تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

المقدّمة لغة : هي ما قدّم أمام شيء ، والمراد بها في المقام إنما هو ما يتوقّف عليه فعل الواجب ، والنسبة بينهما هي العموم المطلق ، إذ ما يتوقّف عليه الفعل له تقدّم طبعي على حصول الفعل ، وهو نوع من التقدّم ، فيكون من أفراد المقدّمة لغة.

ثمّ المقدّمة ـ أي ما يتوقّف عليه حصول الواجب ـ تنقسم إلى داخلي وخارجي :

والأوّل : منحصر في الأجزاء ، وينطبق عليها بحيث لا يتعدّاها.

والثاني : إلى السبب ، والشرط ، والمعدّ ، وفقد المانع.

وهذه الأقسام كلها ـ حتى المقدّمات الداخلية ـ مشتركة في كونها دخيلة في وجود ذي المقدّمة ، وفي أنّها يلزم من عدم كلّ منها عدمه.

ثم السبب في اللغة : ما يمكن التّوصل به إلى غرض ، ومنه سمّي الحبل سببا.

وفي اصطلاح أهل العلم عرّفوه : بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. والظاهر أنّ ذلك من النقل من العامّ إلى الخاصّ ، لأنّ السبب الاصطلاحي أيضا نوع منه وفرد له ، لأنّه مما يمكن التوصّل به إلى غرض هو المسبّب.

ثمّ إنّ قولهم : ( ويلزم من عدمه العدم ) يحتمل أن يكون جنسا لجميع أقسام المقدّمة ـ كما أشرنا إليه ـ بحمل الموصولة على الأعمّ من الأمر الوجوديّ مع حمل العدم أيضا على الأعمّ مما يقابل الوجود ، ليشمل عدم العدم الّذي هو الملازم للوجود أو عينه ، ليشمل عدم المانع ، فيكون قولهم : ( ما يلزم من وجوده الوجود ) فصلا مخرجا لغير السبب من الشرط ، إذ لا يلزم من وجوده الوجود ، والمانع أيضا كذلك ، فإنه يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود.

لكن هذا خلاف ما هو المتعارف في الحدود من تقديم الجنس وتأخير الفصل عنه ، وإن كان يحتمل أن يكون العكس هنا لنكتة ، ويحتمل أن يكون

٢٢١

نظرهم في الجزء الأوّل إلى إخراج الشرط وفي الثاني إلى إخراج المانع فقط لكن لا يخفى عدم الحاجة إلى القيد الثاني في إخراج شيء من المقدّمات الغير السببية من الشرط وغيره ، بل يكفي في إخراجها الجزء الأوّل من الحدّ.

أما الشرط : فواضح وان كان واقعا جزءا أخيرا للعلّة التامة ، لأنّ كلمة ( من ) في الحدّ للنشوء ، ومقتضاها حينئذ كون السبب ما يكون منشأ لحصول المسبّب ، بحيث يستند الأمر ـ الّذي هو حصول المسبّب ـ إليه ، والشرط في الفرض المذكور ليس كذلك ، فإنّ التأثير ليس مستندا إليه وان كان تحقّقه في الخارج متوقّفا عليه ، بل إنّما هو مستند إلى المجموع منه ومن المقتضي أو خصوص المقتضي ، كما هو الحقّ ، وستأتي البيّنة عليه.

وأما المانع : فإن جعل نفسه من المقدّمات تسامحا ـ كما فعله بعضهم ـ فواضح خروجه ، إذ لا يلزم من وجوده الوجود ، بل يلزم العدم ، وان جعل عدمه منها نظرا إلى الواقع فكذلك ، إذ لا يلزم من وجوده الوجود وإن كان متوقّفا عليه ، ولو فرض كونه جزءا أخيرا للعلة التامة بتقريب ما مرّ في الشرط.

وكيف كان ، فظاهر التعريف أنّ السبب مرادف للعلّة التامّة ، كما هو كذلك عند أهل المعقول ، لكن الظاهر ـ بل المقطوع به ـ مخالفته لها عند أهل المنقول ، كما يظهر من تقسيمهم السبب إلى المجامع للمانع والخالي عنه ـ ولذا زاد بعضهم في حدّه قيد ( لذاته ) لإدخال القسم الأوّل وهو المجامع للمانع ـ ومن احتجاج السيّد (١) ـ قدّس سرّه ـ الآتي على وجوب السبب بأنّه مع وجود السبب لا بدّ من وجود المسبّب إلاّ أن يمنع مانع ، فلو كان المراد بالسبب العلّة التامّة لناقض الأشياء المذكورة ما قبلها.

وأيضا من أقوال المسألة القول بوجوب المقدّمة مطلقا ، والقول بوجوب

__________________

(١) لاحظ الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٨٥.

٢٢٢

السبب دون غيره ، وكلاهما متّفقان على وجوب السبب ، بل ادّعى بعضهم خروجه عن محلّ النزاع وجعله في غيره.

ولا ريب أنّ المراد بالوجوب في المقام ليس الوجوب العقلي أي اللابديّة والتوقّف ، إذ لا يعقل بعد إحراز كون شيء مقدّمة لشيء الخلاف في وجوبه العقلي ، فإنّه راجع إلى الخلاف في مقدّميته لذلك الشيء ، فيخالف الفرض ، بل المراد به الوجوب الشرعي التكليفي.

ولا ريب أنّه لا يعقل التكليف بغير المقدور محضا ، أو ما يكون مركّبا منه ومن المقدور ، فإنّه أيضا غير مقدور ، ولا ريب أنّ كثيرا من أجزاء العلّة التامّة من الأمور الاضطرارية الخارجة عن قدرة المكلّف كحياته وقدرته وصحته وغير ذلك من الأمور الاضطرارية المتوقّف عليها فعل الواجب ، فلو كان السبب في المقام عبارة عن العلة التامّة [ لم ] يعقل (١) القول بوجوبه ، لأنّ وجوب المركّب عين وجوب أجزائه ، لأنّها عينه وإن كانت تغايره (٢) اعتبارا ، فإنّها إن لم تجب باعتبار كونها مقدّمة لتحصيل الكلّ فتجب باعتبار كونها علّة لا محالة ، والمفروض خروج بعض الأجزاء عن القدرة ، فيمتنع التكليف به عقلا ، فتبيّن مخالفته للعلة.

وظهر من ذلك : أنّ محلّ النزاع في مقدّمة الواجب إنّما هو فيما يكون من الأفعال الاختيارية للمكلّف المتوقّف عليها فعل الواجب لا مطلق المقدّمة ، وأنّ المراد بلفظ المقدّمة أو ما يتوقّف عليه الواجب ـ الواقعين في عنوان النزاع اللذين هما المقسم لأقسام المقدّمة ـ ذلك لا الأعمّ.

فإن شئت توضيح الحال فراجع (٣) موارد إطلاق السبب ومواضع تحديده ،

__________________

(١) في الأصل : فلا يعقل ..

(٢) في الأصل : تغايرها ..

(٣) في الأصل : فراجع إلى ..

٢٢٣

فإنّهم عرّفوه في مواضع :

منها : مبحث الحكم الوضعي من مباحث المبادئ الأحكامية ، حيث إنّهم عرّفوه بما ذكر ، وجعلوا منه أسباب الأحكام الشرعية ، كالوقت لوجوب الواجب الموقّت به ، وكالنذور ، والعهود ، والأيمان لوجوب ما التزم به وغير ذلك.

ومنها : مبحث تداخل الأسباب فإنهم أيضا أطلقوه على أسباب الحكم الشرعي.

ومنها : ما نحن فيه كما عرفت.

ولا ريب أنّ أسباب الحكم في الموضعين الأوّلين كأسباب الموضوع كما في المقام ليس شيء منها علّة تامّة للحكم الشرعي ، بل يتوقّف على فقد المانع لا محالة كتوقّف وجوب الصلاة في الوقت مثلا على عدم الإغماء أو الجنون أو المرض البالغ حدّ العجز ـ مثلا ـ وهكذا في غيره من أمثلة الأحكام الشرعية المعلّقة على الأسباب.

وبالجملة : معنى السبب في جميع تلك المواضع واحد جدّاً فإنّ معناه المفهوم الأعمّ الشامل لكلّ من سببي الحكم والموضوع ، والتعريف المتقدّم لا يختصّ بأحدهما وان كان قد اختصّ سبب الحكم بتعريف آخر ، فعرّفوه بالوصف الظاهر المنضبط الّذي دلّ الدليل على كونه سببا للحكم ومقتضيا له أو معرّفا على اختلاف التعبيرين ، نظرا إلى الخلاف في أنّ أسباب الشرع مقتضيات أو معرّفات.

نعم ، الفرق بين السبب المتنازع فيه في المقام وبينه في المبادئ الأحكامية ومسألة تداخل الأسباب كما أومي إليه من وجهين :

أحدهما ـ أنّ المراد به في المقام إنّما هو سبب الموضوعات المتعلّق بها الحكم

٢٢٤

الشرعي وهو الوجوب ، وفي ذينك المقامين إنّما هو سبب الحكم الشرعي (١). فإن شئت قلت : المراد به في المقام ما يكون سببا لتحقّق الواجب وحصوله في الخارج ، وفي ذينك الموضعين ما يكون سببا لثبوت الوجوب وتوجّهه نحو المكلّف.

وثانيهما ـ أنّه لا خلاف في كون السبب في المقام مقتضيا لوجود المسبّب بخلافه في ذينك الموضعين ، حيث إنه اختلف في كون أسباب الأحكام الشرعية مقتضيات ، فذهب بعضهم إلى أنّها معرّفات ، فتكون مقتضية بالنظر إلى ظاهر الأدلّة الشرعية الدّالة على سببيتها.

فإذا علم عدم ترادف السبب عندهم للعلّة التّامة وخروج فقد المانع عنه ، فهل المراد به المركّب من الشرط والمقتضي ـ وهو ما ينشأ منه الأثر ويستند إليه ـ أو خصوص المقتضي مطلقا ، أو مقيدا بكونه مجامعا للشرط بأن يكون نفس القيد ـ وهو الشرط ـ خارجا؟

الظاهر ـ من تقسيم بعضهم السبب إلى المجامع للشرط والمفارق له ، ومن القول بالتفصيل بين السبب والشرط بوجوب الأوّل دون الثاني ـ أنّ المراد به خصوص المقتضي ، لا المركّب منه ومن الشرط :

أمّا دلالة الأوّل ـ وهو تقسيم السبب إلى المجامع للشرط وإلى المفارق له ـ فواضحة (٢).

وأمّا الثاني (٣) فلأنه لو كان الشرط جزء منه لما بقي معنى لذلك التفصيل

__________________

(١) اعلم أنّ النسبة بين سبب الحكم وسبب الموضوع إنّما هي العموم من وجه لصدق الأوّل في مثل الدلوك ونحوه دون الثاني ، وصدق الثاني في مقدّمات الواجب المطلق دون الأوّل ، واجتماعهما في صيغة العقود والإيقاعات ، إذ لا ريب أنّ الصيغة سبب لتحقّق موضوع العقد والإيقاع في الخارج وسبب توجّه الأحكام الشرعيّة نحو المكلّف من وجوب الوفاء وغيره من الأحكام. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) في الأصل : .. فواضح.

(٣) وهو القول بالتفصيل بين السبب والشرط.

٢٢٥

أصلا ، إذ لا يعقل وجوب المركّب مع عدم وجوب جزء منه ، بل وجوبه مستلزم لوجوب جميع الأجزاء لأنها إمّا عينه أو مقدّمات له ، فلو لم نقل بوجوبها من باب المقدّمة فلا بدّ من القول بوجوبها باعتبار كونها عين المركّب ، فلا يمكن نسبة مثل ذلك إلى من دون السيّد (قدّس سرّه) ، فكيف به (قدّس سرّه)؟!

ومقابلتهم السبب بالشرط أيضا مشعرة (١) بما ذكرنا ، وإن كان يحتمل أن يكون التقابل اعتباريّا من حيث الكلية والجزئية.

ويدلّ عليه أيضا إطلاقهم السبب على أسباب الحكم ، كالوقت للصلاة بالنسبة إلى وجوبها ، إذ لا ريب في اشتراط البلوغ والعقل وغيره من الشروط أيضا ، فقد أطلق السبب على المقتضي فقط.

لا يقال : إن المراد بالسبب في باب تداخل الأسباب إنما هو المركّب من المقتضي والشرط ، بل ومن عدم المانع أيضا ، إلاّ من جهة اجتماع السبب مع مثله ، فإن كان محلّ النزاع ثمّة في الأسباب التي لم يكن لها مانع من التأثير في مسبّباتها إلا تعدّدها ، فاختلف في أنّ كلاّ من تلك الأسباب حينئذ بالنظر إلى ظاهر أدلّتها هل يؤثر في مسبّب مستقلّ ، ويترتّب عليه حكم كذلك ، كما في صورة الاتّحاد ، أو لا؟.

لأنا نقول : القدر المعلوم ثمّة أنّ مفروض البحث في السبب إنّما هو حال كونه مجامعا للشرط وفقد المانع من غير جهة التعدّد.

وأمّا استعمال لفظ السبب في المركّب من المقتضي وغيره فغير معلوم ولا مظنون ، فلا شهادة لما ذكر على ذلك.

نعم يحتمل ذلك في كلام السيّد ـ قدّس سرّه ـ حيث احتجّ على إطلاق

__________________

(١) في الأصل : مشعر ..

٢٢٦

الواجب بالنسبة إلى السبب : بأنّه محال أن يوجب علينا المسبّب بشرط اتفاق وجود السبب ، إذ مع وجود السبب لا بدّ من وجود المسبّب ، إلاّ أن يمنع مانع (١).

إلى آخر ما ذكره ـ قدّس سرّه ـ فإنّه لو كان مراده ـ قدّس سرّه ـ من السبب المقتضي وحده لما تمّ ما ادعاه من المحال أصلا ، لجواز فقد [ بعض ] من الشروط ، بل وقوعه كثيرا غاية الكثرة.

لكن غاية ما يستفاد من ذلك اعتبار الشرط ، أمّا اعتباره على نحو الجزئيّة وإطلاق لفظه على المجموع فلا ، لإمكان اعتباره على نحو التقيّد فيكون المراد به على هذا التقدير المقتضى وحده إلاّ أنه مقيد بكونه مجامعا للشرط.

والظاهر أنّ مراده (قدس سره) بالمانع أيضا هو المانع الخارق للعادة ، لا مطلق الموانع كما فهم بعض المحقّقين من المتأخّرين (٢) أيضا ، إذ لو كان المراد هو الثاني لاستهجن أخذ المدعي الامتناع والاحتجاج عليه بما يتخلّف كثيرا عن المسبّب ، لأنّ الموانع المتعارفة كثيرة لا تحصى ، فلا بدّ من حمل الامتناع في كلامه على العادي ، وحمل المانع على الخارق للعادة ، ليتّجه الاستدلال ، فيكون المراد بقوله : ( لا بدّ من وجود المسبّب ) أنّه لا بدّ من وجوده عادة.

ومن هنا يظهر أنه ـ قدس سره ـ أراد بالسبب ما اعتبر فيه عدم الموانع العادية أيضا.

لكن ما قدّمنا من تقسيمهم السبب إلى المجامع للشرط والمفارق له ، وإلى المجامع للمانع والخالي عنه يكفي في نفي اعتبار الشرط وعدم المانع في السبب مطلقا عندهم وإن علم اعتبارهما في كلام السيد ، لكنّه بملاحظة ذلك محمول على التجوّز أو التقييد في معنى السبب ، فيلزمه المجاز أيضا على بعض الوجوه.

__________________

(١) لاحظ المصدر السابق.

(٢) وهو صاحب هداية المسترشدين : ٢٠٠.

٢٢٧

اما دلالة التقسيمين المذكورين على نفي اعتبارهما مطلقا فواضحة ، لأنّهما لو كانا معتبرين بأحد الوجهين لكان السبب منحصرا في المجامع لهما ، فلا يصحّ تقسيمه إلى الخالي عنهما ، لأنّه من تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره المباين له ، وهو كما ترى.

فظهر من ذلك أنّ المراد بالسبب في مصطلح أهل المنقول هو المقتضي لا غير وان كان لا يساعد عليه التعريف المتقدّم : أمّا بدون زيادة قيد ( لذاته ) فواضح ، حيث إنّه منطبق على العلّة التامّة ، وأمّا معه فلعدم انطباقه على المقتضي المقرون بعدم الشرط ، فإنّ المراد بقيد ( لذاته ) هو كون المقتضي مخلّى ونفسه ، وهذا يصدق على ذلك ، وإنّما لا يصدق على المقرون بالمانع ، ولا على المقتضي المقارن لمثله مع كون كلّ منهما جامعا للشرط وفاقدا للمانع عدا جهة الاجتماع ، لأنّ (١) كلاّ منهما سبب قطعا ، ولا يصدق عليه حدّه ، فانّه لا يلزم حينئذ من وجود كلّ واحد منهما الوجود وإن صدق الخلوّ مع نفيه. اللهمّ إلاّ أن يتعسّف بجعل السبب حينئذ أحد الأمرين لا خصوص كلّ واحد منهما أو المجموع ، فتأمل ، ولا على السبب الّذي يخلفه سبب آخر ، فإنه لا يلزم من عدمه العدم. اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ السبب حينئذ أحد الأمرين.

وقد يورد عليه بوجوه أخرى :

منها ـ النقض بالجزء الأخير من العلّة التامّة فإنّه يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، فلم يطّرد الحدّ ، لكنّه بمعزل عن التحقيق ، لأنّ الجزء الأخير إن كان هو المقتضي فهو ليس خارجا عن السبب ، وإن كان شرطا أو فقد المانع فقد عرفت خروجهما بكلمة ( من ) لكونها نشويّة ، ضرورة أنّ الشرط وعدم المانع ليسا منشأين لوجود بحيث يقال : هذا من ذاك ، بل من المقتضي ، فإنه الّذي يقال

__________________

(١) في الأصل : فإنّ ..

٢٢٨

فيه ذلك.

وكيف كان ، فالمتّجه من الإشكال ما ذكره ، أما غيره فهو بالإعراض عنه حريّ ، فيكفي الاقتصار على ذلك الّذي سمعت حذرا من الإطناب المملّ.

ثمّ الأولى أن يعرّف : بما يستند إليه المسبّب والأثر على تقدير حصوله وإن لم يحصر المسبّب بعد ـ أعني ما يكون منشأ له على تقدير حصوله في الخارج ، بحيث يقال : هذا من ذاك ـ فيشمل جميع أقسام السبب. فلاحظ وتدبّر. هذا تمام الكلام في السبب.

وأمّا الشرط : فهو في اللغة التعليق ، وفي الاصطلاح : ما يتوقّف عليه عليه تأثير المؤثّر ، ومن لوازمه أنه يلزم من عدمه عدم المشروط ، لكنه لا يلزم من وجوده وجوده.

والفرق بينه وبين الجزء واضح ـ مع اشتراكهما في الصفات من التوقّف ، ومن لزوم العدم بعدمهما ، وعدم لزوم الوجود بوجودهما ـ فإنّ الشرط خارج عن المشروط ، والجزء داخل فيه.

ثمّ الشرط قد يكون شرطا في اقتضاء التأثير ، وقد يكون شرطا في فعليته ، والأوّل معتبر في الفاعل ، وهو المؤثّر ، والثاني في القابل ، وهو محل التّأثير.

وأيضا الشرط كالسبب ينقسم إلى شرط الحكم ، وشرط الموضوع :

وعرّفوا الأول : بما اشتمل عدمه على حكمة تقتضي نقيض الحكم كالطهارة من الحيض والنفاس ، حيث إنّها شرط في وجوب الصلاة وجوازها ، ويلزم من عدمها نقيض الوجوب والجواز ، وهو الحرمة.

وقد يكون الشيء مصداقا للأمرين كالطهارة من الحدث أكبره وأصغره ، حيث إنّه شرط في صحّة الصلاة وتحقّقها على نحو المطلوبية في الخارج ، وشرط في جواز الدخول فيها أيضا بحيث يحرم الدخول فيها بدونها ، بل وكذلك الطهارة من الحيض والنفاس أيضا ، فإنّهما أيضا من شروط الصحّة.

٢٢٩

وكيف كان ، فالظاهر أنّ النسبة بين الأمرين هي العموم من وجه كما في السبب ، فتدبّر. ومحلّ النزاع في المقام إنّما هو شرط الموضوع.

وأمّا المانع : فهو من المنع ، وهو في اللغة ـ كما في القاموس ـ ضدّ الإعطاء ، فالمانع ضدّ المعطي.

وفي اصطلاح أهل العلم (١) : ما يلزم من وجوده العدم ، ولا أثر لعدمه في الوجود ، وإن كان مما يتوقّف عليه الوجود.

وكيف كان ، فهو ينقسم : إلى مانع السبب ، ومانع الحكم ، والأوّل إلى مانع سبب الموضوع ، ومانع سبب الحكم :

وعرّفوا مانع الحكم : بما اشتمل على حكمة تقتضي نقيض الحكم مع بقاء السبب وحكمته ، وذلك كالأبوّة المانعة من القصاص لاشتمالها على كون الوالد سببا لوجود الولد ، وذلك يقتضي نفي القصاص ، لئلا يصير الولد سببا لعدمه مع ثبوت القتل الّذي هو السبب في القصاص ، وبقاء حكمته التي هي الحياة المشار إليها في قوله عز من قائل : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ )(٢).

وقد يعرّف أيضا بأنه الوصف الوجوديّ الظاهر المنضبط الّذي يخلّ وجوده بحكم السبب مع وجوده وبقاء حكمته.

وعرّفوا القسم الثاني من مانع السبب ـ وهو مانع سبب الحكم ـ : بأنه ما يشتمل على حكمة تخلّ بحكمة السبب حتى تفضي إلى زوال السبب ، وذلك كالدّين المانع من وجوب الخمس في المكاسب لاقتضائه زوال السبب في وجوبه ، وهو وجود الفضل ـ أعني ما يزيد على المئونة ـ وزوال حكمته التي هي مواساة أهل البيت عليهم السلام بما لا يعود على المالك بالمفسدة ، لوقوعه في

__________________

(١) بل في العرف العامّ أيضا ، بل لا يبعد كونه كذلك لغة أيضا. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) البقرة : ١٧٩.

٢٣٠

الفضل ، وإغناؤهم بذلك عن أوساخ الناس ، إذ لا فضل مع الدّين ليواسي به. ومثله اللعان المانع من توارث الزوجين ، لاقتضائه زوال سبب التوارث الّذي هو الزوجيّة ، وزوال الحكمة في الميراث التي هي تمام المواصلة ، وكذا منعه من التوارث بين الوالد وولده إذا كان اللعان في نفي الولد.

وقد يعرّف : بأنّه الوصف الوجوديّ الظاهر المنضبط المستلزم لحكمة تقتضي نقيض حكمة السبب حتّى تزيله.

وكيف كان ، فمحلّ الكلام في المقام إنّما هو مانع سبب الموضوع ، وأما غيره فيقع الكلام فيه في المبادئ الأحكامية. وهو ـ أي مانع سبب الموضوع ـ أمر وجودي يخلّ وجوده بفعليّة تأثير السبب في إيجاد الموضوع مع وجود السبب ، وبقاء حكم الموضوع ، وبقاء حكمة ذلك الحكم ، وذلك كنجاسة محلّ الوضوء أو الغسل ، وكردّ المالك في البيع الفضولي بناء على كون الإجازة كاشفة لا ناقلة.

وأمّا المعدّ : فهو من الإعداد ، وهو : لغة ـ التهيّؤ ، فهو فيها بمعنى المهيّئ ـ بالكسر ـ وفي الاصطلاح عرفوه ـ بما يلزم من مجموع وجوده وعدمه الوجود.

وأمّا الجزء فواضح ، وهو قد يكون جزء للسبب ، وقد يكون جزء للمسبّب الّذي هو الواجب فيما نحن فيه.

وقد يقال : بخروج الثاني عن محلّ النزاع في المقام معلّلا بأنّ الأمر المتعلّق بالمركّب ـ الّذي هو الواجب ـ متضمّن للأمر بالنسبة إلى كلّ جزء.

ويتّجه عليه : أنّ الطلب المتعلّق بالكلّ طلب بسيط ، وليس له جزء أصلا ـ لا خارجا ولا ذهنا ـ حتى ينحلّ إلى أوامر متعدّدة ، وهذا الطلب البسيط إنّما تعلّق بالكلّ ـ الّذي هو عبارة عن تمام الأجزاء ـ فله تعلّق بكلّ جزء.

وبعبارة أخرى فارسية : اين طلب بسيط روى همه أجزاء رفته است كه هر گوشه از أو تعلّق بجزئي گرفته است نه آنكه منحل ميشود بطلبات عديدة [ كه ] هو يك متعلّق بجزئي بأشد زيرا كه انحلال فرع تركّب عقلي است وشكى

٢٣١

نيست در بساطت طلب مذكور ونه آنكه تعلّق دارد بهر يك مستقلا بطور لا بشرط كه هر يك از أجزاء مطلوب بأشد لا بشرط زيرا كه لا بشرطيت در أجزاء خارجية معنا ندارد بجهت اينكه معناى لا بشرط اينست كه صدق داشته بأشد با انضمام شرط نيز ، وشكى نيست كه خلّ صدق ندارد مثلا بر خلّ ممزوج به أنگبين ، بمعنى اينكه صدق بر مجموع كند.

وبالجملة : معنى اللابشرط أن يكون المركّب من ذلك الشيء وغيره أيضا من مصاديق ذلك الشيء ، كما يقال ـ للحيوان المركّب مع أحد الفصول المنوّعة له ـ : إنه حيوان.

وبعبارة أخرى : إنه لا بدّ في الأمر اللابشرط من صدقه على المجتمع منه مع الشرط أو عدم الشرط ، بأن يكون المركّب منه ومن كلّ منهما من مصاديقه التي يصحّ حمله عليها ، وهذا لا يصحّ في الأجزاء الخارجية لعدم [ صدق ] الجزء على الكلّ في المركّبات الخارجية.

هذا ، مضافا إلى أنّ كلّ جزء من الأجزاء ـ في الواجبات المتنازع في مقدّماتها ـ إنّما يكون مطلوبا بشرط الانضمام إلى سائر الأجزاء.

وكيف كان ، فظهر بطلان التعليل بتضمّن الأمر بالكلّ للأمر بالجزء ، لما عرفت من عدم تركّبه أصلا ومطلقا. نعم ، التركّب ثابت في متعلّقه ، لكنه لا يصير منشأ لذلك.

والتحقيق : أنّ للإجزاء اعتبارين :

أحدهما ـ أنّها عين الكلّ الواجب ، لأنّه ليس إلاّ تلك الأجزاء.

ثانيهما ـ أنّها مقدّمة لحصول الكلّ ، نظرا إلى كونه ملحوظا بلحاظ الوحدة ، كأن يلاحظ الصلاة ـ التي هي مركّبة من التكبير والقراءة والركوع والسجود إلى آخر الأجزاء ـ أمرا واحدا ، فيكون أجزاؤها مقدّمة لحصولها.

٢٣٢

لا ريب في وجوبها على الأوّل ، فإنّ الطلب المتعلّق بالكلّ ـ كما عرفت ـ إنّما يتعلّق بجميع الأجزاء ، ويأخذ كلّ طرف منه شيئا منها.

وأما على الثاني فهي قابلة لوقوعها محلا للبحث ، فإنّها بهذا الاعتبار من أفراد محلّ النزاع ـ أعني مقدّمة الواجب ـ لكنّ الأوّل لمّا لم يكن منفكّا عنها ـ فإنّه ليس مجرّد الاعتبار ، بل وصف واقعي للأجزاء ـ فالوجوب ثابت من هذه الجهة ، فتنتفي ثمرة النزاع في وجوبها على الثاني ، فيلغى (١) البحث عن وجوبها.

وكيف كان فكلّما اتحدت المقدّمة مع ذيها في الوجود فهي لا تليق بالبحث عن وجوبها ، لما مرّ ، وما نحن فيه منها.

ومن هنا يظهر انتفاء الثمرة في الخلاف في أجزاء السبب من حيث إنها أجزاء السبب : أما على القول بعدم وجوب السبب ، فيلزم عدم وجوبها بالأولى ، وأمّا على وجوبه فيلزم وجوبها من الاعتبار المذكور ، وهو اعتبار كونها عين السبب.

ثمّ المراد بالأجزاء أعمّ من الأجزاء المادّية بحيث تشتمل الهيئة أيضا.

ومرادنا بقولنا : الكلّ عين تمام الأجزاء جميع أجزائه من المادّية والهيئة ، وإلاّ فواضح أنّ الكلّ ـ مطلقا ـ ليس عين أجزائها المادّية كيف كان ، بل الهيئة من الأجزاء أيضا في المركّبات الخارجية ، ضرورة أنّ السرير ليس عبارة عن أجزائه مطلقا حتى مع تفرّقها وانهدام هيئتها السريرية ، بل هو هي مع الهيئة المخصوص.

نعم ، هو عين الأجزاء المادّية في المركّبات العقليّة ، فإنّ الإنسان ـ مثلا ـ عين الحيوان والناطق من دون مدخلية للهيئة المخصوصة للإنسان ، فافهم.

إيقاظ : قد حصر بعض المحقّقين (٢) المقدّمة في السبب والشرط ، وقد

__________________

(١) الأنسب للسياق : فيلغو ..

(٢) وهو المحقّق القمّي (ره) في القوانين : ١ ـ ١٠٠.

٢٣٣

عرفت انقسامها إلى الجزء وعدم المانع والمعدّ أيضا ، فبطل ما ذكره من الحصر.

نعم يمكن أن يقال : المعدّ ليس قسما مباينا للسبب والشرط ، بل قد يكون من الأوّل ، وقد يكون من الثاني ، فلا يبطل الحصر من جهته ، لكنه يبقى الإشكال بالنسبة إلى الجزء والشرط لعدم تمشّي ذلك فيهما.

ويمكن دفعه : بأنّ الظاهر بل المقطوع به أنه ـ قدّس سرّه ـ أراد بالشرط الأعمّ منه ومن الجزء وعدم المانع.

لكن يتّجه عليه أنّ ذلك جري على خلاف الاصطلاح فإنهم يقابلون الشرط بالجزء وعدم المانع ، ويقسّمون المقدّمة إليه وإليهما أيضا. فتأمّل (١).

__________________

(١) وجه التأمّل : منع اختصاص إطلاق الشرط بما يقابل غير السبب من الجزء وعدم المانع في الاصطلاح بل يمكن دعوى اشتراكه فيه بين ما ذكر وبين الأعمّ الشامل لجميعها.

نعم ، ظهور ما ذكرته عن الإطلاق لا يقدر المنصف على إنكاره ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٣٤

[ في المقدمات العقلية والعادية والشرعيّة ]

ثمّ إنّهم قسّموا المقدّمة أيضا إلى عقلية وعادية وشرعية ، ومرادهم بالشرعية ما يكون جاعلها الشارع ، بمعنى أنّه لا يتوقّف عليها الواجب عقلا ولا عادة.

وبعبارة أخرى : أنه لا ربط ولا ملازمة بينها وبين ذيها بالنظر إلى العقل والعادة إلاّ أنّ الشارع قد جعل الملازمة والربط بينهما ، لكن على هذا لا يحسن تقابلها بالعقلية والعادية كما لا يخفى ، إذ قضية ذلك أن يكون التقسيم باعتبار جعل التوقّف ، ولا ريب أنّ العقل والعادة ليس شيء منهما جاعلا للتوقّف.

أقول : هذا مضافا إلى عدم استقامة الكلام في الشرعية أيضا ، لما حقّقنا في محلّه : أنّ الأحكام الوضعيّة مما لا يقبل الجعل ، بل إنّما هي أمور واقعية قد كشف عنها المطلع عليها ، فمرجع اشتراط الصلاة بالطهارة إلى أنّ الشارع قد كشف عن توقّف وجود الصلاة بحسب الواقع على الطهارة.

لا الجعل ، فالشرعية ما يكون الحاكم بمقدّمته الشارع ، والعقلية ما يكون الحاكم فيها العقل ، وكذلك العادية ما يكون الحاكم فيها العادة.

العادية ما يكون الحاكم فيها العادة.

قلنا : فلا يصحّ مقابلة العقلية للشرعية ، إذ حينئذ تكون الثانية قسما من الأولى.

بيان ذلك : أنّ المقدّمات الشرعيّة لا تكون مقدّمات للواجبات المتوقّفة عليها إلاّ إذا كان الشارع قد اعتبر تلك الواجبات على وجه لا تحصل هي على ذلك الوجه إلاّ بهاتيك المقدّمات ، وإلاّ فلا تكون مقدّمات ، ولا ريب أنّ العقل مع ذلك الاعتبار قاض بالتوقّف والمقدّمية.

٢٣٥

وإن قيل : إنّ التقسيم باعتبار الإدراك ، بمعنى أنّ المدرك للتوقّف إن كان هو العقل فالمقدّمة عقلية ، وإن كان هو الشارع فهي شرعية ، فلا تدخل الشرعية في العقلية ، ضرورة أنه لا سبيل للعقل إلى إدراك التوقّف فيها وكشفه عن مقدّميتها ، وإنّما الكاشف عنها هو الشارع لا غير.

قلنا : فلا يصحّ حينئذ مقابلة العاديّة للعقليّة والشرعية لعدم تمشّي الاعتبار المذكور فيها ، ضرورة أنّ العادة ليست مدركة للتوقّف ، بل إنّما هي من القيود المأخوذة في موصوفها ، بمعنى أنّها من قيود التوقّف الثابت في المقدّمات العادية لا من الكواشف عنه.

وبعبارة ثالثة : فارسية : مقدّمه عاديه آنست كه هر گاه قطع نظر شود از عادت توقّف وربطى بين او وبين ذى المقدّمه نباشد اصلا ، پس مقدميت او بملاحظه عادت خواهد بود ، پس بنا بر اين عادت از اعتبارات مقدمه عاديه خواهد بود كه واقع مقدّميتش نسبت بملاحظه او است نه آنكه در واقع صفت مقدميّت را از براى وثابت باشد وعادة از كواشف اين وصف باشد همچنانكه در عقلية وشرعية است (١).

هذا ، وكيف كان ، فلم يكن التقسيم المذكور باعتبار جامع بين الأقسام ، فالأجود إيراد التقسيم على هذا الوجه :

المقدمة : إما يتوقّف عليها ذوها في نفس الأمر مع قطع النّظر عن ملاحظة شيء آخر ، أو يكون توقفه عليها بملاحظة شيء ، الثانية هي العادية كما عرفت.

__________________

(١) امّا در عقليّه واضح است وامّا در شرعيه پس بجهت اين است كه شارع ايجاد وصف توقف در مقدمه نمى كند بلكه چيزى كه از اوست اعتبار تقيّد مطلوبش ميباشد بمقدمات شرعيّه وبدليل دال بر اين اعتبار كشف از ثبوت توقف مطلوبش بر اين مقدمات مينمايد كه با قطع نظر از اين دليل توقف در واقع ثابت است.

لمحرّره عفا الله عنه.

٢٣٦

والأولى أيضا : إما أن يكون العقل مدركا لمقدميّتها مع قطع النّظر عن بيان الشارع ، أو لا ، بل يكون المدرك والكاشف عنها هو الشارع لا غير ، فالأولى منهما عقلية ، وثانيتهما شرعية.

ومرجع هذا التقسيم إلى اثنين : أولهما باعتبار ثبوت التوقف في الواقع وعدمه ، وثانيهما باعتبار الإدراك والكشف ، ولا بد من ذلك ، وإلا لا يستقيم لو اقتصر على واحد كما عرفت.

٢٣٧

[ في مقدمة الوجود والوجوب والصحة والعلم ]

وقد ينقسم المقدمة : إلى مقدمة الوجوب ، ومقدّمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة العلم :

والمراد بمقدّمة الوجود هو مقدمة وجود الفعل المقابل للوجوب والصحة والعلم ، وإلا فالكلّ مقدمات الوجود بالمعنى الأعم كما لا يخفى ، والنسبة بينها وبين مقدمة الصحة هي العموم المطلق كما لا يخفى ، لأنّ كلّ ما هو مقدّمة الوجود مقدّمة للصحة لا محالة ، ولا عكس كليا ، لصدق مقدمة الصحة بدون مقدمة الوجود في بعض الموارد ، كما في غير الأركان المتوقف عليها صدق أسماء العبادات في العبادات على القول بوضعها للأعم ، وكما في شروط الصحة في المعاملات كإجازة المالك في البيع الفضولي ونحوه من شروط الصحة.

نعم ، على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيحة فلا يتصور الانفكاك بينهما حينئذ في العبادات ، بل يتساويان في الصدق حينئذ بالنسبة إلى العبادات فينحصر مورد انفكاكهما في المعاملات ، لكن على القول بوضعها للأعم كما لا يخفى.

ثمّ إنه لا إشكال في خروج المقدمة الوجوبية عن محلّ النزاع في المقام كما يشهد تحريرهم له بمقدمة الواجب ، ضرورة أنّ الواجب إنّما هو عنوان للأفعال المتّصفة بالوجوب ، فلا صدق له على الوجوب أصلا.

هذا ، مضافا إلى أنه لم يقع الخلاف من أحد في عدم وجوب مقدمة الوجوب ، كما أنه لا إشكال في دخول مقدمتي الوجود والصحة فيه ، ضرورة كونهما مقدمتين للواجب الواقع في عنوان الخلاف في المسألة.

٢٣٨

وأمّا المقدمة العلمية فقد يقال بخروجها عن محلّ الخلاف معلّلا بأنّ النزاع في وجوب المقدّمة إنّما هو في وجوبها الشرعي ، لا الأعم منه والعقلي ، إذ الوجوب العقلي مفروغ عنه في مقدمات الواجبات الشرعية كيف؟ وإنكاره راجع إلى نفي مقدّميتها ، إذ لا معنى للوجوب العقلي إلاّ للزوم الإتيان بالمقدّمة في تحصيل ذيها وكونها لا بدّ منها عند العقل ، وليس هذا إلاّ معنى المقدّمة ، وبعد فرض شيء مقدّمة وتوقف ذلك الشيء عليها لا يعقل النزاع فيها من تلك الجهة لأدائه إلى التناقض.

ومن الواضح أنه لا يعقل الوجوب الشرعي في المقدّمة العلمية ، ضرورة أنّ وجوب كلّ مقدّمة إنّما يتبع وجوب ذيها في الوجود والكيفية ، ومن المعلوم عدم وجوب تحصيل العلم بالمكلّف به شرعا ، وإنّما هو بحكم العقل والبراءة من باب الإرشاد ، نظرا إلى لزوم تحصيل الأمن من تبعة العقاب بعد العلم باشتغال الذمّة بتكليف من المولى.

وأخبار الاحتياط أيضا واردة على طبق حكم العقل ، فإذا لم يكن لذي المقدّمة ـ وهو تحصيل العلم ـ وجوب شرعا فلا يعقل كون مقدّمته واجبة شرعا ، فلا يعقل النزاع فيها من تلك الجهة فهي على وجوبها العقلي الّذي لا نزاع فيه مطلقا حتى في مقدّمات الواجبات الشرعية.

فحاصل الكلام بالأخرة مرجعه إلى دعوى اختصاص محلّ النزاع بمقدّمات الواجبات الشرعية وبوجوبها الشرعي ، ومقتضى ذلك خروج المقدّمة العلمية عن موضوع محل البحث وعدم كونها من مصاديقه.

اللهم إلاّ أن يلتزم بأحد الأمرين :

أحدهما ـ دعوى وجوب تحصيل العلم الّذي هو ذو المقدّمة شرعا ، نظرا إلى أخبار الاحتياط ، أو إلى خصوص ما ورد في مطاوي أخبار الاستصحاب من الأمر بتحصيل اليقين ، بأن يدّعى استفادة الوجوب شرعا من أحدهما أو كليهما

٢٣٩

حتّى تدخل مقدّمته في موضوع محلّ النزاع.

وثانيهما ـ دعوى عموم النزاع بالنسبة إلى مقدّمات الواجبات العقليّة أيضا بتقريب : أنّ النزاع إنّما هو في أنّه هل يلزم من وجوب شيء وجوب مقدمته ـ إن شرعا فشرعا ، وإن عقلا فعقلا. تبعا لوجوب ذلك الشيء ـ أو لا؟ بمعنى أنه هل يجب عند العقل أن يتوجّه من الأمر بذي المقدّمة أمر آخر بالنسبة إلى المقدّمة من جهة كونها مقدمة لما أمر به ، أو لا؟.

وبعبارة أخرى فارسية :

چيزى وبين إيجاب مقدّمه أو ، بمعنى اينكه بايد [ با ] أمر بذي المقدّمة أمر ديگري بمقدّمه كرده بأشد از روي أمرش بذي المقدّمة يا نه؟

فإذا كان وجوب ذي المقدّمة شرعيّا فيقال : إنّه هل يحكم العقل بلزوم صدور طلب آخر من الشارع بالمقدّمة من جهة أمره بذيها ، أو لا؟ وإذا كان عقليّا فيقال : إنه كما يحكم العقل بوجوب ذي المقدّمة فهل يحكم من جهته بوجوب المقدّمة أيضا ـ بمعنى أنه كما يلزم بذيها فهل يلزم بها أيضا من جهة إلزامه بذيها ـ أو لا؟ وهذا ليس من معنى المقدّمة في شيء حتى يقال : إنه لا يقبل بوقوعه محلا للنزاع ، إذ معنى حكمه بالمقدميّة إنما هو جزمه بالتوقف من غير اعتبار إلزام منه ، ومعنى إيجابه المقدّمة إلزامه بإيجادها كما يلزم بتحصيل ذيها.

هذا ، لكن لا يخفى بعد الأوّل عن الإنصاف ، وأما الثاني فليس ببعيد كلّ البعد ، لكن عليه يشكل دعوى دخول المقدّمة العلمية (١) بجميع أقسامها في محلّ

__________________

(١) المقدّمة العلمية على قسمين :

أحدهما ـ ما عرفت.

وثانيهما ـ ما تكون مغايرة لذيها ذاتا واعتبارا ، كما في غسل جزء من غير موضع الوضوء ـ مثلا ـ متصل بالجزء الأخير منه لتحصيل اليقين بغسل موضع الوضوء. لمحرّره عفا الله عنه.

٢٤٠