تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

الخلاف ، إذ لا يخفى أنها قد تكون متّحدة مع ذيها بالذات ومغايرة له بالاعتبار ، كما في الصلوات إلى أربع جهات ، وكالجمع بين القصر والإتمام أو الظهر والجمعة عند إجمال المكلّف به.

ولقد قدّمنا لك سابقا في الكلام في دخول المقدّمات الداخلية في محلّ النزاع أو خروجها عنه : أنه إذا صارت المقدّمة حالها كذلك ـ كما في الأجزاء ، وكما في هذا القسم من المقدمة العلمية ـ فلا ثمرة في البحث فيها ، فلا تليق هي للنزاع.

ولذا ادّعى بعض الأساطين كالفاضل التوني (١) خروج القسم المذكور ـ من المقدمة العلمية ـ عن محلّ الخلاف معلّلا : بأنّ الإتيان بها عين الإتيان بالواجب ، فلا يعقل النزاع في وجوبها ، وعلّل أيضا : بكون وجوب ذلك القسم منصوصا عليه في بعض الأخبار.

لكن الظاهر منه ـ قدّس سرّه ـ بقرينة تعليله الثاني دعوى وجوبها الشرعي ، وقد عرفت ما فيه (٢) من أنّه يتوقّف على كون وجوب ذيها شرعيا ، وقد مرّ خلافه. وأيضا لا يخفى أنّ تعليله الثاني يخرجها عن محلّ النزاع ، إذ النزاع إنّما هو في الوجوب التبعي الحاصل من الأمر بذي المقدّمة ، وعلى ما ذكره من كونه منصوصا عليه يكون وجوبها أصليا ، فيدخل في الواجبات الشرعية ، ويخرج

__________________

(١) الوافية : ١٠٠ ـ ١٠١. والطبعة الجديدة : ٢٢١.

(٢) وأورد عليه بذلك الإيراد السيد صدر الدين الشارح للوافية (أ) على ما حكي عنه. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) شرح الوافية ـ مخطوط ـ.

٢٤١

عن مقدمة الواجب ، إذ حينئذ هي نفس الواجب. هذا تمام الكلام في لفظ المقدّمة الواقع في عنوان البحث.

واما الواجب فتعريفه لا حاجة لنا (١) إليه ، وإنّما المهمّ التعرّض لأقسامه ، فنقول :

قد ينقسم الواجب إلى مطلق ومشروط ويعبّر عن الثاني بالمقيّد أيضا ، ولا ريب أنه لم يثبت اصطلاح خاصّ منهم في خصوص الواجب المطلق والمقيد ، بل الحال فيهما كسائر المطلقات والمقيدات ، ولا مرية أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان. فقد يلاحظان بالنسبة إلى كلّ شيء بطريق الإيجاب الكلّي فيهما ، لكن لا شبهة في عدم تحقّق مصداق لهما على هذا التقدير في الخارج : أمّا المشروط بهذا المعنى فواضح ، وأما المطلق فكذلك أيضا ، ضرورة أنّه ما من واجب إلاّ وهو مشروط بالشرائط العامّة كالبلوغ والقدرة والعقل.

وقد يلاحظان أيضا بطريق عموم المتعلّق ، لكن بعد إخراج الشرائط العامّة ، فالمطلق ما لم يقيّد وجوبه بشيء سواها ، والمقيد بخلافه.

وقد يلاحظان بالنسبة إلى كلّ مقدّمة ، فيكون الواجب مطلقا بالنسبة إلى بعض المقدّمات ومقيّدا بالنسبة إلى الأخرى ، ولعلّ الأخير أجود.

وإلى الثاني ينظر من فسّر المطلق بما يجب في كلّ وقت وعلى كلّ حال في كلّ وقت قدّره الشارع إلاّ لمانع على ما يظهر منه كما لا يخفى.

__________________

(١) وإن شئت إجماله فنقول :

إنّه ما يكون تركه منشأ لاستحقاق العقاب في الجملة ، فيشمل الواجب التخييري والغيري أيضا ، لأنّ ترك الأوّل في صورة اجتماعه مع ترك الفرد الآخر موجب لاستحقاقه بلا شبهة ، والثاني موجب له مطلقا ، فإنّ تركه مستلزم لترك ذي المقدّمة الموجب له.

وكيف كان ، فيصدق على كلّ واحد منهما أنّه ما يكون تركه منشأ لما ذكر في الجملة ، وهذا أجود ما يعرّف به الواجب. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٤٢

قال التفتازاني في شرح الشرح (١) : ( قد فسّر الواجب المطلق بما يجب في كلّ وقت وعلى كلّ حال ، فنوقض بالصلاة ، فزيد : ( في كلّ وقت قدّره الشارع ) ، فنوقض بصلاة الحائض ، فزيد : ( إلاّ بمانع ). انتهى كلامه.

لكن الفاضل المذكور تبعا للعضدي حمله على الوجه الأخير ، فراجع كلامهما.

ثمّ إنّ الإطلاق والتقييد من الأوصاف ـ القائمة بالطلب الكامن في نفس الآمر ـ التي يعتبرها الآمر في طلبه ، وتسمية الواجب بالمطلق أو المقيّد باعتبار اتّصاف الطلب المتعلّق به بأحد هذين الاعتبارين في نفس الآمر فما لم يزل أحد هذين لم يختلف الاسم الّذي سمّي به الواجب بذلك الاعتبار.

فمن هنا ظهر فساد ما قد قيل : من أنّ الواجب المشروط يصير مطلقا عند حصول شرطه ، إذ بحصوله لا يزول ذلك الاعتبار الّذي حصل للطلب في نفس الآمر ، فهو الآن يصدق عليه أنّه ما علّق وجوبه على أمر ، وليس المشروط إلاّ هذا.

ثمّ إنّ الواجب هل هو حقيقة في المطلق خاصّة ، أو في الأعمّ منه ومن المشروط؟

الحقّ هو الثاني ، نظرا إلى أنه من المشتقّات ، وقد حقّقنا في محلّه أنّها حقيقة فيما تلبّس بالمبدإ حال النسبة ، وسواء كان المبدأ مطلقا أو مقيدا ، ولا ريب أنّ وجوب الحجّ المقيّد بقيد الاستطاعة ثابت فعلا لمن لم يستطع بعد ، فيكون الحجّ واجبا بهذا الوجوب المقيّد بذلك القيد. نعم ، لا يطلق عليه الآن أنه حقيقة واجب بقول مطلق ، لعدم اتصافه حينئذ بالمبدإ كذلك ، فيكون مجازا كما في سائر المشتقّات المطلقة على من لم يتلبّس بعد بمبادئها.

__________________

(١) شرح الشرح : ١ ـ ٢٤٤.

٢٤٣

ثمّ إنّ الوجوب المطلق والمشروط هل هما من أفراد المطلق والمقيّد المعروفين ، بأن يكون الأول كلّيا والثاني فردا منه ، أو لا؟

الحقّ هو الثاني ، لأنّ الظاهر أنّ هيئة الأمر ليست موضوعة للطلب بطريق عموم الموضوع له كما في المصادر وسائر أسماء الأجناس بل كان بطريق عموم الوضع وخصوص الموضوع له كما في المبهمات ، فيكون وضعها حرفيا ، فيكون معناه هي الطلبات الجزئية الموجودة في الخارج من الطالبين ، غاية الأمر أنّه لم يعتبر في وضعها خصوصية الطالبين وان كان المعنى الموجود لا ينفكّ عنها ، فيكون معنى الطلب المطلق هي الطلبات الجزئية الحقيقية الغير المقيّدة ، ومعنى الطلب المشروط هي الطلبات الجزئية الحقيقية المقيّدة بقيد الاشتراط ، أي الموجودة بتلك الخصوصية ، فيكون معناهما حقيقة من قبيل المتباينين. نعم ، هما نظير المطلق والمقيد ، حيث إنّ الأمر المطلق يفيد جزء من معنى الأمر المشروط ، وهو يفيد ذلك الجزء مع خصوصية زائدة بضميمة قيد الاشتراط ، فيكون إفادة الطلب المشروط بدالّين : أحدهما نفس الأمر الدّال على نفس الطلب ، والآخر هو قيد الاشتراط ، فيستفاد من مجموعهما الطلب المقيّد كما في موارد التقييد في المقيّدات.

وإذا عرفت ذلك كلّه فاعلم : أنّ النزاع في المقام ـ كما عرفت سابقا ـ في المقدّمات الوجودية دون الوجوبية ، لكن الكلام في أنه يعمّ جميع المقدّمات الوجودية حتى التي يتوقّف عليها وجود الواجب المشروط وجوبه بأمر آخر مع عدم حصول ذلك الأمر المعلّق عليه بعد ، أو يختصّ بالتي تنجّز وجوب ذيها إمّا لعدم اشتراطه بشيء أصلا ، أو معه مع حصول ذلك الشيء المعلّق عليه :

ذهب بعضهم إلى الثاني محتجّا : بأنّه لا يعقل وجوب المقدّمة قبل وجوب

٢٤٤

ذيها ، لأنه إنّما يجيء من جهته ، ويكون تابعا له ، وما لم يحصل المتبوع يستحيل وجود التابع له ، فلا يعقل النزاع في المقدّمات التي لم يجب ذوها بعد. هذا حاصل استدلاله.

وبشهادة عنوان البحث لذلك ، فإنّ لفظ الواجب ظاهر في المطلق إما بالوضع أو الانصراف ، مضافا إلى تصريح بعضهم بتقيّده بالمطلق وإن كان القيد غير محتاج إليه لكفاية ظهور لفظ الواجب في المطلق عند الإطلاق.

هذا ، لكنّ الحق إمكان جريان النزاع في ذلك القسم أيضا ، ويتّجه على ذلك البعض أنّ المستحيل إنما هو فعلية وجوب المقدمة قبل فعلية وجوب ذيها وأما وجوبها على نحو وجوب ذيها ـ إن مطلقا فمطلقا ، وإن مشروطا فمشروطا ـ فلا ، بل هذا هو الحقّ كما لا يخفى على المتأمّل.

هذا ما في الوجه الأوّل.

وأما الثاني ففيه : أنّ الظاهر أنّ إيراد لفظ الواجب المضاف إليه لفظ المقدّمة المتنازع فيها إنّما هو لإخراج المقدّمات الوجوبية ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ وأمّا تقييد بعض إياه بالمطلق ففي الاستشهاد به أيضا نظر ، لاحتمال أن يراد به المطلق بالمعنى الأخير من المعاني الثلاثة ، فيكون مراده أنّ النزاع في مقدّمة الواجب المطلق ، أي في مقدّمة وجودية للواجب لا يتوقّف وجوبه عليها ، ولعلّه الظاهر.

هذا ، ثمّ إنّه يرد على هذا البعض أنّ تقييده إيّاه بالمطلق ـ مع أنّه غير محتاج إليه ـ إن كان لإخراج المقدّمات الوجوبية فهي غير متوهّمة الدخول ، وإن جيء به لإخراج المقدّمات الوجودية للواجب المشروط ففيه ما عرفت من لزوم وجوبها في محلّ النزاع.

٢٤٥

الثالث (١) ـ قد ذكرنا أنّ الواجب حقيقة في المشروط أيضا بمعنى أنّه للأعمّ منه والمطلق (٢) ، لا للأخير فقط ، فاعلم أنّ صيغة الأمر أيضا بحسب الوضع حقيقة في ذلك القدر المشترك ، وهو مطلق الطلب ، وكذا ما يفيد معناها من الموادّ كمادّة الوجوب والأمر.

لكن الأمر عند الإطلاق ظاهر في الوجوب المطلق ، ولم يظهر في ذلك مخالف عدا السيّد (٣) ـ قدّس سرّه ـ على ما يظهر من كلامه ـ في بادئ الرّأي ـ من تعليله عدم الحكم بوجوب الشرط لورود الأمر في الشريعة على ضربين ، ولم يعلم كون الأمر الوارد المجرّد عن القرينة أنّه أيّهما بالنسبة إلى الشرط ، فيجب التوقّف لاحتمال كونه مشروطا بالنسبة إليه. هذا حاصل استدلاله.

وجه دلالته على ما قلنا : أنه لو كان قائلا بظهور الأمر في الإطلاق لما بقي لما ذكره وجه ، بل كان عليه أن يبني ويحكم على الإطلاق عند الشكّ ـ فيما إذا كان الوجوب بأمر لفظي ـ آخذا بأصالة الإطلاق كما فعل المشهور.

لكنّ الإنصاف : ما فهمه بعض المحقّقين من المتأخّرين (٤) من عبارته ـ قدّس سرّه ـ من أنّ مراده ـ قدّس سرّه ـ إنّما هو التوقّف في وجوب الشرط فيما إذا ثبت شرطيّته وتقيّد الأمر به في الجملة وشكّ في أنّه قيد وشرط للوجوب أو لذات الواجب وشرط لصحّته ، لا فيما إذا كان أصل الاشتراط مشكوكا حتى يخالف المشهور ، فحينئذ يوافق المشهور من جهة الحكم بالإطلاق في تلك الصورة سواء كان الشكّ في كون الشيء شرطا للوجوب أو

__________________

(١) أي الأمر الثالث.

(٢) الأصح : منه ومن المطلق ..

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة ـ انتشارات دانشگاه تهران ـ : ٨٣ ـ ٨٤.

(٤) وهو المحقّق التقي (ره) في هداية المسترشدين : ١٩٦.

٢٤٦

للوجود وذات الواجب أخذا بأصالة الإطلاق ، والتوقف في هذه الصورة المذكورة ، وهي ما علم فيها أصل الاشتراط في الجملة ، حيث أنّه لا أصل لفظيا سليما عن المعارض يقتضي إطلاق الأمر حينئذ له ، فان أصالة الإطلاق في هيئة الأمر وإن كانت تقتضي ذلك إلاّ أنّها معارضة بأصالة الإطلاق في المادّة المعروضة لها ، ضرورة أنّ الأمر المشكوك في كونه شرطا وقيدا للهيئة أو للمادّة لو لم يكن قيدا للهيئة لزم كونه قيدا للمادّة ، إذ المفروض دوران الأمر بين كونه قيدا لهذه أو لتلك ، ولم يعلم كونه قيدا للمادّة ، كما لم يعلم كونه قيدا للهيئة ، فتجري أصالة الإطلاق من جهة المادّة كما تجري من جهة الهيئة ، فتتعارضان ، ولا ترجيح لإحداهما على الأخرى.

نعم ، قد يتخيّل الترجيح لأصالة الإطلاق في الهيئة من وجهين :

أحدهما ـ أنه لو قلنا بتقييد الهيئة لا تفيدنا حينئذ أصالة الإطلاق في المادة في شيء أصلا ، ضرورة أنّ إطلاق المادّة لا يثبت وجوب الفعل في صورة فقد الشرط ، بل ولا جوازه أيضا ، حيث إنّ الجواز أيضا لا بدّ له من دليل ، ومجرّد إطلاق المادّة لا ينهض عليه ، والمفروض انحصار الدليل في الأمر ، والمفروض تقيّده بصورة تحقّق الشرط ، فلا دلالة له على شيء عند فقده ، فتعرى أصالة الإطلاق في المادّة عن الفائدة حينئذ بالمرّة.

هذا بخلاف ما لو قلنا بالعكس ، أي الحكم بتقييد المادة وكون الشرط شرطا لها ، فإنّ إطلاق الهيئة حينئذ يثبت وجوب ما يتوقّف عليه الواجب فعلا لكونه حينئذ مقدّمة للواجب المطلق ، فيحكم بأصالة الإطلاق فيها على وجوب كلّ ما يتوقّف عليه الواجب فعلا على سبيل التنجيز ، فيكون العكس المذكور أولى.

وثانيهما ـ أنّ مفاد الهيئة إنّما هو العموم الاستغراقي بالنسبة إلى صورتي حصول الشرط وعدمه بمعنى أنّها تقتضي وجوب الإتيان بالفعل

٢٤٧

الواجب على كلّ من تقديري حصوله وفقده ، ومفاد المادّة إنّما هو العموم البدلي ، حيث إنّ مقتضى تعليق الوجوب على الطبيعة المطلقة إنّما هو وجوب أيّ فرد على سبيل التخيير ، لا كلّ فرد ، وإذا دار الأمر بين هذين العمومين الأوّل أولى بالترجيح ، لكونه أقوى.

هذا ، وفي كلّ من الوجهين نظر بل منع :

أمّا الأوّل ـ فلعدم صلاحية أمثاله للاعتماد عليها فيما إذا كانت مباني الأحكام الشرعية ، لكونها مجرّد استحسان.

وأما الثاني ـ فلتوجّه المنع على الكبرى (١) فيما إذا كان العمومان المذكوران كلاهما لفظيّين كلفظي ( كلّ وأيّ ) ، فكيف بما إذا كانا من جهة الحكمة وعدم البيان كما في المقام كما لا يخفى؟!

وكيف كان ، فالتوجيه المذكور لكلام السيّد المتقدّم غير بعيد بل ظاهر ، وذلك لأنّه ـ قدّس سرّه ـ إنّما صار إلى ما حكينا عنه من التوقّف في وجوب الشرط بعد إحراز كون الشيء شرطا في الجملة ، ضرورة أنّه توقف في الشرط ، وهو لا يكون إلاّ بعد إحراز شرطيته في الجملة ، وإلاّ لما بقي وجه للتعبير عنه بلفظ الشرط.

هذا ، مضافا إلى أنّه يبعد التزام السيّد بعدم اعتبار أصالة الإطلاق في صورة الشكّ في أصل الشرطية غاية البعد ، بحيث كاد أن يقطع بعدمه لعدم حكاية أحد هذا القول من أحد ، فكيف يمكن نسبته إلى مثل السيّد ـ قدّس سرّه ـ؟!.

ثمّ إنّه لا بدّ من حمل كلامه ـ قدّس سرّه ـ على الشروط الشرعية دون الأعمّ منها و [ من ] العقلية ، فإنّ العقلية إن علم تقيّد وجود الواجب بها ويكون

__________________

(١) أي أولويّة العموم الاستغراقي من البدلي بالترجيح. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٤٨

الشكّ في تقيّد الوجوب بها أيضا شكّا بدويا ، فلا بدّ من الأخذ بإطلاق الأمر لا التوقّف ، والشاهد على ذلك هو الاستبعاد المذكور.

هذا ، لكن يتّجه على السيّد ـ قدّس سرّه ـ حينئذ أنّه لا وجه إذن لردّه على القوم بأنّهم حكموا بوجوب مقدّمة الواجب المطلق مطلقا ، فإنّ مراد القوم ـ كما مرت الإشارة إليه ـ من الحكم بما ذكر إنما هو في غير الصورة المشار إليها التي حملنا كلام السيّد عليها ، وأمّا فيها فهم أيضا متوقّفون كالسيّد ، فلا مخالفة لهم للسيّد في المذهب ، حيث إنّ السيّد ـ قدّس سرّه ـ أيضا يحكم بوجوب الشرط في غير الصورة المذكورة ، كما يحكم به القوم فكأنّه ـ قدّس سرّه ـ غفل عن مرادهم ، وفهم إطلاق كلامهم من الحكم بوجوب الشرط بالنسبة إلى الصورة المذكورة أيضا.

وكيف كان فعلى هذا يصير النزاع بينه وبين القوم لفظيا ، فافهم.

تنبيهات :

الأوّل : قد ذكرنا : أنّ الأمر حقيقة في المشروط كما أنه حقيقة في المطلق بمعنى أنه للقدر المشترك بينهما ، فيطلق على كلّ منهما من جهة أنه فرد منه.

وبعبارة أخرى : إنّ صيغة الأمر لما كان وضعها حرفيا فالموضوع له إنّما هي الجزئيات الخارجية الحقيقية لا محالة ، لكن نقول : إنّ الجزئيات الخارجية وإن كانت لا تنفكّ عن إحدى الخصوصيّتين ـ أعني الإطلاق والتقييد ـ لكنّها لم توضع لها بهاتين الخصوصيّتين ، بل للحصّة الموجودة من مطلق الطلب المتّحدة مع إحدى تينك الخصوصيّتين ، فيطلق على كلّ جزئيّ من جزئيات الطلب الموجود بإحدى تينك حقيقة من باب اتحاده [ مع ] الحصة (١) الموجودة في ضمنه التي هي

__________________

(١) في الأصل : .. للحصة.

٢٤٩

الموضوع [ له ](١) ، فيكون ذلك الإطلاق نظير إطلاق الكلّي على الفرد (٢) ، كما لا يخفى.

ثم إنّا وإن قلنا بكون الأمر حقيقة في المشروط أيضا إلاّ أنّه عند الإطلاق ظاهر حينئذ كما مرّ [ في ] الوجوب المطلق جدّاً ، فهل هذا من جهة عدم البيان ، فيحتاج إلى إحراز كون الخطاب في مقام بيان تمام المقصود ، أو أنه من جهة عدم ذكر القيد ، فيكون ظاهرا في الإطلاق من أوّل الأمر؟ وجهان : أوّلهما للثاني ، وثانيهما للأوّل :

أمّا الوجه الأوّل فبيانه : أنّه لا مرية أن الإطلاق والاشتراط إنّما هما من صفات الطلب ، والطلب ليس إلاّ البعث والتحريك ، وهو ليس إلاّ بلفظ الأمر ، فيكون الطلب هو لفظ الأمر المطلق بعنوان التحريك ، فيكون الإطلاق والاشتراط من صفات اللفظ. ولا ريب أنّ اللفظ الموجود في الخارج إما يذكر معه قيد فهو المشروط ، وإلاّ فهو المطلق ، فعلى هذا لا يعقل تحقّق طلب في الخارج يكون غير هذين ، فينحصر مصداق الطلب فيهما جدّاً.

فعلى هذا إذا ورد أمر غير مقيّد لفظه بشيء فهو متعيّن في المطلق ، فلا حاجة في حمله عليه إلى إحراز مقدّمات دليل الحكمة التي منها كون الخطاب واردا في مقام البيان كما هو الحال في المطلقات ، بل الخطاب ظاهر أوّل الأمر في المطلق من جهة عدم ذكر القيد.

__________________

(١) إضافة اقتضاها السياق.

(٢) وإنّما قلنا : نظير إطلاق الكلّي على الفرد ، ولم نقل منه ، لأنّ المستعمل فيه ثمّة إنما هو المفهوم الكلّي ، مع إفادة الخصوصية بدليل آخر ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنه فيه جزئي حقيقي. نعم ، يشتركان من جهة تعدّد الدالّ والمدلول فيهما ، حيث إنّ الخصوصية في كلا المقامين تستفاد من الخارج ، وهذا وجه كونه نظير إطلاق الكلّي على الفرد. فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٥٠

والحاصل : أنّ الطلب من مقولة الإيجاد ، ولا ريب أنّ إيجاد البعث والتحريك : إمّا مقيّد بشيء ، أو مجرّد : الأوّل هو المشروط ، والثاني هو المطلق ، وإنّما يتصوّر الشقّ الثالث ـ وهو القدر المشترك المجرّد عن الخصوصيّتين ـ في مقام الإخبار كما في المطلقات لجواز إظهار نفس الماهيّة المطلقة.

وأمّا في الإنشاء ـ الّذي هو من مقولة الإيجاد ـ فلا يعقل فيه ذلك ، لأن القدر المشترك لا يمكن حصوله في الخارج بدون إحدى الخصوصيّتين.

ثم لمّا كانت هاتان الخصوصيتان من قبيل الأقل والأكثر وأنّ فصل إحداهما عدم فصل الأخرى ، فبعدم التقييد يتعيّن الطلب في المطلق ، فيكون حمله عليه من جهة ظهوره فيه من باب عدم ذكر القيد. هذا حاصل الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني فبيانه : أنا نمنع انحصار فرد الطلب في الوجود الخارجي في المطلق والمشروط ، بل يمكن أن يوجد المتكلّم بالصيغة الأمر المبهم المردّد بينهما ، ويقصد به ذلك.

نعم ، الترديد لا يعقل في ضميره ، فإنّ الطلب الكامن فيه أحد الأمرين لا محالة ، وورود الأمر على هذا النحو فوق حدّ الإحصاء كما يظهر للمتتبّع في الأخبار ، فإن أوامر الشروط والأجزاء أكثرها مطلقة من حيث اللفظ مع القطع باشتراط تلك الأجزاء أو الشرائط بوجوب المركّب أو المشروط.

وكيف كان فالغرض في تلك الأوامر ليس إلاّ إبراز الطلب وإيجاده في الجملة. فعلى هذا فلا يمكن حمل كلّ أمر مطلق بمجرّد إطلاقه اللفظي على الوجوب المطلق من أوّل الأمر ، بل لا بدّ من إحراز كون الخطاب واردا في مقام البيان حتى يحمل إطلاقه على الإطلاق حقيقة ، وإلاّ فيمكن أن يكون من قبيل تلك الأوامر المشار إليها.

هذا ، ويمكن إدخال الأوامر المشار إليها في أحد الأمرين من المطلق والمشروط بالتزام إضمار فيها وجعل المضمر : إمّا قيدا للهيئة ، فتدخل تلك في

٢٥١

الأوامر المشروطة ، أو للمادّة فتدخل في المطلقة ، فإنّ الإضمار في قوّة الذّكر كما لا يخفى. فيقال في مثل قوله عليه السلام : ( إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ (١) ، وإن صلّيت فاقرأ الفاتحة ) (٢) مثلا : إنّ التقدير : إن بلت مع دخول وقت الصلاة واجتماع شرائط وجوبها فتوضّأ ، وهكذا في نظائره ، فتدخل في المشروط لكون القيد المقدّر حينئذ قيدا للهيئة كما لا يخفى.

أو أنّ التقدير : إن بلت فتوضّأ حال دخول الوقت ووجوب الصلاة ، وهكذا إلى آخر الشرائط ، فتدخل في المطلقة ، فإنّ الأمر حينئذ مطلق ، ويكون القيد المقدّر من قيود المادّة المأمور بها ، ومن ظروف امتثال الأمر.

هذا ، لكن يشكل التزام الإضمار بكلا وجهيه : بأنه إنّما يصحّ إذا كان الأمر واردا في مقام البيان من جهة الإطلاق والاشتراط ، وإلاّ لما [ كان ] وجه للتقدير الّذي هو في قوّة الذّكر ، ونحن نقطع بأنّ أمثال تلك الأوامر ليس المقصود منها إلاّ مجرّد بيان شرطية تلك الأمور أو جزئيتها في الجملة وليست في مقام بيان الإطلاق والاشتراط قطعا.

وبعبارة أخرى : إنّها في مقام بيان اعتبار تلك الأمور نفسها في الواجبات مع قطع النّظر عن الأمور الأخرى ، وبيان الإطلاق والاشتراط راجع إلى تعرّض حال الأمور الأخرى أيضا.

وكيف كان فالوجه غير بعيد ، وعليه يكون الحال في المقام كالحال في المطلقات من جهة توقّف الحكم بالإطلاق على إحراز كون الخطاب واردا في مقام البيان.

__________________

(١) هذه مضامين أحاديث مثل : ( ولا ينقض الوضوء إلاّ غائط أو بول أو ريح أو نوم ). الوسائل : ١ ـ ١٧٩ ـ أبواب نواقض الوضوء ـ باب : ٢ ـ ح : ٨ ، وكذا باقي أحاديث الباب.

(٢) هذا مضمون أحاديث راجع الوسائل : ٤ ـ ٧٣٢ ـ كتاب الصلاة ـ أبواب القراءة في الصلاة ـ باب : ١.

٢٥٢

نعم ، الفرق بين المقام وبين المطلقات أن الأمر المطلق إذا كان في مقام البيان إنما يحمل على أحد فردي طبيعة الطلب خاصة بخلاف المطلقات ، حيث إنّها تحمل حينئذ على العموم بالنسبة إلى جميع أفراد الطبيعة إمّا بدلا أو استغراقا على حسب اختلاف المقامات. فافهم.

الثاني (١) ـ قد أشرنا سابقا إلى أنّه يمتنع وجوب المقدّمة على سبيل التنجّز والفعليّة قبل وجوب ذيها كذلك ، فنقول :

إنّ الدليل على ذلك ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها ذاتا وصفة ، بمعنى أنّه إن لم يجب مطلقا لم يجب هي كذلك ، وإن وجب على وجه مخصوص فتجب هي حينئذ كذلك ، لأنّ وجوبها معلول من وجوبه ذاتا وصفة ، فلا يعقل وجوبها ـ ولو في الجملة ـ بدون وجوبه أصلا ، لأنّه ينافي توقّف وجوبها على وجوبه ذاتا ، وكذا لا يعقل وجوبها على صفة مخصوصة مخالفة لصفة وجوبه ، لأنه ينافي توقف صفة وجوبها على صفة وجوبه ، فلا يعقل وجوبها على سبيل الإطلاق والتنجّز ، مع كون وجوبه مشروطا لم يتنجّز بعد ، كما أنه لا يعقل وجوبها على نحو الاشتراط مع وجوبه على سبيل الإطلاق والتنجّز.

هذا بناء على القول بوجوب المقدّمة عقلا.

وأما على القول بعدمه فالحقّ ـ أيضا ـ امتناع وجوبها قبل وجوب ذيها ولو بخطاب أصلي مستقلّ ، فإنّ أصالة الخطاب لا تجدي في شيء أصلا ، ضرورة أنّ الأمر بالمقدّمة سواء كان من العقل أو بخطاب أصليّ من الشارع انما هو غيري البتة ، ولا يعقل الأمر الغيري بشيء قبل وجوب ذلك الغير ، ضرورة أنّ الدّاعي إلى الأمر الغيري إنّما هو الحبّ الحتمي بحصول ذلك الغير وعدم الرّضا بتركه ، فإذ ليس فليس.

__________________

(١) أي ( التنبيه الثاني ) على ما في هامش المخطوطة.

٢٥٣

وكيف كان فبعد إحراز كون شيء مقدّمة لآخر لا يعقل الطلب التنجيزي من الآمر بالنسبة إليه قبل طلبه لذيه كذلك ولو بخطاب أصليّ.

فعلى هذا فما يرى في بعض الموارد مما يكون كذلك على الظاهر لا بدّ (١) من تأويله إلى غير ذلك الوجه جدّاً.

وكيف كان فلم أظنّ بأحد القول بجواز ذلك بطريق الإيجاب الكلّي وان كان الوجه فيه وفي الجزئي واحدا ولا يقبل التخصيص والتفصيل.

نعم ، حكي عن جماعة ـ منهم صاحب الذخيرة (٢) والمحقّق الخوانساري (٣) ـ الجواز فيما إذا علم المكلّف أو ظنّ بوجوب ذي المقدّمة في وقته ، حيث زعموا أنّه لا مانع منه حينئذ.

ويدفعه : أنّ الواجب الغيري إنّما يجب لأجل وجوب نفس ذلك الغير ، لا لأجل العلم أو الظنّ بوجوبه في وقته ، والجواز المدّعى إنّما يتمّ على الثاني ، وهم لا يقولون به ، فكيف بغيرهم؟! وأمّا على الأوّل فقد عرفت امتناعه ، فبطل كون العلم أو الظنّ فارقا.

[ المقدمات المفوتة ]

ثمّ إنّه على ما حقّقنا يشكل الأمر في موارد (٤) وقعت في الشرع مما وجب فيها المقدّمة على سبيل الفعلية والتنجّز قبل وجوب ذيها كذلك على الظاهر :

__________________

(١) في الأصل : فلا بدّ فيه من تأويله.

(٢) ذخيرة المعاد : ٥٤.

(٣) مشارق الشموس : ٣٢.

(٤) ثمّ إنّ من تلك الموارد وجوب حفظ الماء للطهارة قبل مجيء وقت العبادة على المشهور ظاهرا. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٥٤

منها : وجوب تعلّم المسائل العملية قبل دخول وقت العبادات.

ومنها : وجوب إبقاء القدرة على إتيان الواجب إلى وقته.

ومنها : وجوب الغسل قبل الصبح على الصائم ، فإنّ الظاهر من الأدلّة (١) كون الوقت شرطا لوجوب العبادة في مثل الصلاة والصوم أيضا (٢).

ومنها : وجوب حفظ الماء للغسل أو الوضوء أو لإزالة الخبث قبل الوقت إذا علم بفقده بعده.

ولا ريب أنّ العلم بالمسألة والقدرة على العبادة والغسل من مقدّمات تلك العبادات ، فكيف التوفيق بين وجوبها قبل وجوب ذيها وبين ما حقّقنا؟ فقد وقع جمع من الأعلام في توجيه المرام والتوفيق في المقام في حيص وبيص.

ولقد تفصّى بعضهم عن الإشكال بدعوى كون وجوب تلك الأمور نفسيا لا غيريّا.

ويتّجه عليه : أنّ الوجوب النفسيّ لا يمكن ثبوته لتلك بالأوامر المتعلّقة بنفس العبادات كما لا يخفى ، بل لا بدّ له من أمر آخر ولا يخفى عدمه.

اللهم إلاّ أن يدّعي الإجماع على وجوبها كما هو الظاهر.

لكن يتّجه عليه حينئذ : أنّا نقطع أنّ مناط حكم المجمعين بوجوبها إنّما هو كونها مقدّمات لتلك الواجبات.

سلّمنا ، لكن يتّجه عليه على تقدير الوجوب النفسيّ : أنّه يلزم أن يكون

__________________

(١) كقوله عليه السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (أ) لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) قولنا : ( أيضا ) إشارة إلى أنّ المستفاد من الأدلّة كون الوقت شرطا للوجوب والصحّة معا ، لكن الغرض في المقام التعرّض للأوّل. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) من لا يحضره الفقيه : ١ ـ ٢٢ ـ باب وقت وجوب الطهور ـ ح : ١. وتتمته : « ولا صلاة إلاّ بطهور ».

٢٥٥

العقاب على ترك تلك الأمور لنفسها ولأجلها ، كما هو الشأن في سائر الواجبات النفسيّة ، وهو خلاف الاتفاق في المقام ظاهرا.

اللهمّ إلاّ أن يمنع الاتّفاق على ذلك ، ويقال : إن الواجب النفسيّ هو ما يعاقب على مخالفة الأمر المتعلّق به سواء كان الحكمة في تعلّق الأمر به هو المصلحة الكامنة في نفسه أو مصلحة أخرى ، ككون المكلّف أهلا وقابلا للتكليف بتلك الواجبات ، ضرورة أنّه لو لم يحصل تلك الأمور إلى وقت تلك الواجبات لا يقدر على تلك الواجبات على ما هي عليه عند الشارع لتوقّفها على تلك الأمور المتعذّرة عليه.

ويفترق الثاني عن الواجب الغيري بكون العقاب على نفس ذلك ، بخلاف الواجب الغيري فإنّ العقاب فيه إنّما هو لأجل مخالفة الأمر المتعلّق بذلك الغير ، فيقال حينئذ : إنّ ما نحن فيه وإن لم يكن من القسم الأوّل من ذينك ، إلاّ أنّه من القسم الثاني ، فيدخل في الواجب النفسيّ ، فتأمّل.

ومن هنا يندفع ما ربما يقال : من أنّه على تقدير كونها واجبات نفسية يلزم ان يكون تلك العبادات صحيحة بدونها لخروجها حينئذ عن المقدّمة وهو خلاف الضرورة.

وتوضيح الدفع : أنه لا منافاة بين المقدمية والوجوب النفسيّ ، فإنّ الوجوب النفسيّ ليس لأجل الأمر بذيها ، بل هو لأمر آخر.

هذا ، وقد تفصّى بعضهم (١) عن الإشكال بدعوى إطلاق وجوب تلك الواجبات التي تلك الأمور مقدّمات لها بالنسبة إلى وقت الفعل ، فيكون وجوب تلك الأمور قبل الوقت على طبق القاعدة لكونها حينئذ مقدّمات للواجب المطلق بتقريب :

__________________

(١) وهو صاحب الفصول (ره) : آخر صفحة : ٧٩.

٢٥٦

أنّ الواجب : إما يكون وجوبه مشروطا بحصول (١) شيء آخر ، أو لا : الأوّل هو المشروط الّذي لا يجب مقدّماته على سبيل التنجّز إلاّ بعد حصول شرط الوجوب ، والثاني هو المطلق ، وهو على قسمين :

أحدهما ـ ما يكون وقت فعله متّحدا مع زمان الأمر به ، وهو المطلق بالمعنى الأخصّ.

وثانيهما ـ ما يكون وقت فعله متأخّرا عن زمان الأمر ، بحيث يكون الطلب حاصلا الآن بالنسبة إليه إلاّ أنّ الوقت الخاصّ المتأخّر ظرف لأدائه وشرط لصحّته ، ويقال له المعلّق.

وكيف كان ، فالمعلّق قسم من المطلق الّذي يجب فيه تحصيل المقدّمات بمجرّد ورود الأمر به ، وما نحن فيه من هذا الباب فإنّ الوقت المعتبر فيه إنّما هو قيد للواجب لا الوجوب. هذا حاصل مراد ذلك البعض.

ووجه إحداثه هذا القسم : إنّما هو دعوى الفرق بين قول القائل : صم غدا ، وصم إن جاء الغد ، حيث يفهم من الأوّل كون الغد قيدا للصوم المأمور به دون الهيئة ، ومن الثاني عكس ذلك ، فيدخل الأوّل في المطلق ، والثاني هو المشروط ، ويعبّر عن الأوّل بالمعلّق.

ويمكن دفع ما ذكره : بأنّ اختلاف معنيي العبارتين إنّما يجدي إذا كان راجعا إلى اللبّ ، بأن يكون للمتكلّم عند التعبير بإحداهما حالة نفسانية مغايرة في الواقع للتي له عند التعبير بالأخرى ، وأما إذا كان الاختلاف راجعا إلى الوجوه والاعتبار مع اتحاد المعنيين بحسب اللبّ فلا.

ونحن ندّعي الثاني لوجوه :

__________________

(١) في الأصل : على حصول ..

٢٥٧

الأوّل : أنّا إذا راجعنا وجداننا لا نجد فرقا بحسب اللبّ بين تينك العبارتين ، وهما قولنا : ( صم غدا ) ، أو ( صم إن جاء الغد ) ، فإنّا لا ننكر أنّ لكلّ منهما مفهوما مغايرا لمفهوم الآخر ، إلاّ أنّا نجد أنّ تغايرهما إنّما هو راجع إلى مجرّد الاعتبار واللحاظ ، بمعنى أنّه لم يكن كلّ منهما منتزعا عن لبّ غير ما ينتزع عنه الآخر بأن يكون للمتكلّم عند التعبير بإحداهما حالة كامنة في نفسه غير الحالة التي تكون في نفسه عند التعبير بالأخرى ، بل نجد من أنفسنا اتّحاد الحالة فيها (١) جدّاً إلاّ أنّ التعبير بكلّ واحدة منهما مبنيّ على اعتبار مغاير لما ابتنى عليه التعبير بالأخرى ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى كونهما عبارتين عن مطلب واحد ، نظير لفظ الراكب ـ مثلا ـ حيث إنّه قد يجعل حالا ، كما في قولك : جاء زيد راكبا ، وقد يجعل صفة ، كما في قولك : جاء زيد الراكب ، وقد يجعل خبرا ، كما في قولك : زيد راكب ، وقد يجعل مبتدأ ، كما في قولك : الراكب زيد ، حيث إنه لا ريب أنّ هيئة الركوب الواقعة في الخارج الثابتة لزيد إنّما هي حالة وحدانية وقعت على نهج خاصّ بحيث لا يختلف باختلاف العبارات المعبّر بها عنها ، بل إنما هي عبارات عن مطلب واحد ، إلاّ أنّ كلاّ منها مبنيّ على اعتبار خاصّ فإنّ الملحوظ فيه ـ في المثال الأوّل ـ إنّما هو بيان هيئة الفاعل ، وفي الثاني إنّما هو توضيحه ، وهكذا.

وكيف كان ، فإذا اتّحد اللبّ فلا يجدي اختلاف العبارات والاعتبارات في شيء ، فإنّ وجوب المقدّمة إنّما هو حكم عقلي تابع للمعنى الواقعي ، وهو وجوب ذيها ، وكونه مطلوبا في نفس المتكلّم ، وليس يدور مدار العبارات ، فيكون تابعا لإحداها دون الأخرى.

وبالجملة : فإن شئت توضيح ما ذكرنا فافرض مقاما ثبت الطلب فيه من دون كاشف لفظي ، بل باللبّ ، فانظر حينئذ ، فهل تجد ثبوت وجوب شيء في

__________________

(١) الأنسب ان تكون ( فيهما ).

٢٥٨

زمان بهذين الطريقين؟ حاشا.

فإن قلت : المتّبع هو عنوان الأدلّة ، إذ به يحصل الإفادة والاستفادة ، واختلاف العناوين في المقام كاف في اختلاف الحكمين كما في المطلق والمشروط.

قلت : قد عرفت أنّ وجوب المقدّمة تابع لما هو واقع الطلب بحسب اللبّ ، لكونه حكما عقليا ، لا لما يظهر من اللفظ في بادي النّظر ، وبعد تسليم اتّحاده لا وجه لاختلاف لوازمه.

وقياس ذلك بالمطلق والمشروط يبطله الفارق بين المقامين ، وهو تحقّق الاثنينية في المعنى بحسب اللبّ والواقع ثمّة ، بخلاف المقام.

وبعد ثبوت التعدّد نحن نستكشف المعنيين من اللفظ المناسب لهما ، لا أنّا نحمل اختلاف اللفظ دليلا على اختلاف المعنى.

الثاني ـ أنّ الطالب إذا تصوّر الفعل المطلوب والتفت إليه فإمّا أن تكون المصلحة الداعية إلى طلبه موجودة فيه على تقدير وجوده في زمان خاصّ فقط ، بحيث لا تحصل هي على تقدير خلافه ، أو تكون المصلحة تحصل فيه في خلاف ذلك الزمان أيضا.

فعلى الأوّل لا بدّ من أن يتعلّق الأمر بذلك الفعل على الوجه الّذي يشتمل على المصلحة ، بأن يكون المأمور به هو الفعل المقيّد بحصوله في ذلك الزمان.

وعلى الثاني لا بدّ من تعلّق الأمر بالفعل على سبيل الإطلاق من غير تقييده بزمان خاصّ ، ولا يعقل هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني [ فيه ] راجعا إلى نفس الطلب دون المطلوب.

هذا بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. ويمكن إتمام الجواب على المذهب الآخر أيضا : بأنّ العاقل إذا توجّه إلى أمر والتفت إليه فإمّا أن يتعلّق طلبه بذلك الشيء ، أو لا ، لا كلام على الثاني.

٢٥٩

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون ذلك الأمر موردا لأمره وطلبه مطلقا ، أو على تقدير خاصّ ، وذلك التقدير الخاصّ قد يكون من الأمور الاختيارية للمكلّف كما في قولك : إن دخلت الدار فافعل كذا ، وقد يكون من الأمور الاضطرارية كالزمان ونحوه. لا إشكال فيما إذا كان مطلوبا مطلقا.

وأمّا إذا كان مقيّدا بتقدير خاصّ : فإن كان ذلك التقدير من الأمور الاختيارية للمكلف فيعقل فيه الوجهان من رجوع القيد تارة إلى المطلوب ، وأخرى إلى الطلب ، حيث إن الطلب قد يتعلّق بالفعل والقيد كليهما معا بحيث يكون متعلّقه هو المجموع منهما ، فحينئذ يصير الواجب مطلقا ، فيجب تحصيل الخصوصية ، وهي القيد ، وقد يتعلق بالفعل على تقدير حصول القيد وصدوره من المكلف ، فيكون مشروطا ، فلا يجب فيه تحصيل الخصوصية ، فيكون مرجع القيد في الأوّل إلى المطلوب وفي الثاني إلى الطلب.

وأمّا إن كان من الأمور الاضطرارية فلا يعقل فيه الوجهان ، ضرورة أنه لا يمكن تعلّق الطلب بتلك الخصوصية أيضا حتى يتصور فيه القسم الأوّل من الفرض ، بل يتوقّف تعلّقه على حصول تلك الخصوصية ، فيكون مشروطا لا غير. وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.

وكيف كان ، فرجوع القيد تارة إلى الفعل ، وأخرى إلى الطلب ، والحكم بحسب القواعد العربية مما لا يجدي نفعا بعد اتّحاد المناط في هذه المسألة العقلية.

وحاصل هذا الوجه : إنكار الواجب المشروط بالنسبة إلى الأمور الاضطرارية التي منها الزمان.

الثالث ـ أنّه لا يتعقّل رجوع القيد إلى الطلب لأنّه ليس إلاّ البعث والتحريك باللفظ ، وهو حاصل في المطلق والمشروط كليهما من أوّل الأمر ، ولا يعقل التعليق فيه ، لأنّه من تعليق الشيء بعد وجوده ، فلا بدّ من إرجاعه إلى المطلوب فيما يكون الظاهر من الدليل اللفظي رجوعه إلى الطلب.

٢٦٠