تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

[ استحقاق الثواب أو العقاب على الواجب الغيري ]

اختلفوا في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري (١) أو تركه ـ على نحو ترتّبهما على الواجب النفسيّ بمعنى كون فعله موجبا لاستحقاق الثواب زائدا على الثواب المترتب على ذلك الغير الّذي هو ذو المقدّمة الّذي يكون وجوبه نفسيا ، وكون تركه موجبا لاستحقاق العقاب زائدا على استحقاقه على ترك ذلك الغير ـ على أقوال يأتي تفصيلها.

وقبل الخوض في المرام ينبغي التعرّض لتحقيق الحال على نحو الإجمال في الواجبات النفسيّة من حيث استحقاق الثواب (٢) [ أو ] العقاب (٣) على إطاعتها أو مخالفتها ، نظرا إلى أنّ محلّ النزاع في الثواب والعقاب المتنازع في استحقاقهما في الواجب الغيري هو ما ثبت في الواجبات النفسيّة ، فنقول :

الحقّ استحقاق العبد ـ على إطاعتها ـ تقريب المولى إيّاه ورفع منزلته عنده وتعظيمه ، بحيث لا يكون هو والعبد العاصي للمولى في المنزلة عنده

__________________

(١) والواجب الغيري ينحصر في المقدّمات فإنها ـ على تقدير وجوبها لأجل المقدّمية ـ واجبة غيرية لا غير ، فلفظ الواجب الغيري عبارة أخرى عن المقدّمات ، لكن بعد اعتبار وجوبها الغيري المراد أنه هل في مقدّمات الواجب على القول بوجوبها ثواب وعقاب كنفس الواجب ، أو لا؟ لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) قال في مجمع البحرين : الثواب ـ لغة ـ الجزاء ، ويكون في الخير والشرّ ، والأوّل أكثر ، وفي اصطلاح أهل الكلام : هو النّفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال.

أقول : فمعناه ـ لغة ـ هو العوض ، لأنّ الجزاء عبارة عنه لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) في الأصل : والعقاب ..

٣٦١

سواء (١) ، وأمّا استحقاقه لعوض ونفع (٢) ، أيضا زائدا على ذلك فلا يستقلّ به عقولنا جدّاً ، وإن ذهب المتكلّمون إلى استحقاقه إيّاه أيضا ، حيث عرّفوا الثواب (٣) : بأنّه النّفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال ، كتعريفهم العقاب : بأنّه الضرر المستحقّ المقارن للاستخفاف والإهانة ، وادّعوا استقلال العقل باستحقاقهما على الإطاعة أو المعصية ، وأمّا بالنسبة إلى العقاب فهو مستقلّ باستحقاقه على مخالفة المولى الواجب عليه إطاعته بمعناه المصطلح عليه عند المتكلّمين ، بمعنى أنّه يستقلّ باستحقاقه ـ حينئذ ـ أن يعذّبه المولى زائدا على استحقاقه لحطّ منزلته عنده وتبعيده عن حضرته بحيث لو عذّبه المولى حينئذ مع إهانته إياه وحطّ منزلته لم يفعل قبيحا عند العقل وإن كان له العفو أيضا ، بل يستقلّ العقل بحسن العفو.

والحاصل : أنّ مسألة استحقاق الثواب والعقاب عقلية محضة لا سبيل للشرع فيها بوجه ، فإنّ استحقاقهما ليس أمرا قابلا لجعل جاعل ، بل من الأمور الواقعية الثابتة في نفس الأمر ، والعقل يكشف عنه كما في الحسن والقبح في المستقلاّت العقلية ، والّذي نجد من عقولنا إنّما هو هذا المقدار المذكور من استحقاقهما.

فإذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ في محلّ النزاع المتقدّم أقوالا :

أحدها : نفي استحقاق شيء منهما على فعل الواجب الغيري أو على تركه

__________________

(١) قال الله تعالى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ) الجاثية : ٢١.

(٢) والسرّ في ذلك : أنّ العبودية والمولوية ليستا من مقولة الاستئجار حتّى يستحقّ العبد الأجرة على عمله أيضا ، لوجوب العمل على العبد وإطاعته لمولاه من غير استحقاق أجرة : لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) فبقيد الاستحقاق خرج التفضّل ، وبمقارنة التعظيم خرج العوض. لمحرّره عفا الله عنه.

٣٦٢

مطلقا.

وثانيها : إثباتهما كذلك.

وثالثها : التفصيل بين ما ورد عليه خطاب مستقلّ أصلي وبين ما لم يكن كذلك ، فوافقوا في الأوّل القول الثاني ، وفي الثاني الأوّل.

ورابعها : وهو المحكيّ عن الغزالي (١) : التفصيل بين الثواب والعقاب فنفى استحقاق الثاني وأثبت الأوّل.

ولعلّ التفصيل يزيد على هذا لكن لا فائدة في التعرّض لها واستيفائها.

والحقّ من تلك الأقوال أوّلها :

لنا : أنّ استحقاق الثواب والعقاب يدور مدار الإطاعة والمعصية وجودا وعدما بحكم العقل وبناء العقلاء كافّة ، ولا ينبغي الارتياب في أنّ من أطاع تكليفا نفسيّا لم يتحقّق منه أزيد من إطاعة واحدة وإن كان للمكلّف به مقدّمات كثيرة بالغة إلى ما بلغت قد أتى هو بها لتحصيل ذلك المكلّف به الّذي هو ذوها ، وكذا من عصى تكليفا نفسيا لم يتحقّق منه أزيد من معصية واحدة وإن كان لما تركه من الفعل المكلّف به ألف مقدّمة قد تركها جميعا ، وهذه المعصية وتلك الإطاعة إنّما هما على ترك ذي المقدّمة أو على فعلها لا غير ، فلا عقاب ولا ثواب أزيد من الثواب والعقاب على ترك ذي المقدّمة أو فعله ، لعدم تحقّق المخالفة والإطاعة أزيد مما تحقّق منهما بالنسبة إلى ذي المقدّمة.

فهنا كبرى : وهي وحدة الثواب والعقاب على تقدير وحدة الإطاعة والمعصية ، وصغرى : وهي وحدة الإطاعة والمعصية في المقام ، وأنّهما بالنسبة إلى ذي المقدّمة نفسه دون شيء من مقدّماته أصلا.

__________________

(١) المستصفى من علم الأصول : ١ ـ ٧٢.

٣٦٣

لا نزاع لأحد في الكبرى بعد فرض ثبوت صغراها ، وإنّما النزاع في الصغرى ، فالشأن في إثباتها ، فنقول :

إنّ الإطاعة معناها ما يعبّر بالفارسية عنه : بـ ( فرمانبري وخدمت كردن مولا ) ، والمعصية معناها ما يعبّر بها عنه : بـ ( نافرماني ) ، والمثبت لاستحقاق الثواب والعقاب هو هذان المعنيان ، ويدوران مدارهما وجودا وعدما وحدة وتعدّدا ، ولا ينبغي الارتياب في أنّ الإتيان بالفعل بجميع مقدّماته إنّما هو إطاعة للتكليف النفسيّ المتعلّق بنفس ذلك الفعل ، لأنّ الإتيان بالمقدّمات حقيقة راجع إلى إطاعته ، فإنّ المطلوب إذا كان متوقّفا على مقدّمات لا يحصل إلاّ بإيجادها جميعا فنحو إطاعته أن يؤتى بجميع تلك المقدّمات ، كما أنّ تركه بترك جميع مقدّماته أو بعضها إنّما هو مخالفة لذلك التكليف النفسيّ ، وأنّ ترك جميع المقدّمات أو بعضها من أنحاء المعصية بالنسبة إلى ذلك التكليف.

والسرّ في ذلك : أنّ الإطاعة والمعصية إنّما تتحقّقان بالنسبة إلى المطلوب الأوّلي للمولى لا غير ، فإنّ مطلوباته الثانوية ـ وهي الواجبات الغيرية ـ ليست مطلوبة له في الحقيقة ، فإنّ مطلوبيتها راجعة إلى مطلوبية ذيها ، لأنّ الطلب المتعلّق بها ـ سواء كان مستفادا بحكم العقل أو بخطاب أصلي ـ إنّما ينبعث عن ذلك الطلب المتعلّق بذيها ، فروح هذا الطلب إنّما هو ذاك ، فهو شأن من شئونه ، ضرورة أنّه لو أمكن حصول ذي المقدّمة بدون مقدّماته لما جاء طلب إلى شيء من تلك المقدّمات من حيث المقدّمية أصلا ، فالمطلوب حقيقة للمولى ليس إلاّ ذات ذي المقدّمة ، فينحصر الامتثال في واحدة (١) كالمعصية أيضا ، لأنّهما عبارتان عن الإتيان بمطلوب المولى أو تركه.

والحاصل : أنّه ليس للمولى هنا مطلوب من المكلّف أزيد من نفس ذي

__________________

(١) الصحيح ظاهرا : ( في واحد ) أي في مطلوب واحد.

٣٦٤

المقدّمة حتى يتعدّد الثواب والعقاب.

فإن قلت : ما الفرق بين الواجبات الغيرية وبين بعض الواجبات النفسيّة ، كتعليم العالم الجاهل بأحكام دينه؟ ضرورة أنّ وجوب التعليم أيضا منبعث عن وجوب إتيان الجاهل بما وجب عليه من الواجبات ، بحيث لولاه لما كان ذلك أصلا ، بمعنى أنه وجب مقدّمة لامتثال الجاهل لما وجب عليه ، ولذا لو علم العالم بعدم قبول الجاهل لقوله لما وجب عليه التعليم ، فلا بدّ إذن إمّا من إبداء الفرق بينهما ، أو من التزام نفي استحقاق الثواب والعقاب عن ذلك القسم من النفسيّ ، أو التزام استحقاقهما على الواجبات الغيرية أيضا لا سبيل إلى أوّل شقّي الشقّ الثاني ، فيدور الأمر بين الشقّ الأوّل وبين الشقّ الثّاني من الثاني ، ونحن لا نرى فرقا بينهما بوجه ، فإذا انتفى الفرق تعيّن الشقّ الآخر.

قلنا : إنّا نختار الشقّ الأوّل ، وهو إبداء الفرق.

وبيانه : أنّ ذلك القسم من الواجب النفسيّ وإن كان شريكا مع الغيري في بعض الآثار (١) إلاّ أنّ بينهما فرقا من وجهين :

أحدهما : أنّ المكلّف الموجّه إليه الوجوب في المقام واحد ، فإنّ المكلّف بإتيان الواجب الغيري هو المكلّف بإتيان ذلك الفرد الّذي وجوبه نفسي ، بخلاف ذلك المقام ، حيث إنّ المكلّف بالتعليم غير المكلّف بذلك الواجب النفسيّ ، الّذي وجوب هذا لأجله ، ضرورة أنّ المكلّف بالأوّل هو العالم ، وبالثاني هو الجاهل ، فلا يعقل أن يكون تعليم العالم مما يدخل في إطاعة الجاهل لما وجب عليه وإن كان مقدّمة له ، فلأجل ذلك يتحقّق هناك إطاعتان ومعصيتان ، بخلاف المقام.

__________________

(١) فإنّ هذا القسم كما أنّه لا يجب إلاّ لوجوب العمل على الجاهل ، كذلك الواجب الغيري لا يجب إلاّ لوجوب ذلك الغير بحيث لو ارتفع الوجوب عنه لارتفع عنه أيضا. [ لمحرّره عفا الله عنه ].

٣٦٥

وثانيهما : أنّ وجوب التعليم على العالم ليس منبعثا عن وجوب الواجبات على الجاهل المتوقّف امتثالها على التعلّم. نعم هو منشأ لوجوبه ، بمعنى أنه لمّا لم يمكن أن يأتي الجاهل بما وجب عليه على وجه الطاعة إلاّ بتعليم العالم إيّاه ، فبمقتضى قاعدة اللطف يجب على الشارع إيجاب التعليم على العالم أيضا ، ليكون محرّكا إيّاه عليه لئلا يفوت الغرض المقصود من الجاهل ، فيكون هو حكمة لوجوبه ، لا أنّ وجوبه منبعث عنه ، وشأن من شئونه.

هذا بخلاف الواجب الغيري ، فإنّ وجوبه منبعث عن وجوب ذي المقدّمة بحيث يكون هو شأنا من شئونه على وجه يكون روحه هو ذلك الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة كما مرّ ، فهناك طلبان مستقلاّن نفسيّان ، بخلاف المقام.

ويدلّ على ما ذكرنا إطباق العقلاء كافّة فيما إذا أتى العبد بفعل واجب أو تركه مع فرض ألف مقدّمة له على عدم استحقاقه أزيد من الثواب والعقاب على نفس إتيان الفعل أو على تركه من غير نظر إلى شيء من مقدّماته أصلا بحيث لو أتى بألف مقدّمة مع عدم إتيانه بأصل الواجب لا يستحقّ شيئا من الثواب على شيء منها لعدم استحقاقه فيما إذا لم يأت بشيء أصلا حتى بشيء من المقدّمات أزيد من العقاب على ترك نفس الواجب من غير فرق في ذلك بين أن يكون على مقدّمته خطاب أصلي ، أو لا ، فممّا حقّقنا ظهر فساد الأقوال الأخرى ، فتدبّر.

وأمّا القول الثاني فالذي ربما يتخيّل الاستدلال به وجوه من العقل والنقل :

أما العقل : فتقريره : أنه إذا أتى بالمقدّمة لأجل أدائها إلى ذيها تقع (١) طاعة ، فيترتّب عليها الثواب لذلك ، وإذا تركها فهو معصية ، فيترتّب عليها

__________________

(١) في الأصل : فيقع ..

٣٦٦

العقاب لذلك.

وأمّا النقل : فغاية ما يمكن الاستدلال به وجهان :

الأوّل : الأدلّة على ترتّب الثواب والعقاب على الإطاعة والعصيان الشاملة بعمومها لجميع المطلوبات الشرعية ـ نفسية كانت أو غيرية ـ كقوله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ )(١) ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً )(٢) إلى غير ذلك.

الثاني : الأدلّة الدالّة على ترتّب الثواب على خصوص بعض المقدّمات ، كما ورد في زيارة مولانا الحسين عليه السلام من أنّه لكلّ قدم ثواب كثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل ـ عليه السلام (٣) ـ وغيره من الأخبار الصريحة في ذلك ، وما ورد أيضا في ثواب الوضوء والغسل. هذا غاية ما قيل أو يقال.

لكن يتّجه على الدليل العقلي المذكور وعلى أوّل الوجهين من النقلي منع صدق الإطاعة والعصيان في الواجبات الغيرية كما عرفت.

مضافا إلى ما يتّجه على الاستدلال بالنقلي أيضا من أنّ المسألة عقليّة لا وجه فيها للاستدلال بالنقل ، وعلى ثاني الوجهين من النقلي ـ مع الإغماض عن عدم استقامة الاستدلال بالنقل في المسألة العقلية ـ أنّ الكلام في الاستحقاق ، فلعلّ ذلك من باب التفضّل ، مع انه يحتمل ان يكون الثواب المترتّب على المقدّمات هو ثواب ذيها ، ويكون المراد أنّ ثواب ذيها بمقدار لو وزّع على

__________________

(١) النور : ٥٢.

(٢) النساء : ١٤.

(٣) كامل الزيارات : ١٣٤ ـ الباب : ٤٩ ـ ثواب من زار الحسين عليه السلام راكبا أو ماشيا .. ـ الحديث : ٩.

٣٦٧

مقدّماته لكان لكلّ قدم ثواب كثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل عليه السلام

ثمّ إنّه ذهب بعض المحققين من المتأخّرين (١) : إلى استحقاق الثواب والعقاب على المقدّمة لو كان وجوبها ثابتا بخطاب أصليّ دون غيره ، وحمل كلام القوم على هذا المعنى ، بمعنى أنّ مرادهم من الوجوب المتنازع فيه هو الشرعي الموجب لاستحقاق العقاب على ترك نفس الواجب ، لا على ما يؤدّي إلى تركه.

واستشهد لذلك بتقسيمهم الوضوء إلى واجب ومندوب ، نظرا إلى أنّه لو كان المراد من الوجوب هناك الشرطي دون الشرعي لما استقام التقسيم المذكور ، فإنّ الوضوء المندوب أيضا واجب شرطيّ بالنسبة إلى الغاية المشروطة ، إذ بدونه لا تحصل هي ، وادّعى أنّ الوجوب الشرعي هو ما ثبت بخطاب أصلي لا غير.

وفيه : ما أشرنا إليه من أنّ الحاكم باستحقاق الثواب والعقاب هو العقل ، وبعد فرض كون شيء واجبا غيريّا لا يفرّق العقل فيه بين ما يكون الدّال على وجوبه خطاب أصلي مستقلّ وبين غيره.

ثمّ إنّه ذهب بعض المحقّقين (٢) من المتأخّرين : إلى استحباب مقدّمة الواجب نفسا ، وكذا مقدّمة المندوب إذا أتى بهما لأجل أدائهما إلى الواجب والمندوب محتجّا عليه بأنّ كلّ فعل قصد به الطاعة فهو طاعة ، والإتيان بمقدّمتي الواجب والمندوب على النّحو المذكور إتيان بهما بقصد الطاعة ، فيكون طاعة ، فيكون مقدّمتا الواجب والمندوب مندوبتين نفسا من هذه الجهة ، وهذا لا يتوقّف على القول بوجوب مقدّمة الواجب واستحباب مقدّمة المندوب بالوجوب

__________________

(١) وهو المحقّق القمّي (ره) في قوانينه : ١ ـ ١٠٢ ، وقد نسبه المحقّق التقي (ره) في هدايته إلى بعض الأفاضل : ١٩٣.

(٢) جاء في هامش : ( وهو الشيخ محمد تقي ( قده ) في أواخر تنبيهات مسألة مقدّمة الواجب ، فراجع كلامه ) ، وذلك في آخر صفحة : ١٩٧ من هداية المسترشدين.

٣٦٨

والاستحباب الغيريّين الناشئين عن الأمر بذي المقدّمة ، بل يجري على القول بعدمه أيضا.

هذا حاصل ما أفاده ـ قدّس سرّه ـ.

ويتّجه عليه : أنّ الواجب الغيري من جهة وجوبه الغيري ـ وهي جهة مقدّميته للغير ـ لا يعقل أن يكون ذا حكمين ـ الوجوب والندب ـ بل تلك الجهة إنّما هي جهة الوجوب لا غير ، وهو أيضا معترف بذلك.

وأمّا من جهة أخرى غير تلك فلم يدلّ دليل على استحبابه شرعا ، وما ادّعى من أنّ الإتيان به لأجل أدائه إلى الواجب طاعة قد عرفت منعه من أنّ الواجب الغيري نفسه لا يقع طاعة ، بل الإتيان به من مقدّمات إطاعة ذلك الغير الّذي هو ذو المقدّمة ، فالإتيان به إطاعة بالنسبة إلى ذلك الغير ، لا بالنسبة إلى نفسه ، فالمترتّب من الثواب إنّما يترتّب على ذلك الغير ، لا عليه.

نعم ما ذكر ـ من أنّ كلّ فعل قصد به الطاعة فهو طاعة ـ متّجه في الواجبات النفسيّة المعاملية ، فإنّها إذا أتى بها لأجل امتثال أمر الشارع تكون (١) نفسها طاعة ، ويترتّب عليها الثواب.

هذا مع أنّ الأمر بالإطاعة على تقديره ـ وجوبيّا أو ندبيّا ـ لا يكون شرعيّا ، بل عقليّ إرشاديّ محض ، وبعد ما حقّقنا من أنّ الإتيان بالواجب على وجه الامتثال لا يترتّب عليه ثواب ، فلا يحكم العقل ولا يأمر بالإتيان به على هذا الوجه ليكون مندوبا عقليا بعد تسليم صدق الإطاعة عليه ، فإنّه إنّما يأمر بالإطاعة لأجل اشتمالها على الثواب ، وبعد فرض خلوّ إطاعته عنه لا أمر له بها أصلا.

فظهر أنّ الإتيان بالواجب الغيري على الوجه المذكور ليس مندوبا لا

__________________

(١) في الأصل : فتكون ..

٣٦٩

شرعا ولا عقلا.

ثمّ إنّه قال دام ظلّه : نعم إذا أتى بالمقدّمات على الوجه المذكور فلا يبعد كون الإتيان بها على هذا الوجه موجبا لزيادة ثواب على الثواب المترتّب على ذيها ، نظرا إلى أنّ فعل ذيها على هذا الوجه أشقّ من فعله مع الإتيان بمقدّماته بتشهّي النّفس.

وبعبارة أخرى : من أطاع واجبا مع إتيانه بمقدّماته أيضا بداعي إطاعة ذلك الواجب فإطاعته له أشقّ من إطاعة من أطاعه مع عدم قصده في الإتيان بمقدّماته إلى إطاعته ، بل أتى بها بشهوة نفسه ، ثمّ بدا له أن يأتي بنفس الواجب ، فأتى به قاصدا للطاعة فيه وحده ، ضرورة أنّ الإتيان بشيء غير مشتهى للنفس مشقّة على النّفس.

ولعلّ هذا أقرب المحامل لقوله تعالى ـ في أواخر سورة البراءة (١) ـ : ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ، إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )(٢) فإنّ ظاهره ثبوت الثواب على نفس تلك المشاقّ ـ وهي الظمأ والنصب والمخمصة وغيرها ـ وهو ينافي ما عرفت من عدم الثواب على نفس المقدّمات ، فأقرب محامله أن يكون المراد ـ والله أعلم ـ أنّه إذا أصابهم في الجهاد في سبيل الله تلك المشاقّ يكون ثوابهم على الجهاد أكثر ممّا لو جاهدوا بدون إصابتها إيّاهم ، بحيث لو وزّع ذلك الثواب على تلك المشاقّ لكان لكلّ واحدة عمل صالح ، كما أنّ أقرب المحامل

__________________

(١) « في الجهاد » على ما جاء في هامش الأصل.

(٢) سورة البراءة : ١٢٠.

٣٧٠

في الآية المتأخّرة عنه ـ وهي قوله تعالى : ( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) إلى قوله : ( إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ )(١) ـ ذلك أيضا ، فإنّ الإنفاق وقطع الأودية أيضا من المقدّمات الشاقّة على النّفس.

ثمّ إنّ الحال في مقدّمات الحرام هي الحال في مقدّمة الواجب ، فلا يترتّب على أنفسها (٢) عقاب ، وإنّما هو على نفس الحرام ، إلاّ أنّه يشكل الأمر بناء على ما ذكره الشهيد (٣) ـ قدّس سرّه ـ من حرمة نيّة المعصية ، إلاّ أنّه قال بثبوت العفو عن النيّة المجرّدة عن المعصية أو عمّا يراه الشخص معصية.

وكيف كان ، فهو قائل باستحقاق العقاب على نيّة المعصية وإن تجرّدت عنها ، إذ العفو لا ينفي الاستحقاق ، بل يثبته.

لكن يمكن أن يقال : بأن العزم على الحرام حرام نفسي كنفس الحرام ، فيكون العقاب عليه على طبق القاعدة ، فافهم ، ولعلّه سيجيء تتمّة الكلام فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

إيقاظ : لا شبهة أنّ الأمر الغيري ـ وجوبيّا كان أو ندبيّا ـ لا يقضي بالتعبّدية ورجحان الشيء في نفسه ، وإنّما يقضي بأنّ الغرض من الواجب الغيري أو الندب كذلك (٤) هو التوصّل به إلى ما هو مقدّمة له ، وأيضا مقتضى ما حقّقنا ـ من أنّ الواجب الغيري من جهة وجوبه الغيري لا يقع طاعة أصلا ، وإنّما هو من مقدّمات إطاعة ما هو مقدّمة له لا غير ، وكذلك الندب الغيري ـ امتناع كون الواجب والندب الغيريّين تعبديّين من جهة الوجوب والندب الغيريين ، إذ العبادة

__________________

(١) سورة البراءة : ١٢١.

(٢) كذا في الأصل ، والأقوم هكذا : عليها أنفسها ..

(٣) القواعد والفوائد : ١ ـ ١٠٧ ـ الفائدة الحادية والعشرون.

(٤) أي المندوب الغيري.

٣٧١

ـ كما يدلّ عليه تعريفها بما يتوقّف صحّتها على نيّة القربة ـ لا بدّ أن تكون مقرّبة ، والمقرّب لا يكون إلاّ فعل الطاعة ، فما لا يكون طاعة لا يكون مقرّبا ، فلا يكون عبادة ، وحينئذ يشكل الأمر في بعض المقدّمات الشرعيّة كالطهارات الثلاث للاتّفاق على كونها من العبادات ـ فلذا اعتبروا فيها نيّة القربة ، مع أنّ الأوامر المتعلّقة بها منحصرة في الغيرية الغير القاضية بالتعبّدية ، ويكون ما تعلّقت به راجحا في نفسه كما هو شأن العبادات ـ وعلى انعقادها عبادة مع الإتيان بها بداعي الأمر الغيري ، مع أنّ الإتيان بالفعل بداعي امر الغيري لا يمكن أن يصيّره طاعة حتّى يكون عبادة مقرّبة.

ويمكن الذبّ عن الأوّل : بأنّا نستكشف من الإجماع على اعتبار قصد القربة فيها أنّ فيها رجحانا ذاتيا ، وأنّها مطلوبة نفسا من تلك الجهة بالطلب الندبي ، إلاّ أنّ ذلك الطلب الندبي قد يزول عنها لعروض جهة موجبة لها بالوجوب الغيري ـ كما إذا حضر وقت العبادة الواجبة المشروطة بها ـ أو بالوجوب النفسيّ ، كما إذا نذر فعلها أو حلف مثلا ، فإنّ المندوب النفسيّ حينئذ يصير بالعرض واجبا نفسيا ، لكن جهة الاستحباب حينئذ باقية بل متأكّدة بتلك الجهة ، إذ المنافاة إنّما هي بين نفس الطلبين اللذين أحدهما وجوبي والآخر ندبي ، دون جهتيهما ، وأمّا إذا لم يعرض لها جهة موجبة ، بل الموجود فيها إنّما هي الجهة النادبة الغيرية لأجل غاية مندوبة نفسا كالكون على الطهارة في الوضوء والغسل من غير قصد غاية مشروطة بالطهارة بأن تكون الغاية لفعل الوضوء والغسل هي نفسه مجرّدا عن ذلك القصد ، فإنّ الطهارة كما تكون مقصودة للشارع مقدّمة لشيء آخر من واجب أو مندوب ، كذلك تكون مقصودة ومحبوبة له بالذات أيضا ، أو مقدّمة كما إذا أراد فعل مندوب مشروط بالطهارة فيتوضأ أو يغتسل لأجل الطهارة ليتوصّل بها إلى ذلك المندوب ، ولأجل مطلوبية الوضوء والغسل واستحبابهما في أنفسهما ذهب جماعة من

٣٧٢

المحقّقين منهم شيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ إلى صحّة فعلهما قبل حضور وقت العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة بقصد القربة ، وجعلوا رفع الحدث بهما من آثارهما القهرية المترتّبة عليهما ـ إذا انعقدا على وجه الصحّة ، وهو وقوعهما على وجه العبادة ـ وإن لم يقصده الفاعل ، ولو لا رجحانهما في أنفسهما واستحبابهما كذلك لما بقي وجه لحكمهم بصحّتهما وبقصد القربة فيهما ، فإنّ قصدها متوقّف على إحراز كون الفعل راجحا في نفسه حتى يكون مقرّبا بتوجّه القصد إليه ، كما ذهب هؤلاء إلى صحّتهما بعد دخول وقت العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة إذا فعلهما بنيّة المطلوبية الذاتيّة ، أعني بداعي جهة استحبابهما وان لم يكن الأمر الاستحبابي الآن موجودا لمنافاته للوجوب الغيري العارض لهما ، كما مرّت الإشارة إليه فيما سبق منّا في مطاوي بعض الكلمات.

فإن قلت : إنّ هذا الّذي ذكرت مسلّم في الغسل والوضوء فإنهما مطلوبان من غير خصوصية زمان دون زمان ، وأما التيمّم فلا يمكن فيه ذلك ، ضرورة أنّه ليس مطلوبا إلاّ بعد حضور وقت العمل المشروط بالطهارة بعد تعذّرها على المكلّف ، فليس فيه مطلوبية ذاتية ليكون مندوبا في جميع الأوقات والأحوال كما في الغسل والوضوء ، فليس فيه إلاّ المطلوبية الغيرية العارضة في وقت خاصّ.

قلنا : العبادات لا يلزم أن تكون راجحة بالرجحان الذاتي الّذي لا ينفكّ عن الشيء بل يمكن أن يكون رجحان بعضها بالوجوه والاعتبار ، فنقول : حينئذ إمّا يستكشف الرجحان الذاتي من ورود الأمر ، ومن دليل اعتبار قصد القربة ، ولا ريب أنّ الأمر بالتيمّم لم يرد إلاّ في بعض الأحوال كما ذكر ، والقدر المتيقّن من الإجماع على اعتبار نيّة القربة أيضا إنّما هو اعتباره في مقام ثبت مشروعيته ، فالقدر المتيقّن من رجحانه النفسيّ إنّما هو رجحانه فيما ثبت

٣٧٣

مشروعيته.

هذا ، وحاصل الدفع : أنّا لم نستكشف تعبّدية الطهارات من الأوامر الغيرية المتعلّقة بها ، بل من دليل آخر ـ وهو الإجماع المتقدّم ـ فلا إشكال في إلزام تعبّديتها.

وقد يذبّ عن ذلك : بالمنع من كون الطهارات الثلاث عبادات بالمعنى المتقدّم اللازم منه رجحان الشيء في نفسه ، بل هي عبادات بالمعنى الأعمّ (١) ، وهو ما اعتبر في صحّته ـ وترتّب الأمر المقصود منه عليه ـ إيقاعه بداعي الأمر ، فالطهارات الثلاث ليست بذواتها مقدّمات ، وإنّما هي مقدّمات إذا وقعت بداعي الأمر ، فغرض الإيصال إلى ذيها إنّما يحصل بإيقاعها على هذا الوجه لا غير.

ويتّجه عليه : أنّ نفي الرجحان النفسيّ والاستحباب الذاتي عنها مع اعتبار إيقاعها بداعي الأمر ، ـ والمفروض حينئذ انحصار الأمر المتعلّق بها في الواحد وهو الأمر الغيري المقدّمي ـ مستلزم للدور ، ضرورة أنّ الأمر بشيء إنّما هو بعد تمامية مصلحة ذلك الشيء في نفسه وكونه موضوعا لذلك الأمر مع قطع النّظر عن ذلك الأمر بمعنى عدم كون ذلك الأمر محقّقا لموضوعية ذلك الشيء لنفسه ، ومتمّا لمصلحته الداعية إليه ، فإذا فرض اعتبار الإتيان بداعي الأمر في موضوع أمر فتوجّه ذلك الأمر متوقّف على تحقّق موضوعية ذلك الموضوع قبله ومع قطع النّظر عنه ، فإذا فرض عدم توجّه أمر به قبل ذلك الأمر يتوقّف (٢) موضوعيته لذلك الأمر وتمامية مصلحته على ورود ذلك الأمر ، فيكون نفس ذلك الأمر موضوعا لنفسه ، فيتوقّف توجّهه على ذلك الشيء على توجّهه عليه ، فهذا دور ظاهر.

__________________

(١) فيقال : إنّ العبادة ما تعلّق غرض الشارع فيه بعدم وقوعه إلاّ له. لمحرّره [ عفا الله عنه ].

(٢) في الأصل : فيتوقّف.

٣٧٤

ويمكن دفعه : بما حقّقنا في محلّه من دفع إشكال ذلك الدور في الأوامر النفسيّة التعبّدية المشروطة بإيقاعها بداعي الأمر من التزام تعدّد الأمر ، فيقال في المقام :

إن الأمر وإن كان منحصرا في الغيري إلاّ أنّه غير منحصر في واحد ، بل هنا أمران غيريّان مرتّبان : أحدهما متعلّق بذات الفعل ، وثانيهما بإيقاعه بداعي الأمر الأوّل ، فالأمر الأوّل محقّق لموضوع الثاني ، فلا دور.

لكنّه يشكل : بأن الأمر المقدّمي الناشئ عن الأمر بذي المقدّمة تعلّقه بالنسبة إلى كلّ واحدة من المقدّمات مطلقا ـ قريبة كانت أو بعيدة ـ في مرتبة واحدة ، بمعنى أنّه إنّما ينبعث من وجوب ذي المقدّمة دفعة واحدة بالنسبة إلى كلّ ما له دخل في وجود ذي المقدّمة أمر غيري ، فإذا فرض كون مقدّمة مركّبة من الأجزاء الخارجية أو الذهنية فالأمر الغيري المتعلّق بكلّ جزء منها في مرتبة الأمر الغيري المتعلّق بجزئها الآخر ، بحيث لا ترتّب بينهما في نفس الأمر أصلا ، فحينئذ ـ حين تعلّق الأمر المتعلّق بإيقاعها بداعي الأمر ـ لا موضوع له أصلا ، فيعود المحذور ، فتدبّر.

هذا كلّه في الذبّ عن الإشكال الأوّل.

وأمّا الثاني من الإشكالين ـ فبعد الفراغ عن ثبوت رجحان الطهارات الثلاث في أنفسها واستحبابها الذاتي يمكن (١) الذبّ عنه : بأنّه لا شبهة في أنّ مقدّميتها إنّما هي بعنوانها الراجح الّذي هو جهة استحبابها النفسيّ بمعنى أنّ الأمر الغيري المقدّمي إنّما تعلّق بها بهذا العنوان ، فالإتيان بها بداعي ذلك الأمر الغيري المتعلّق بها ملازم للقصد الإجمالي إلى ذلك العنوان (٢) وإن لم نكن نعرفه

__________________

(١) في الأصل : فيمكن ..

(٢) « على وجه التوصيف ». على ما جاء في هامش الأصل.

٣٧٥

تفصيلا ، ضرورة ثبوت الملازمة بين كون أمر داعيا إلى فعل شيء وبين كونه داعيا إلى ذلك الشيء بالعنوان الّذي تعلّق هو بهذا العنوان ، فيكون داعيا إلى ذلك العنوان أيضا ، فيكون حال الوجوب الغيري المتعلّق بها حال الوجوب النفسيّ المتعلّق بها بنذر وشبهه من جهة كون العنوان في كلّ منهما هو العنوان الراجح ، وكما أنّ الإتيان بالواجب الغيري العبادي بداعي جهة استحبابه النفسيّ ـ على وجه يكون تلك الجهة غاية للفعل ـ محقّق لعباديته ولانعقاده عبادة وإن لم يكن الأمر الاستحبابي موجودا فيه بالفعل ـ كما مرّت الإشارة إليه في مطاوي ما تقدّم ـ فكذلك الإتيان به بجهة استحبابه النفسيّ ـ بحيث تكون تلك الجهة صفة للمأتيّ به ـ موجب لانعقاده عبادة كما في نذر المندوب ، فإنّه إذا أتي به فإنّما يؤتى به بداعي الأمر الوجوبيّ المسبّب من النذر مع القصد إلى جهة الاستحباب بعنوان الوصفيّة لا الغائيّة ، فينوي : أني أفعل ذلك الفعل المندوب لوجوبه ، وعلى هذا فينوي في المقام : أني أتوضّأ ـ مثلا ـ الوضوء المندوب لوجوبه الغيري ، فإنّ الوجوب الغيري إنّما تعلّق به بعنوان استحبابه النفسيّ وإن لم يكن الأمر الاستحبابي موجودا فيه بالفعل ، أو يقصد : أنّي أتوضّأ لوجوبه الغيري قربة إلى الله ـ مثلا ـ فإنّه أيضا وجه إجمالي إلى العنوان المذكور أيضا كما مرّ.

هذا ، ثمّ إنّه نسب المحقّق القمي (١) ـ رحمه الله ـ المدح والثواب على فعل المقدّمة دون العقاب على تركها بطريق النقل إلى الغزالي.

ثمّ قال : ( ولا غائلة فيه ظاهرا (٢) ، إلاّ أنّه قول بالاستحباب ، وفيه إشكال إلاّ أن يقال باندراجه تحت الخبر العامّ فيمن بلغه ثواب على عمل ، ففعله التماس

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ ـ ١٠٤ حيث يقول : ( وأما المدح والثواب فالتزمه بعض المحقّقين ، ونقله عن الغزالي ) ..

(٢) في الأصل : ( وغائلته فيه ظاهر ) ، وقد صحّحنا عبارة المتن على عبارة القوانين.

٣٧٦

ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه ، فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه ، فتأمّل ) (١).

وقال أيضا بعد ذلك : ( لكن لا مانع من التزامه إلاّ تسديس الحكم أو تسبيعه (٢) ، إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما هو في الأحكام الأصلية ، فلا يضرّ حصول ذلك في التبعيات ) (٣) انتهى.

وينبغي أوّلا بيان مراده ، ثمّ التعرّض لما في كلامه من مواقع النّظر ، فنقول : قوله : ( وفيه إشكال ).

وجه الإشكال ـ على ما صرّح [ به ] هو أيضا في الحاشية (٤) ـ : خروجه عن الاستحباب المصطلح ، والظاهر أنّ وجه الخروج إنّما هو عدم الأمر الاستحبابي بالمقدّمة أصلا ، فإنّ المعتبر في المستحبّ المصطلح هو تعلّق الأمر الاستحبابي به شرعا ، والحال في المقدّمة ليس كذلك ، لأنّ الأمر بذي المقدّمة لا يقتضي الأمر بها ندبا ضرورة ، وإن اقتضى فإنّما يقتضيه وجوبا لا غير ، ولا دليل من الخارج أيضا يستفاد منه الأمر الاستحبابي لها.

قوله : ( إلاّ تسديس الحكم (٥) أو تسبيعه ).

الظاهر أنّ وجهه أنّ هذا الحكم ليس وجوبا ولا ندبا أيضا لعدم ما يقضي

__________________

(١) نفس المصدر السابق بعد عبارته التي نقلناها آنفا.

(٢) في الأصل : ( تسديس الأحكام وتسبيعه ) ، وقد صححنا العبارة على عبارة حاشية القوانين.

(٣) لم ترد هذه العبارة في متن القوانين وإنّما وردت في الحاشية المنسوبة إلى صاحب القوانين في بيان وجه تأمّله المذكور في المتن بقوله : ( .. حتّى فتوى الفقيه ، فتأمّل ) ، وهذه الحاشية ذكرها السيد علي القزويني (ره) في حاشيته على القوانين عند بيانه الأصل المذكور في عبارة المتن التالية : ( والأقرب عندي عدم الوجوب مطلقا. لنا : الأصل ). القوانين : ١٠٤.

(٤) أي في الحاشية المنسوبة إلى صاحب القوانين المشار إليها في الهامش السابق.

(٥) في الأصل : تسديس الأحكام.

٣٧٧

به ، فيكون قسما سادسا من الأحكام التكليفية ، فتكون الأحكام ستّة ، بل سبعة بجريان مثل ذلك في الموانع أيضا ، فلا يكون حراما لعدم ترتّب العقاب على فعلها وترتّب الثواب على تركها ، ولا مكروها لعدم ما يقضي به ، فيكون قسما سابعا من الأحكام ، وليس مراده أنه ندب ظاهري أو هو مستلزم لتعشير الأحكام مع أنّه لا محذور كما لا يخفى.

هذا ، ثمّ إنّ ما أفاده ـ من استناد الاستحباب إلى قاعدة التسامح ـ تسامح في تسامح ، إذ بعد الغمض عن [ شمول ](١) أخبار التسامح لمثل فتوى الفقيه أوّلا ، ثمّ لمثل فتوى الغزالي ـ كما لعلّه تفطن له (٢) ، وأشار إليه بقوله : ( فتأمّل ) ـ يتّجه عليه أنّ الكلام مع الغزالي القائل بمثل هذا ، فالنزاع إنّما هو في أمر واقعي يدّعيه الغزالي ، ونحن ننفيه في الواقع ، ولسنا في مقام إثبات الحكم المذكور المتنازع فيه بالتسامح.

نعم لو فرض البحث مع غيره فيمكن للمدّعي للاستحباب الاستناد إلى قول الغزالي حيث إنّه أفتى به من حيث إنّه مقدّمة.

وما ذكره (٣) في الحاشية من عدم المانع من تسبيع الأحكام التبعية فغير سديد لعدم الفرق بين الأصلية والتبعية بعد ملاحظة الاستحقاق الواقعي ، فلا يعقل قسم سادس أو سابع مطلقا ، فافهم.

هذا تمام الكلام في مقدّمات المسألة مع ما يتعلق بها ، فإذا عرفت ذلك كلّه فنقول :

[ تحرير محلّ النزاع ]

إن محلّ النزاع في الواجب المتنازع في مقدّميته بالنظر إلى تقسيم الواجب

__________________

(١) إضافة اقتضاها السياق.

(٢) الصحيح ما أثبتناه وإن كان الأقرب بحسب نسخة الأصل : ( به ).

(٣) في الأصل : وأما ذكره.

٣٧٨

إلى المطلق والمشروط أعمّ كما لا يخفى على المتأمّل ، وقد أشرنا إليه سابقا أيضا ، إلاّ أنّ وجوب المقدّمة يختلف ، فإذا كانت من مقدّمات الواجب المشروط فوجوبها أيضا كذلك ، وإذا كانت من مقدّمات الواجب المطلق فوجوبها أيضا مطلق ، ومحلّ النزاع (١) في وجوب المقدّمة بالنظر إلى التقسيم المذكور أيضا.

وأمّا بالنظر إلى النفسيّ والغيري فلا يعقل النزاع إلاّ في الغيري وإن ادّعى بعض المحقّقين (٢) أنّ النزاع في الأوّل.

وأمّا بالنظر إلى التقسيم إلى الأصلي والتبعي فالظاهر أنّ النزاع أعمّ وإن ادّعى بعض (٣) أنّه في الأوّل.

وهذه الدعوى أخفى فسادا من الأولى وإن كانت فاسدة في نفسها ، لما قد مرّ مرارا : أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة ـ على القول به ـ هو العقل ، وموضوع حكمه هو اللبّ ، لا اللفظ ، فإنه ـ على القول به ـ يحكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة وبين وجوب مقدّمته بالوجوب الغيري ، ولا يوجب إفادته بخطاب أصلي.

ثمّ إنّ الوجوب له إطلاقات : فقد يطلق على مجرّد صفة التوقّف واللابدّية التي هي معنى المقدّمية ، وقد يطلق على عدم انفكاك شيء عن آخر ، وقد يطلق على الطلب الحتمي الإرشادي العقلي ، وقد يطلق على الطلب الحتمي الآمري المولوي.

لا نزاع في وجوب المقدّمة بالمعنى الأوّل ، بل لا يعقل ، إذ الكلام في وجوب المقدّمة بعد الفراغ عن ثبوت مقدّميتها ، وهو ينافي النزاع في مقدّميتها ، ولا بالمعنى الثاني قطعا وبالضرورة ، ولا بالثالث ، إذ لا نزاع لأحد أنّ العقل يحكم حتما بأنّ من أراد ذا المقدّمة فليأت بمقدّمته لكي يحصل بها غرضه ، فانحصر النزاع في

__________________

(١) في الأصل : حمل النزاع ..

(٢ و ٣) وهو المحقّق القمّي ( قدّه ) في قوانينه : ١ ـ ١٠١ ـ ١٠٣ ، المقدمة السادسة والسابعة.

٣٧٩

الرابع ولو بأقلّ مراتبه ـ وهو دلالة الإشارة ـ بأن يكون النزاع في أنّ الآمر بفعل هل في نفسه حالة اشتياق إلى مقدّمته أيضا ، بحيث لو التفت إلى توقّف مطلوبه عليها أو سئل عنها لأمر بها ، أو لا؟ وأعلى من تلك المرتبة أن يكون النزاع في كون الأمر بالمقدّمة مقصودا من الأمر بذيها كما يدّعيه بعض القائلين بوجوب المقدّمة ، فالنزاع في اقتضاء (١) الأمر بذي المقدّمة للأمر بمقدّمته الوجودية (٢) : إما بدلالة الإشارة التي هي أقلّ مراتب الدلالات ، أو بالالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ الّذي هو من الدلالات المقصودة وإن كانت الأولى أليق لأن يقال بها على القول بوجوب المقدّمة كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّه قيّد بعض المتأخّرين (٣) المقدّمة المتنازع في وجوبها بالجائزة احترازا عن أمرين :

أحدهما : المقدّمات الوجودية المحرّمة.

وثانيهما : المقدّمات الوجودية الاضطرارية الخارجة عن قدرة المكلّف كالوقت في الواجبات المؤقّتة ، حيث إن حضوره ليس باختيار المكلّف.

ويتّجه عليه : أنّه إن كان المراد بالجواز هو الجواز العقلي ـ وهو الإمكان ـ فلا يعقل كون التقييد به احترازا عنهما ضرورة إمكان وقوعهما عقلا ، وان كان المراد به هو الشرعي ، وهو الإباحة ـ كما هو الظاهر بل المقطوع به في كلامه ـ

__________________

(١) المراد بالاقتضاء هو التلازم عقلا ، وهذا هو المراد منه في كلام من عبّر [ عن ] عنوان المسألة : باقتضاء الأمر بشيء للأمر بمقدّمته. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) فالقائل بوجوب المقدّمة يدّعي أنّ للآمر بشيء حالة في النّفس بحيث لو التفت إلى كون مقدّمة مقدمة له وأنه لا يحصل إلاّ بها لصح ، له أمر أصلي بها أيضا ، كالأمر بالذهاب إلى السوق من الأمر بشراء اللحم ، والمنكر ينفي ذلك. لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) وهو صاحب الفصول ، كما في هامش الأصل ، راجع الفصول : ١ ـ ٨٢.

٣٨٠