تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٢

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

العقل ، فتكون الدلالة على عموم النفي في الجميع من جهة الدلالة الالتزامية العقلية المسبّبة عن عدم اعتبار تقيّد الطبيعة بالأفراد ، وليست مسبّبة عن الوضع جدّاً.

فظهر من ذلك توهّم ثبوت الوضع التركيبي فيها ، وكيف يلتزم به فيها بكثرتها وكثرة مواردها ، وكيف يحتمل ذلك من الواضع مع أنّ الغرض حاصل بدونه.

هذا تمام الكلام في الأمر السادس.

فإذا عرفت ما قدّمنا إلى هنا فاعلم أنّ الحقّ : أنّه لا دلالة لصيغة الأمر على التكرار ولا المرة ، بل إنّما هي لإفادة طلب الطبيعة لا بشرط ، وعرفت أنّه لا يقتضي طلب الطبيعة كذلك طلب جميع أفرادها ، بل الّذي يدلّ عليه التزاما عقليّا إنّما هو الإتيان بفرد منها لصدق تحقّقها به المسقط للأمر المتعلّق بها بحصول الامتثال.

وممّا حقّقنا من الفرق بين النهي الأصلي والضمني ظهر فساد استدلال بعض على التكرار بأنّ الأمر يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ، والنهي يقتضي الدوام ، فلا بدّ ان يكون الأمر للتكرار ، وإلاّ لما تمّ الاستلزام.

وأمّا فساد قياس الأمر بالنهي لجامع بينهما ـ هو الطلب ـ فأوضح من أن بذكر.

ثمّ إنّ النزاع في دلالة الأمر على المرّة والتكرار لا يختصّ بما إذا كان للوجوب ، بل يجري فيه على تقدير إرادة الندب أو ظهوره فيه ـ أيضا ـ كما لا يخفى.

والحمد لله رب العالمين.

١٢١

[ في الفور والتراخي ]

قاعدة : اختلفوا في دلالة الأمر على الفور أو على التراخي على أقوال :

ثالثها : عدم دلالته على خصوص شيء منهما ، بل إنّما يدلّ على مجرّد طلب الطبيعة مع السكوت عن شيء من الأمرين.

وتحقيق الكلام فيها يقتضي رسم أمور :

الأوّل : (١) أنّ مرادهم بدلالة الأمر إنّما هو اقتضاؤه ولو من غير جهة ظهوره وضعا أو انصرافا ، فضلا عن كونه من جهة الوضع.

والشاهد ما يأتيك من حجج الطرفين من القائلين بالفور أو التراخي ، حيث إنّهم احتجّوا على ما صاروا إليه بالأصول العملية كالبراءة والاستصحاب والاحتياط ـ أيضا ـ وليس ذلك إلاّ لأجل أنّ مدّعاهم إثبات الاقتضاء في الجملة ، ولو من غير جهة دلالة اللفظ وظهوره أيضا وإن احتجّوا به أيضا ، فغرض المثبتين لأحد الأمرين إثبات الاقتضاء لما صاروا إليه بأحد الوجوه من دلالة اللفظ وضعا أو انصرافا ومن الأصول العملية ، ويكفيه واحد منها لو تمّ ، وعلى النافي إبطال جميعها ، إذ مع سلامة بعضها فهو كاف في غرض المستدلّ.

فعلى هذا فلا يختصّ النزاع بصيغة الأمر ، بل يعمّ كلّ ما دلّ على الوجوب ، بل الأمور اللبّيّة أيضا كالإجماع ، والعقل ، والتواتر المعنوي ، إلاّ أنّ بعض الوجوه المحتجّ بها في المقام لا يثمر في اللبّيّات ، إذ لا لفظ فيها يتمسّك بظهوره على المدّعى.

__________________

(١) « الأمر الأوّل في تحرير محلّ النزاع ». هكذا جاء في هامش الأصل.

١٢٢

ثمّ إنّ الفور والتراخي هل هما من قيود الطلب ومن كيفيّاته ، فيكون الأوّل نظير تأكّد الطلب ، والثاني نظير رخصة الترك في الأمر الندبي ، بمعنى أنّ الطلب الفوري هو مرتبة من الطلب ، وهو ما لا يرضى الآمر معه بتأخير الفعل عن أوّل وقته ، وكذلك الطلب مع التراخي مرتبة منه ، وهو ما يكون الآمر معه راضيا بالتأخير ، كما أنّ الوجوب والندب مرتبتان منه ، فيكون للطلب مرتبتان من حيث الرضا بالترك وعدمه ، ومرتبتان من حيث الرضا بالتأخير وعدمه ، فيعبّر عنه من الجهة الأولى بالوجوب والندب ، ومن الجهة الثانية بالفور والتراخي ، أو هما من قيود المادّة المعروضة للطلب ومن كيفيتها ، وإن كان الدالّ عليهما الصيغة ، كما مرّ في مسألة المرّة والتكرار ، حيث جعلنا المرّة والتكرار على القول بهما من مفاد اللفظ ومن قيود المادّة.

وكيف كان فهما حينئذ لا بدّ أن يكونا بمعنى التعجيل والتأخير ، فيكون المراد بالأمر ـ على القول بكونه مقتضيا للفور ـ أنّه يجب الإتيان بالمأمور به عجلا ، وعلى القول بكونه للتراخي أنّه يجب موسّعا ومتراخيا.

وكيف كان ، فإن كان المراد بالفور هو عدم الرضا بالتأخير ، وبالتراخي الرضاء به ، فهما من قيود الطلب وكيفياته.

وإن كان المراد بالأوّل نفس التعجيل ، وبالثاني نفس التأخير ، فهما من قيود المادّة.

الظاهر هو الأوّل.

ويظهر الثمرة بين الاحتمالين في الفور في جواز الاحتياط واستصحاب الوجوب في الآن الثاني على تقدير الترك في الآن الأوّل (١) :

__________________

(١) يوجد في الأصل ـ بعد قوله : ( في الآن الأوّل ) ـ : ( فعلى أن يكون المراد ) ، والظاهر أنّه عدل عنها ، ولم يشطبها.

١٢٣

فعلى الأوّل منهما يجوز كلّ منهما ، فإنّ المطلوب حينئذ مطلق ، وبقاء الطلب والوجوب محتمل ، فيجوز الاحتياط والاستصحاب في الآن الثاني على تقدير الترك في الآن الأوّل.

وعلى الثاني منهما لا مجرى لشيء منهما ، فإنّ المطلوب حينئذ هو الفعل مقيّدا بإيقاعه في أوّل الأزمنة ، والمفروض انتفاء القيد ، فيرتفع الطلب عن المقيّد يقينا ، فلا يجري شيء منهما في المقام حينئذ.

ثم إنّ اتّصاف الطلب الإيجابي بكلّ من صفتي الفور والتراخي واضح ، فهل يتّصف بهما الطلب الندبي أيضا؟

الظاهر نعم ، فإنّ معنى الطلب الندبي إنّما هو إظهار الشوق إلى الفعل مع الرخصة في تركه ، ويمكن أن يكون ذلك الشوق مشتملا على الشوق إلى وقوعه في أوّل الأزمنة أيضا.

وبعبارة أخرى : إنّه يكون الآمر مشتاقا إلى وقوعه مع اشتياقه إلى وقوعه في أوّل الأزمنة.

وبعبارة ثالثة : إنّ ترك الفعل رأسا في الطلب الندبي وإن كان جائزا إلاّ أنّ الآمر على تقدير كون طلبه ذلك فوريّا يكون بحيث لا يرضى بتأخير الفعل على تقدير إيقاع المأمور إيّاه عن أوّل الأزمنة.

وبعبارة رابعة فارسية : اينكه آمر بر تقديري كه مأمور بخواهد اتيان كند بفعل راضى نيست بتأخير او از اول ازمنة اگر چه تجويز كرده است از براى او ترك فعل را كلّيّة.

فثبت جواز اتّصاف الطلب الندبي بالفور ، فإذا ثبت ذلك ثبت جواز اتّصافه بالتراخي أيضا ، فإنّه مقابل له.

فعلى هذا فيمكن تعميم النزاع بالنسبة إلى الأمر الندبي ، لكن كلماتهم في المقام لا تساعد عليه ، بل ظاهرة في اختصاص النزاع بالإيجابي منه ، لكن بعد

١٢٤

ظهور الحال في الإيجابي يظهر الحال في الندبي أيضا ، لفقد ما يوجب الفرق بينهما ، فإنّ جهة الوجوب والندب غير جهة الفور والتراخي ، فلا ملازمة بينهما ، فافهم.

ثمّ المراد بالفور في كلام القائلين به يحتمل وجوها :

الأوّل : ثاني زمان الصيغة ، أي عدم الرضا بتأخير الفعل عنه.

الثاني : أوّل أوقات الإمكان ، بمعنى عدم الرضا بالتأخير عنه.

الثالث : الفوريّة العرفية.

الرابع : الفورية المختلفة في العرف باختلاف الأفعال.

الخامس : عدم الوصول إلى حدّ التهاون.

والمراد بالتراخي ما يقابله بكلّ من الاحتمالات.

لكن الظاهر ـ بل المقطوع ـ عدم قائل بجواز التأخير إلى حدّ التهاون ، فيكون ذلك قرينة على حصر المراد في الاحتمالات الأربعة السابقة ، فيظهر ضعف ما في تفسير بعضهم إيّاه بالخامس ، فتدبّر.

الثاني : (١).

قد يقال أو قيل : إنّ مقتضى الأصول اللفظيّة كون صيغة الأمر موضوعة للقدر المشترك بين الفور والتراخي ، نظرا إلى استعمالها في كل منهما ، والمفروض وجود الجامع بينهما ، والأصل حينئذ وضع اللفظ لذلك الجامع إذا أحرز استعماله فيه أيضا ، أو بدونه (٢).

وفيه : أنّه لم يقم دليل على اعتبار مثل ذلك الأصل على تسليم الصغرى

__________________

(١) « الأمر الثاني في تأسيس الأصل الّذي يعوّل عليه عند الشكّ وفقد الدليل على إثبات أحد الاحتمالات ». هكذا جاء في هامش الأصل.

(٢) الترديد إشارة إلى القولين في ذلك الأصل. لمحرّره عفا الله عنه.

١٢٥

في المقام.

هذا مضافا إلى إمكان منع الصّغرى أيضا ، فإنّ القدر المسلّم أنّا علمنا في بعض الموارد أنّ المراد هو الفور ، وفي بعض آخر أنّه هو التراخي ، لكن لم نتيقّن إرادتهما من خصوص اللّفظ ، بل نحتمل استعماله في القدر المشترك ، وإطلاقه عليهما من باب إطلاق الكلّيّ على الفرد.

هذا مع أنّ إحراز إرادة خصوص التراخي في مورد دونه خرط القتاد ، فإنّ القدر الّذي يمكن العلم به في بعض الموارد إنما هو ثبوت جواز التأخير وهو مشترك بين إرادة نفس الطبيعة اللابشرط وبين إرادة التراخي ، بأن يؤخذ الإذن في التأخير في مفهوم اللفظ حتّى يكون مستعملا في التراخي.

أمّا الاشتراك بينهما ، فلأنّه لا ريب في ثبوت جواز التأخير على تقدير إرادة الطبيعة اللابشرط ، ولم نتيقّن أيضا استعماله في القدر المشترك ، فلا يثبت الصغرى على كلا القولين في الأصل المذكور.

وكيف كان ، فالتمسّك بالأصل المذكور في المقام مدفوع صغرى وكبرى ، فلم يثبت به الوضع للقدر المشترك حتّى يعمل بمقتضاه عند الشكّ ، وهو الحمل على الطلب اللابشرط.

هذا مجمل الكلام في مقتضى الأصول اللفظية.

وأمّا العملية : فالذي يمكن جريانه في المقام ثلاثة منها : البراءة ، والاستصحاب ، والاحتياط.

وأمّا التخيير فلا مجرى له هنا بوجه ، لاختصاصه بدوران الأمر بين المحذورين ، وما نحن فيه ليس منه.

فلنتكلّم حينئذ في مقتضى كلّ من الثلاثة ، وفي صحّتها وسقمها ، فنقول :

١٢٦

مقتضى الأوّل ، وهي أصالة البراءة عند الدوران بين الفور ـ [ الموجب ] للتعدّد التكليفي (١) ـ والتراخي أو القدر المشترك ـ حيث إنّه في معنى التراخي ـ هو التراخي أو القدر المشترك الّذي هو في معناه ، لرجوع الشكّ حينئذ إلى تعدّد العقاب واتّحاده ، والقدر المتيقّن منه واحد ، وهو استحقاق العقاب على مخالفة الأمر في جميع الأوقات ، والزائد مشكوك ، وهو استحقاقه على خصوص أوّل الوقت ، فيبنى على عدمه ، كما أنّ مقتضاه الفور المضيّق عند دوران الأمر بينه وبين التعدّد التكليفي ، إذ القدر الثابت المعلوم حينئذ هو استحقاق العقاب على أوّل الوقت ، فيجب التعجيل فيه ، وأمّا استحقاق العقاب على خصوص الآن الثاني أيضا فمشكوك ، فيبنى على عدمه ونفي التكليف فيه مع تأمّل فيه.

وأمّا عند الدوران بين الفور المضيّق وبين القدر المشترك ، أي الطلب المطلق الّذي يلزمه جواز التأخير ، فيمكن أن يقال : إنّه من قبيل الشبهة المحصورة الدائرة بين الأقلّ والأكثر في الأمور العقلية ، فيكون من دوران الأمر بين المطلق والمقيّد (٢) ، فيكون من قبيل الشكّ في شرطية شيء للمأمور به ، أو جزئيّته له في الأمور الخارجية ، فعلى القول بجواز إجراء البراءة في الأقلّ والأكثر العقليين يجوز الحكم بنفي التكليف عن القيد المشكوك فيه اعتباره ، وهو في المقام الفورية ، وعدم العقاب عليه ، فإنّ المقدار المتيقّن من استحقاق العقاب هو

__________________

(١) في الأصل هكذا : ( بين الفور التعدّد التكليفي ).

(٢) فهو من قبيل الشكّ في التعيينيّة والتخييريّة (أ) ، فيدفع الكلفة الزائدة ، وهي التضيّق كالتعيينيّة (ب) لكونها مشكوكة بأصالة البراءة عن العقاب عليه ، فيؤخذ بالقدر المتيقّن ، وهو سببيّة ترك الفعل في مجموع الوقت للعقاب ، ويعمل بمقتضاه. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) الظاهر من الأصل : ( العينيّة والتخيير ).

(ب) الظاهر من الأصل : ( العينيّة ).

١٢٧

استحقاقه على مخالفة الطلب المطلق رأسا ، وأمّا على تلك الخصوصية فلا.

وبالجملة : إذا علم إجمالا بطلب من الشارع وشكّ في المكلّف به (١) ، فإمّا أن يكون الشكّ من قبيل الشبهة الدائرة بين المتباينين ، وإمّا أن يكون من الشبهة الدائرة بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، أو من الشبهة الدائرة بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وعلى الأخير : إمّا أن يكون الأقلّ والأكثر من الأمور الخارجيّة ، بمعنى أنّ للأكثر في الخارج أجزاء خارجية أكثر من الأقلّ ، بمعنى أنّه مشتمل عليه وعلى غيره من الأمور الخارجية ، وإمّا أن يكون من الأمور العقلية ، بمعنى أنّ الأكثر ليس أجزاؤه في الخارج أكثر من الأقلّ ، وهذا فيما إذا دار الشبهة بين المطلق والمقيّد.

والأوّل منهما : كما في الشكّ في جزئيّة شيء للعبادات أو شرطيته إذا كان الجزء أو الشرط من الأمور والأفعال الخارجية كالسورة ، والقنوت ، وغيرهما ، لا مثل الطهارة ، حيث إنّها ليست من الأمور الخارجية المحسوسة المتميّزة في الوجود عن المشروط بها.

والثاني منهما : كما في الشكّ في أنّ المطلوب هو الرقبة المؤمنة أو مطلق الرقبة إذا علم بوجوب عتق الرقبة في الجملة ، وكما في الشكّ في اشتراط صلاة الميّت مثلا بالطهارة بعد العلم بوجوبها في الجملة.

فمنهم : من حكم بالبراءة عن الزائد مطلقا ، واقتصر في الاحتياط على

__________________

(١) اعلم أنّ الشبهة المحصورة شاع استعمالها في الشبهات الموضوعيّة ، لكنّ الحكميّة أيضا ـ كما في تلك الأقسام أيضا (أ) ـ أيضا شبهة محصورة. لمحرّره عفا الله عنه.

__________________

(أ) الأفضل في صياغة العبارة هكذا : ( لكن الحكمية ـ كما في تلك الأقسام ـ هي أيضا شبهة محصورة ).

١٢٨

المتباينين.

ومنهم : من حكم بالاحتياط في القسم الثاني من القسم الأخير أيضا وحكم بالبراءة في الأوّل منهما وفي الاستقلاليين.

ومنهم : من حكم بالاحتياط في القسم الأخير بكلا قسميه كما في المتباينين ، واقتصر في البراءة على الاستقلاليين.

وجواز الرجوع إلى البراءة فيما نحن فيه ـ حيث إنّه من القسم الثاني من القسم الأخير ـ إنّما هو على القول الأوّل.

ويمكن الفرق بين ما نحن فيه وبين المطلق والمقيّد ، بأنّ المكلف يقطع هناك في زمان بترتّب العقاب على ترك الفعل بما علم من أجزائه وشرائطه ، بخلافه فيما نحن فيه.

وبعبارة أخرى : إنّه قاطع هناك في زمان باستحقاق العقاب على ترك المطلق بما علم من قيوده وكونه سببا له ولو في آخر الوقت إذا كان الأمر به موسّعا ، بخلافه في المقام ، فإنّه لا يقطع بكون ترك المطلق بما علم من قيوده سببا لاستحقاق العقاب في زمان أصلا ، لا في الزمان الأوّل ، لاحتمال جواز التأخير ، ولا في الآن المتأخّر لاحتمال كون التكليف به فوريّا موقتا بالأول يفوت بفوات وقته ، فيخرج عن باب المطلق والمقيّد ، ومنشأ الفرق إنّما هو كون الشكّ ناشئا عن غير جهة الزمان ثمة ، وعنه هنا.

وبعبارة أخرى : إنّ المشكوك الاعتبار ثمّة من غير الزمان ، وهنا منه.

أقول : فرق آخر بين المقامين ينشأ مما ذكر وإن كان لا يوجب اختلاف الحكم ، وهو أنّه يمكن التفكيك بين المطلق والمقيّد في زمان ثمة ، بخلافه هنا حيث إنّه نفس الزمان ، وانفكاكه عن نفسه غير معقول.

هذا ، لكن لا يخفى ما في الفرق المذكور ، فإنّ الظاهر ـ بل المقطوع ـ دخول المقام في الطلق والمقيد ، فإنّ الشكّ فيه في أنّ المطلوب نفس الفعل من

١٢٩

غير تقيّده بإتيانه في الآن الأول ، أو أنّه هو مع تقيّده به ، ولا ريب أنّ المقيّد قد يكون قيده من غير الزمانيّات ، وقد يكون منها ، وعدم حصول القطع هنا باستحقاق العقاب في زمان إنّما هو لازم كون القيد نفس الزمان ، وليس المعتبر في المطلق والمقيّد هذا القطع.

وكيف كان ، فعلى القول المذكور يجوز نفي اعتبار الفورية والعقاب على تركها ، إلاّ أنّ جريان أصالة البراءة في الزائد في مطلق الأقلّ والأكثر الارتباطيين بعد محل تأمّل ، فإنّه إنّما يجري فيما إذا كان الشكّ في الزائد راجعا إلى البدوي ، وكان الأقلّ متيقّنا في التكليف به نفسه كيف كان ، فينحلّ المعلوم الإجمالي إلى المعلوم التفصيليّ ، وهو الأقلّ ، ويكون الشكّ في الزائد بدويّا يرجع فيه إلى البراءة لكون التكليف به من غير بيان ، والالتزام بذلك فيهما مشكل مطلقا فإنّ الأقلّ حقيقة دائر بين ان يكون مطلوبا نفسا ، أو جزء من المطلوب ، ولا ريب أنّ الجزء مطلوبيته مقدّميّة ، فليس هو مطلوبا حقيقة ، فلا يتيقّن كون الأقلّ مطلوبا كيف كان حتى ينحلّ المعلوم الإجمالي إليه ويرجع في الزائد إلى أصالة البراءة ، فيكون الحال فيهما اذن كالحال بين المتباينين ، فيجب الاحتياط بإتيان الزائد أيضا ، فتدبّر.

ثمّ على تقدير جواز إجراء البراءة في اعتبار الفوريّة ، وتأخير المكلّف الفعل عن أوّل (١) الأزمنة ، فربّما يتخيّل أنّ الحكم حينئذ نظير الحكم في المطلق والمقيّد (٢) مع تعذّر القيد في أوّل الوقت من الرجوع إلى أصالة البراءة في نفي

__________________

(١) أي أوّل زمان الفور ، وهو الزّمان المتأخّر عن زمان الأمر ، أو أوّل أزمنة الإمكان ، أو الفور العرفي ، إلى آخر الاحتمالات في المراد بالفور. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) اعلم أنّ كون المقام نظير ما ذكر على فرض تأخير المكلّف الفعل عما هو المعتبر في الفوريّة ، وهو أوّل الأزمنة بعد الأمر أو أوّل أزمنة الإمكان بعده إلى آخر الاحتمالات في المراد بالفور ، فلو كان المراد به أوّل أزمنة الإمكان فالتأخير معتبر بالنسبة إليه ، ولا عبرة بتعذّر القيد قبله ،

١٣٠

التكليف في ثاني الحال أيضا ، فإنّه كما يحكم ثمّة بنفي التكليف وعدم العقاب رأسا بعد تعذّر القيد في أوّل الوقت لاحتمال كون المكلّف به هو المقيّد لا المطلق ، ولا ريب أنّه على تقديره لا يمكن التكليف به حينئذ ، لعدم القدرة عليه ، فيكون التكليف مشكوكا لذلك رأسا ، فيرجع إلى أصالة البراءة عن العقاب عليه ، فكذلك في المقام ، فإنّ التكليف بالفعل في المقام بالنسبة إلى الآن الأوّل كان مشكوكا ، لاحتمال جواز التأخير ، فيحكم بعدمه فيه لذلك ، وكذلك الآن الثاني ، فإنّه فيه أيضا مشكوك فيه ، لاحتمال كون المكلّف [ به ] هو المقيّد بالآن الأوّل ، وقد تعذّر ذلك القيد ، لامتناع عود الزمان الأول الّذي هو القيد ، فيرجع حينئذ أيضا إلى أصالة البراءة ، فيكون الحاصل الرجوع إليها في نفي التكليف رأسا.

نعم الفرق بين المقامين أنّ المكلّف إن ترك الفعل في الآن الثاني يقطع بمخالفة التكليف إجمالا إما بهذا الترك ، أو بتركه في الآن الأوّل ، لكنّه لا يقطع تفصيلا بكون خصوص واحد من التركين عصيانا ، فإنّه فرع العلم بكون ما يفعله أو يتركه بخصوصه منجّزا عليه فعلا ، ولا دليل على وجوب الموافقة الاحتمالية ، أو التحرز عن حصول العلم بموافقة الواقع في واقعتين.

لكنّ الحقّ فساد هذا التخيّل ، وأنّ المقام من قبيل الشكّ في المكلّف به المردّد بين المطلق والمقيّد مع تعذّر القيد بعد التمكّن منه ، فإنّه في الآن الأوّل كان متمكّنا من الإتيان بالفعل فيه ، فتعذّر القيد ، وهو الآن الأوّل بعد التمكّن منه ، ولا شبهة حينئذ في وجوب الإتيان بالفعل في الآن الثاني ، فإنّ المكلّف قطع بالتكليف بذات المطلق ، وهو الأقلّ في الآن الأوّل ، إلاّ أنّه لما لم يتيقّن بمدخلية الآن الأوّل وكان الشكّ فيه بدويّا ، فيرجع إلى الأصل في العقاب عليه والتكليف

__________________

بل العبرة بتعذّره أوّل أزمنة إمكان المكلّف من الإتيان بأصل الفعل ، وكذا لو كان المراد به الفوريّة العرفيّة بكلا احتماليها ، فالتعذّر معتبر عليهما ، ولا عبرة به قبلهما ، فافهم. لمحرّره عفا الله عنه.

١٣١

به ، وبعد ثبوت التكليف والقطع به لا بدّ من رفعه بالامتثال قطعا ، أو احتمالا على تقدير تعذّر القطعي ، أو لتجويز الشارع ـ ولو بلسان العقل ـ ترك القطعيّ مع التمكّن منه.

وإن شئت قلت : إنّه في الآن الأوّل قطع بتكليف عليه مردّد بين الآن الأوّل والمتأخّر ، فلا بدّ من رفعه بالامتثال القطعي أو الاحتمالي على نحو ما مرّ ، ولمّا كان المفروض جريان أصالة البراءة في الآن الأوّل بحكم العقل ، بل الشرع أيضا بمقتضى أخبار البراءة ، وكان لازمه رفع اليد عن الامتثال القطعي ، فترك الامتثال القطعي لذلك ، وأمّا الاحتمالي ودفع المخالفة القطعية له ، فلا يلزم منه ، بل يجب بحكم العقل حينئذ الخروج عن المخالفة القطعية للتكليف المعلوم ، دفعا لاحتمال العقاب.

وكيف كان ، فما نحن فيه من قبيل الشبهة المحصورة التي تلف أحد أطرافها بعد العلم الإجمالي ، فإنّ المكلّف عالم في المقام إجمالا بتكليف عليه في مجموع الزمنين مردّد كونه تكليفا بالفعل في خصوص الزمان أو مطلقا ، فالزمان الأوّل من أطراف العلم الإجمالي ، ولا ريب أنّ تعذّره بعد كونه من أطرافه ، فيجب الاحتياط بامتثال الطرف الآخر ، كما في ثمّة بحكم العقل.

وإن شئت قلت : إنه من قبيل الشبهة المحصورة التي جاز تناول أحد أطرافها لقيام أصل شرعي عليه ، وتنظيره عليه أوفق ، وإن كان حكمه لا يختلف ولا يخالف التي تلف بعض أطرافها بعد العلم الإجمالي ، فإنّه في المقام جاز مخالفة الفورية التي هي أحد طرفي الشبهة بحكم أصالة البراءة المحكوم بها عقلا وشرعا ، لكنّه جواز ارتكاب أحد الأطراف لا يوجب ارتفاع حكم العلم الإجمالي ، بل يتعيّن الاحتياط في الطرف الآخر.

نعم لو قام أمارة معتبرة شرعا ـ على تعيين المعلوم الإجمالي وتخصيصه

١٣٢

بموردها ـ لجاز (١) تناول الطرف الآخر ، لكون الشكّ فيه حينئذ بدويّا بحكم الشارع.

هذا كلّه في الشبهة الحكمية ، وهي الشكّ في مراد الشارع من الفورية أو جواز التأخير ، إمّا لعدم نصّ أصلا ـ كما إذا ثبت وجوب الفعل بدليل لبّي ، ودار الأمر فيه بين الاحتمالين ـ أو لإجماله ، أو لوقوع التعارض بينه وبين غيره.

ثمّ إنّه قد يقال بوجوب المبادرة والإتيان بالفعل فورا على القول بإفادة الأمر القدر المشترك أو (٢) إحراز كون المراد هو طلب الفعل من غير تقيّد فيه بالفورية ، وذلك أنّا حينئذ وإن أحرزنا مراد الشارع ولم يكن الشبهة من جهة الحكم ، بل هو معلوم ، لكن لمّا كان الطلب المطلق المجوّز تأخيره واقعا عن أوّل الأزمنة مغيا بآخر أزمنة التمكّن من إتيان الفعل ، بمعنى أنّه لا يجوز واقعا تأخيره عن ذلك الوقت ، بحيث لو تركه فيه يستحقّ العقاب عليه ، لكون الترك حينئذ مستندا إلى المكلّف ، حيث إنّه أخّره عن أوّل الوقت مع تمكّنه من إتيانه فيه ، فيكون الترك مستندا إلى فعله الاختياري ، وهو التأخير مع تمكّنه من التعجيل ، فلا يكون معذورا فيه ، وإطلاق الطلب لا يكون مستلزما للرخصة واقعا إلى زمان تعذّر الإتيان ، بل إنّما هو مستلزم له إلى آخر أزمنة التمكّن ، فيكون تفويت المأمور به عند تعذّره تفويتا له من غير مرخّص شرعي ، فلا يكون معذورا فيه ، فيستحقّ العقاب عليه لو اتّفق.

ولا ريب انه ليس للمكلّف سبيل إلى إحراز آخر أزمنة التمكّن الّذي يجوز له التأخير إليه ، فإنّ إطلاق اللفظ لا يمكن كونه معيّنا للمصداق الخارجي

__________________

(١) في الأصل : فيجوز.

(٢) الترديد إشارة إلى صورة كون الدليل على الوجوب غير اللفظ. وكيف كان ، فحاصل المقصود من العبارتين أنّ المكلّف بعد ما أحرز كون الطلب غير مقيّد بالفوريّة فيجب عليه المبادرة كما في صورة تقيّده بها ، لجريان قاعدة الاشتغال في المقام. لمحرّره عفا الله عنه.

١٣٣

المشتبه كونه مصداقا له ، فلو أخّره عن أوّل الأوقات مع احتمال تعذّره في المتأخّر من الأزمنة ، فاتّفق تعذّره حينئذ ، فهو مؤخّر له (١) عن وقته المستلزم لفوته من غير مرخّص شرعي ، فلا يكون معذورا حينئذ ، فيستحقّ العقاب عليه ، ولازم ذلك ـ بحكم العقل ـ لزوم المبادرة إليه مع احتمال التعذر فيما بعد مع اشتباه زمان التعذّر فيما بين الأزمنة المتأخّرة دفعا للعقاب المحتمل.

وكيف كان ، ففي صورة الشبهة الحكمية وإن [ كان ] مقتضى حكم العقل جواز التأخير ، وعدم وجوب المبادرة ، إلاّ أنّ الشبهة الموضوعية ـ أعني اشتباه آخر أزمنة التمكّن الّذي يجوز التأخير إليه واقعا ـ مجرى للاشتغال بحكم العقل ـ كما عرفت ـ لما عرفت.

والفارق بين الصورتين : أنّه لمّا كان بيان الحكم لازما على الشارع فمهما لم يعلم البيان يقبح العقاب بحكم العقل ، فلذا يحكم بجواز التأخير في الشبهة الحكمية ، حيث إنّ بيان الحكم من شأن الشارع ، ويكون لازما عليه ، هذا بخلاف الشبهة الموضوعيّة فإنّه ليس على الشارع تعيين المصداق المشتبه ، فعدم بيانه له لا يكون عذرا عند العقل ليكون التأخير لأجله تأخيرا لمرخّص ، فيكون العقاب محتملا لأجل التأخير ، والاشتغال اليقيني بالتكليف يقتضي عقلا الخروج من عهدة العقاب عليه كذلك ، ويقبح الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية مع التمكّن من العلمية ، مع احتمال العقاب على الأوّل ، فيجب المبادرة دفعا لضرر العقاب المحتمل.

ومن هنا ظهر ضعف ما ربما يتوهّم من أنّ موضوع قاعدة الاشتغال إنّما هو احتمال العقاب ، فيحكم العقل حينئذ تحصيلا للأمن منه ، لكن احتماله منفيّ في المقام بحكم العقل ، فإنّ المكلّف شاكّ في أوّل الوقت في تنجّز التكليف

__________________

(١) في الأصل : متوخر له ..

١٣٤

عليه وكون الترك حينئذ منشأ للعقاب ، فيرجع إلى أصالة البراءة حينئذ ، فينتفي احتمال العقاب ، فلا يبقى لقاعدة الاشتغال حينئذ موضوع.

وتوضيح الضعف : أنّ العقل إنّما يحكم بنفي العقاب من باب قبح صدوره من الشارع من غير بيان ، وهذا لا يكون إلاّ فيما إذا كان البيان من شأنه ، فيختصّ بالشبهة الحكمية ، ولا يعمّ الموضوعيّة لعدم لزوم البيان عليه فيها ، فلا يقبح العقاب ، فإذا لم يقبح فلا يحكم العقل بانتفاء احتمال العقاب ، لأنّ نفي الممكن بالذات إذا كان من مقولة العقاب لا يكون إلاّ بقبح صدوره منه ، والمفروض عدم قبحه عليه في صورة المخالفة المسبّبة عن التأخير في الشبهة الموضوعية فلا ينتفي احتمال العقاب ، فيتحقّق موضوع قاعدة الاشتغال. هذا.

قال ـ دام ظلّه ـ ونعم ما قال : إنّ الّذي ذكر في غاية المتانة والحسن ، لو لا استصحاب بقاء التمكّن من الفعل إلى الزمان المتأخّر المشكوك فيه التمكّن.

لكن الحق جريانه في المقام ، فيحرز به موضوع التمكّن في الآن المتأخّر ، فيكون التأخير حينئذ لمرخّص شرعيّ هو الاستصحاب ، ومعه لو اتفق التعذّر ، وترك المأمور به ، فهو معذور فينتفي احتمال العقاب ، فيرتفع موضوع الاشتغال.

هذا ، مع أنّه يمكن التمسّك بأصل البراءة في إثبات جواز التأخير ، نظرا إلى أخبار البراءة العامّة للشبهات الموضوعيّة ، بل غالبها واردة فيها ، فإنّ المفروض الشكّ في كون الآن الأوّل هو زمان التمكّن من الفعل لا غير ، بمعنى انحصاره فيه ، فلا يجوز التأخير عنه ، فيحكم بعدم حرمة التأخير ، كما في المائع المردّد بين كونه خمرا أو خلا مثلا ، إذ لا شبهة في جواز الرجوع إلى أصالة البراءة بمقتضى الأخبار العامّة للشبهات الموضوعيّة أيضا.

نعم هي ـ من باب حكم العقل ـ تختصّ بالشبهات الحكمية ، حيث إنّها

١٣٥

مبنيّة حينئذ على لزوم قبح العقاب المتوقّف على ترك البيان اللازم ، وأمّا من باب الأخبار فهي تعبّد من الشارع ورخصة منه في الارتكاب فيتّبع حينئذ ما ثبت فيه التعبّد ، إن في مورد ففيه ، أو مطلقا فمطلقا ، ولا شبهة في ثبوته مطلقا ، فيكون التأخير عن أول الوقت حينئذ بترخيص الشارع المؤمّن من العقاب ، فلا مجرى للاشتغال.

وكيف كان ، فقاعدة البراءة التعبّدية مع الاستصحاب كذلك يقتضيان جواز التأخير ، فينفيان احتمال العقاب ، فلا مورد للاشتغال ، فعلى هذا فالقاعدة الأوّلية جواز التأخير ما لم يقطع بكون الوقت آخر أزمنة الإمكان.

وهل ثبت دليل وارد على القاعدة الأوّلية ، وعلى انقلابها في المقام مطلقا أو في الجملة؟

الحق : نعم في الجملة.

وبيانه : أنّ التمكّن من الفعل فيما بعد من الأمور المستقبلة ، ولا ريب أنّ باب العلم إليها منسدّ غالبا ، فذلك أوجب اعتبار الظنّ فيها بحكم العقل والعقلاء.

ألا ترى أنّهم يحكمون بلزوم دفع الضرر المظنون وقوعه فيما بعد (١) ، وكذلك يكتفون في أفعالهم وتجاراتهم وأسفارهم إلى البلدان البعيدة بالظنّ بالسلامة.

وكيف كان ، فاعتبار الظنّ في الأمور المستقبلة ممّا لا ريب فيه ، وما نحن فيه منها ، فيكون الظنّ حجّة في إحراز آخر أزمنة التمكّن ، فيكون واردا على القاعدة الأوّلية في مورده ، فلا يجوز التأخير حينئذ ، فلا عذر في دفع العقاب على

__________________

(١) ولو لا اعتبار الظنّ للزم الوقوع في المضارّ الكثيرة ، فإنّه لا يعلم بها إلاّ بعد الوقوع فيها. لمحرّره عفا الله عنه.

١٣٦

تقدير المخالفة لو أخّر حينئذ.

فالحال في الأوامر المطلقة بالنسبة إلى آخر [ أزمنة ] التمكّن كالحال في الأوامر الموقّتة بالوقت الموسّع بالنسبة إلى ضيق الوقت الّذي لا يجوز التأخير عنه ، فإنّ الظنّ بالضيق هناك معتبر قائم مقام العلم به ، ووارد على استصحاب بقاء الوقت ، إلاّ أنّه فرق بين المقامين من وجه ، وهو أنّ الاستصحاب في المقام ممّا لا شبهة لنا في جريانه واعتباره ، حيث إنّ المستصحب فيه ـ وهو التمكّن ـ من غير الزمانيّات ، بخلافه ثمّة ، فإنّ جريانه فيه حيث إنّ المستصحب نفس الزمان بعد محلّ تأمّل ، فتأمّل.

١٣٧
١٣٨

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ وفقني وجميع الطالبين ، وزدني علما وعملا ، وألحقني بالصالحين بمحمّد صلى الله عليه [ وآله ] وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

القول في مسألة الإجزاء

وقبل الخوض فيها لا بدّ من تقديم أمور.

الأوّل : قد عنون جماعة الخلاف فيها بأنّ الأمر هل يقتضي الإجزاء أو لا؟

وزاد بعض هؤلاء : ( إذا أتى المأمور بالمأمور به على وجهه ) ، ولا بدّ منه كما سيتّضح وجهه عن قريب.

وعنونه بعض : بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا؟

وظاهر الأوّل ـ نظرا إلى إسناد الاقتضاء إلى الأمر الظاهر في الطلب بالقول ـ رجوع النزاع إلى دلالة الأمر ، كما أنّ الظاهر من الثاني ـ بالنظر إلى إسناده فيه إلى الفعل ـ رجوعه إلى علّية الإتيان بالمأمور به للإجزاء عقلا ، فإنّ الاقتضاء : تارة يطلق على الدلالة كما في قولهم : ( الأمر يقتضي الوجوب ) مثلا ، وأخرى على التأثير والعلّية ، ومنه المقتضي في لسان أهل المعقول ، حيث إنّه في اصطلاحهم عبارة عما يقابل الشرط وهو المؤثّر في المعلول ، ومن المعلوم أنّه

١٣٩

بالمعنى الثاني لا يعقل نسبته إلى الأمر (١) ، كما أنّه بالمعنى الأوّل لا يصحّ نسبته إلى الفعل ، وصريح التحرير الثاني أنّ المسألة عقلية ، كما أنّ ظاهر الأوّل أنّها لفظية.

ويؤيّده ـ بل يدلّ عليه ـ ما ادّعاه بعضهم من انحصار محلّ النزاع فيها في اقتضاء الأمر الثاني (٢) للإجزاء بالنسبة إلى الأمر الأوّل الواقعي ، فإنّه بعد الفراغ عن اقتضاء كلّ أمر للإجزاء بالنسبة إلى نفسه إذا أتى بمتعلّقه الواقعي على وجهه يرجع النزاع ـ في اقتضاء الأمر الثاني للإجزاء بالنسبة إلى الأمر الأوّل الواقعي ـ إلى أنّه هل يدلّ على انقلاب التكليف الواقعي ـ حال العذر أو الجهل ـ إلى متعلّق ذلك الأمر الثاني ، بمعنى دلالته على بدلية متعلّقه عن المأمور به الواقعي حال العذر أو الجهل ، حتّى يكون هو المأمور به فعلا للأمر الواقعي ، فيحصل الإجزاء بالنسبة إليه لكونه حينئذ داخلا في مورد الاتّفاق ، وهو إجزاء كلّ أمر بالنسبة إلى نفسه إذا أتى بمتعلّقه والمأمور به بذلك الأمر فعلا على وجهه ، أو لا؟ فلا يحصل الإجزاء بالنسبة إليه ، فيرجع هذا النزاع إلى دلالة الأمر الثاني على بدلية متعلّقه عن المأمور به الواقعي حال العذر أو الجهل وعدمها بعد الفراغ عن ثبوت الملازمة عقلا بين الإتيان بالفعل المأمور به بأمر على وجهه وبين الإجزاء بالنسبة إلى ذلك الأمر ، فتكون المسألة حينئذ لفظية لا عقلية ، كما أنّ النزاع فيها يكون صغرويا لا كبرويا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) نعم الأمر من شروطه ، حيث إنّ الفعل المعنون بالعنوان المنتزع منه يؤثّر في الإجزاء لا مطلقا ، وأمّا التأثير فهو مستند إلى نفس الفعل لا إليه.

هذا مع أنّ في كون الأمر أيضا شرطا له نظرا ، بل منعا ، بل الشرط هو الطلب فإنّ المؤثّر هو الفعل المطلوب ، كما سيجيء توضيحه. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) المراد به هو الأعمّ من الأمر الظاهري الشامل للأمر الثانوي الواقعي ، كالصلاة مع اليأس عن زوال المانع إلى آخره على القول بجوازها حينئذ. لمحرّره عفا الله عنه.

١٤٠