تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

على وجه يعمّ جميع أفراده الأزمانيّة وغيرها يكون (١) الترك ـ أيضا ـ كذلك ، فيكون المراد بالنهي المنع من ترك الفعل بجميع أفراده زمانية وغير زمانية ، وإن اعتبر في جانب الأمر على وجه يتحقّق امتثال الأمر المتعلّق به بإيجاد فرد واحد منه فيكون الترك ـ أيضا ـ كذلك ، والأمر بالشيء إنّما يستلزم النهي عن تركه على وجه امر به لا مطلقا ، فإنّ إيجادات شيء إنّما تقتضي نفي نفي ذلك الشيء على وجه اعتبر في الإيجادات ، وهذا معنى ما يقال ـ في دفع التمسّك بأنّ النهي للدوام ، فيكون الأمر كذلك ـ من أنّ النهي الّذي للدوام هو النهي المستقلّ لا الضمني ، فإنّه تابع للأمر.

وكيف كان فالظاهر المتبادر عرفا من النهي إنّما هو عموم الترك بالنسبة إلى أفراد الطبيعة المنهيّ عنها مطلقا زمانية وغير زمانية ، وقد عرفت أنّ ذلك ليس من جهة اقتضاء الصيغة وظهورها في ذلك ، فحينئذ هل هو من وضع المادّة ـ بمعنى أنّها موضوعة للطبيعة على الوجه الأوّل ـ أو من جهة شاهد خارجي وقرينة عامّة لازمة للفظ في جميع الموارد على اعتبار الطبيعة على الوجه الأوّل ـ بمعنى أنّ معنى المادّة ليس إلاّ نفس حقيقة الفعل بنحو ما عرفت ـ فلا يستلزم النهي عن الطبيعة على هذا الوجه العموم المذكور ، وإنّما قامت قرينة من الخارج على اعتبار زائد في معنى المادّة واعتبارها على الوجه الأوّل ، فيفهم الاستلزام حينئذ لذلك؟

الظاهر في بادي الرّأي هو الثاني ، فإنّ الظاهر أنّ مصادر الأفعال وضعت ـ مجرّدة عن اللواحق والطوارئ اللفظية ـ لحقائق الأفعال على الوجه الّذي عرفت ، كما أنّ الظاهر في جميع أسماء الأجناس ذلك ، فإنّها ـ أيضا ـ موضوعة كذلك لحقائق معاينها على الوجه المذكور ، فهل اللفظ في المصادر وغيرها من

__________________

(١) في الأصل : فيكون ...

١٠١

أسماء الأجناس في نظر الواضح كنفس المعنى ، لم يلحظ فيه شيء من الطوارئ واللواحق ، وإنّما الملحوظ نفس اللفظ وذاته بحيث لا ينافي وضعه اعتبار قيد زائد فيه من القيود كنفس المعنى وبأيّ وجه اعتبر معناه من الإطلاق والتقييد بشيء أو بعدم شيء ، فلا يتفاوت الحال فيه بالنظر إلى وضعه ، بل على أيّ وجه وتقدير يكون استعماله على وجه الحقيقة لصدق معناه على كلّ من الوجوه كما عرفت ، فلذا نقول ـ وفاقا لبعض المحقّقين (١) ـ :

إنّ استعمال المطلقات في المقيّدات حقيقة ، فإنّها نفس المطلقات.

فعلى هذا فبالنظر إلى وضع الموادّ فالحقّ مع من يقول : إنّ النهي كالأمر في عدم دلالته إلاّ على طلب ترك الطبيعة من دون إفادة الدوام ، لعدم استلزام توجّه النفي إلى الموادّ ـ حينئذ ـ نفي جميع أفرادها ، بل يصدق قولنا ـ حينئذ إذا تحقّق بعض من أفراد الضرب مثلا مع انتفاء الآخر ـ : إنّ الضرب موجود ومعدوم بمقتضى القياس الّذي عرفت ، فطلب تركه لا يستلزم طلب ترك جميع أفراده الغير الزمانية ، فضلا عن استلزامه لطلب ترك الزمانيّة منها الّذي هو معنى الدوام والتكرار.

لا يقال : إنّ حقيقة الشيء في نفسها وحدانية وان لم تلحظ وحدانية ، فما لم يلحظ التكثّر فيها لا يصحّ جعلها موضوعة للقضيتين المتناقضتين.

لأنّا نقول : إنّها لو كانت وحدانية لكان اعتبار التكثّر فيها منافيا لها ، وهو باطل ، لصدقها على الكثير بمثل صدقها على الواحد ، فيكشف ذلك عن عدم اعتبار الوحدانية فيها ـ أيضا ـ وأنّها كسائر الطوارئ تطرأ عليها ، لا أنّها مأخوذة فيها شطرا أو شرطا ، فتأمّل.

__________________

(١) كما هو ظاهر القوانين : ١ ـ ٣٢٩.

١٠٢

ثم إنّه قال بعض المحقّقين عن المتأخّرين (١) ـ بعد اختياره القول بعدم إفادة النهي التكرار ـ :

( ثمّ إنّ ما ذكرنا من حصول الامتثال بترك الطبيعة في الجملة إنّما هو بالنسبة إلى الزمان والأفراد المتعاقبة بحسب تماديه ، وأمّا الأفراد المتمايزة بسائر المشخّصات فكلاّ ، فمن (٢) ترك الزنا بامرأة معيّنة وارتكب الزنا مع الأخرى فلا يحصل له الامتثال حينئذ لأجل ذلك الترك ، فإنّ الطبيعة لم تترك حينئذ ، مع أنّ الامتثال بالترك الآخر حينئذ محال لعدم المقدورية ، لأنّ المقدور ما يتساوى طرفاه ، فكما لا يمكن تحصيل زناءين في آن واحد لا يمكن ترك أحدهما في آن ارتكاب الآخر.

وبالجملة : فلا بدّ من ترك الطبيعة رأسا في آن من الأوان ليتحقّق الامتثال ، ولا يحصل إلاّ بترك جميع الأفراد ). انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الضعف لمن تأمّل ما قدّمنا ، وتوضيحه :

أنّه إمّا أن يجعل الطبيعة المتعلّقة للنهي مأخوذة على الوجه الأوّل ، وإمّا أن يجعلها مأخوذة على الوجه الثاني ، فعلى الأوّل فهو وإن كان مستلزما للعموم بالنسبة إلى الأفراد الغير المتشخّصة بالزمان ، إلاّ أنّه مستلزم للزمانية منها ـ أيضا ـ فيلزمه القول بالدوام مع أنّه ـ قدّس سرّه ـ لا يقول به ولا باعتبارها على ذلك الوجه ـ أيضا ـ كما هو الظاهر ، وعلى الثاني ـ كما هو الظاهر من كلامه بل الصريح ـ فقد عرفت أنّه لا يقتضي العموم بالنسبة إلى الأفراد مطلقا من غير فرق بين الزمانية منها وغيرها.

وكيف كان ، فقد علمت أنّه لا فرق بين الأفراد الزمانية وغيرها بوجه

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ ـ ١٣٩.

(٢) في الأصل : ( فلا ، كمن .. ). ، وقد أثبتنا العبارة كما في المصدر.

١٠٣

من جهة العموم وعدمه ، فإن يبني على الوجه الأوّل فالعموم ثابت مطلقا ، أو على الثاني فهو منفيّ مطلقا من غير فرق أصلا ، فظهر ضعف تعليله بقوله : ( فإنّ الطبيعة لم تترك حينئذ ) ، لما عرفت من أنّه إذا يبني على الوجه الثاني فترك الطبيعة صادق بترك بعض أفرادها وإن كان مع وجود بعض آخر.

ثم إنّ قوله : ( مع أنّ الامتثال بالترك الآخر ـ حينئذ ـ محال ) أضعف من الوجه الأوّل :

أمّا أوّلا ـ فلأنّ الأفعال المنهيّ عنها لم تنحصر في الزنا الّذي لا يمكن ارتكاب فردين منه في آن واحد ، بل في غاية الكثرة ، وأكثرها ممّا يمكن فيه ذلك ، كأكل مال الغير ، وقتل الغير ، وسرقة مال الغير ، وضرب الغير ، وشتمه ، ولعنه إلى غير ذلك ممّا يكاد أن لا يحصى ، لإمكان قتل شخصين في آن واحد ، فيتحقّق قتلان ، وأكل مال اثنين ، وسرقته ، فيتحقّق تصرّفان في مال الغير وسرقتان ، فكأنّه ـ قدّس سرّه ـ قصر النّظر في (١) مثل الزنا.

وأمّا ثانيا ـ فلأنّ الاشتغال بضدّ الشيء لا يخرج ذلك الشيء عن تحت القدرة ، بل هي باقية عليه ، نعم الاشتغال بالضدّ مانع فعلا عن الاشتغال بالشيء ، وليس هذا من معنى انتفاء القدرة ، فافهم.

فلنرجع إلى ما كنّا في صدده فنقول : أمّا الشاهد على اعتبار الطبيعة المتعلّقة للنهي على الوجه الأوّل فيقرّر على وجهين :

أوجههما : أنّه لو كان المعتبر في النهي الطبيعة بحيث يصدق تركها بترك بعض الأفراد يلزم عدم الفائدة في النهي لحصول تركها باعتبار بعض أفرادها لا محالة ، فيكشف ذلك [ عن ] أنّ المعتبر هي بعنوان الإطلاق والوحدانية الّذي يلزمه انتفاء جميع الأفراد.

__________________

(١) الصحيح : على.

١٠٤

ودفع اللغوية : بأنّ الترك ـ باعتبار ترك بعض الأفراد ـ إنّما يقع لا على وجه التعبّد ، فيمكن اعتبار الطبيعة المنهيّ عنها على الوجه المذكور ، ليكون تركها المتحقّق بترك بعض الأفراد عبادة.

مدفوع : بأنّ الكلام في النهي المطلق ، لا فيما علم كونه تعبّديا.

نعم الّذي ذكرنا من الوجه لا يتمّ في بعض الموارد ، وهو ما إذا كان الفعل المنهيّ له استمرار وبقاء ، فلا مدفع حينئذ عن التزام حصول الامتثال ـ نظرا إلى ظاهر المادّة ـ بترك بعض الأفراد وبعض الأزمان.

وثانيهما : إثبات عموم النهي بدليل الحكمة.

وفيه : أنّه على تقدير تماميّته لا يجعل اللفظ ظاهرا فيه ، فعلى هذا لو جاء دليل من الخارج دالّ على خروج بعض الأفراد لارتفع (١) به موضوع ذلك الدليل ، ولا يعقل المعارضة بينه وبين ذلك العموم المستفاد من دليل الحكمة ، مع أنّا نعلم أنّ النهي ظاهر في العموم بحيث يعارض ما دلّ على التخصيص والتقييد.

هذا كلّه بالنظر إلى بادئ الرّأي.

لكن التحقيق : أنّ تعليق النفي الّذي منه النهي على الطبيعة من حيث هي ـ بمعنى عدم ملاحظة شيء معها ـ يدلّ التزاما عقلا على نفي جميع أفرادها ، ولا حاجة إلى ملاحظة إطلاق الطبيعة ووحدتها ، بل يكفي ملاحظة نفس الطبيعة (٢) مع قطع النّظر عن كلّ القيود الطارئة عليها ، كما أنّ تعليق الإيجاب على النحو المذكور لا يستلزم إلاّ إيجاب فرد واحد بمعنى أنّ الّذي يتوقّف عليه صدق وجود الطبيعة عقلا ليس أزيد من ذلك.

وتوضيح ذلك : أنّ اعتبار الطبيعة وأخذها ـ سواء في مقام الوضع أو

__________________

(١) ويسمّى الطبيعة بهذا الاعتبار باللابشرط. لمحرّره [ عفا الله عنه ].

(٢) في الأصل : فيرتفع ...

١٠٥

الاستعمال ـ ينحصر عقلا في ثلاثة أقسام :

فإنّ المعتبر إيّاها يجعلها موضوعا لحكم ومحمول إيجابي أو سلبي ، فهو إمّا أن يأخذ [ ها ] نفسها موضوعا لذلك الحكم مع قطع النّظر عن كلّ القيود والطوارئ عليها حتى تقيّدها بالإطلاق والوحدة ـ بمعنى أنّه لا يلاحظ إلاّ نفس الطبيعة ـ ، أولا ، وعلى الثاني : إمّا ان يكون الملحوظ معها وجود أمر ، وإمّا أن يكون عدمه ، فيعبّر عنها بالاعتبار الأوّل بالطبيعة اللابشرط ، وبالاعتبار الثاني بها بشرط شيء ، وبالثالث بها بشرط لا.

واعتبارها بملاحظة كونها مطلقة ومتحدة داخل في الثاني ، كما أنّ التحقيق : أنّ اعتبارها على وجه يصدق فيها السلب والإيجاب الجزئيان داخل فيه أيضا ، إذ لا يخفى على المتأمّل أنّه لو لا اعتبار القيود وتقيّدها بها [ لم ] يصحّ (١) صدق السالبة والموجبة الجزئيّتين فيها عقلا ، ويكون الحال فيها كالحال في الجزئي الحقيقي في القضايا الشخصية ، إذ لو كان المأخوذ والملحوظ هي نفس الطبيعة لا بذلك الشرط فهي وحدانية يتوقّف صدق الترك والانتفاء إذن عقلا على ترك وانتفاء جميع أفرادها ـ كما سيجيء توضيحه ـ فيناقض الموجبة الجزئية ، وصفة الاتّحاد قد تحصل لها بملاحظة تقيّدها بها ، وقد تحصل بعدم ملاحظة غيرها معه ، وإذا كانت هي متّحدة فالمصحّح لصدق انتفائها عقلا إنّما هو انتفاء جميع الأفراد ، كما أنّ المصحّح لصدق وجودها عقلا إنّما هو وجود فرد واحد منها بحيث لا حاجة إلى أزيد منه.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرت بملاحظة تقيّدها بالقيود من حيث الأزمنة والأمكنة والحالات والأفراد ، لصدق الانتفاء حينئذ بانتفائها بملاحظة بعض القيود وصدق وجودها بملاحظة وجود بعضها.

__________________

(١) في الأصل : لا يصحّ ...

١٠٦

والسرّ فيه : اختلاف موضوع القضية الموجبة والسالبة الجزئيّتين وتعدّده بتعدّد القيود ، فيقال : إنّ الضرب موجود في يوم الجمعة ومعدوم في السبت ، أو موجود باعتبار هذا الفرد منه وهو الضعيف ومعدوم باعتبار فرد آخر منه ، وهو الضرب الشديد ، وهكذا ، فيكون الموضوع في كلّ واحدة من القضيتين غيره في الأخرى ، فإنّ القيود الواردة على الطبيعة الواحدة مكثّرة لها من حيث الموضوعية للحكم.

هذا ، وأمّا [ من ] حيث كونها مقسما للاعتبارات الثلاثة ـ الّذي يعبّر بملاحظته عن الطبيعة بمطلق الطبيعة وباللابشرط المقسمي أيضا ـ فهو ليس من اعتباراتها ، وإلاّ لزم أن يكون لاعتبارها قسم رابع. التالي باطل بضرورة العقل ، لانحصاره عقلا في الثلاثة ، فالمقدّم مثله ، بل إنّما هو اعتبار مقسمي منتزع عند العقل عن الاعتبارات الثلاثة ، وليس له وجود وتحقّق بدونها ، بل بأحدها ، فإنّ المقسم عين الأقسام بالعنوان الإجمالي.

قال سيّدنا الأستاذ ـ دام ظلّه ـ ونعم ما قال بالفارسية : اين اعتبار دروغى است كه عقل انتزاع ميكند از اعتبارات ثلاثة مذكورة كه واقع وحقيقتي از براى او نيست تا اينكه اينهم يكى از اعتبارات ماهيت باشد. انتهى.

ثمّ إنّ المعتبر والملحوظ في حال الوضع في المصادر وغيرها ـ من أسماء الأجناس مطلقا من جهة اللفظ والمعنى كليهما ـ إنّما هو اللفظ والطبيعة الموضوع لها بالاعتبار الأوّل قطعا ، بل اتفاقا ـ أيضا ـ بمعنى أنّ الواضح لاحظ نفس اللفظ وذاته مع قطع النّظر عن الطوارئ اللفظية من اللام والتنوين ، وعن خصوصيات التراكيب ، ولاحظ نفس المعنى مع قطع النّظر عن القيود والطوارئ المعنوية من حيث الأفراد والأزمان والحالات والأمكنة ، فوضع الأوّل على النحو

١٠٧

المذكور للثاني كذلك ، فلذا (١) يكون استعمال اللفظ مع القيود اللفظية فيه مع كلّ واحد من القيود المعنويّة ـ إذا لم يرد الخصوصيّة من اللفظ ـ على وجه الحقيقة ، حيث إنّ عدم اعتبار الشرط لا يقضي بعدمه ، بل يجتمع مع ألف شرط ، فلا يقال : إنّ الموضوع هو اللفظ مجرّدا عن القيود ، فاستعماله معها استعمال لغير اللفظ الموضوع بإزاء ذلك المعنى فيكون مجازا ، أو يقال : إنّ الموضوع له هو ذات المعنى مجرّدة ، فاستعمال اللفظ فيه مع كونه مقيّدا بشيء من القيود استعمال له في خلاف ما وضع له ، ف [ هو ] مجاز.

فإذا عرفت ذلك كلّه فاعلم : أنّ الطبيعة في مقام الحكم والاستعمال إن أخذت على الوجه الأوّل من الثلاثة ـ سواء في المصادر مطلقا مجرّدة ، أو في ضمن المشتقّات وفي غيرها من أسماء الأجناس ـ فلا ريب أنّ الملحوظ حينئذ إنّما هو أمر وحداني ، وهو نفس الطبيعة ، وليس نظر المتكلّم إلى الأفراد ـ حينئذ ـ إلاّ من حيث كونها مرايا كاشفة وحاكية عن تلك الصورة الوحدانية وموجدة لها على حدّ سواء ، بمعنى أنّ كلّ واحد منها إنّما يحكي عمّا يحكي عنه الآخر ، ويوجد ما يوجده الآخر ، ولازم ذلك عقلا تحقّق الأمر الملحوظ ، وهو الطبيعة المعتبرة على الوجه المذكور بوجود واحد من الأفراد بحيث لا حاجة في صدق وجودها إلى وجود أزيد منه ، بل المصحّح لصدقه عند العقل يتحقّق بتحقّق فرد

__________________

(١) قال دام ظلّه : فرق بين اعتبار الطبيعة على الوجه الأوّل في مقام الحكم والاستعمال وبين اعتبارها على ذلك الوجه في مقام الوضع ، فإنّ المستعمل إذا أخذها على ذلك الوجه فهو إنّما يأخذها من دون نظر إلى وجود شيء منها أو عدمه ـ بمعنى أنّه لا يلتفت إلى شيء منهما حينئذ ـ وأمّا الواضع فهو أوّلا يلتفت إلى اعتباراته الثلاثة في مقام الحكم والاستعمال ، ثمّ يقطع النّظر عن تلك الاعتبارات حتّى اعتبارها لا بشرط ، ويضع اللفظ لنفس الطبيعة وإن كانت الطبيعة لا تنفكّ عن أحد الاعتبارات المذكورة في مقام الحكم ، لكنّها غير منظور إليها في مقام الوضع ، فعلى هذا فيرجع حاصل الفرق إلى اعتبارها على الوجه المذكور في مقام الوضع أوسع منه دائرة في مقام الحكم والاستعمال ، فافهم واغتنم. لمحرّره عفا الله عنه.

١٠٨

واحد من غير حاجة إلى أزيد منه ، وانتفاؤه جميع الأفراد ، إذ بوجود واحد منها ـ كما عرفت ـ يصدق وجوده البتّة ، والأفراد الاخر على تقدير وجودها لا تكون موجدة لغير ما أوجد ذلك الفرد ، والمفروض وجوده به ، ولا مؤثّرة في عدم ذلك الموجود ، فإنّ عدمها إنّما هو عدم اقتضاء وجوده ، لا اقتضاء عدمه ، إذ المفروض كفاية وجود كلّ من الأفراد في وجوده وتساويها في ذلك وكونها موجدة لأمر واحد ، وهو ذلك الموجود ، فإذا صدق وجوده يمتنع (١) صدق عدمه.

نعم لو اعتبرت الطبيعة متقيّدة بخصوصيّات الأفراد فهي حينئذ لانحلالها إلى أمور متعدّدة يصدق تركه بترك بعض الأفراد مع وجود بعض آخر.

والفرق بين هذا وبين الاعتبار السابق أنّ الأفراد هنا حقيقة اعتبر كل منها موضوعا مستقلاّ للحكم ويكون النّظر إلى خصوصياتها.

وبعبارة أوضح : إنّ الطبيعة إنّما اعتبرت بملاحظة كلّ واحدة من خصوصيات الأفراد ، فيكون كلّ فرد موجدا لما يغاير ما أوجده الآخر ، وحاكيا عمّا يغاير المحكيّ بالآخر ، فإنّ النّظر في كلّ منها حينئذ إلى الحصّة الخاصّة من الطبيعة الموجودة في ضمنه ، لا إلى القدر المشترك بين تلك الحصص ـ كما في القسم السابق ـ فيصدق السلب والإيجاب الجزئيين فيها ـ حينئذ ـ لاختلاف موضوعهما وتعدّدهما باعتبار التقيد ، فإنّ انتفاء كلّ من الأفراد حينئذ مؤثّر في انعدام الطبيعة المتقيّدة به ، كما أنّ وجوده مؤثّر في وجودها كما في الاعتبار السابق فتظهر الثمرة بين الاعتبارين في جانب النفي.

وبالجملة : فقد ظهر من ذلك توقّف صدق المتناقضين كالضّدّين في الطبيعة على اعتبار أمر زائد على أصلها ، وأنّها لو خلّيت ونفسها يمتنع فيها ذلك كما عرفت.

__________________

(١) في الأصل : فيمتنع.

١٠٩

وكيف كان فقد عرفت سابقا دخول اعتبار الطبيعة على هذا الوجه في القسم الثاني من الأقسام الثلاثة لاعتبارها ، والكلام الآن في اعتبارها على الوجه الأوّل منها ، وقد عرفت أنّ المصحّح لصدق انتفائها وتركها عقلا ـ حينئذ ـ إنّما هو انتفاء وترك جميع الأفراد ، كما أنّ المصحّح لصدق وجودها ـ حينئذ ـ عقلا وجود فرد منها ، فيدلّ اللفظ بالالتزام العقلي من جهة إطلاق معنى المادّة الّذي هي الطبيعة في صورة النفي على انتفاء وترك جميع الأفراد بحيث يكون ظاهرا في عموم النفي على وجه لو جاء دليل من الخارج على خروج بعض الأفراد لعارض ظهوره ذلك الدليل ، فيلاحظ قاعدة التعارض بينهما من التعادل والترجيح ، وفي صورة الإثبات على إرادة وجود أحد الأفراد على البدل دون الأزيد ، فالظاهر منه حينئذ ليس أزيد من فرد واحد على البدل لا غير ، فلذا يحتاج عموم الحكم لجميع الأفراد إلى ملاحظة شاهد خارجي من دليل لفظي أو إجماع إن وجد أحدهما ، وإلاّ فيرجع إلى دليل الحكمة لو جرى في المورد ، فيتوقّف الحكم بالعموم حينئذ على إحراز مقدمتي دليل الحكمة من عدم فائدة ثبوت الحكم لبعض الأفراد ، ومن كون المقام مقام البيان (١) ، والمقدّمة الثانية لا تحرز غالبا إذا كان اللفظ واردا في مقام الحاجة والعمل ، فإنّ الواجب من البيان هو في مقام العمل ، وإلاّ لجاز تأخيره إلى وقت الحاجة. نعم لو لم يأت البيان إلى وقتها فالحكم كما في صورة وروده وقتها.

وكيف كان ، فلا بدّ من إحراز كون اللفظ المطلق في مقام البيان وإلاّ لما جاز الحكم بالعموم. هذا بخلاف صورة النفي ، فإنّه يحكم به من حين ورود اللفظ مطلقا.

__________________

(١) أي إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام مقصوده ، وهذا يمكن إحرازه من قرينة خارجيّة ، ومع فقدها فلا يحرز إلاّ إذا ورد حال العمل أو قبله مع عدم بيان الخلاف إلى ذلك الوقت. لمحرّره عفا الله عنه.

١١٠

والسرّ : أنّ اللفظ في تلك الصورة بمعونة العقل ظاهر في العموم ، فهو بيان ، فيتمسّك بظهوره على العموم ، بخلافه في الصورة الثانية ، فانّ الّذي يظهر منه التزاما بمعونة العقل إرادة وجود أحد الأفراد ، وأمّا الزائد عليه فهو ساكت عنه ، فيتوقّف الحكم بالعموم على إحراز المقدّمتين المذكورتين ، ولذا يحكم بثبوت الحكم الثابت للطبيعة في تلك الصورة لكلّ واحد من أفرادها بعين ثبوته للطبيعة ، فيحكم بثبوت الحرمة النفسيّة الثابتة للطبيعة لكلّ واحد من أفرادها كذلك ، وكذلك في صورة ثبوت الحرمة الغيرية ، فإنّه يحكم بها كذلك لكلّ من الأفراد.

هذا بخلاف صورة الإثبات ، كما إذا وجبت الطبيعة بالوجوب العيني ، فإنّه لا يسري ذلك الحكم إلى كلّ من أفرادها ، بل الثابت حينئذ إنّما هو الوجوب التخييري لا غير.

وأيضا اللفظ في الصورة الأولى ظاهر في العموم وبيان له ، فلذا يعارض ما دلّ من الخارج على التخصيص ، بخلافه في الصورة الثانية إذا الحكم بالعموم من جهة دليل الحكمة ، فإنّ دليل الحكمة لا يجعله ظاهرا في العموم ، فلذا لا تعارض بينه وبين ما دلّ على التخصيص ، بل ذلك الدليل وارد على دليل الحكمة (١) ، لكونه رافعا لموضوعه ، وهو عدم البيان.

فإن قلت : إنّ الشكّ في إرادة العموم في صورة الإثبات إنّما يكون من جهة الشكّ في تعليق الحكم على نفس الطبيعة ، أو عليها باعتبار تقيّدها ببعض الأفراد ، فلو فرض إحراز أنّه معلّق عليها نفسها فالحال فيها كالحال في الصورة

__________________

(١) فإنّه يقال ـ في تقرير دليل الحكمة إذا جرى في مورد بأن يكون الحكم معلّقا على الطبيعة مع عدم إفادة لثبوته لبعض أفرادها ـ : إنّ المراد به إمّا ثبوته لجميع أفراد الطبيعة ، أو ثبوته لبعضها ، لا سبيل إلى الثاني ، لعدم دلالة الخطاب عليه ، فإنّ الحكم ثابت للطبيعة ، فلا يصلح كونه بيانا للثاني ، فاعتماد المتكلّم عليه إذا كان مقصوده الثاني إخلال بغرضه ، فتعيّن الأوّل. لمحرّره عفا الله عنه.

١١١

الأولى من جهة سريان الحكم الثابت لها إلى جميع الأفراد.

قلنا : إحراز تعليق الحكم على الطبيعة نفسها مشترك الاعتبار في الصورتين إلاّ أنّه يكفي في صورة النفي في ثبوت عموم النفي لجميع الأفراد مجرّد إحراز هذه الصّغرى من غير حاجة إلى ضميمة مقدمة أخرى ـ كما عرفت ـ بخلاف صورة الإثبات ، ضرورة أنّه يصحّح ثبوت الحكم لبعض أفراد الطبيعة صدق ثبوته لنفس الطبيعة ، فيقال ـ فيما إذا قام فرد من أفراد الرّجل : إنّه قام الرّجل يعني طبيعة الرّجل هذا بخلاف ما لو قام فرد منها ولم يقم آخر ، فلا يصحّ أن يقال حقيقة : إنّه ما قام الرّجل أو لا رجل قائما ، فإنّ ثبوت القيام بفرده الآخر له مانع عن صدق ذلك.

وهكذا الحال في صورة الإنشاء ، فإنّه يصحّ تعليق الحكم الإثباتي على نفس الطبيعة مع كونه ثابتا لبعض أفرادها ، فيقال : ( أعتق الرقبة ) مع أنّ وجوب العتق ثابت للمؤمنة منها ، بخلاف صورة النهي ، فإنّ النهي عن فرد وطلب تركه لا يستلزم طلب ترك أصل الطبيعة لعدم الملازمة بين نفي فرد ونفي الطبيعة.

وكيف كان ، فلمّا كان المصحّح لصدق الثبوت على الطبيعة عقلا الثبوت بالنسبة إلى بعض أفرادها ، فيجوز تعليق الإثبات على نفس الطبيعة ، ويصدق الثبوت لها ، فلذا لا يلزم من ثبوت الحكم لنفس الطبيعة سريانه إلى جميع أفرادها إلاّ بعد إحراز أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام مراده ، وأنّه لو كان المراد ثبوت الحكم لبعض أفراد المطلق ـ والمفروض إطلاق اللفظ ـ يلزم كونه مخلا بغرضه ، لعدم صلاحية تعليق الحكم على المطلق لكونه بيانا لبعض الأفراد ، فيجب أن يكون المراد ثبوت الحكم للطبيعة مع قطع النّظر عن خصوصية أفرادها ، فيسري الحكم لجميع الأفراد لذلك.

هذا بخلاف صورة النفي ، إذ بعد كون وجود فرد واحد مصحّحا عقلا

١١٢

لصدق وجود الطبيعة يمتنع (١) صدق انتفائها بانتفاء بعض الأفراد الاخر ، فلا يجوز تعليق النفي على الطبيعة من حيث هي باعتبار انتفاء بعض أفرادها مع وجود بعضها الآخر ، فلذا لا حاجة حينئذ إلى إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، بل اللفظ بيان من أوّل الأمر ، وظاهر في العموم ، ويصلح للمعارضة لما دلّ من الخارج على التخصيص ، كما أنّه في صورة الإثبات كذلك من أوّل الأمر بالنسبة إلى فرد واحد ، ويصلح للمعارضة لما دلّ من الخارج على نفي الحكم عن جميع الأفراد ، وأمّا بالنسبة إلى ما يدلّ على نفيه عن بعضها فلا يصلح للمعارضة له ، بل موضوع استفادة العموم منه مرتفع حينئذ بذلك الدليل ، إذ هو عدم البيان ، وذلك بيان.

وإن شئت توضيح الحال : فافرض القطع بتعليق النفي والإثبات على أصل الطبيعة ، فانظر ما ذا ترى من الفرق بينهما ، فهل تتوقّف حينئذ عن الحكم بعموم النفي إلى إحراز مقام البيان أو تحكم بعموم الإثبات مع قطع النّظر عن إحراز كون المطلق واردا في مقام البيان؟ حاشاك ، ثم حاشاك.

ثمّ بعد إحرازه وكون المراد تعليق الحكم على نفس الطبيعة لا بشرط ، وأنّ جميع الأفراد متساوية في تحصيل ما هو المقصود منها من دون خصوصية لبعض دون آخر ، فهل تتوقّف في صورة تعلّق الأمر بها كذلك في تحقّق الامتثال بإيجاد فرد واحد منها ، أو تكتفي في تحقّقه في صورة تعلّق النهي بها بترك فرد واحد؟ كلاّ ، ثمّ كلاّ.

والحاصل : أنّه إذا أحرز تعليق الحكم على الطبيعة ففي صورة النفي لا حاجة في إثبات عموم النفي إلى إحراز مقام البيان ، بل اللفظ بملاحظة تعليقه عليها ظاهر فيه ، بخلاف صورة الإثبات فإنّه لا ظهور له في عموم الإثبات

__________________

(١) في الأصل : فيمتنع ...

١١٣

أصلا ، ولو أحرز كونه في مقام البيان فهو لا يجعل اللفظ ظاهرا فيه.

ثمّ إذا كان الإثبات من مقولة الطلب فمع إحراز مقام البيان يحكم بعموم الحكم بالنسبة إلى جميع الأفراد ، لكن بدلا لا استغراقا (١) ، لكفاية فرد واحد في وجود الطبيعة المحقّق لامتثالها.

وإذا كان من مقولة الإنشاء الغير الطلبي كقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) فيحكم حينئذ بالعموم الاستغراقي ، إذ لا امتثال حتّى يتحقّق بفرد واحد.

وأمّا إذا كان في مقام الإخبار كما إذا حملنا قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٣) على ذلك لا الإنشاء ، فبعد إحراز

كونه في مقام البيان ، وأنّه لا فائدة في الإعلام عن حلّية بعض الأفراد ، فيحكم بالعموم الاستغراقي أيضا ، وأمّا إذا لم تتمّ المقدّمة الثانية فالعموم احتمالي.

وكيف كان ، فإحراز تعليق الحكم على الطبيعة مشترك الاعتبار بين الصورتين ، إلاّ أنّ العموم في الثانية لا يكفيه مجرّد ذلك.

ثمّ إحراز ذلك قد يكون بالقطع ، وقد يكون بالأصل ، وعلى الثاني قد يكفي أصل واحد ، وهذا فيما إذا كنّا نحن المخاطبين ، فإنّا ـ حينئذ ـ نحرز إطلاق اللفظ بالحسّ ، فإذا شككنا في أنّ المراد نفس الطبيعة لا بشرط أو هي باعتبار تقيّدها ببعض الأفراد فنتمسّك ـ حينئذ ـ بأصالة عدم اعتبار المتكلّم قيدا زائدا على أصل الطبيعة ، فإنّ اعتباره وإن لم يكن مستلزما للمجاز ، حيث لم يرد الخصوصية من نفس اللفظ إلاّ أنّه مخالف لظاهر حال المتكلّم بالكلام المطلق ، والمراد بالأصل المذكور ذلك ، أي ظهور حال هذا المتكلّم ـ حينئذ ـ في ذلك ، لا

__________________

(١) وهذا فرق آخر بين النفي والإثبات في تلك الصورة ، فإنّ تعليق النفي على الطبيعة يقتضي عمومه استغراقا دائما ، بخلاف تعليق الإثبات عليها فإنّه يختلف. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) و (٣) البقرة : ٢٧٥.

١١٤

الاستصحاب.

وقد يحتاج إلى أصلين ، وذلك فيما إذا كان الخطاب من الخطابات الغيبية ، أحدهما ما ذكر ، وثانيهما أصالة عدم التقييد في اللفظ ، فيحرز بذلك موضوع الأصل المذكور.

وهذان الأصلان يقابلان الأصلين الجاريين في تشخيص إرادة الحقيقة إذا شكّ في إرادتها ، فالأوّل مقابل لأصالة عدم إرادة المجاز ، والثاني مقابل لأصالة عدم القرينة في اللفظ.

وكما أنّه قد يكفي في المقام الأوّل ، كذلك ثمة أوّلهما في الصورة المذكورة ، وهي صورة المشافهة.

وكما قد يحتاج إلى كليهما في المقام ، كذلك قد يحتاج إلى ذينك ثمة ، وذلك ـ أيضا ـ في الخطابات الغيبية.

وكما أنّ الأوّل من هذين معناه ظهور حال المتكلّم ، فكذلك أحد ذينك.

وكما أنّ الثاني من هذين محرز لموضوع الأوّل منهما ، فكذلك ثاني ذينك ، فإنّه محرز لموضوع الأوّل منهما. هذا.

أقول : يمكن أن يقال : إنّ ظهور اللفظ في عموم النفي في صورة النفي إنّما هو بعد ظهوره في إرادة أصل الطبيعة ونفسها ، وأنّ الحكم معلّق عليها من غير ملاحظة التقيّد بالأفراد ، وإلاّ فقد عرفت أنّه مع ملاحظة التقيّد لا يلزم من نفي الطبيعة باعتبار بعض القيود نفيها مطلقا ، وظهوره في إرادة أصل الطبيعة وكونها هي الموضوع للحكم لا يكون إلاّ بعد ظهور كون المتكلّم في مقام البيان إلاّ أنّ ذلك يحرز بظهور حال المتكلّم ، فإنّ الظاهر من كلّ متكلّم بكلام أنّه في مقام إرادة تمام مقصوده باللفظ ، فإذا أحرز إطلاق اللفظ بالأصل أو بالقطع ، فيكون اللفظ بملاحظة هذا الظهور الحالي وبملاحظة إطلاقه ظاهرا في أنّ تمام المطلوب وموضوع الحكم إنّما هو نفس الطبيعة لا بشرط ، المستفادة من ظاهر

١١٥

الإطلاق ، ولمّا كان لازم تعليق النفي عليها عقلا نفي جميع أفرادها ، فيكون ظاهرا في عموم النفي لذلك ، فلا بدّ من إحراز مقام البيان في صورة النفي ـ أيضا ـ كصورة الإثبات.

لكنّه مدفوع : بمنع توقّف إحراز تعليق الحكم على نفس الطبيعة على إحراز مقام البيان ، وكون المتكلّم في مقام بيان تمام مقصوده ، لإمكان كون الحكم واقعا ثابتا للطبيعة باعتبار خصوصيّة زائدة عليها مع كون المتكلّم قاصدا لإفادة جزء موضوع الحكم ـ أعني نفس الطبيعة ـ بذلك الخطاب حين الخطاب إلى أن يأتي وقت الحاجة ، فيبيّن تمامه حينئذ ، ولا ريب ـ كما عرفت ـ أنّ تعليق الحكم على نفس الطبيعة مع قطع النّظر عن مقام البيان يستلزم عقلا في صورة النفي عمومه لجميع الأفراد ، لتوقّف صدق نفي الطبيعة عقلا على انتفاء جميع الأفراد ـ كما عرفت ـ فلا يصحّ تعليق النفي عليها باعتبار انتفاء بعض الأفراد مع وجود بعض آخر ، وفي صورة الإثبات يستلزم وجود فرد واحد في الجملة ، لتوقّف صدق الوجود على الطبيعة على وجود بعض أفرادها عقلا ، فيكون اللفظ في الصورة الأولى ظاهرا في عموم النفي ، وفي الثانية في إرادة فرد واحد في الجملة بمعونة العقل من غير حاجة إلى إحراز مقام البيان.

فلذا يراعى حكم التعارض فيما بين اللفظ وما دلّ من الخارج على وجود بعض الأفراد في الأولى أو على انتفاء جميعها في الثانية المستلزم لانتفاء فرد واحد في الجملة يتوقّف عليه صدق وجود الطبيعة.

وأمّا عدم اقتضاء تعليق الحكم في صورة الإثبات لوجود جميع الأفراد بدلا كما في مقام الأمر ، أو استغراقا كما في مقام الإنشاءات الغير الطلبية ، فلأنّه لا يتوقّف صدق وجود الطبيعة على كفاية كلّ واحد من الأفراد في إيجادها بحيث تكون منطبقة على غرض المتكلّم ، فلا يقتضي العموم البدلي لذلك ، ولا على تحقّق جميعها فعلا ، فلا يقتضي الاستغراقي لذلك ، فللمتكلّم أن يعتبر في قصده

١١٦

ـ في كفاية وجود الطبيعة في تحصيل غرضه المطلوب ـ إيجادها على وجه خاصّ وفي ضمن فرد خاصّ ، فلذا يتوقّف الحكم بالعموم بدلا أو استغراقا على جريان دليل الحكمة المتوقّف على إحراز كونه في مقام بيان تمام مقصوده ، فيقال ـ بعد إحرازه ـ : إنّ المفروض تعليق الحكم على نفس الطبيعة قطعا أو بمقتضى إطلاق اللفظ ، والمفروض كونه في مقام بيان تمام مقصوده ، فينتج أنّ تمامه هو نفس الطبيعة اللابشرط من غير ملاحظة خصوصية فيها ، وإلاّ فيلزم إخلاله بغرضه ، لعدم صلاحية الخطاب المطلق لكونه بيانا للفرد الخاصّ ، فإذا ثبت ذلك يحكم باستواء جميع الأفراد في الكفاية عن امتثال التكليف بدلا في مقام الأمر أو بإرادة الجميع استغراقا في صورة الإنشاء الغير الطلبي ، فإنّهما لا زمان لكون تمام المراد نفس الطبيعة لا بشرط ، فافهم وتأمّل جيّدا.

فإذا عرفت ذلك كلّه فقد علمت إفادة النهي لطلب ترك جميع أفراد الطبيعة المنهيّ عنها في زمان واحد وجميع أفرادها المتحقّقة منها في الأزمنة المتأخّرة :

أمّا الأوّل : فواضح ، لتوقّف ترك الطبيعة عقلا على ترك جميع أفرادها في زمان لا محالة.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا ريب أنّ كلّ فعل متحقّق من الطبيعة بالنسبة إلى كلّ زمان فرد من الطبيعة غيره في الزمان الآخر وإن كان متحدا معه في غير الخصوصيات الزمانية ، مثلا الزنا بامرأة خاصّة في مكان خاصّ على كيفية خاصّة في يوم الجمعة فرد من طبيعة الزنا المنهيّ عنه ، وهو كذلك في يوم السبت فرد آخر منها غير ما حصل منها في الجمعة ، ضرورة أنّه ليس عينه بل غيره ، فإذا ثبت مغايرته له فهو فرد آخر من الزنا ، وهكذا في سائر الأزمنة ، فإنّ الموجود في كلّ زمان مغاير للموجود في الزمان الآخر ، فيكون فردا مغايرا له ولا يتوقّف ذلك على كون الزمان مشخّصا للأفعال الواقعية فيه بعد ثبوت التغاير بالضرورة ، فإذا ثبت فرديّة الأفعال الواقعة في الأزمنة المتأخّرة للطبيعة ، فيتوقّف تركها على ترك جميع

١١٧

تلك الأفراد الزمانية ـ أيضا ـ بعين ما مرّ في الغير الزمانية.

وإن شئت قلت : إنّه لا ريب أنّه ترك المكلّف الفعل في جميع الأزمنة بجميع أفرادها إلاّ في زمان واحد فأوجد فردا منه في ذلك الزمان لصدق تحقّق الفعل المنهيّ عنه قطعا ، فلا يمكن صدق تركه ـ حينئذ ـ إلاّ باعتبار تقيّده بغير ذلك الزمان ، والمفروض عدم اعتبار ذلك التقيد في المقام ، فيتوقّف ترك الفعل المنهيّ عنه على تركه بجميع أفراده وفي جميع الزمان ، فيكون النهي عن الفعل مستلزما عقلا للنهي عن جميع أفراده الزمانية وغيره ، فيكون مستلزما للدوام لذلك.

نعم حال النهي بالنسبة إلى الأزمنة من حيث هي حال المطلقات بالنسبة إلى أفرادها ، فلا يعمّ الأزمنة من جهة الزمانية ، وإنّما يعمّها تبعا وتطفّلا للأفراد الموجودة فيها ، وذلك لأنّ انتفاء كلّ شيء إنّما هو بانتفاء جميع ما يكون موجدا ومحصّلا له ، ولا ريب أنّ الزمان من حيث هو ليس محصّلا للفعل ، بل ظرف لحصوله ، وإنّما المحصل له هو الفرد المتحقق فيه ، فلا يتوقّف انتفاء الشيء على انتفاء الزمان ، نعم هو ملازم للمحصّل له وهو الفرد الواقع فيه.

ثمّ إنّ دلالة النهي عن ذلك ليس من جهة اقتضاء وضع المادّة المعروضة للهيئة ، لما عرفت أنّها موضوعة للماهيّة المهملة الصّالحة لاعتبارها على كلّ من الوجوه الثلاثة ، كما عرفت أنّا قلنا : إنّها موضوعة لذات الشيء وحقيقته بعنوان اللابشرط ، الأعمّ من اللابشرط في مقام الحكم ، بل من جهة اقتضاء أخذ الطبيعة المدلول عليها بالمادّة على الوجه الأوّل وإرادتها كذلك.

فالحاصل : من ذلك كلّه أنّ النهي من جهة إطلاق المادّة الظاهر في أخذ الطبيعة المدلول عليها بالمادّة على الوجه الأوّل ظاهر في الدوام كظهوره في عموم ترك جميع الأفراد في زمان ، ودالّ عليه بالدلالة الالتزامية العقلية المسبّبة عن أخذ الطبيعة لا بشرط ، كما أنّ الأمر ظاهر من جهة إطلاقها الظاهر في أخذ الطبيعة

١١٨

المأمور بها لا بشرط في إرادة فرد ما وفي زمان ما ، ودال عليه بالدلالة الالتزامية العقلية ، وأمّا الزائد عليه فلا ، لما عرفت من صدق وجود الطبيعة بوجود فرد واحد. هذا ، وافهم واغتنم.

ثمّ إنّ الظاهر ـ بل المقطوع به ـ أنّ حال الأمر والنهي بالنسبة إلى المكان ـ من [ حيث ] إنّه المكان ـ حالهما بالنسبة إلى زمان كذلك ، فحالهما بالنسبة إليه ـ أيضا ـ حال المطلقات بالنسبة إلى المقيّدات والأفراد ، فلا ظهور لشيء منهما في العموم بالنسبة إلى الأمكنة ـ أيضا ـ لكن لمّا كان الموجود من الفعل في كلّ مكان محصّلا للطبيعة فالنهي عنها يقتضي النهي عن جميع الأفراد الواقعة في الأمكنة المتعدّدة المختلفة ، فيفيد العموم بالنسبة إليها تبعا وتطفّلا ، كما في الزمان.

ثمّ إنّ دلالة النهي على الدوام لا تختصّ بما إذا كان للتحريم ، بل تتمّ عند إرادة الكراهة منه ـ أيضا ـ كما لا يخفى ، لأنّها ـ أيضا ـ طلب الترك الطبيعة المتوقّف على ترك جميع الأفراد الزمانية وغيرها.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ دلالته عليه ليست من جهة الهيئة ، بل إنّما هي لازمة من اعتبار معنى المادّة على الوجه المذكور ، فعلى هذا لا تختصّ دلالته عليه بما إذا كان بصيغة النهي ، بل تتمّ في غيرها أيضا.

وكيف كان ، فالمدار في الدلالة عليه تعلّق الطلب بترك الطبيعة على الوجه المذكور ، فلا يتفاوت فيه. الحال بالنسبة إلى الصيغة وغيرها من الأمثلة المتقدّمة في أوّل البحث ، فراجع.

إيقاظ : حال المصادر الواقعة في حيّز النفي المحض سواء كانت في ضمن المشتقّات كـ ( لا ضرب وما ضرب ولا يضرب أو لم يضرب ) ، أو مجرّدة كـ ( لا ضرب ) نظير الحال فيها عند وقوعها في حيّز النهي من جهة كون تعلّق النفي عليها مقتضيا لعموم النفي لعين ما مرّ ، فإنّ الظاهر منها حينئذ ـ أيضا ـ اعتبار معانيها ـ وهي الأحداث ـ على الوجه المتقدّم ، وقد عرفت أنّ تعليق النفي عليها

١١٩

كذلك مقتض لعموم النفي ، وهكذا الحال في غير المصادر من أسماء الأجناس كـ ( لا رجل وأمثاله.

تنبيه : قد ظهر ـ ممّا ذكر في تعليق النفي على الطبيعة اللابشرط من إفادة العموم ـ الحال في الجنس المعرّف والنكرات (١) المنفيّين ـ أيضا ـ فإنّ نفيهما ـ أيضا ـ يدلّ التزاما عقليا على عموم النفي بالنسبة إلى جميع الأفراد بالأولى ، وذلك لأنّك عرفت أنّ اقتضاء نفي الطبيعة ـ لا بشرط ـ لانتفاء جميع ما ينطبق عليها من الأفراد إنّما هو لأجل أنّ موضوع الحكم ـ حينئذ ـ أمر واحد ، وهو لا ينتفي إلاّ بانتفاء جميع ما يصدق هو عليه ، ولا ريب أنّ الوحدة ـ حينئذ ـ كانت عارضة للطبيعة من جهة عدم اعتبار تقيّدها بالأفراد ، ولا مرية أنّها حاصلة في الجنس المعرّف والنكرة بملاحظتها ، فإنّ الأوّل هي الطبيعة باعتبار اتّحادها في الذهن ، والثاني باعتبار اتّحادها في الوجود الخارجي ، فإذا كان نفي الطبيعة لأجل وحدتها العرضية مقتضيا لعموم النفي يكون نفيها لأجل وحدتها الأصلية المقصودة مقتضيا له بطريق أولى.

ويمكن منع الأولوية ودعوى التساوي : بأنّ الاقتضاء المذكور إنّما هو لأجل كون المأخوذ في موضوع النفي هي نفس الطبيعة لا باعتبار تقيّدها بالأفراد ، وهذا المناط نسبته إلى الجميع متساوية ، فافهم.

وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في أنّ إفادة نفي الطبيعة اللابشرط أو الجنس المعرّف أو النكرة لعموم النفي إنّما هو لأجل كون موضوع النفي ـ حينئذ ـ أمرا وحدانيا ، ويكون النّظر إلى أفراده ـ حينئذ ـ لأجل كون جميعها مرايا حاكية عن أمر واحد وصورة واحدة ، ولا ريب أنّ الصورة لا تنتفي إلاّ بانتفاء جميع تلك المرايا ، إذ بوجود واحد منها تتحقّق تلك الصورة وتوجد بضرورة

__________________

(١) الأوفق بالسياق : في الجنس المعرّف والنكرة المنفيّين.

١٢٠