تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

فإن قلت : إنّه لا ريب أنّ كلّ واحد من المعصومين من النبيّ صلّى الله عليه وآله ومن بعده من الأوصياء عليهم السلام كان مبيّنا للأحكام ، ومنها المندوبات ، وإثباتها إنّما هو بصيغة الأمر ، فثبت بذلك تحقّق شيوع استعمالها في الندب بالنسبة إلى مجموع استعمالات عدّة منهم كالنبيّ صلّى الله عليه وآله وعليّ ، والحسن ، والحسين عليهم السلام إن سلّم عدم ثبوته بمجموع استعمالات واحد منهم.

قلنا : أوّلا ـ إنّ كون كلّ واحد منهم عليهم السلام مبيّنا لجميع الأحكام ممنوع ، بل بعضهم لم يبيّنها للناس أصلا لخوف التقيّة (١) بحيث لم يقدر على إظهار إمامته كالسجّاد عليه السلام ، والآخرون لم يبين كلّ واحد جميعها ، بل بعضها.

وثانيا ـ لو سلّمنا كون كلّ واحد مبيّنا للأحكام التي منها المندوبات نمنع بيان المندوبات بأسرها بصيغة الأمر ، بل بعضها بها ، وبعضها بلفظ ( ينبغي ، ويستحبّ ، ويندب إليه ) وأمثالها ، كما يظهر للمتتبّع في الأخبار ، فراجع وتدبّر.

وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في عدم تحقّق الشيوع الموجب للإجمال بكلا قسميه.

وممّا يكشف عن ذلك أنّه لم يتوقّف أحد من الصحابة ـ على ما يظهر من حالهم ، وكذا العلماء خلفا عن سلف ـ في التمسّك على وجوب شيء بأمر مطلق مجرّد عن القرينة ورد على ذلك الشيء.

ويشهد لذلك (٢) دعوى السيّد المرتضى (٣) ـ قدّس سرّه ـ اتفاق الإمامية

__________________

(١) أي الخوف الموجب للتقيّة أو لخوف فوات التقيّة.

(٢) في الأصل : ويشهد بذلك ...

(٣) الذريعة : ١ ـ ٥٥ ، والنصّ منقول بتصرّف يسير.

٦١

على ذلك ، حيث احتجّ على كون الأمر حقيقة في الوجوب في عرف الشرع : بأنّ ( أصحابنا الإمامية لم يختلفوا في هذا الحكم الّذي ذكرناه ، وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللغة ، ولم يحملوا ظواهر هذه الألفاظ إلاّ على ما بيّنّا ، ولم يتوقّفوا على الأدلّة ، وقد بيّنّا في مواضع من كتبنا أنّ إجماع أصحابنا حجّة ). انتهى.

وهذا الإجماع الّذي ذكره السيّد يكفي جوابا عن صاحب المعالم ومن وافقه ، وصاحب المعالم ـ أيضا ـ لم ينكر على السيّد هذا الإجماع ، وإنّما أجاب عن الاستدلال به : بأنّه لكون الأمر للوجوب لغة (١). والله الهادي.

السابعة (٢) : قال في القوانين (٣) في مقدّمات مسألة مقدّمة الواجب : إنّ دلالة صيغة ( افعل ) على الحتم والإلزام التزامية بالمعنى الأخصّ ، وعلى المنع من الترك هي بالمعنى الأعمّ ، حيث قال : ( دلالة الالتزام : إمّا لفظيّة وإمّا عقليّة ، واللفظية على قسمين : إمّا بيّن بالمعنى الأخصّ كدلالة صيغة ( افعل ) على الحتم والإلزام عند من يدّعي التبادر فيه ، كما هو الحقّ ، والمراد به دلالة اللّفظ عليه وكونه مقصودا للاّفظ أيضا.

وإمّا بيّن بالمعنى الأعمّ كدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ العامّ بمعنى الترك ، فبعد التأمّل في الطرفين والنسبة بينهما يعرف كون ذلك مقصودا للمتكلّم ) انتهى موضع الحاجة.

قال دام ظله : لا يخفى [ ما ] فيما ذكره ـ قدّس سرّه ـ من إهمال وإجمال (٤) وغموض واعتلال ، فإذا جعل الحتم والإلزام معنى التزاميّا للصيغة فحينئذ فما

__________________

(١) المعالم : ٤٧.

(٢) أي ( الفائدة السابعة ).

(٣) قوانين الأصول : ١ ـ ١٠٢ ـ المقدّمة السابعة.

(٤) في الأصل : من الإهمال والإجمال وغموض واعتلال.

٦٢

معناها المطابقي؟! فلا يبقى شيء آخر يكون معنى مطابقيّا لها.

قال : ويمكن حمل كلامه على أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون مراده ـ قدّس سرّه ـ أنّ هيئة الصيغة موضوعة لمجموع نسبتين :

إحداهما : نسبة قيام الحدث ـ المدلول عليه بالمادّة ـ بالمخاطب على وجه كونه مطلوبا منه.

والأخرى : نسبة المتكلّم [ إلى ] ذلك (١) الحدث والمخاطب ، وهي طلبه الحدث من المخاطب.

ومعنى الحتم والإلزام هي الثانية ، وهي الطلب ، وهو جزء لمعنى الهيئة ، فهو لازم لها بالمعنى الأخصّ.

لكنّه يبعده أنّ إطلاق دلالة الالتزام على ذلك خلاف الاصطلاح ، بل هو دلالة تضمّنيّة اصطلاحا.

وثانيهما : أن يكون مراده بالحتم والإلزام الوجوب الاصطلاحي ، أعني استحقاق الذمّ والعقاب على الترك ، بمعنى أنّ الصيغة تدلّ على الطلب الحتمي الصادر من شخص عال وجبت على المأمور إطاعته ، فتدلّ على استحقاق الذمّ التزاما.

ويبعده : أنّه ـ قدّس سرّه ـ لم يجعل النزاع في الصيغة في أنّها هل تدلّ على ذلك ، أو لا؟ فإنّه وإن صوّر محلّ النزاع بوجوه ثلاثة أحدها هذا ، لكنّه لم يرتضه ، بل جعل النزاع في مطلق الصيغة ، وفي أنّها هل تفيد الوجوب اللغوي ـ أي الحتم والإلزام ـ أو لا؟ وجعل دلالتها على استحقاق الذمّ والعقاب من الواضع [ في ](٢)

__________________

(١) في الأصل : بذلك ...

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

٦٣

خصوص المقام ، وهو ما إذا صدرت عن العالي ، فافهم.

أقول : الظاهر أنّ مراده أنّه بعد ما كانت الصيغة مفيدة للوجوب اللغوي ـ وهو الطلب على وجه الحتم والإلزام ـ فيكون الحتم والإلزام قيدا خارجا عن معناها لازما له ، فتدلّ عليه التزاما بالمعنى الأخصّ ، فمدلولها المطابقي هو الطلب المقيّد بهذا القيد ، ومدلولها الالتزامي هو نفس القيد ، فلا إغلاق في كلامه ـ قدّس سره ـ بوجه.

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

٦٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

في المرّة والتكرار

قاعدة : اختلفوا في أنّ صيغة الأمر هل هي للمرة ، أو التكرار ، أو الطبيعة؟ على أقوال :

رابعها الوقف : وهو محتمل لأن يكون من جهة عدم تعيين الموضوع له والجهل به ، كما صرّح به (١) صاحب المعالم ـ قدّس سرّه ـ ، ويشهد له (٢) ما حكى ـ قدّس سرّه ـ من حجّة هذا القول ، ولأن يكون من جهة التوقّف في المراد من جهة الاشتراك دون الوضع ، ويمكن أن يكون كلّ من الاحتمالين قولا في المسألة ، كما صرّح به بعض المتأخّرين.

وكيف كان ، فتحقيق المقام يتوقّف على تقديم أمور :

الأوّل : الظاهر أنّ النزاع هنا ـ كما في مسألة إفادة الصيغة للوجوب ـ إنّما هو من جهة الوضع ، كما يشهد به كلماتهم في عنوان المسألة ، فإنّ قولهم : ( إنّ صيغة الأمر للمرّة ، أو للتكرار ) ظاهر في أنّها موضوعة لما ذا.

ويدلّ عليه ـ أيضا ـ جعل بعضهم من أقوال المسألة الاشتراك ، فإنّه لا يكون إلاّ بالنسبة إلى الوضع ، بل يكفي في الدلالة عليه وجود القول بالوقف

__________________

(١) المعالم : ٥١.

(٢) في الأصل : ويشهد به.

٦٥

من جهة الجهل بالوضع ، فإنّه صريح في أنّ النزاع فيه.

نعم يمكن جريان النزاع ـ أيضا ـ فيما يستفاد من الصيغة عند الإطلاق سواء كان من جهة الوضع بخصوصه ، أو من جهة انصراف الإطلاق إليه ، كما يمكن جريانه هناك.

ثم النزاع إنّما هو في مجرّد الصيغة ، أي هيئة الأمر مع قطع النّظر عن الخصوصيّات الخارجيّة حتّى الخصوصيّات اللاحقة لها من جهة بعض الموادّ.

فعلى هذا ، فإخراج بعض خصوصيات الصيغة ، كما إذا كان معروضها بمعنى الترك ، كاجتنب واترك ـ كما فعله بعض المتأخّرين ـ غير جيّد ، فإنّ النزاع ليس في الخصوصيات حتّى يكون اتفاقهم على كون المثال المذكور للتكرار تخصيصا لمحلّ النزاع ، بل هو في الهيئة الكليّة ، فالتزام القائل بكونها للمرّة ـ بأنّ المراد بالمثال المذكور التكرار ـ إنّما هو من جهة وجود المخرج عن القاعدة الكليّة والأصل الّذي أسّسه ، فتدبّر.

الثاني : النزاع هنا في أنّ الصيغة هل تدلّ على كمية الفعل المأمور به الّذي هو مفروض الصيغة؟

وبعبارة أخرى : أنّها هل لها تعرّض لبيان كميّة معروضها الّذي هو الفعل المأمور به ، أو لا ، بل إنّما تدلّ على طلب الفعل ساكتة عن إفادة كميته بأحد الوجهين من المرّة ، أو التكرار؟

والحاصل : أنّ النزاع في دلالة الصيغة على كمية ما تعلّقت به وعدمها مع قطع النّظر عن كون متعلّقها الطبيعة أو الفرد ، فإذن لا منافاة بين القول بالمرة أو التكرار ، وبين القول بتعلّق الأوامر بالطبائع ، فإنّ النزاع (١) هناك في

__________________

(١) وبعبارة أخرى : إنّ النزاع هناك في أنّ الأمر هل يتعلّق بوجود الطبيعة ، أو بنفسها؟ فمن قال بالأوّل وكان من القائلين بالمرّة هنا يقول بأنّ المطلوب بالأمر وجود واحد ، وإن كان من القائلين بالتكرار يقول : إنّ المطلوب بالأمر الوجودات المتكرّرة إلى ما أمكن شرعا وعقلا. لمحرّره عفا

٦٦

تعيين نفس المأمور به من أنّه هو الفرد أو الطبيعة ، وهنا في دلالة الصيغة على كمّيته فإذن يجتمع كلّ من القولين هناك مع كلّ من الأقوال هنا.

فالقائل بالمرّة أو التكرار ـ بناء على كون متعلّق الأوامر هو الأفراد ـ يقولان بدلالة الصيغة على طلب إيجاد فرد من الطبيعة مرّة أو مكرّرا ، فإنّه كما تتّصف الطبيعة بالمرّة والتكرار ، كذلك يتّصف الفرد بهما ، وهذا واضح لا غبار عليه.

لا يقال : إنّ قولهم : ( إنّ الصيغة للمرّة ، أو التكرار ، أو الطبيعة ) ظاهر في أنّ مراد من قال بالأوّلين هو أنّ متعلّق الأوامر هي الأفراد ، بقرينة جعل القول بإفادتها للطبيعة مقابلا لهما.

لأنّا نقول : إنّ المراد بالطبيعة هنا ليس ما هو المراد بها في تلك المسألة ، وهو ما يقابل الفرد ، بل المراد بها في المقام إنّما [ هو ](١) نفس المأمور به الصالح لتقييده بأحد القيدين ـ سواء كان هو الطبيعة المقابلة للفرد ، أو نفس الفرد ـ فإنه ـ كما عرفت ـ صالح لتقييده بأحد القيدين ، فيقال : أوجد الفرد دفعة أو مكرّرا ، فالقائل بإفادة الأمر لها في المقام يقول : إنّه لا يفيد إلاّ طلب ما تعلّق به مع السكوت عن إفادة كمّيته مطلقا.

ومن هنا يظهر : ضعف ما عن الفاضل الشيرازي من ردّه على الحاجبي ـ حيث إنّه اختار في تلك المسألة أنّ متعلّق الأوامر الفرد ، ونفى هنا دلالة الصيغة على المرّة والتكرار ـ بأنّهما لا يتوافقان.

وضعف كلامه ـ على أن يكون المراد بالمرّة والتكرار الدفعة والدفعات ـ ظاهر.

__________________

الله عنه.

(١) إضافة يقتضيها السياق.

٦٧

وأمّا على أن يكون المراد بهما الفرد والأفراد ـ كما فهمه الفاضل المذكور ـ فتوضيحه :

أن المراد بالمرّة حينئذ الفرد الواحد ، وبالتكرار الأفراد المتعدّدة ، ولا ريب أن هذين القيدين ـ أي الوحدة والتعدّد ـ لم يلاحظ شيء منهما في تلك المسألة على القول بكون متعلّق الأوامر هو الفرد ، بل النّظر هناك مقصور في هذا الفرد ، أو الطبيعة المقابلة له مع قطع النّظر عن ملاحظة كمّيته مطلقا ، سواء كان فردا أو طبيعة ، فافهم جيّدا.

الثالث (١) : الظاهر أنّ المراد بالمرّة هي الدفعة ، نظرا إلى ظهور لفظ المرّة فيها عند الإطلاق ، فعلى هذا فالمتّصف بها إنّما هو نفس الأفعال المأمور بها بمعانيها المصدرية ، أي إيجاد الحركات والسكنات ، فإنّ الدفعة إنّما هي صفة للإيجاد (٢) ، لا للأثر الحاصل منه ، فيكون المتّصف بها المبادي المعروضة للصيغة بمعانيها المصدرية ، لكونها بهذا الاعتبار من مقولة الإيجاد ، لا الآثار الحاصلة من تلك المبادي ، وهي ما يقال لها : الحاصل من المصدر.

__________________

(١) أي ( الأمر الثالث ) من الأمور التي يتوقّف عليها تحقيق المقام.

(٢) اعلم أنّ حصر الوصف بالدفعة في الإيجاد إنّما [ هو ] بالإضافة إلى الآثار ـ أي الموجودات ـ وإلاّ فيصحّ اتّصاف الوجود والحصول بها أيضا.

وكيف كان فالذي لا يصحّ اتّصافه بها إنّما هو الموصوف بالوجود والحصول ، وأمّا الإيجاد والوجود والحصول فالكلّ سواء في صحّة اتّصافها بها ، وإن كان الفرق بين الإيجاد والوجود اعتباريّا كما لا يخفى ، وكذا بين التحصيل والحصول ، فإنّ الأوّل بمعنى الإيجاد ، والثّاني بمعنى الوجود.

وبالجملة : الظاهر من المرّة هي الدفعة ، أي إيجاد المأمور به أو وجوده في زمان واحد مع قطع النّظر عن كمّيّة الوجود ، ومن التكرار الإيجادات أو الوجودات المتكرّرة ، المتحقّق كلّ منهما في زمان مقارن لزمان الآخر ، فإنّه ظاهر في الدفعات ، فالزمان مأخوذ في مفهومهما على هذا الوجه. لمحرّره عفا الله عنه.

٦٨

وكذلك التكرار ظاهر في الدفعات ، فإنّه من الكرّ بمعنى الرجوع ، وهو إنّما يتصوّر بالنسبة إلى الأفعال التي [ هي ] من مقولة الإيجاد ، دون الآثار ، فلا يتّصف به أيضا إلاّ المبادئ بمعانيها المصدرية.

وربما يتراءى من بعض : أنّ المراد بالمرّة الفرد الواحد ، وبالتكرار الأفراد المتعدّدة بحسب المقدور عقلا وشرعا ولم يتبيّن من كلامه : أنّ المراد الفرد والأفراد من الإيجاد أو من الآثار ، ويحتمل كلامه لكلّ منهما لصحّة اتّصاف كلّ من الإيجاد والأثر الحاصل منه بالفردية ، إذ الإيجاد الواحد فرد من الإيجاد المطلق ، فضرب واحد فرد من مطلق الضرب ، كما أنّ الأثر الواحد فرد من مطلق الأثر ، فالأثر الحاصل من الضرب فرد من مطلق الأثر الحاصل به.

فإن كان مراده الاحتمال الأوّل ، فيتصادق المرّة والتكرار بهذا المعنى لهما ـ بمعنى الدفعة والدفعات غالبا ـ فيتصادق التكرار بهذا المعنى له ـ بمعنى الدفعات ـ فيما إذا أوجد الفعل إيجادا متعدّدا في أزمنة متعاقبة ، بأن يكون كلّ إيجاد عقيب آخر ، فهنا يصدق أنّه أتى به دفعات ، وأنّه أتى بأفراد من إيجاد هذا الفعل ، وتتصادق المرّة بهذا المعنى لها بمعنى الدفعة الواحدة فيما إذا أوجده إيجادا واحدا بحيث لم يكن معه إيجاد آخر حاصل معه ، فإنّه حينئذ فرد واحد من الإيجاد ودفعة واحدة ، ويفترق التكرار بهذا المعنى عنه بمعنى الدفعات فيما إذا أوجده متعدّدا ـ أي بإيجادات متعدّدة في زمان واحد ، كما إذا ضرب بكلتا يديه ، فأوجد بكلّ واحدة ضربا ، أو أخذ بكلّ واحدة سيفا ، فأوجد بكلّ منهما قتلا مثلا ـ فهنا يصدق التكرار بهذا المعنى ، دونه بمعنى الدفعات ، فإنّ تعدّد الأزمنة وتعاقبها مأخوذة في مفهوم الدفعات ، فهي لا تصدق إلاّ على الإيجادات المتعدّدة المتعاقبة.

وبعبارة أخرى : إنّ الدفعة عبارة عن إيجاد الشيء في آن واحد ، فالدفعات إيجاداته في أزمنة متعدّدة متعاقبة.

هذا ، لكن المرة بهذا المعنى لا تنفكّ عنها بمعنى الدفعة ، وكذا العكس ،

٦٩

فيكون النسبة بين معنييهما التساوي ، فكلّما تحقّق إيجاد واحد يصدق عليه الإيجاد دفعة واحدة ، وكذا العكس.

وأمّا النسبة بين معنيي التكرار فهي العموم والخصوص المطلقان ، فإنّه بمعنى الدفعات أخصّ منه بهذا المعنى مطلقا.

وإن كان مراده الاحتمال الثاني فلا تصادق بين معنى المرّة والتكرار إذن بحسب المصداق مطلقا.

نعم قد يتحقّق التصادق بحسب المورد ، والنسبة بحسبه بين معنيي المرّة إذن هي العموم والخصوص المطلقان ، بمعنى أنّها بمعنى الأثر الواحد أخصّ منها بمعنى الدفعة الواحدة مطلقا ـ كما لا يخفى ـ وكذلك النسبة بين معنيي التكرار هي العموم والخصوص المطلقان ـ أيضا ـ ويفترق هو بهذا المعنى عنه بمعنى الدفعات فيما إذا أوجد بإيجاد واحد موجودات متعدّدة ، كأن قتل بضربة واحدة متعدّدا ، فهذا يصدق هو بهذا المعنى دونه بمعنى الدفعات ، بل الصادق عليه إنّما هي الدفعة الواحدة لا غير.

هذا ، لكن الظاهر ـ بل المقطوع به ـ أنّه لم يرد المعنى الثاني ، فإنّهم جعلوا عتق المأمور بالعتق إذا أعتق رقابا بصيغة واحدة من الثمرات بين القول بالمرّة والقدر المشترك ، ولو احتملوا ذلك لجعلوه من ثمرات القول بالتكرار أيضا ، فإنّ الموجود حينئذ آثار متعدّدة بإيجاد واحد.

ويتلوه في ظهور عدم الإرادة ـ بل في القطع به ـ الاحتمال الأوّل ، وذلك لأنّهم جعلوا صورة إيجاد أفعال متعدّدة في آن واحد من موارد الثمرة بين القول بالمرة والقول بالقدر المشترك ، فلو كان هذا لاحتمال قائما لذكروا أنّ تحصيل الامتثال بالجميع على القول بالتكرار بهذا المعنى ، أو على هذا الاحتمال ، مع أنّهم لم يلتفتوا إلى ذلك أصلا.

هذا ، ويكفي في القطع بعدم الاحتمالين على إطلاقهما أنّ القائلين بالتكرار

٧٠

نزّلوا ( افعل ) منزلة ( افعل دائما ) ، إذ لا ريب أنّ الدوام لا يصدق على شيء من الصورتين المذكورتين ، أي صورة إيجاد آثار عديدة بإيجاد واحد ، وصورة حصول إيجادات كذلك في آن واحد.

نعم الإيجاد الواحد بجميع آثاره ـ ، وكذلك الإيجادات العديدة الحاصلة في آن واحد ـ من أجزاء الدوام ، فيكونان من أجزاء التكرار ، والقائل به لا يقول بتحقّق امتثال الأمر ببعض أجزائه ، سواء جعله تكاليف عديدة مستقلّة ، أو تكليفا واحدا متعلّقا بالمجموع.

أمّا على الأوّل فلأنّ المفروض أنّ عليه تكاليف عديدة فالإتيان بفعل واحد لا يكون امتثالا لجميعها حتى يكون امتثالا للأمر على وجه التكرار.

وأمّا على الثاني فواضح ، فتدبّر.

فيظهر من ذلك : أنّ الّذي عبّر عن المرّة والتكرار بالفرد والأفراد أنّه أراد بالمرّة الإيجاد الواحد ، وبالتكرار الإيجادات المتعدّدة المتعاقبة لا مطلقا ، فعبّر عن مراد القوم بعبارة أخرى ، ولعلّ الداعي إلى تفسيره إيّاهما بذلك أنّه ممّن يقول بتعلّق الأوامر بالفرد ، فافهم.

ثمّ إنّ مقتضى ما قرّره صدق المرّة على أفعال متحقّقة في آن واحد ، بأن يكون المجموع مصداقا لها حيث إنها وقعت دفعة.

لكن قال ـ دام ظله ـ : يشكل حمل المرّة في كلام القوم هنا على ظاهره ـ وهو الدفعة مطلقا ـ حتى يدخل فيها الصورة المذكورة ، فإنّهم ـ حتّى المفسّرين للمرّة بالدفعة لا الفرد ـ قالوا في الصورة المذكورة : إنّه على القول بالمرّة يحصل الامتثال بواحد من الأفعال المذكورة ، وأمّا على القول بالقدر المشترك فالجميع امتثال.

فيظهر من ذلك : أنّ مرادهم بالدفعة المفسّرة بها المرّة إنّما هو الإيجاد

٧١

الواحد (١) ، سواء كان مقارنا للإيجاد الآخر ، أو كان هو وحده. نعم مرادهم بالتكرار إنّما هو الدفعات ، أي الإيجادات المتعاقبة في الأزمنة المتعدّدة ـ كما ذكرنا ـ فعلى هذا ينتفي التقابل التامّ بين معنى المرّة والتكرار.

أقول : اللهمّ إلاّ أن يجعل أجزاء التكرار ـ أيضا ـ عبارة عن المرّة بهذا المعنى ، بأن يكون مراد القائل به أنّ المتّصف بالوجوب ـ ولو تبعا (٢) ـ في كلّ زمان من الأزمنة المتعاقبة إنّما هو إيجاد واحد فالواجب ـ فيما إذا تحقّق منه أفعال متعدّدة في آن واحد ـ أحدها ، لا الجميع ، وليس ببعيد ، فافهم.

وكيف [ كان ] فظهر ممّا حقّقنا : أنّ مراد القائل بالمرّة إنّما هو الإتيان بالمأمور به مرّة واحدة ، وبعبارة فارسية : يكبار ، ومراد القائل بالتكرار الإتيان به دائما ما أمكن عقلا وشرعا ، وبعبارة فارسية يعني : آوردن أو هميشه ، فيكون المرّة عبارة عن الإيجاد الواحد ، والتكرار عبارة عن الإيجادات المتعاقبة إلى حدّ الوسع.

وإن شئت قلت : إنّ المراد بالمرّة إنّما هو حصول ووجود واحد للمأمور به ،

__________________

(١) قولنا : ـ ( فيظهر من ذلك أنّ مرادهم بالدفعة المفسّرة بها المرّة هو الإيجاد الواحد ... إلخ ) ـ حاصله :

أنه يظهر مما ذكر أنّ مرادهم بالمرّة هو الوجود الواحد للمأمور به ، لا حصوله في آن واحد ، كما هو معنى الدفعة ، فإنّ المأخوذ فيها إنّما

اتّحاد زمان الحصول والوجود سواء تعدّد الوجود أو اتّحد ، وفيما استظهرنا إنّما هو اتّحاد الوجود مع قطع النّظر عن الزمان.

وكيف كان ، فالزمان مأخوذ في حقيقة المرّة التي هي الدفعة ، وكذا في حقيقة التكرار التي هي الدفعات ، وإنما خرجنا عن ظاهر المرّة بقرينة ما ذكر ، لكن التكرار في كلامهم على معناه ، كما بيّنا في المتن. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) قولنا : ( المتّصف بالوجوب ولو تبعا .. ). إشارة إلى احتمال أن يكون المراد بالتكرار جعله قيدا للمأمور به ، بحيث لا يحصل الامتثال أصلا إلاّ به ، فيكون المأمور به على هذا هو الفعل المقيّد. بهذا القيد ، ويكون التكليف المتعلّق به واحدا لا متعدّدا. لمحرّره عفا الله عنه.

٧٢

وبالتكرار حصولات ووجودات متعدّدة له متعاقبة إلى [ ما ] أمكن ، فإنّ الّذي أبطلنا إنّما هو كون المراد بالأوّل مجرّد الدفعة ولو بإيجادات متعدّدة متقارنة ، وبالثاني مجرّد تعدّد الإيجاد من دون التعاقب ، فلذلك قيّدنا المراد بالأوّل بكون الدفعة باعتبار إيجاد واحد ، بل حقيقة يخرج هذا عن حقيقة الدفعة في صورة حصول إيجادات متقارنة ، فإنّ المتّصف بها حينئذ حقيقة هو المجموع لا الواحد.

وكيف كان ، فبنينا على أنّ المراد بالمرّة هو الإيجاد الواحد ، وأنّ المراد بالتكرار الإيجادات المتعاقبة ، لكن لا يأبى كلماتهم عن جعل المرّة عبارة عن وجود واحد للمأمور به ولو كان الإيجاد واحدا والوجود متعدّدا مقارنا.

بل يظهر من جعل الثمرة بين القول بالمرّة والقول بالقدر المشترك فيما إذا قال المأمور بالعتق لعبيده : ( أنتم أحرار لوجه الله ) أنّ المراد بالمرّة ذلك ، إذ لا ريب أنّ الإيجاد حينئذ واحد ، والمتعدّد إنّما هو العتق لا إيجاده ، فإنّه بالنسبة إلى كلّ واحد من العبيد له وجود ، وكلّ واحد من تلك الأعتاق فرد من العتق.

ووجه ظهور ذلك فيما قلنا : أنّهم قالوا : إنّه على القول بالمرّة فالمأمور به عتق واحد من العبيد ، فيستخرج بالقرعة ، فلو كان المرّة عبارة عن إيجاد واحد لكان عتق الجميع مصداقا للمرّة ، فلم يتمّ الفرق بين القولين من هذه الجهة ، فعلى هذا فيجعل التكرار ـ أيضا ـ عبارة عن وجودات متعدّدة متعاقبة على النحو المذكور ، فعلى هذا فيكون جزء التكرار واحدا من وجودات متعدّدة متقارنة لو أوجدها في آن واحد لا جميعهم ، فيكون هو المتّصف بالوجوب ولو تبعا ، لا الجميع ، فافهم.

الرابع (١) : الظاهر المصرّح في كلام بعضهم ـ كما أشرنا إليه ـ هو أنّ مراد القائل بالتكرار ليس وجوب استيعاب جميع الأوقات بالاشتغال بالفعل

__________________

(١) أي ( الأمر الرابع ) من الأمور التي يتوقّف عليها تحقيق المقام.

٧٣

المأمور به ، بل المراد وجوبه إلى ما أمكن عقلا بمعنى عدم بلوغه إلى حدّ التعذّر ، وشرعا بمعنى عدم بلوغه إلى حدّ التعسّر المنفي في الشريعة ـ أيضا ـ وعدم مزاحمته لواجب آخر أهمّ منه.

لكن لا يخفى أنّه ليس المراد أخذ هذا القيد في مفهوم الصيغة ، بل الظاهر أنّ مراده ، كما صرّح صاحب المعالم (١) ـ قدّس سرّه ـ هو دلالتها على الاشتغال بالفعل دائما ، وهذا التقيّد إنّما يثبت من الخارج ، فلا يستلزم استعمال الصيغة في المقيّد ، وهذا التقييد ـ أيضا ـ ثابت على القول بالمرّة ـ أيضا ـ فإنّه إذا وجب مرّة فلا ريب أنّ تعذّره أو تعسّره أو مزاحمته لأهمّ منه موجبة لرفع التكليف عنه قطعا.

ثمّ على ما حقّقنا [ به ] المرّة والتكرار ـ على القول بأحدهما ـ يكونان قيدين لمعروض الصيغة والهيئة ، فيكون الهيئة مقيّدة لمعروضها بأحد الأمرين في الجملة لا محالة ، فلا يعقل جعلهما قيدين للطلب المستفاد من الصيغة :

أمّا على القول بالمرّة : فلأنّ الطلب واحد لا محالة ، فيلغى تقييده بالمرة.

وأمّا على القول بالتكرار : فلا ريب ـ أيضا ـ أنّ الطلب واحد شخصي ، فلا يمكن اتصافه بالتكرار ، فلا يحتمل ذلك في كلام القائل بالمرّة والتكرار.

هذا مضافا إلى ما نقطع به ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ من أنّ النزاع في المقام في دلالة الصيغة على كميّة الفعل المأمور به وعدمها ، فيكون المرّة والتكرار من صفات المأمور به وقيوده ، وهذا واضح.

ثمّ المرّة على القول بها اعتبار تقييد المأمور به بها على وجه لوحظ مفهومها أيضا.

__________________

(١) المعالم : ٤٩ و ٥٠.

٧٤

وبعبارة أخرى : هل المراد على هذا القول أنّ المطلوب هو الفعل بعنوان المرّة بحيث لا يكون معها غيرها ، فلا يحصل الامتثال لو فعله مرّات متعاقبة ، أو المراد تقييده بها من حيث اعتبار وجودها معه دون اعتبار عدم غيرها ، فيكون المراد أنّ المطلوب هو الفعل مرّة لا محالة مع سكوت الصيغة عن دلالتها على غير تلك المرّة نفيا وإثباتا؟

الظاهر من مقالة القائلين بالمرّة واستدلالهم هو الوجه الثاني.

هذا فيما إذا أوجد الفعل في الآن المتأخّر عن زمان إيجاده أوّلا ، وأمّا إذا أوجد فعلين في زمان واحد فقد عرفت أنّ الظاهر أنّه ليس مراد القائل بالمرّة تقييد كون الإيجاد بعدم اجتماع إيجاد آخر معه مقارن له.

ثمّ مراد القائلين بالتكرار ـ أيضا ـ يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون التكرار مأخوذا في المأمور به على وجه لا يحصل الامتثال أصلا إلاّ بالإتيان به مكرّرا على الوجه المتقدّم.

وثانيهما : أن يكون مأخوذا ـ بلحاظ كونه عنوانا ـ عن الأفعال المتكرّرة ، فيكون كلّ واحد من تلك الأفعال واجبا مستقلا يحصل بكلّ منها امتثال ، وبترك كلّ منها مخالفة.

الظاهر هو الثاني ، نظرا إلى قياسهم المقام بالنهي ، فإنّ دلالة النهي على التكرار على هذا الوجه.

الخامس (١) : الثمرة بين القول بالتكرار وكلّ من القولين الآخرين واضحة ، وأمّا بينهما فهي في غاية الخفاء جدّاً ، نظرا إلى كفاية المرّة بالمعنى الّذي عرفت في امتثال الأمر على كلّ من القولين وثبوت التخيير عقلا بين جميع أفراد المأمور به في مقام الامتثال على كل منهما ، إذ القائلون بالمرّة لا يقولون بتعيين

__________________

(١) أي ( الأمر الخامس في الثمرة ) على ما جاء في هامش الأصل.

٧٥

فرد خاصّ ، بل يكتفون بأيّ فرد واحد من أفراد الماهيّة كالقائلين بالطبيعة.

وكيف كان ، فقد يقرّر الثمرة بينهما فيما إذا أتى المكلّف بأزيد من فرد واحد دفعة ، فالجميع امتثال ومتصف بالوجوب على القول بالطبيعة ، وعلى المرّة أحد الفردين أو الأفراد على البدل ، لتساوي الأفراد من حيث ذاتها في كونها موجبة لحصول الامتثال ، ومحقّقة للقدر المشترك بينها مع عدم مرجّح خارجيّ لأحدها ومعيّن له ، ولو احتج إلى التعيين استخرج بالقرعة إن قلنا بها في مثل المقام.

والوجه في ذلك : أنّه على القول بالقدر المشترك فالمطلوب من المكلّف حصول الطبيعة ووجودها ـ سواء قلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع أو بالفرد ـ إذ على الثاني المطلوب الابتدائي ابتداء هو الأمر المنطبق على الطبيعة المقابلة للفرد ـ أي ما تصدق هي عليه ـ وعلى الأوّل نفسها ، فيكون المنطبق عليها واجبا مقدّمة ، وعلى التقديرين فالمطلوب هو حصول القدر المشترك بين الفرد الواحد والأفراد المتعددة المتقارنة أو المتدرّجة في الوجود ، إذ على الثاني ـ أيضا ـ يكون المأمور به كليا صادقا على ما ذكر ، لعدم تعيّن المنطبق على الطبيعة المقابلة للفرد في فرد خاصّ ، بل المراد به الأعمّ من كلّ ما ينطبق على الطبيعة فتصدق على كلّ ما ينطبق عليه الطبيعة باعتبار الوجود كما مرّ سابقا ، وحاصله :

أنّ المطلوب وجود الطبيعة ، وعلى الأوّل نفسها ، فيكون وجودها مطلوبا من باب المقدّمة.

وكيف كان ، فعلى القول بالقدر المشترك فالمطلوب بقول مطلق هو وجود الطبيعة وحصولها ، وحينئذ وإن كان لها وجودات وحصولات متقارنة متعدّدة بتعدّد الأفراد ، إلاّ أنّ جميع تلك الحصولات ـ أيضا ـ مصداق آخر لحصول الطبيعة ، فيكون حصول الجميع ـ أيضا ـ منطبقا على المطلوب كانطباق كلّ من تلك الحصولات عليه ، والمفروض أنّ حصول الجميع المنطبق على المأمور به في

٧٦

حال الأمر وبداعيه فيتّصف بالوجوب وبكونه امتثالا للأمر ، إذ المعتبر في الامتثال أمران :

أحدهما : انطباق الفرد المأتيّ به على المأمور به ، بمعنى صدقه عليها.

وثانيهما : وقوعه حال الأمر وبداعيه ، والمفروض تحقّق كليهما في المقام بالنسبة إلى حصول الجميع ، فيكون امتثالا للمأمور به ومتّصفا بالوجوب.

هذا بخلاف القول بالمرّة ، إذ المطلوب على هذا القول ـ كما عرفت ـ إنّما هو الفرد الواحد من الطبيعة ، فيكون المنطبق على المأمور به هو كلّ واحد من الأفراد الحاصلة دفعة دون الجميع ـ أيضا ـ لعدم صدقه عليه ، فيكون المتّصف بالوجوب والامتثال أحد تلك الأفراد على البدل ، دون معين منها لتساوي الكلّ في الانطباق على المأمور به وفي وقوعها حال الأمر وبداعيه ، لا الجميع لعدم انطباقه على المأمور به.

فإن قلت : مقتضى ما ذكرت أنّ للمأمور به ـ على القول بالقدر المشترك ـ فردا آخر منطبقا عليه ، بخلاف القول بالمرة لانحصار أفراده حينئذ في الآحاد ، وذلك لا يوجب تعيّن الجميع على الأوّل في كونه امتثالا وواجبا ، بل نسبة المأمور به حينئذ إليه كنسبته إلى كلّ من الآحاد كما لا يتعيّن ذلك في واحد من الآحاد ـ على القول بالمرّة ـ والوجه فيهما واحد ، وهو تساوي صدق المأمور به على جميع الأفراد.

قلنا : ما عنينا باتّصاف الجميع بالامتثال والوجوب تعيّن الامتثال فيه ، بل المقصود أنّه ككلّ واحد من الآحاد حينئذ صالح لاتّصافه بهما ، بمعنى أنّ للآمر حينئذ أن يحتسب من المكلّف عن المأمور به مجموع الآحاد ويثيبه عليه لانطباقه عليه ووقوعه حال الأمر وبداعيه ، كما له أن يحتسب واحدا من آحاد هذا المجموع ، بخلاف القول بالمرّة فإنّ مورد الاحتساب عليه منحصر في الآحاد ،

٧٧

لعدم انطباق المجموع حينئذ عليه وإن كان واقعا حال الأمر ، فالمحتسب عن المأمور به عليه مردّد بين الآحاد فقط ، وعلى القول الآخر بينها والمجموع ، فيظهر الثمرة بينهما فيما مسّت الحاجة إلى تعيّنه كاتّصافه به عند الإتيان به منفردا فيئول الأمر حينئذ ـ على القول بالتخيير بينه وبين المجموع حقيقة ـ إلى التخيير بين فعل الزائد وتركه لا إلى بدل.

فمن هنا يظهر فساد توهّم إمكان اتّصاف الزائد بالوجوب ، إذ لا معنى لوجوب ما يجوز تركه لا إلى بدل.

وكيف كان ، فقد ظهر انتفاء الثمرة بين القولين على تقدير الإتيان بالأفراد متدرّجة متعاقبة ، لابتنائها على جواز التخيير العقلي بين الأقلّ والأكثر ، كما في الشرعي على الأظهر ، وقد عرفت ما فيه.

وأمّا على تقدير الإتيان بها دفعة فالظاهر ظهور الثمرة بينهما حينئذ ، ويمكن تقريرها على وجهين :

أحدهما : أنّه على القول بالمرّة ينحصر مصاديق المأمور به المنطبقة عليه في آحاد الأفراد المتحقّقة دفعة ـ لما عرفت ـ من أنّ المطلوب ـ على هذا القول ـ الفرد الواحد أو (١) إيجاد واحد للطبيعة.

وكيف كان فالمنطبق على المأمور به ـ على هذا القول ـ إنّما هو كلّ واحد من آحاد تلك الأفراد المتحقّقة دفعة ، فإنّ كلاّ منها يصدق عليه أنّه فرد واحد من الطبيعة الوارد عليها الأمر ، وأنّه وجود واحد للطبيعة دون المجموع منها ـ أيضا ـ لعدم صدق المأمور به عليه حينئذ ، فإنّه عين الأفراد المتعدّدة والوجودات كذلك ، فلا يمكن صدق الفرد الواحد أو الوجود الواحد للطبيعة عليه.

__________________

(١) الترديد إشارة إلى أنّه إن كان ممّن يقول بتعلّق الأوامر بالأفراد فيكون المطلوب بالأمر الفرد الواحد ، وإن كان ممّن يقول بتعلّقها بالطبائع فهو إيجاد واحد للطبيعة. لمحرّره عفا الله عنه.

٧٨

وأمّا على القول بالقدر المشترك فالمجموع ـ أيضا ـ فرد آخر للمأمور به ومنطبق عليه ، إذ عليه يكون المأمور به عبارة إمّا عن حصول الطبيعة ، أو (١) حصول ما ينطبق عليها من دون تقييد بالوحدة ، ولا ريب أنّه يصدق كلّ من هذين على المجموع ـ أيضا ـ كصدقه على كلّ واحد من آحاد الحصولات والوجودات ، فإنّ مجموعها ـ أيضا ـ نوع حصول للطبيعة أو لما انطبق عليها ، وحينئذ فلمّا كان المفروض تحقّق تلك المصاديق المتساوية في الانطباق على المأمور به دفعة ، فكلّ منها صالح لاتّصافه بالوجوب والامتثال لتحقّق ما اعتبر في حصول الامتثال في كلّ منها ، إذ المفروض صدق المأمور به على حدّ سواء ووقوع الجميع حال الأمر وبداعيه ، فكلّ منها صالح لأن يحتسبه الآمر عما أمر به ويثيب عليه.

لكن لمّا كان المحسوب الفعلي عنه حينئذ أحد الأمور المنطبقة عليه فيتردّد بين أحد تلك الأفراد المتحقّقة دفعة على القول بالمرّة لانحصار فرده فيها ـ كما عرفت ـ وبينها والمجموع على القول بالقدر المشترك ، فيظهر الثمرة بينهما عملا فيما إذا ترتّب على المحسوب الواقعي حكم ، فاحتيج إلى التعيين بالقرعة إن قلنا (٢) بها في أمثال المقام ، فأطرافها منحصرة في الآحاد على القول بالمرّة ،

__________________

(١) هذا الترديد ـ أيضا ـ إشارة إلى نفي الفرق بين كون هذا القائل ممّن يقول بتعلّق الأوامر بالطبائع أو بالأفراد فإنّ مراد من يقول بالثاني : أنّ المطلوب إمّا هو الأمر المنطبق على الطبيعة من دون اعتبار وحدة فيه ، فيكون كلّ من تلك الأفراد منطبقا على المأمور به على القولين هذين ، لأنّه يصدق على كلّ منها أنّه حصول للطبيعة ووجود لها ، أو حصول لما ينطبق عليها ، إلاّ أنّه يزيد أفراد المأمور به على القول بدلالة الأمر على القدر المشترك بين المرّة والتكرار بواحد وهو المجموع ـ أيضا ـ بخلاف القول بالمرّة ، فينحصر عليه في الآحاد دون المجتمع أيضا. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) قال دام ظلّه : وجه عدم جريان القرعة في المقام : أنّه ليس حينئذ واقع مجهول ليتشخّص بها.

قلت : على هذا القول ـ أي القول بالمرّة ـ لما كان الامتثال بفرد واحد فالمحسوب عند الله

٧٩

وتعمّ المجموع على القول الآخر. هذا ، وتأمّل.

وثانيهما : أنّه بعد ما تقرّر أنّه ـ على القول بالقدر المشترك ـ يكون المجموع ـ من الآحاد المتحقّقة دفعة أيضا ـ فردا للمأمور به ومنطبقا عليه ، فنقول :

إنّه كلّما كان المأمور به أفراده من قبيل الأقلّ والأكثر فالطريقة المقرّرة في العرف ـ في باب الإطاعة والامتثال في ذلك فيما إذا ثبت من قبل الآمر جواز فعل الزائد في نفسه مع قطع النّظر عن هذا الأمر ـ أنّ المأمور له أن يقتصر [ على ] الأقلّ (١) ، فيحتسب منه ذلك حينئذ ، ويقال : إنّه أتى بما امر به وامتثله ، فيقوم الوجوب به ، وله أن يأتي بالأكثر وهو الأقلّ منضما إلى الزائد ، فالمحتسب منه عن المأمور به حينئذ إنّما هو هذا المجموع ، لا مجرّد مسمّى المأمور به المتحقّق بالأقلّ الموجود في ضمنه ، بمعنى أنّ الآمر حينئذ يحتسب هذا المجموع عمّا أمره به ويقبله عنه من دون نظر إلى الأقلّ الموجود في ضمنه ، مع أنّه مصداق للمأمور به ، فالوجوب حينئذ قائم بخصوص المجموع من حيث المجموع.

ألا ترى أنّه لو أمر مولى عبده بإحضار الماء ، فأتى بقدح مملوء منه بحيث يزيد عن أقلّ ما يؤدّي به حاجة المولى فالعرف يحكمون بكون الإتيان به بهذا القدح الزائد على قدر الحاجة امتثالا وإطاعة للأمر ومن طبقا على المأمور به فيقولون : إنّ ما أمره مولاه فقد أتى به.

لا يقال : إنّ ذلك لعلّه لحصول الامتثال بالأقلّ الموجود في ضمن الكلّ.

لأنّا نرى : أنّ المولى لو أراد التجزئة وأخذ الأقلّ وردّ الزيادة معلّلا بأنّ المجموع ليس مما أمرت به لقبّحه العقلاء ، وينسبونه إلى الجنون ، وهكذا لو أمره

__________________

حينئذ أحد الأفراد ، وهو مجهول.

(١) في الأصل : بالأقلّ ...

٨٠