب تلك المقدّمات ليس من جهة المقدّميّة للواجب ومن حيثيّته ، إذ المفروض عدم وجوبه بعد ، وليس نفسيا ـ أيضا ـ كما لا يخفى ، لأنّ التزام العقلاء بذلك إنّما لأجل الفرار عن العقاب ، فيكون وجوبها عقليا إرشاديا غيريا ، ففارق هذا الوجه الوجه الأوّل للثاني ، والثاني للأوّل (١) ، فمن هنا علم أنّ مراده من التكليف المدّعى قبح تفويته هو المكلّف به ، لا الأمر ، إذ المفروض توجّه الأمر إليه فيما بعد ولو عجز عن المكلّف [ به ] بسوء اختياره ، كما مرّ.

مع أنّه لا يعقل جعل المدار في القبح على تفويت الأمر ، إذ لو كان المدار عليه لسرى إلى جميع الموارد ، مع أنّ بعضها عدم العقاب فيه بديهي في الدين ، كما لو كان أحد قادرا على تحصيل الشرعية فلم يحصّلها ، إذ لا شبهة في عدم العقاب عليه في ذلك وعدم القبح أيضا ، مع أنّه فوّت الأمر ، مع أنّه لا معنى لقبح تفويت الأمر ، إذ لا مطلوبية ومحبوبية في الأمر نفسه ، وإنّما المصلحة في الفعل المأمور به.

هذا ، ثمّ إنّ القائل [ قد ] ) يقول : إنّه لا يمكن البناء على كفاية القدرة الحاصلة قبل وقت الوجوب في تنجّز الواجب على المكلّف في ذلك الوقت بطريق الإيجاب الكلّي بالنسبة إلى الموارد ، والالتزام به في مورد دون آخر ترجيح بلا مرجّح :

أمّا عدم إمكان البناء عليه كلّية فلأنّه لا ريب في أنّ من قدر على

__________________

(١) في الأصل : ففارق هذا الوجه للوجه الأوّل للثاني ، وللثاني للأوّل.

(٢) في الأصل هنا كلمة غير مقروءة تشبه ( ليس ) أو ( لن ).

٢٨٨

تحصيل الاستطاعة المشروط بها وجوب الحجّ الآن فهو قادر الآن على (١) الحج في وقته بتقريب ما مرّ ، مع أنّ عدم العقاب عليه لو لم يحصّلها ضروري الدين.

وأمّا الثاني ـ أعني عدم الترجيح لبعض الموارد وعدم خصوصية له بالنسبة إلى ما عداه ـ فواضح ، وإن كان فبيّنه (٢).

هذا ، لكن الإنصاف عدم ورود هذا السؤال ، فإنّ عدم إمكان الكلّية المذكور ـ وإن كان مسلّما ـ إلاّ أنّ منع خصوصية لبعض الموارد على الآخر ممنوع.

بيانه : أنّ مراد الموجّه : أنّ هذه قاعدة عقلية ثابتة بالعقل وبناء العقلاء فيما إذا كان الأمر مطلقا بالنسبة إلى القدرة ، لكن للآمر أن يعتبر في أمره تقييده بقدرة خاصّة ـ وهي الحاصلة في وقت الواجب كما في الحجّ ـ فيخرج بذلك عن موضوع حكم العقل ، فلا يرد أيضا أنّ هذا تخصيص لحكم العقل ، فثبت الخصوصية لبعض الموارد بالنسبة إلى الآخر.

هذا ، لكن الإنصاف ـ بعد ذلك كلّه ـ عدم جواز تصديق الموجّه في ذلك. نعم ، المذمّة ثابتة من العقلاء لو عجّز العبد نفسه عن الإتيان بالواجب في وقته ، لكن الظاهر أنّه على الفاعل لا الفعل.

ثمّ إنّ الفرق بين ما نحن فيه وبين المسألة المتقدّمة سابقا ، وهي ثبوت العقاب على من علم إجمالا بأحكام الله تعالى عليه ، فلم يتعلّمها حتى وصل وقت الواجب وهو غافل عن وجوبه : أنّ الكلام هنا ـ كما عرفت ـ في أنّ المعتبر في تنجّز التكليف بالواجب في وقته هو بقاء القدرة للمكلّف في ذلك الوقت أو في

__________________

(١) في الأصل. من.

(٢) أي وإن كان ترجيح لخصوصيّة فبيّنه.

٢٨٩

الجملة بعد علم المكلّف قبل الوقت بتوجّه أمر إليه فيما بعد لو بقي على شرائط التكليف ، وثمّة في أنّ احتمال التكليف بالنسبة إلى شيء مانع عن الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص ، إذ لا بدّ من الفحص.

ثمّ إنّه ليس الكلام في هاتين المسألتين من جهة وجوب المقدّمة كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بعد ما صدّقنا الوجه المذكور يشكل الأمر في الأمثلة المتقدّمة ؛ حيث إنّه لا [ مجال ](١) لإنكار الوجوب فيها ، ولا يمكن القول بالوجوب النفسيّ كما هو الوجه الأوّل لا سيّما في مثل تعلّم المسائل والقراءة قبل الوقت ، فينحصر العلاج في التزام أحد أمور :

الأوّل : إنكار العقاب عند ترك تلك المقدّمات ، وهو مشكل.

الثاني : نفي الواجب المشروط وإرجاع جميع الواجبات المشروطة بظاهر الأدلّة إلى المعلّق ، وهو أشكل للقطع بوجود واجبات مشروطة.

الثالث ـ التزام الوجه الثالث ودفع الإشكال بعدم إمكان القول به كلّية بالتزام الجزئية ، وإبداء الفرق بأحد وجهين ـ على سبيل منع الخلوّ :

أحدهما : ما مرّ من اختصاصه بالأوامر المطلقة بالنسبة إلى القدرة.

والثاني : أن يقال : إنّ شرائط الوجوب في الواجب المشروط على ضربين :

أحدهما : ما يكون محقّقا لعنوان الآخر بحيث لا يتعلّق هو إلاّ به ، كالاستطاعة للحجّ ، حيث إنّ الأمر به يتعلّق بالمستطيع.

والآخر : ما ليس كذلك ، بل الأمر يتعلّق مطلقا بالنسبة إليه كالقدرة ، فيقال بقبح التفويت في الثاني دون الأوّل.

__________________

(١) في الأصل : لا مناص ..

٢٩٠

ويمكن أن يقال : إنّ شرائط الوجوب في الواجب المشروط (١) ـ كما أشير إليها ـ على ضربين : الشرعيّة والعقليّة :

الاُولى : كالبلوغ والاستطاعة في الحجّ ، والخلوّ من الحيض والنفاس في العبادات بالنسبة إلى المرأة.

الثانية ـ هي القدرة بأنحائها ، وأمّا العلم بالمأمور به فليس من شرائط الوجوب ولا الوجود ، لكفاية الاحتمال.

وإنّ الأولى من محقّقات عنوان الأمر بحيث لا يكون للأمر تعلّق بالمكلّف أصلا بدونها ، ويكون فاقدها خارجا عن موضوع الخطاب.

وأمّا الثانية فمن شرائط تعلّق الأمر ، لا محقّقة لعنوانه ، فمن هنا يقال :

إنّ الواجب المشروط ينحلّ إلى قضيتين : إحداهما سلبية ، والأخرى إيجابية ، فإنّ وجوب الحجّ بملاحظة اشتراطه بالاستطاعة ينحلّ إلى قولنا : المستطيع يحجّ ، وغيره لا يحجّ ، وكذا في غيرها من شرائط الوجوب ، وأمّا الوقت فليس من شرائط الوجوب ، بل للوجود.

فحينئذ نقول : إنّه إذا تحقّق في المكلّف الشرائط الشرعية للوجوب ـ مع علمه ببقاء قدرته إلى وقت الفعل لو لا مانع سوء اختياره ـ يتعلّق (٢) الآن التكليف بالواجب به ويتنجّز عليه لحصول شرائطه ، فلا يجوز تفويت القدرة بعده بسوء اختياره ، لأنّه راجع إلى مخالفة الأمر عمدا ، ولا يكون مشروطا بالنسبة إلى الوقت ، بل [ من ] المعلّق ـ الّذي هو قسم من المطلق ـ ، فحينئذ لو لم يتعلّم المسائل والقراءة ، أو لم تغتسل بعد دورة الشهر التي هي كالشرط (٣)

__________________

(١) العبارة في الأصل غير واضحة.

(٢) في الأصل : فيتعلّق ..

(٣) العبارة في الأصل غير واضحة.

٢٩١

في وجوب الصوم شرعا ، مع كونه بالغا ، أو عجّز نفسه عن الإتيان بالمكلّف به في وقته ، فهو معاقب لكونه مفوّتا له بعد تنجّز التكليف ، فهو عاص.

وأمّا لو انتفى عنه فعلا أحد الأمور الشرعية التي هي شروط الوجوب مع علمه بحصوله بعد ، ولو كان الآن قادرا على نفس الفعل عقلا ، أو انتفى الآن عنه القدرة حال كونه جامعا فلا دليل على كونه معاقبا على تفويت التكليف بتفويت القدرة الآن عن نفسه بحيث لا يبقى له قدرة حين حصول الشروط الشرعيّة في الصورة الأولى ، أو بتفويت الشروط الشرعيّة في الثانية ، وأمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلعدم العلم به ، فنقول حينئذ :

إنّ تعلّم المسائل والقراءة والغسل للصوم وعدم تفويت القدرة إنّما يسلّم وجوبها في صورة كون المكلّف جامعا للشروط الشرعية وعالما بأنّه لو لا مانع سوء اختياره لقدر على المكلّف [ به ] في حينه ، فيكون وجوب تعلّم المسائل أو الغسل في الليل بعد الرؤية على طبق [ القاعدة ] لكونهما حينئذ من مقدّمات الواجب المشروط بعد وجود شرطه.

وأمّا عدم جواز تفويت القدرة فهو من باب أنّه راجع إلى مخالفة هذا التكليف المنجّز عليه الآن ، لا من جهة كونه مقدّمة وجودية وإن جعلتها مقدّمة وجودية أيضا وقلت بوجوبها ، لأنّه حينئذ على طبق القاعدة.

وأمّا في غير صورة اجتماع تلك الشرائط فلا إجماع دلّ على وجوبها وعلى مدعيه الإثبات.

وكيف كان ، فالأجوبة الثلاثة عن الإشكال المتقدّم ما لا يخفى في كلّ منها :

أمّا الأوّل ـ وهو التزام كون تلك المقدّمات واجبة نفسا ـ فلعدم إمكان الالتزام به ، لا سيّما في مثل تعلّم المسائل والقراءة.

وأمّا الثاني ـ وهو التزام كون الواجبات التي هي ذوات تلك المقدّمات

٢٩٢

معلّقة ـ فهو أيضا غير مطّرد ، إذ ليس يمكن إرجاع كلّ أمر مقيّد إلى الواجب المعلّق بجعل القيد متعلّقا للواجب لا الوجوب إذ لنا في الشريعة واجبات مشروطة بالضرورة ، فتتوقّف تمامية الوجه ـ بحيث ينفع في كلّ مورد ـ على إنكار الواجب المشروط ، وهو كما ترى.

وأمّا الثالث ـ وهو التزام كونها مشروطة والقول بوجوب تلك المقدّمات من باب عدم جواز تفويت القدرة ـ فقد عرفت ما فيه من أن المسلّم من حكم العقل بقبح التفويت إنّما هو فيما إذا كان توجّه التكليف إلى المكلّف فعلا بحيث يكون داخلا في موضوع الخطاب لرجوع سلب القدرة حينئذ إلى مخالفة الأمر وعصيانه ، وأمّا قبله فلا.

نعم يذمّ العبد من باب أنّه يكشف عن سوء سريرته ، فالقبح فاعليّ ، لا فعليّ يترتّب عليه العقاب.

فالأجود أن يقال : بأنّه إن أمكن حمل الأمر المقيّد بتقدير خاصّ على المعلّق ـ بأن يستفاد من الدليل كون القيد راجعا إلى المطلوب لا الطلب ـ نلتزم (١) حينئذ بوجوب تلك المقدّمات قبل حصول التقدير الخاصّ بكونها حينئذ مقدّمات للواجب المطلق ، وهو على طبق القاعدة ، وإلاّ فنمنع وجوبها إلاّ في صورة حصول القيد ، فنحن لسنا ملتزمين بوجوبها في كلّ مورد حتّى يرد علينا الإشكال ، فنقع في كلفة الجواب.

تنبيه :

اعلم أنّه قد خصّ بعضهم وجوب الغسل في ليلة رمضان بالجزء الأخير منها الّذي يسع الغسل (٢) معلّلا : بأنّ الحاكم بوجوب المقدّمة هو العقل ، وهو

__________________

(١) في الأصل : فنلتزم ..

(٢) في الأصل : للغسل ..

٢٩٣

لا يحكم ولا يلزم به إلاّ في تلك الحال.

وفيه : أنّ حكم العقل به إنّما هو من جهة ملاحظة الأمر بذيها ، فحينئذ إن فرض أمر قبل الصبح فلا فرق حينئذ بين الجزء الأوّل من الليل وآخره.

نعم في الجزء الأوّل ـ لمّا يرى تعدّد أفراد الغسل بحسب إمكان إيقاعه في الليل ـ لا يحكم به مضيّقا ، بل موسّعا ومخيّرا ، وحكمه بالضيق في آخر الوقت لانحصار الفرد فيه ، وان لم يكن امر فلا يحكم بالوجوب.

والظاهر أنّ المشهور بناؤهم على جواز نيّة الوجوب في الغسل في أي جزء من الليل.

لكن يرد عليهم : أنّهم إذا لم يخصّوا الوجوب بالجزء الأخير ، فلم ما عمّموه إلى [ ما ] قبل رمضان أيضا.

لكنّه مدفوع : بأنّ الخطاب لم يتوجّه بعد إلى المكلّف ، وإنّما يتوجّه إليه بعد الرؤية بمقتضى قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(١) ، فإذا رأى الهلال يجب (٢) عليه صوم الشهر ، ويكون مجيء كلّ يوم من ظروف الامتثال (٣) لا من شروط الوجوب ، فيكون الوجوب معلّقا بالنسبة إليه ، فيجب من أوّل الليلة.

ينقسم الواجب باعتبار آخر إلى النفسيّ والغيري :

والّذي ينبغي أن يعرّف به الغيري ـ بحيث يسلم عمّا يرد على ما عرّفه به بعضهم ـ هو أن يقال : إنّه ما يكون وجوبه لأجل واجب آخر ، أي لكونه

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) في الأصل : فيجب ..

(٣) الكلمة في الأصل غير واضحة.

٢٩٤

مقدّمة لامتثال واجب آخر ، فعلى هذا لا يحتاج لزوم إيجاده إلى خطاب من الشرع لكونه معنونا بعنوان المقدّمة الّذي يحرّك معه العقل إلى إيجاده ، ولو فرض ورود خطاب به من الشارع فهو لا يكون إلاّ إرشاديا أو بيانا لكون الشيء مقدّمة ، كما في المقدّمات الشرعية التي لا سبيل للعقل إلى توقّف الواجبات عليها مثل : قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا )(١) الآية ، وأمثاله.

والواجب النفسيّ بخلافه ، فعلى هذا ينطبق (٢) الحدّ على مقدّمات الواجبات كلها ، ولا يشمل غيرها أصلا ، ولا بدّ أن يكون كذلك ، فإنّ الظاهر بل المقطوع به أنّ مرادهم بالواجب الغيري ـ اصطلاحا ـ ذلك لا غير ، وان كان يصحّ إطلاقه أيضا على ما كان الغرض من وجوبه التوصّل إلى مصلحة حاصلة في غيره لغة ، لكنه خارج عن محلّ الكلام.

وبالجملة : فخرج بقولنا : ( لأجل واجب آخر ) ما كان الداعي إلى وجوبه حصول غاية وغرض من الأغراض ولو كان ذلك الغرض والغاية هو التأهّل لتكليف آخر ، كما قيل في وجوب الغسل على الجنب والحائض والنفساء في ليلة رمضان فرارا عن لزوم تقدّم وجوب المقدّمة على وجوب ذيها ، كما عرفت سابقا مع ما فيه.

ومن عرّف الواجب الغيري : بأنّه ما يكون وجوبه لأجل الغير يرد عليه النقض بجميع الواجبات النفسيّة ، لأنّها إنّما وجبت لأجل الغير ، وهو غايتها المترتّبة عليها كالتقرّب ونحوه.

ثمّ إنّ لازم الواجب الغيري سقوط الوجوب عنه إذا وجد في الخارج بأيّ وجه اتفق ، إلاّ أنّه إذا كان عبادة ليس هو بذاته مقدّمة ، بل المقدّمة هو متقيّدا

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) في الأصل : فينطبق ..

٢٩٥

بكونه واقعا على وجه الطاعة ، فلا يوجد بدون قصد الامتثال ، ضرورة انتفاء المقيّد بانتفاء قيده.

ولازمه ـ أيضا ـ أنّه لو أوجده المكلّف قبل زمان وجوب الواجب ـ الّذي هو مقدّمة لذلك ، وكان واجدا له إلى أن دخل وقت ذلك الواجب ـ يسقط وجوبه ، ولا يلزم إعادته ثانيا ، فمن توضّأ قبل الوقت استحبابا ، وقلنا بكونه رافعا ، فلا حاجة إلى إعادته بعد دخول وقتها ، فإنّ ما يتوقّف عليه إباحة الدخول في الصلاة إنّما هو كون المصلّي متطهّرا عند الدخول ، وهذا أمر حاصل من ذلك الوضوء ، فيرجع الأمر بإعادته إلى طلب الحاصل.

ثمّ إنّك قد علمت : أنّ الحكمة الباعثة على وجوب الواجب الغيري إنّما هو كونه مقدّمة لامتثال واجب آخر فمهما تحقّقت تلك الحكمة في شيء فيترتّب عليه ذلك الوجوب عقلا ولو لم يكن هناك أمر من الشارع ، كما أنّها أينما انتفت لا يعقل الوجوب الغيري هناك.

ومن هنا ظهر فساد ما ذهب إليه بعضهم من منع وجوب مقدّمة الواجب بالوجوب الغيري إلاّ ما دلّ دليل شرعي على وجوبها كذلك كالوضوء ونحوه.

وتوضيح فساده : أنّه إن فرض خلوّ الوضوء ونحوه مما اعترف هو بوجوبه الغيري بمقتضى الأدلّة النقليّة عن تلك المصلحة فلا يعقل إيجاب الشارع إياه لأجل المقدّمة للغير ، وإن فرض حصولها فيه وأنّ الشارع أوجبه لتلك فلا يعقل الفرق بينه وبين سائر الموارد من المقدّمات التي لم يرد من الشارع خطاب على وجوبها لوجود تلك في كلّ واحدة منها بعينها من غير نقصان فيها.

وبالجملة : الوجوب الغيري لشيء قد يثبت من الشارع كما في المقدّمات الشرعية التي لا سبيل للعقل إلى معرفة كونها مقدّمات ، وقد يثبت بالعقل كما في المقدّمات العقلية والعادية.

وكيف كان ، فلا يعقل التفصيل فيه بين المقدّمات بعد إحراز كونها

٢٩٦

متساوية من حيث المقدّمية ، ولا ثبوته فيما خلا عن تلك الحيثية.

ثم إنّ مادّة الوجوب أو الهيئة الموضوعة لها ـ وهي صيغة ( افعل ) ، أو غيرهما وهي أسماء الأفعال الدالة على ما تدلّ عليه المادة والهيئة ـ هل هي حقيقة بحسب الوضع اللغوي أو العرفي في الوجوب النفسيّ أو أنها للأعم منه والغيري؟

الحقّ هو الثاني ، فإنّا إذا راجعنا العرف ـ وكذا وجداننا ـ في مقام التخاطب مع قطع النّظر عما يوجب صرف اللفظ إلى النفسيّ يتبادر منه القدر المشترك بينهما ـ أي ما يقبل الانطباق [ على ] كلّ منهما ـ وهو دليل الوضع.

نعم يجب حمل تلك الألفاظ عند الإطلاق على الوجوب النفسيّ إذا كان المقام جامعا لشرائط صحّة التمسّك بالإطلاق من كونه في مقام بيان تمام مقصود المتكلّم مع خلوّه عن أمارة موهمة لإرادة المقيّد ، وهو الوجوب الغيري فيما نحن فيه ، فيحكم حينئذ ـ بمقتضى قاعدة الحكمة من قبح تفويت الغرض ونقضه ـ أنّ المراد هو المطلق ، وهو فيما نحن فيه الوجوب النفسيّ ، فإنّ الوجوب النفسيّ والغيري كليهما وإن اشتركا في كون كلّ واحد منهما مقيّدا بعلّته كما هو الحال في سائر الموجودات من الممكنات ، حيث أنّ كلاّ منها مقيّد بعلّته ـ بمعنى أنّ وجودها ليس على كلّ تقدير ، بل إنّما هو على تقدير وجود عللها الموجدة لها ـ إلاّ أنّ الوجوب الغيري إنّما هو مقيّد بعنوان غير مقيّد به النفسيّ ، وهو كونه لأجل واجب آخر ـ كما عرفت في حدّه ـ فتكون نسبته إلى النفسيّ من نسبة المقيّد إلى المطلق ، فيجري فيهما ما يجري في المطلقات والمقيّدات.

ويكفيك شاهدا على ذلك : أنه لو تعلّق غرض المتكلّم ببيان الوجوب الغيري لا يكفيه إيراد اللفظ مجرّدا عن التقييد بكونه لأجل واجب آخر بحيث لو عبّر عن مقصوده ذلك باللفظ المطلق لكان مخلا بغرضه جدّاً ، بخلاف ما لو كان مراده الوجوب النفسيّ وتعلّق غرضه ببيانه ، حيث إنه يكفيه التعبير عنه

٢٩٧

باللفظ المطلق من دون حاجة إلى التقييد بكونه نفسيّا.

وكيف [ كان ] فلا ينبغي الارتياب في وجوب حمل تلك الألفاظ عند الإطلاق على النفسيّ (١) لعدم ذكر القيد إذا كان المقام مقام بيان المراد من جهة النفسيّة والغيرية بأن يحرز من حال المتكلّم كونه في هذا المقام وإن كان إحراز ذلك ـ لقلّة (٢) موارده ـ في غاية الإشكال.

ثمّ إنّه يمكن دعوى ظهور تلك الألفاظ الدالّة على الوجوب في النفسيّ منه عند الإطلاق من جهة الانصراف بسبب أكمليّة النفسيّ إلى حيث كأنّ

__________________

(١) اعلم أنّ ما اخترنا من ظهور الأمر في الوجوب النفسيّ نريد ظهوره في الوجوب المطلق ، أي غير المقيّد بواجب آخر قبال المقيّد به ، وهذا المفهوم ملازم للوجوب النفسيّ ، ومساو له ، فالأمر لا ظهور له ـ أوّلا وبالذات ـ في النفسيّ ، بل هو ابتداء ظاهر ـ لأجل إطلاقه ـ في المطلق بالمعنى المذكور ، فيكون ظاهرا في النفسيّ من جهة ملازمة ذلك المفهوم للوجوب النفسيّ وتساويه له ، فيكون ظهوره فيه بالالتزام ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) لأنه لا يترتّب على بيان النفسيّة والغيرية فائدة غالبا ، وإنّما قيّدنا بالغالب ، لأنه قد يتوهّم المخاطب فيما إذا كان الواجب غيريا في الواقع مع عدم تقييد الأمر بكونه غيريا في الظاهر ، أي ذلك واجب عليه على تقدير عدم وجوب ذلك الغير أيضا ، فيقع لأجل ذلك في كلفة الإتيان به في غير وقت وجوب ذلك الغير أيضا ، فإذا كان الآمر المكلّف ـ بالكسر ـ بانيا على تسهيل الأمر على عبده كما هو شأن الشارع ، فذلك يقتضي أن يبيّن له كونه غيريّا ، لكن لا يخفى أنّ ذلك إنّما يتصوّر فيما إذا كان وجوب ذي المقدّمة المعبّر عنه بالغير في وقت دون آخر ، وأمّا إذا كان وجوبه دائميا فلا فائدة في البيان أصلا ، لعدم تمشّي التسهيل حينئذ ، فإنّه إذا كان ذو المقدّمة واجبا دائما يكون (أ) مقدّمته واجبة كذلك ، فلا يتصوّر له مقام بيان أصلا ، فإنّ حال الخطاب الغيري حينئذ يكون حال الوجوب المشروط بحسب الواقع المتوجّه إلى المكلّف [ حال كونه ](ب) واجد الشرط ، فكما أنه ليس المقام ثمة مقام البيان كذلك هنا ، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق المقامي.

اللهمّ إلاّ أن يتصوّر حينئذ أيضا حكم آخر مترتّب على بيان الغيرية. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) في الأصل : فيكون.

(ب) أثبتنا هاتين الكلمتين استظهارا ، لأنه يوجد هنا سقط في النسخة الأصلية.

٢٩٨

الوجوب منحصر فيه بحيث لا يرى في الأنظار ابتداء غيره.

بل ويمكن دعوى ظهور الطلب الوجوبيّ في النفسيّ أيضا من غير جهة الانصراف وهو جهة ظهور حال الطالب ، فإنّ الظاهر من حال الطالب لشيء إنّما هو كون محبوبه وغرضه نفس ذلك المطلوب ، لا كونه مقدّمة لحصول غرضه الحاصل في غير ذلك المطلوب ، فهذا الظهور الحالي يوجب ظهور اللفظ في كون المراد هو النفسيّ ولو لم يكن في المقام شيء من أسباب الانصراف ، ولا ريب أنّ الظهور المستند إليه أقوى ممّا استند إلى بعض المراتب من مراتب أسباب الانصراف ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ قاعدة الحكمة الموجبة لحمل المطلقات على المعاني المطلقة لا توجب ظهور اللفظ المطلق في إرادة المعنى المطلق ، ولذا لو دلّ خطاب آخر على إرادة المقيّد ولو بأضعف الظهورات اللفظية لا تعارض بينه وبين تلك المطلقات ، بل هو وارد على إطلاقها نظرا إلى أنّ موضوعه إنّما هو عدم البيان ، ومع ذلك الخطاب يرتفع هذا الموضوع الّذي هو المناط للقاعدة المذكورة ، وهذا واضح ، بخلاف ما لو حملناها على المعاني المطلقة عند الإطلاق من جهة الانصراف أو الظهور الحالي المذكور ، فإنّه حينئذ لأجل ظهور اللفظ في كون المراد هو المطلق ويكون السبب للانصراف أو الظهور الحالي قرينة عليه ومنشأ لهذا الظهور ، ولذا لا يتوقف حمل المطلق حينئذ على المعنى المطلق على إحراز كونه واردا في مقام البيان ، بل إنّما هو ظاهر في إرادته من أوّل الأمر.

فعلى هذا لو دلّ خطاب آخر منفصل على إرادة المقيّد يقع التعارض بينه وبين ذلك الظهور ، فتلاحظ قاعدة التعارض.

وإن شئت قلت : إنّ بملاحظة قاعدة الحكمة بعد إحراز مقام البيان يظهر أنّ مراد المتكلّم هو المعنى المطلق ، لكن ليس هذا الظهور حينئذ ناشئا من اللفظ ولو بسبب القاعدة ، بل إنّما هو ظهور خارجي ناش عن أمر خارجي كظهور

٢٩٩

أنّ المراد هو المعنى الفلاني من الخبر بملاحظة شهرة الفتوى مثلا.

هذا بخلاف الظهور من جهة الانصراف أو الظهور الحالي ، إذ لا ريب أنّهما يوجبان ظهور (١) اللفظ في إرادة المعنى المطلق من أوّل الأمر فيكون ذلك الظهور من الظهورات اللفظية المعتبرة.

ثمّ إنّ المحقّقين على أنّ المطلقات إنّما هي موضوعة لنفس الطبائع المهملة الصالحة لجميع الاعتبارات والطواري من القيود بحيث لم يلحظ فيها اعتبار كونها مطلقة أيضا ، مضافا إلى عدم ملاحظة اعتبار سائر القيود ، فإرادة المقيّدات من تلك الطبائع منها لا توجب صيرورتها مجازا حينئذ ، لاستعمالها حينئذ أيضا فيما وضعت له ، فإنّ وجوده في ضمن المقيّد لا يقدح في كون استعمال اللفظ فيه حقيقة ، إذ المفروض أنه معنى لا بشرط يصلح لألف شرط.

نعم لو أريدت الخصوصية من حاقّ اللفظ فيكون مجازا ، لأنه لم يوضع لذلك المعنى بتلك الخصوصية ، بل مع قطع النّظر عنها.

لكن الظاهر أنّ إرادة الخصوصيّات فيما إذا كان المراد هو المقيّدات ليس من حاقّ اللفظ ، بل إنّما هي بدالّ آخر ، كأحد أسباب الانصراف أو قرينة أخرى ، فيكون إفادة المقيّدات بدالّين لا بواحد.

أقول : وهذا هو الحقّ الّذي ينبغي أن يعتمد عليه وفاقا لشيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ ولسيّدنا الأستاذ (٢) ـ دام ظلّه ـ ، فعلى هذا يكون الحال في المطلقات المحمولة على المعاني المطلقة ـ التي هي فرد من تلك الطبائع المهملة كالمطلقات المحمولة على الأفراد الشائعة أو الكاملة من جهة الانصراف ـ هي

__________________

(١) في الأصل : لظهور ..

(٢) هذا الكلام صريح في أنّ هذا الكتاب تصنيف للمحرّر ، لا تقرير لدرس أستاذه ( قده ) ، كما مرّ نظائره في الإشارة إلى ذلك.

٣٠٠