تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

الإجزاء ، وكذا بينه وبين أدلّة اعتبار الطرق الشرعية ـ أيضا ـ إذا قامت هي على تحقّق ذلك الّذي لم يؤت به واقعا ، وكذا بينه وبين الطرق والأصول العقلية ، لعدم قضاء العقل ـ مع تخصيص ذلك الدليل ـ بعدم الإجزاء ، بل يقضي معه به فيما فعله المكلّف في حال الجهل من [ أنّ ] العمل الناقص هو المكلّف به الواقعي في تلك الحالة ، فإنّه حينئذ بمنزلة الصلاة مع التيمّم حال العذر ، من حيث كونه فردا من أفراد المأمور به في تلك الحال ، فيكون ذلك منه امتثالا واقعا في تلك الحال.

فعلى هذا ، فالأصول والأمارات غير محتاج إليها في صحّة ذلك العمل ، لكفاية الشكّ في تلك الموضوعات التي قامت عليها تلك الأصول والأمارات في الصحّة ، فلا تختص الصحّة بصورة قيامها عليها ، بل تعمّ صورة فقدها أيضا.

وثانيها : أنّ يخصّص الأمر بالفعل الّذي ذلك المشكوك جزء منه ، أو شرط له ، أو مانع منه بصورة العلم بذلك الشيء ، بمعنى أنّه لم يكن في حقّ الجاهل مثلا في حال الجهل خطاب في الواقع أصلا ، فالجاهل بالنجاسة أو بكون الجلد الّذي معه من الميتة ـ مثلا ـ لم يخاطب بخطاب ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ* ) في الواقع أصلا.

فعلى هذا ، فالواقع منه حال الجهل لم يقع امتثالا أصلا ، والأصول والأمارات على هذا ـ أيضا ـ غير محتاج إليها ، إذ المفروض أنّه ليس عليه شيء حتى يحرز شرطه أو جزؤه ـ مثلا ـ بها ، إحرازا للصحة ، وليست ـ أيضا ـ محتاجا إليها في انقطاع التكليف الواقعي عنه ، لكفاية الجهل فيه.

وثالثها : أنّ يتصرّف في دليل اعتبار الشرطية والجزئية بحمله على الأعمّ من ذات ذلك الشيء الّذي دلّ على شرطيته أو جزئيته الشامل لما ثبت كونه هو بأصل أو أمارة وإن لم يكن هو في الواقع.

وبعبارة أخرى : إنّ [ كلا من ](١) الشرط والجزء ـ مثلا ـ إنّما هو أحد

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

٢٠١

الأمرين من ذات ذلك الشيء أو إحرازه بأحد من الأصول العملية أو الأمارات ـ لا ذاته مطلقا ـ فالعمل الناقص الصادر منه حال الجهل مع قيام الأصول والأمارات من أفراد المأمور به واقعا وامتثال عنه كذلك والأصول والأمارات على هذا التقدير محتاج إليها ، لأنّها حينئذ جاعلة ومحصّلة للشرط أو الجزء.

ورابعها : أن يتصرّف في ذلك الدليل بحمله على أنّ الشرط أو الجزء ـ مثلا ـ إنّما هو ثبوت ذلك الشرط عند المكلّف بالعلم أو بالأمارات أو بالأصول ، لا نفسه ولا ذاته ، والأصول والأمارات حينئذ ـ أيضا ـ محتاج إليها حال الجهل وعدم العلم به ، كما لا يخفى.

لكنّ الأصل والأمارة القائمين عليه حينئذ يخرجان عن كونهما أصلا وأمارة حقيقة ، ويكون إطلاقهما عليهما باعتبار وجود مناط التسمية فيهما في غير هذا لمورد ، إذ الأصل العملي عبارة عن الحكم المجعول للشيء بعنوان كونه مجهول الحكم ، ومن المعلوم أنّه لا حكم لذات ذلك الشيء بالفرض حتّى يكون مجهولا ، بل المفروض إحراز عدم حكم لذاته.

وأمّا الأمارة فهي عبارة عن الطريق القائم على موضوع قد اعتبره الشارع طريقا إليه ، ومعنى جعله طريقا إليه أمره بترتيب أحكام متعلّقه عليه ، ومن المعلوم أنّه لا حكم لمتعلّقه في مورد الفرض.

وخامسها : أن لا يتصرّف في شيء من دليل شرطية ذلك الشيء أو جزئيته أو خطاب المشروط ، والكلّ بمعنى إبقاء كلّ منهما على إطلاقه بالنسبة إلى حال الجهل ، ويلتزم بخروج المأتيّ به من العمل الفاقد للجزء أو الشرط عن المأمور به ، بمعنى عدم شمول الأمر له واقعا وبدخوله فيه موضوعا وكونه من أفراده وقائما بالغرض المقصود منه الداعي إلى الأمر على نحو قيام سائر الأفراد به ، فيقال : إنّ الصلاة مع الجهل بالطهارة من الخبث ـ مثلا ـ فرد من أفراد الصلاة ، قائمة بالمصلحة المقصودة منها الداعية إلى الأمر بها على نحو قيام

٢٠٢

الصلاة مع الطهارة واقعا ، وخارجة عنها بعنوان كونها مأمورا بها ، فيكون ورود دليل الإجزاء حينئذ على طبق القاعدة ، إذ الإجزاء لا يدور مدار الإتيان بالمأمور به ، بل يحصل بتحصيل الغرض مطلقا ، كما مرّ التنبيه عليه في مطاوي كلماتنا المتقدّمة.

هذه جملة الوجوه المتصوّرة في المقام.

لكن لا يخفى : أنّه لا يمكن المصير إلى ثانيها ، لقيام الضرورة على ثبوت تكليف في حقّ الجاهل في تلك الحال ، وليس حينئذ كالبهائم لم يطلب منه شيء أصلا.

وأمّا البواقي فكلّ منها ممكن ويجوز حمل الخطاب عليه لو انحصر وجه الجميع فيه ، ولا يبادر معه إلى طرح دليل الإجزاء جدّاً.

وأمّا مع عدم انحصار وجه الجمع في واحد ـ وفرض اجتماع الجمع ، معنى إمكان حمل المورد على أي منها ـ فالأوّل أظهر من غير الأخير ، لبعد أن يحدث قيام الأمارة أو الأصل مصلحة في نفس العمل وإن كان ممكنا.

وهل هو أظهر من الأخير ـ أيضا ـ ، أو الأظهر الأخير أو أنّهما متساويان؟

أظهر الاحتمالات أوسطها لسلامته عن جميع الأمور المخالفة للأصل بخلاف الأوّل.

نعم قد يشكل إمكان الوجه الأخير في حدّ نفسه ، نظرا إلى أنّه إذا فرض كون العمل الناقص من أفراد الفعل المأمور به ـ وصدقه عليه كصدقه على سائر أفراده وكونه مشتملا على المصلحة الحاصلة بغيره من الأفراد ـ فلا بدّ أن يكون مشمولا للأمر كسائر الأفراد إذا لم يكن هناك مانع من شموله له ، ولا يعرف مانع في محلّ الفرض ، فيبطل الوجه المذكور.

ويمكن دفعه بإبداء المانع منه في المقام ، وتوضيحه :

٢٠٣

أن المفروض فرديّة ذلك العمل الناقص للفعل المأمور به ومساواته لسائر الأفراد بملاحظة حال الجهل لا مطلقا ، فحينئذ لو فرض ورود الأمر به لا بدّ أن يكون موضوعه متقيّدا بالجهل ، بأن يقال : أيّها الجاهل بالنجاسة أو بكون الجلد من الميتة صلّ مع النجاسة أو مع جلد الميتة ، ومن المعلوم أنّه بمجرّد ذلك الخطاب يصير عالما فيخرج عن موضوع الخطاب فيكون عبثا.

وهذا هو الوجه فيما حقّقنا في محلّه من عدم إمكان الأمر بالناقص في صورة نسيان المكلّف لبعض الأجزاء والشرائط ، ولو أخذ موضوع الخطاب مطلقا فهو ليس خطاب هذا الشخص ، فلزوم العبث مانع من الأمر مع قيام المقتضي له.

هذا لو أريد وروده بخطاب مستقلّ بالنسبة إلى الجاهل.

وأمّا لو أريد دخوله في الأمر المطلق المتعلّق بسائر الأفراد ـ أيضا ـ فيلزم منه استعمال الطلب في المعنيين التعييني والتخييري :

أمّا التعييني فهو بالنسبة إلى غير الجاهل لفرض إرادته منه وأنّ المتعين في حقّه إنّما هو العمل الكامل.

وأمّا التخييري فهو بالنسبة إلى الجاهل ، حيث إنّه مخيّر حينئذ بين العمل الناقص والتامّ ، إذ المفروض عدم تعيّن الناقص في حقّه ، بل غاية الأمر مساواته له.

وأيضا ذلك الخطاب مطلق وهو مع إطلاقه ليس خطابا للجاهل ومع تقيده بالجهل ليس خطابا للعالم ، فلا يمكن دخول كليهما فيه ، بل لا بدّ من إطلاقه حتّى يكون مختصّا بالعالم ، أو من تقييده حتّى يكون مختصّا بالجاهل.

وبالجملة : الأمر بشيء حال الجهل به إنّما يصحّ ويجوز فيما لم يكن الجهل مأخوذا في موضوعه كما في جميع الخطابات الواقعية ، وأمّا معه فلا.

لا يقال : إنّ الأوامر الظاهرية كلّها من هذا القبيل ، فإنّ المأخوذ في

٢٠٤

موضوعها إنّما هو الجهل.

لأنّا نقول : أخذ الجهل في موضوعها مسلّم لكن متعلّق تلك الأوامر ليس نفس المجهول أو الناقص منه ، بل إنّما هو تطبيق العمل في الظاهر على طبق الأصول والطرق والأمارات فلا تصلح هي موردا للنّقض على ما نحن فيه.

هذا ، لكن الإنصاف ـ والّذي يقتضيه التأمّل ـ أنّ العبث المذكور إنّما يلزم على تقدير توجيه الخطاب على نحو الخصوصية إلى شخص خاصّ ، إذ هو حينئذ يوجب له العلم بأنّ معه نجاسة ، أو بأنّ الجلد الّذي معه من الميتة ـ مثلا ـ.

وأمّا توجيهه على نحو العموم بأن يقال : الجاهل بالنجاسة أو بكون الجلد من الميتة يصلّي ولو كان معه النجاسة واقعا ، أو كان الجلد الّذي معه من الميتة كذلك ، فإنّ ذلك لا يوجب له العلم المذكور.

وقياسه بتكليف الناسي على نحو العموم باطل ، فإنّ الناسي حال النسيان غير ملتفت إلى كونه ناسيا ، فهو غير ملتفت إلى دخوله تحت عنوان ذلك الخطاب العامّ ، فلا يجدي ذلك في حقّه ، لعدم صلاحيته لتحريكه نحو العمل الناقص ، فيكون عبثا ، لانحصار فائدة الخطاب فيه ، فلا يمكن توجيه الخطاب إليه بوجه.

هذا بخلاف الجاهل ، فإنّه ملتفت إلى دخوله تحت العنوان العام ، فيفيد في حقّه الخطاب العامّ ، فيجوز.

نعم لو فرض كونه جاهلا بالجهل المركّب قاطعا للخلاف فهو كالناسي.

والّذي يقتضيه النّظر بطلان قياس خطاب الجاهل على نحو الخصوصية بخطاب الناسي كذلك ـ أيضا ـ ، فإنّ العلم بالنجاسة على تقديره ـ أيضا ـ لا يلزم من خطابه بعنوان الجاهل ، إذ الجهل معناه عدم العلم ، وهو لا يلازم وجود المجهول في الواقع ، بل إنّما يلزم من الأمر بالصلاة مع النجاسة ، لكن لا يجب أن يكون صورة الخطاب على هذا الوجه ، بل يمكن أن يكون على الوجه الّذي

٢٠٥

مرّ في الخطاب على الوجه العامّ ، بأن يقال : أيّها الجاهل بالنجاسة صلّ في حالة الجهل بها.

ثمّ إنّه قد اختلج بالبال وجه سادس لعلّه أولى من الوجوه المتقدّمة : وهو أنّه بعد ملاحظة إطلاق الخطاب الواقعي بالنسبة إلى حال الجهل ، وإطلاق دليل الشرطية [ بالنسبة ] إلى تلك الحال ، وملاحظة كون العمل الناقص مجزيا بمقتضى دليل الإجزاء يستكشف صدور خطاب عامّ بالنسبة إلى العمل الناقص ـ أيضا ـ ، إذ لا محيص عن ذلك بعد إحراز تلك المقدّمات الثلاث مع عدم المانع من الأمر ، لما مرّ من بطلان ما قد يتوهّم كونه مانعا.

هذا خلاصة الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : فالمتصوّر من وجوه الجمع فيه أربعة من الوجوه الستة المتقدّمة بإسقاط الثالث والرابع منها ، لعدم تصوّرهما في مثل ما إذا ثبت عدم وجوب السورة فانكشف وجوبها ، إذ لا معنى لأن يقال : إنّ المراد من دليل جزئية السورة أعمّ منها ومن عدمها الثابت بالأصول والطرق الشرعية ، أو أنّ المراد أنّ الجزء للصلاة ليس نفس السورة ، بل إحراز عدمها بالأصول والطرق الشرعية.

نعم إذا أدّت الأصول والأمارات إلى جزئيته أو إلى شرطيته ، فانكشف أنّ الشرط والجزء واقعا غير ذلك الّذي أدّت هي إليه ، فيتصوّر فيه ذانك الوجهان أيضا.

ثمّ إنّه لا يمكن المصير في المقام إلى أوّل الوجوه المتقدّمة ، لاستلزامه للدور هنا كما لا يخفى ، فإنّ العلم الموجود هنا على ذلك الوجه إنّما هو العلم بنفس الحكم ـ وهو وجوب السورة ـ ، ومن المعلوم أنّه لا يحصل إلاّ من نفس الخطاب المتضمن لوجوب السورة.

هذا بخلاف المقام الأوّل ، فإنّ متعلقه هناك إنّما هو الموضوع الخارجي ،

٢٠٦

لا الحكم ، فيختلف فيه طرق التوقّف ، فلا يلزم فيه الدور ، فعلى هذا لو انحصر وجه الجمع فيه هنا لا بدّ من طرح دليل الإجزاء.

نعم يمكن في صورة انحصار وجه الجمع فيه أن يقال : إنّما نستكشف ـ حينئذ ـ صدور خطاب آخر متضمّن لوجوب السورة في الجملة غير الخطاب الّذي علمناه ، فيكون ذلك الخطاب موضوعا لهذا ، فيكون هذا لمجرد تخصيص وجوب السورة بصورة العلم بذلك الخطاب ، ويكون دليل إثبات نفس الوجوب في الجملة هو ذلك الخطاب ، فافهم.

ولا يمكن المصير هنا أيضا إلى ثاني الوجوه المتقدّمة ، لجريان معذور الدور فيه بالتقرير المذكور.

اللهم إلاّ أن يدفع بالتوجيه المذكور عند انحصار وجه الجمع ، لكنّه لا ينفع بعد قيام الضرورة على ثبوت التكليف في حقّ الجاهل بالحكم.

وأمّا الوجه الثالث والرابع : فيمكن المصير إلى كلّ واحد منهما فيما إذا لم تقم الطرق أو الأصول على عدم جزئية شيء أو شرطيته ، لما قد عرفت من عدم تصوّرهما فيه ، بل قامت على تشخيص الجزء أو الشرط الواقعيين.

وأمّا الخامس : فقد عرفت بطلانه في المقام الأوّل فلا يجري في المقام ـ أيضا ـ.

وأمّا السادس : فهو ممكن في هذا المقام ـ أيضا ـ بل لعلّه أجود من غيره ممّا له سبيل إلى المقام.

هذا كلّه على تقدير انكشاف الخلاف بطريق القطع ، وأمّا انكشافه ظنا فسيأتي الكلام فيه (١).

الثالث : قد مرّ أنّ مقتضى القاعدة لزوم الإعادة في الوقت والقضاء في

__________________

(١) وذلك في التنبيه الثالث الآتي.

٢٠٧

خارجه إذا انكشف مخالفة المأتي [ به ] ـ على طبق الأصول والطرق الظنّية الشرعية ـ ظنّا كلزومهما عند انكشاف المخالفة المذكورة قطعا ، فعلى هذا فإذا ورد دليل على إجزاء المأتيّ به على الوجه المذكور بعد انكشاف الخلاف ظنّا فيأتي فيه الإشكال المتقدم في صورة وروده على تقدير انكشاف الخلاف قطعا ، فلا بدّ من الجمع.

ومجمل الكلام فيه : أنّ الكلام فيه ـ أيضا ـ كما تقدّم بعينه سواء في صورة الجهل بالموضوع أو الحكم ، والمختار من وجوه الجمع هنا ـ أيضا ـ المختار منها ثمّة ، فلا نطيل الكلام بإعادة ما تقدّم والله أعلم ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين إلى يوم الدين.

زيادة مرتبطة بالإشكال المتقدّم : اعلم أنّ الوجوه المحتملة للجمع بين دليل الإجزاء وغيره من أدلّة الواقع أو الطرق إنّما تجري فيما لم يكن دليل الإجزاء هي قاعدة العسر والحرج ، وأمّا فيما إذا كان هي تلك القاعدة فيتعيّن الأخذ بخصوص أحد تلك الوجوه المتقدّمة ، وهو تخصيص دليل الواقع فيما إذا لم يكن ذلك حصل بقاعدة (١) العسر والحرج ، وأمّا إذا كان هي ـ بأن يفرض تعسّر إعادة العبادة مثلا أو قضائها بعد انكشاف الخلاف ـ فلا ، بل يتعيّن واحد منها ، وهو تخصيص دليل الواقع ، ضرورة حكومتها على جميع أدلّة التكاليف الواقعية ، وكونها مخصّصة لها بغير موردها ، مع ثبوت المقتضي لتلك التكاليف في مواردها ـ أيضا ـ ، فإن تعسّرت الإعادة حينئذ فهي حاكمة على الأمر الأوّل الواقعي ومخصّصة له ، أو القضاء (٢) فعلى الأمر به من قوله : « اقض ما فات » (٣) ومخصّصة له.

__________________

(١) في الأصل : حصل قاعدة ...

(٢) أي : أو تعسّر القضاء فهي حاكمة على الأمر به ...

(٣) الوسائل : ٥ ـ ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ـ كتاب الصلاة ـ باب : ٦ من أبواب قضاء الصلوات.

٢٠٨

وكيف كان فيتعيّن حينئذ التخصيص ، ولا يصار إلى غيره من سائر الوجوه المتقدّمة.

والله يهدي إلى سواء الطريق.

٢٠٩

[ في مقدّمة الواجب ]

أصل :

اختلفوا في وجوب مقدّمة الواجب على أقوال يأتي تفصيلها ، وقبل الخوض في المقام لا بدّ من تقديم أمور :

الأوّل : أنّ المسألة هذه أهي من المسائل الأصولية أو الفقهية أو اللغوية أو من المبادي الأحكامية؟ وجوه مختلفة منشؤها اختلاف الاعتبارات الصالحة لوقوعها محلا للبحث ، إذ المسألة باعتبار وقوع السؤال فيها عن إدراك العقل الرّبط بين وجوب شيء وبين وجوب مقدّمته ، والملازمة بينهما وعدمه (١) ، تدخل في المسائل الأصولية العقلية ، كسائر المسائل المبحوث فيها عن الملازمات والاستلزامات العقلية ، كمسألة الأمر بالشيء ومسألة اجتماع الأمر والنهي وغيرهما (٢) ، فإنّ المسألة الأصولية لا تختصّ بما كان البحث فيها عن حجّية أحد الأدلّة المعروفة التي منها العقل ، بل تعمّ ما كان البحث فيها صغرويّا راجعا إلى وجود الدليل ، كالمسائل المذكورة وغيرها كما في مسألة الحسن والقبح ، وكما في مسألة الملازمة بين حكم العقل والشرع أيضا ، لعموم تعريف علم الأصول ، حيث إنّهم عرّفوه بالعلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعية ، فإنّ حاصل معناه أنّه العلم بما يكون طريقا لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي مع كونه ممهّدا له ، ومقتضى ذلك أنّ المسألة الأصولية ما يكون المطلوب والنتيجة

__________________

(١) تذكير الضمير باعتبار رجوعه على إدراك العقل.

(٢) في الأصل : وغيرها ...

٢١٠

فيها من طرق استنباط الحكم الفرعي ومن مقدماته الممهّدة له ، فتعمّ كلّ ما كان المطلوب فيها من مقدّماته ، ولا ريب أنّ إحراز ذات الدليل أيضا من المقدّمات ، ضرورة أنّ العلم بحجّيّة العقل لا يكفي في استنباط حكم الضدّ الموسّع ـ مثلا ـ إلاّ بعد العلم بأنّه يحكم بالملازمة بين الأمر بالشيء وبين النهي عن ضدّه وعدمه (١) ، وكذلك أنّ العلم بحجّيّة الخبر ـ مثلا ـ لا يكفي في استنباط حكم الكرّ الملاقي للنجس أو القليل الملاقي له ما لم يعلم بوجود قوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (٢).

هذا مضافا إلى أنّ المسائل الأصوليّة العقلية المختلف فيها إنّما يقع البحث فيها عن وجود حكم العقل لا عن حجّيّته ، إذ لا خلاف لأحد فيها بعد إحراز الصغرى إلاّ عن بعض الأخباريين ، وهو بمكان من الضعف لا يلتفت إليه لكونه مصادمة للضرورة ، وشبهة في مقابلة البديهة.

والحاصل : أنّ المسائل الأصولية العقلية ـ الدائرة بين الأعلام الواقعة محالّ للنقض والإبرام ـ لا يرجع الكلام فيها إلاّ إلى الصغرى إلاّ أنّ البحث في بعضها إنّما يقع عن حكم العقل المستقلّ ، وفي بعضها عن حكمه التّبعي ، كما في المقام وفي أكثر المسائل المشار إليها.

وبالجملة : كلّما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي من حيث

__________________

(١) تذكير الضمير باعتبار رجوعه على العلم.

(٢) الكافي : ٣ ـ ٢ ـ كتاب الطهارة ـ باب : الماء الّذي لا ينجسه شيء. ـ ح : ١ و ٢.

والاستبصار : ١ ـ ٦ ـ كتاب الطهارة ـ أبواب المياه وأحكامها ـ باب مقدار الماء الّذي لا ينجّسه شيء. ـ ح : ١ و ٢.

وصدر الحديث في المصدرين هكذا : ( إذا كان الماء قدر .. ). ، وكذا في الوسائل : ١ ـ ١١٧ ـ ١١٨ ـ كتاب الطهارة ـ أبواب الماء المطلق ـ باب : ٩ عدم نجاسة الكرّ ... ـ ح : ١ و ٢ و ٥ و ٦.

٢١١

كونه طريقا إليه فهو من المسائل الأصولية (١) ، ويقابلها الفرعيّة ، وهي ما لم تكن واقعة في طريق الاستنباط بمعنى أنّ المطلوب فيها ليس ما يكون من مقدّمات استنباط الحكم الفرعي ، بل نفس الحكم الفرعي ، بحيث لا يتوقّف العمل بعده على استنباط حكم آخر ، بل يترتّب عليه العمل بلا واسطة استنباط حكم آخر ، ولذا تعرّف بما يتعلّق بكيفية العمل بلا واسطة. فمن هنا اتّضح الفرق بين المسألة الأصولية والفرعية.

وخلاصة الفرق : أنّ الأولى عبارة عن المسألة الممهدة لاستنباط طريق استنباط الحكم الفرعي بحيث يكون النتيجة والمطلوب فيها من مقدّمات استنباط الحكم الفرعي ، لا نفس الحكم الفرعي ، فلذا لا تتعلّق بكيفيّة العمل بلا واسطة ، بل إنّما تتعلّق بها بعد استنباط حكم آخر ، والثانية عبارة عن المسألة الممهدة لاستنباط نفس الحكم الفرعي الّذي يتعلّق بالعمل بلا واسطة استنباط حكم آخر.

لا يقال : مسألة وجوب الصّلاة ـ مثلا ـ أو الصوم أو الحج أو الزّكاة من المسائل الفرعية قطعا ، ومع ذلك لا تتعلّق بكيفيّة العمل بلا واسطة ، بل إنّما تتعلّق

__________________

(١) إن قلت : هذا يقتضي أنّه لو وقع البحث عن وجود الكتاب أو السنّة أو الإجماع (أ) فيكون المسألة أصولية.

قلنا : نعم ، لكنّه لا يقع البحث عنها صغرى لسهولة طريق إحرازها فيها ـ وهو الحسّ ـ بخلاف الأمور العقلية ، فإنّ طريق إثبات صغرياتها أيضا إنّما ينتهي إلى البراهين العقلية (ب) والمقدّمات النظريّة ، وهذا هو الوجه في تعرّضه للبحث فيها صغرى دون المسألة المدوّنة. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) الكلمة غير واضحة وأثبتناها استظهارا. فافهم.

(ب) هنا كلمة غير مقروءة في الأصل ، والظاهر أنّها لا تخلّ بالمعنى.

٢١٢

بها بعد استنباط تلك الموضوعات الشرعيّة ـ وهي الصلاة وما بعدها ـ من الأدلّة الشرعيّة ، فإذن لا فرق بينها وبين مسألة مقدّمة الواجب ومسألة الأمر بالشيء.

لأنّا نقول : الّذي نفيناه في الفرعية وأثبتناه في الأصوليّة من الواسطة إنّما هو الاحتياج إلى استنباط حكم آخر لا مطلق الاستنباط ، ولا ريب أنّ المحتاج إليه في المسائل المذكورة ليس استنباط حكم آخر ، بل إنّما هو استنباط موضوع الحكم الفرعي المستنبط ، بخلاف مسألة الأمر بالشيء ـ مثلا ـ فإنّها ـ مضافا إلى حاجتها إلى ذلك ـ محتاجة في تعلّقها بعمل المكلف إلى استنباط حكم آخر ، وهو وجوب المأمور به المضيّق مثلا.

وكيف كان فالمسألة بالاعتبار المذكور داخلة في المسائل الأصولية العقلية ، وباعتبار وقوع السؤال فيها عن لوازم الوجوب وأحكامه إذا قصد به توضيح معرفة الوجوب ـ الّذي هو أحد الأحكام المبحوث عن حقيقتها في المبادئ الأحكامية ـ تدخل في المبادئ الأحكامية ، فإنّ الغرض فيها لما كان معرفة الحكم والحاكم والمحكوم عليه وبه وأقسام الحكم من التكليفي والوضعي بأقسامهما ، وقد يتوقّف معرفة بعض الأقسام على معرفة بعض لوازمه وأحكامه ، فلذا قد يقع البحث فيها عن لوازم بعض تلك الأقسام وأحكامه نظرا إلى توضيح الحال في الملزوم ، ولا ريب أنّ وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذيها ومن أحكامه فهو من أحكام الوجوب الّذي هو أحد الأقسام المقصود معرفتها ثمّة من الأحكام ، ولأجل ذلك ذكر بعض المسألة في المبادئ الأحكامية.

وباعتبار وقوع السؤال فيها عن وجوب المقدّمة التي هي من فعل المكلّف تدخل في المسائل الفرعية.

وباعتبار وقوعه عن دلالة الأمر عليه لفظا تدخل في المبادئ اللغوية.

فإذا عرفت ذلك فهل النزاع في المقام إنّما هو بالاعتبار الأوّل ، أو الثاني ،

٢١٣

أو بأحد الأخيرين (١)؟.

الظاهر أنّه إنّما هو بأحد الأوّلين ، لا الثالث وان كان يوهمه ظاهر قولهم : ( مقدمة الواجب واجبة ، أو ما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب ، أو لا؟ ) إلاّ أنّ التأمّل التامّ في كلامهم وأدلّتهم يقضي بأنّ مرادهم إنّما هو إثبات الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، لا إثبات وجوب المقدّمة ابتداء.

هذا ، مضافا إلى أنّه لو كان الغرض ذلك فلا ريب أنّه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلاّ للعقل لعدم ما يدلّ عليه من الكتاب والسنّة أو الإجماع ، فيتوقّف ثبوته على حكم العقل بالملازمة ، فحينئذ لو كان النزاع هنا مع قطع النّظر عن حكم العقل بالملازمة فهو كما ترى ، وإن كان معه فالبحث عنه يغني عن البحث في وجوب المقدّمة.

ولا الرابع ، ضرورة عدم اختصاص النزاع بالواجبات التي يكون الدال عليها الأوامر اللفظية وإن كان يوهمه ذكر بعضهم تلك المسألة في مباحث الأوامر كصاحب المعالم ، لكنه يدفعه أنّه ـ قدّس سرّه ـ لمّا لم يذكر في كتابه المبادئ الأحكامية ولا الأدلّة العقلية ، وكانت مباحث الأوامر أنسب حينئذ لأن تذكر فيها هذه ، حيث إنّ الغالب من الواجبات ما يثبت باللفظ ، فذكرها في طيّها لذلك كذكره مسألتي الأمر بالشيء واجتماع الأمر والنهي ، وأمّا غيره ممن تأخّر عنه من

__________________

(١) اعلم أنّ مرجع البحث في الأخيرين كليهما إلى وجه واحد ، وهو ثبوت الملازمة عقلا بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، والنزاع فيهما إنّما هو في ذلك ، إلاّ أنّ كون المقام من المبادئ الأحكامية أو الأصولية العقلية يدور مدار الغرض من البحث ، فإن كان الغرض توضيح حال الحكم الوجوبيّ فيدخل في المبادئ الأحكامية لتمهيده حينئذ لمعرفة بعض أقسام الحكم ، فهو متمهّد لمعرفة الحكم في الجملة ، وإن كان الغرض التوصّل به إلى معرفة الحكم الفرعي ـ وهو وجوب المقدّمة ـ فيدخل في المسائل الأصوليّة لصدقها عليه ، لكونه ممهّدا لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي. لمحرّره عفا الله عنه.

٢١٤

الذين ذكروها في مباحث الأوامر مع تعرّضهم للدلالة العقلية فهو إنّما لمجرّد التبعيّة له ـ قدّس سرّه ـ.

هذا ، مضافا إلى أنّه لم يستدلّ أحد من المثبتين على وجوب المقدّمة بظهور الأمر فيه لفظا وإن وقع إنكار الدلالات الثلاث في كلام بعض المنكرين ، لكنّه بعد ظهور المراد لا بدّ من حمله على شدّة النكير.

وكيف كان فالظاهر ـ بل المقطوع به ـ أنّ النزاع في ثبوت الملازمة عقلا بين وجوب شيء وبين وجوب مقدّمته ، فتكون المسألة عقلية.

وحينئذ إن تعلّق الغرض بتوضيح الحكم الوجوبيّ بذكر بعض لوازمه فيناسب ذكرها في المبادئ الأحكامية ، وإلاّ ففي الأدلّة العقلية كما فعله بعضهم ، فتكون من المسائل الأصولية العقلية.

ومن هنا ظهر ضعف ما يظهر من سلطان المدقّقين (١) ـ قدّس سرّه ـ من كون النزاع في المقام لغويّا ، حيث قال ـ في ردّ استدلال المانعين من وجوب المقدّمة ، بأنّه لو كان الأمر مقتضيا له لامتنع التصريح بنفيه (٢) ـ :

( أقول : فيه نظر ، إذ صحّة التصريح بعدم وجوب المقدّمة لا ينافي ظهور وجوبها عند عدم التصريح ، إذ يجوز التصريح بخلاف ما هو الظاهر ، كما في القرائن الصّارفة في المجازات عن المعاني الحقيقية ، إذ الخصم لا يدّعي إلاّ ظهور وجوب المقدّمة عند إيجاب ذي المقدّمة مع عدم دليل وقرينة ، إلاّ أن يدّعي عدم الفرق بين التصريح وعدمه ، وهو في مرتبة المدّعى ، فتأمّل ). انتهى كلامه رفع مقامه.

وتوضيح الضعف : أنّ مراد المستدلّ بالامتناع والجواز إنّما هو الامتناع

__________________

(١) راجع حاشيته ( قده ) ـ على المعالم ـ المطبوعة في ذيل شرح معالم الدين للمولى محمد صالح المازندراني (ره) : ٢٨٢.

(٢) معالم الدين : ٦١.

٢١٥

والجواز العقليّان بمعنى الحسن والقبح ، يعني أنّه لو كان الأمر مقتضيا عقلا لوجوب المقدّمة ـ بمعنى ثبوت الملازمة بينه وبين وجوب ذيها ـ لقبح التصريح بخلافه ، وليس مراده نفي الظهور اللفظي حتى يتّجه عليه ما أورده ـ قدّس سرّه ـ بل المراد نفي الملازمة عقلا ، فيتّجه الاستدلال ، وينقلب الإشكال فافهم.

وكيف كان فالمتأمّل المنصف يجد الاستدلال المذكور كالصريح ـ بل صريحا (١) ـ في كون المدّعى نفي الملازمة عقلا وأنّ النزاع فيها.

نعم على تقدير القول بعدم الملازمة (٢) يمكن عقد بحث آخر في دلالة الأمر لفظا على وجوب المقدّمة إذا كان المثبت لوجوب ذيها الأمر اللفظي ، وأمّا على تقدير ثبوت الملازمة فلا فائدة في البحث عن الدلالة اللفظية أصلا.

ثمّ إنّه قد ظهر مما حقّقنا اندفاع ما قد يتوهّم من كون المسألة فرعية ، نظرا إلى كون المطلوب والنتيجة فيها نفس الحكم الشرعي الفرعي ، وهو وجوب المقدمة لا العقلية ، حيث إنّه لا بدّ فيها أن يكون المطلوب عبارة عن الدليل العقلي ، وهو الحكم العقلي الّذي ينتقل منه إلى الحكم الشرعي ، فتخرج المسألة عن الأدلّة العقلية.

وتوضيح الاندفاع : أنّ المطلوب في المقام ـ كما عرفت ـ ليس وجوب

__________________

(١) في الأصل : ( بل الصريح .. ). ، وما أثبتناه هو الصحيح.

(٢) إذ حينئذ يمكن تحقّق الوجوب في الخارج على وجهين :

أحدهما ـ ما يراد معه وجوب المقدّمة أيضا.

وثانيهما ـ ما لا تعرّض معه لذلك ، فيكون الحال في المقام كما في المفاهيم ، حيث إنّه لا ريب أنّه لا ملازمة عقلا بين تعليق وجود شيء على وجود أمر وبين انتفاء الشيء الأوّل بانتفاء الثاني ، بل التعليق في الخارج يقع على وجهين : أحدهما ما يقصد به الانتفاء عند الانتفاء ، والآخر ما لا تعرّض له لذلك.

وكيف كان فالبحث اللفظي إنّما هو بعد الفراغ عن إمكان وقوع الشيء المبحوث عنه على كلا الوجهين في محلّ البحث ، وإلاّ فيلغى. لمحرّره عفا الله عنه.

٢١٦

المقدّمة وان كان يترتّب عليه ذلك ، بل إنّما هو مجرّد الملازمة عقلا بين وجوب شيء وبين وجوب مقدّمته.

وبعبارة أخرى : إنّ النزاع في أنّ العقل يستقلّ بالملازمة بينهما ، ويجزم بها ، أو لا؟ ولا ريب أن الحكم بالملازمة حكم عقلي ينتقل منه إلى الحكم الشرعي ، وهو وجوب المقدمة فبتعدّد الحكم فدخلت المسألة في الأدلّة العقلية. هذا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال كلّه في أنّهم بعد ما عرّفوا الدليل العقلي بما أشرنا إليه ـ أي الحكم العقلي الّذي ينتقل منه إلى الحكم الشرعي ـ قسّموا حكم العقل إلى المستقلّ وغير المستقلّ ، وجعلوا مسألة الحسن والقبح من الأوّل ، والالتزامات من الثاني ، بل بعضهم لمّا رأى ذكر بعض الأصول العملية في الأدلّة العقلية ، ورأى أنّ مفادها ليس إلاّ الحكم الظاهري زاد (١) قسما ثالثا ، فقال : حكم العقل : إمّا ظاهري ، وإمّا واقعي ، والثاني : إمّا أن يستقلّ به العقل ، وإمّا أن يحتاج إلى أمر آخر كخطاب من الشارع.

بيان الإشكال : أنا لا نرى حكم العقل في هذه الموارد من جهة الاستقلال الا كحكمه في مسألة الحسن والقبح.

توضيحه : أن في الموارد والأمثلة المذكورة للعقل المستقل أمورا ثلاثة :

الصغرى : وهو قولك ـ مشيرا إلى الفعل الخاصّ ـ : هذا مقدّمة للواجب.

والكبرى : وهي قولك : كل (٢) مقدمة للواجب واجبة شرعا.

والنتيجة : وهي أنّ هذا الفعل واجب شرعا ، ولا ريب أنه لا مدخل للعقل أصلا في بعض تلك الأمور كالأوّل ، ضرورة أنّ كون شيء مقدّمة للواجب حسي ، فلا سبيل للعقل إلى إحراز صفة التوقّف والمقدّمية ، وأمّا وجوب ذي المقدّمة ـ الّذي

__________________

(١) في الأصل : ( فزاد ) ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) أي يلزم من وجوب كلّ واجب وجوب كلّ ما هو مقدّمة له. لمحرّره عفا الله عنه.

٢١٧

هو الواجب ـ فكذلك أيضا ، بمعنى أنّه لا مدخل له فيه أيضا ، فإنّ وجوبه حكم شرعي موظّف من الشارع ، والحكم له مستقلاّ في بعضها كالثاني ، حيث إنّ الحاكم بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب كلّ ما [ هو ] مقدّمة له هو العقل لا غير ، ولا مرية أنّ حكمه بها لا يتوقّف على وجود واجب في الخارج شرعي أو غيره ، بل هو مستقلّ فيه ولو فرض امتناع حصول واجب وصدور خطاب من الشارع في الخارج.

وأمّا الثالث ـ أعني النتيجة ـ فلا ريب أنّ الحاكم به إنّما هو الحاكم بوجوب ذي المقدّمة ، فإنّك بعد إحراز كون الفعل الخاصّ مقدّمة لواجب ، وبعد الالتفات إلى حكم العقل بالملازمة بين إيجاب شيء وبين إيجاب مقدّمته ـ سواء كان الآمر هو الشارع أو غيره ـ تستنتج من هاتين المقدّمتين أنّ هذا الفعل واجب من قبل من أوجب ذا المقدّمة ، فإذا فرض كونه هو الشارع فيكون الحاكم في النتيجة هو الشارع ، أو غيره فهو ، وكيف كان ، فوجوب المقدّمة إنما هو من قبل من أوجب ذاها ، فإن كان وجوبه شرعيا فيكون وجوبها كذلك ، أو غيره فغيره ، ولا ريب أنّ الحاكم بوجوب ذي المقدّمة ـ في محطّ النّظر ومحلّ البحث ـ هو الشارع لا غير ، فتكون النتيجة ـ وهي وجوب الفعل الخاصّ ـ شرعية أيضا ، غاية الأمر أنّ استفادته تبعية ، فإن شئت سمّه بالوجوب الشرعي التبعي ، وأما تسميته بالعقلي التبعي فلا وجه لها ، فإنه وإن كان تبعيا إلاّ أنّه شرعي ـ كما عرفت ـ لا عقلي ، فيكون الحال في الأمر الثالث نظير الحال في الأوّل من جهة عدم مدخل للعقل في حكمه أصلا.

والحاصل : أنّ الحكم في الموارد الثلاثة كلها : إما شرعي مستقلّ ، أو تبعي (١) ، وإما عقلي مستقلّ ، وأمّا التبعي منه فقد عرفت انتفاءه.

__________________

(١) في الأصل : ( التبعي ) ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٢١٨

هذا توضيح الإشكال في مقدّمة الواجب ، ومثله الكلام في سائر الاستلزامات والمفاهيم أيضا بناء على أن لا يكون التلازم فيها لفظيا ـ أي لا يكون بيّنا بالمعنى الأخصّ ـ إذ عليه فحكم العقل بانتفاء الحكم المعلّق على شيء عند انتفاء ذلك الشيء حكم عقلي مستقلّ لا يحتاج إلى خطاب من الشارع ، فظهر بطلان تقسيم حكم العقل إلى غير المستقلّ.

ويتلوه في الضعف تقسيمه إلى الواقعي والظاهري.

وتوضيحه : أن في موارد الأصول العملية كالبراءة مثلا أيضا أمورا ثلاثة :

الصغرى : وهي أنّ هذا الشيء مشكوك الحكم.

والكبرى : وهي أنّ كلّ مشكوك الحكم يقبح العقاب عليه ، وأنه يلزم من كونه مشكوكا فيه كونه مباحا من قبل المكلّف ـ بالكسر ـ.

والنتيجة : وهي أن هذا الشيء يقبح العقاب عليه ، وأنه مباح من قبل المكلّف.

ولا ريب أنه لا مدخل للعقل في الأوّل أصلا ، فإنه إنما يحرز بالوجدان لا غير. وأما الثاني فلا ريب أنّ الحكم الّذي من قبل العقل هو الملازمة وقبح العقاب ، ولا ريب أنّ الملازمة أمر واقعي جدا ، وأن العقاب قبيح واقعا قطعا. وكيف كان فذلك حكم عقلي مستقلّ واقعي ، وأما كونه مباحا فليس من حكم العقل في شيء أصلا ، وإن كان مدركه العقل ، بل هو حكم شرعيّ ظاهريّ يكشف عنه العقل ، فما يكون ظاهريا ليس بعقليّ ، وما يكون عقليّا لم يكن ظاهريا ، كما أنّه لم يكن تبعيّا.

والحاصل : أنّ الّذي هو حكم العقل واقعي مستقلّ ، فإنّ إجراء البراءة في موارد جريانها إنّما هو لحكم العقل القطعي بقبح العقاب من دون تمام الحجّة ، بل تسميته حكما أيضا لا يخلو عن مسامحة إلاّ أن يعمّم الحكم إلى مطلق الإثبات والنفي ، وكذا في الاحتياط في موارد جريانه ، فإنّه أيضا لحكم العقل

٢١٩

المستقلّ بلزوم دفع الضرر المحتمل.

وأمّا أصالة الإباحة : فالمراد بها الإباحة الواقعيّة الشرعية ـ كما يظهر من بعض أدلّة النافين ـ فإنّ محلّ النزاع ثمّة في الأشياء المشتملة على المنفعة الخالية عن المفسدة ، فيبحث عن أنّ العقل هل يحكم بالإباحة من قبل الشارع واقعا ويدركه ، أو لا؟ فإدراك العقل واقعي وكذا مدركه.

ومن وجوه النافين وجود الحكم الشرعي على خلاف الإباحة في بعض أفراد محلّ النزاع ، فمعه لا يستقلّ العقل بذلك الحكم.

هذا ، ويمكن الذبّ عن الإشكال الأوّل ـ المتوجّه إلى تقسيم حكم العقل إلى الغير المستقلّ ـ : بأنّ الظاهر أنه

ليس المراد تقسيم حكم العقل نفسه ـ أي مدركه بالفتح ـ كما هو الظاهر من لفظ الحكم ، بل المراد تقسيم استنباط العقل للحكم ، وأنه تسامح في العبارة ، إذ لا ريب أنّ طريق الاستنباط في حكم العقل قد يكون بتمامه ـ صغرى وكبرى ـ عقليا ، وقد يكون ملفّقا منه ومن الشرعي بحيث لو لا ثبوت الصغرى أو الكبرى من الشرعي لم يكن العقل مدركا لما يدركه مع فرض الثبوت.

أو يقال : إنّ المراد تقسيم الحكم نفسه ، لكن باعتبار الاستنباط ، وهذا هو الأجود الّذي ينبغي أن يحمل عليه كلماتهم.

وعن الإشكال الثاني ـ المتوجّه إلى تقسيم بعضهم إيّاه إلى الظاهري ـ : بأن المراد تقسيم حكم العقل باعتبار ما ينتقل منه إليه من الحكم الشرعي. فافهم.

الثاني (١) : ينبغي التعرّض لمفردات كلامهم الواقع محلا للخلاف في المقام ـ وهو قولهم : مقدمة الواجب واجبة أو لا؟ ـ كي يرتفع الإجمال ، ويتّضح الحال في مقالهم من جهة معرفة محلّ الخلاف ، فنقول :

__________________

(١) أي ( الأمر الثاني ) على ما في هامش المخطوطة.

٢٢٠