رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

وما بعده مفسّر إلى قوله : (وَمِنْ آياتِهِ) الجواري (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي : ومن عجائب مخلوقاته الجواري.

أثبت الياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب ، ووافقهما في الوصل : نافع وأبو جعفر وأبو عمرو ، وحذفها باقي العشرة في الحالين (١). وقد أشرنا إلى علة ذلك فيما مضى.

والمراد بالجواري : السّفن ، واحدتها : جارية ، وهي السائرة في البحر.

" كالأعلام" : وهي الجبال ، واحدها : علم.

قال الخليل : كل موضع مرتفع عند العرب فهو علم.

قالت الخنساء :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار (٢)

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) يريد : جنس الرياح.

وفي قراءة أبي جعفر ونافع : " الرياح" على الجمع (٣).

(فَيَظْلَلْنَ) يعني : الجواري (رَواكِدَ) ثوابت (عَلى ظَهْرِهِ) أي : على ظهر البحر واقفات لا يجرين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على البلاء (شَكُورٍ) على النعماء.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٤٢) ، والكشف (٢ / ٢٥٤) ، والنشر (٢ / ٣٦٨) ، والإتحاف (ص : ٣٨٣) ، والسبعة (ص : ٥٨١).

(٢) البيت للخنساء. انظر : ديوانها (ص : ٤٩) ، والقرطبي (١٦ / ٣٢) ، والبحر (٧ / ٤٩٧) ، والدر المصون (٦ / ٨٢) ، وروح المعاني (٢٢ / ٢٢٦ ، ٢٥ / ٤٢).

(٣) الحجة للفارسي (١ / ٣٩٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ١١٨ ـ ١١٩) ، والكشف (١ / ٢٧٠) ، والنشر (٢ / ٢٢٣) ، والإتحاف (ص : ٣٨٣) ، والسبعة (ص : ١٧٣).

٨١

(أَوْ يُوبِقْهُنَ) يهلكهن (بِما كَسَبُوا) بسبب ما كسبوا من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ).

قوله تعالى : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) قرأ نافع وابن عامر : " ويعلم" بالرفع. وقرأ الباقون بالنصب (١).

فمن رفع ؛ فعلى الاستئناف حيث كان بعد الجزاء ، وإن شئت جعلته خبر مبتدأ محذوف.

ومن نصب ؛ قال الزمخشري (٢) : عطف على تعليل محذوف ، تقديره : ولينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ، ونحوه قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [مريم : ٢١].

وقال مكي رحمه‌الله (٣) : من نصب فعلى الصرف. ومعنى الصرف : أنه لما كان قبله شرط وجواب ، وعطف" ويعلم" عليه لا يحسن في المعنى ؛ لأن علم الله تعالى واجب ، وما قبله غير واجب ، فلم يحسن الجزم في" يعلم" على العطف على الشرط وجوابه ، لأنه يصير المعنى : وإن يشأ يعلم ، فلما امتنع العطف عليه على لفظه ، عطف على مصدره ، والمصدر اسم ، فلم يمكن عطف فعل على اسم ، فأضمر" أن" ليكون مع الفعل اسما ، فيعطف اسما على اسم ، فانتصب الفعل ب" أن" المضمرة ، فالعطف مصروف عن لفظ الشرط إلى معناه ، فلذلك قيل : نصب على الظرف ،

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٤٣) ، والكشف (٢ / ٢٥١) ، والنشر (٢ / ٣٦٧) ، والإتحاف (ص : ٣٨٣) ، والسبعة (ص : ٥٨١).

(٢) الكشاف (٤ / ٢٣٢).

(٣) الكشف (٢ / ٢٥٢).

٨٢

وعلى هذا أجازوا : إن تأتني وتعطيني أكرمك ، فنصبوا" تعطيني" على الصرف ؛ لأنه صرف عن العطف على" تأتني" ، فعطف على مصدره ، فأضمرت" أن" لتكون مع الفعل مصدرا ، فيعطف اسم على اسم ، ولو عطف على" تأتني" كان المعنى : إن تأتني وإن تعطي أكرمك. فبوقوع أحد الفعلين يقع الإكرام إذا جزمت ، وعطفت على لفظ" تأتني" ، ولم يرد المتكلم هذا ، إنما أراد : إذا اجتمع الأمران منك وقع مني الإكرام ، فالتقدير : إن يكن منك إتيان وإعطاء أكرمك.

ومعنى الآية : ويعلم الذين يجادلون في آيتنا ويخاصمون فيها بالباطل عند إحاطة الهلاك والغرق بهم.

وقيل : يعلمون بعد البعث.

(ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : مهرب ومعدل.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)(٣٩)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) وقرأ حمزة والكسائي : " كبير الإثم" (١) ، أي : عظيمه. والمراد : الجمع.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٤٣) ، والكشف (٢ / ٢٥٣) ، والنشر (٢ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨) ، والإتحاف (ص : ٣٨٣ ـ ٣٨٤) ، والسبعة (ص : ٥٨١).

٨٣

وقد ذكرنا الكبائر في سورة النساء عند قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] ، وهو معطوف على قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وكذلك ما بعده.

(وَالْفَواحِشَ) الذنوب المفرطة في القبح ، (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : هم الأجدرون بأن يغفروا حالة الغضب ويكظموا على ما في أنفسهم ، رغبة في الثواب ورهبة من العقاب.

وقد ذكرنا في سورة آل عمران (١) وأواخر الأعراف (٢) طرفا من الأخبار والآثار الواردة في فضل الكظم والعفو والتجاوز عند الغضب.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أجابوه فيما دعاهم إليه ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) مفسّر في أول سورة البقرة.

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي : لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه. فأثنى الله تعالى عليهم بذلك.

قال الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم (٣).

وقد أشرنا إلى فضيلة المشاورة في سورة آل عمران عند قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩].

والشورى مصدر بمعنى التشاور.

__________________

(١) عند تفسير الآية رقم : ١٣٤.

(٢) عند تفسير الآية رقم : ١٩٩.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص : ١٠٠). وذكره الماوردي (٥ / ٢٠٦) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٣٥٧) وعزاه لعبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر.

٨٤

ومعنى قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي : ذو شورى.

قال علي عليه‌السلام : اجتمع لأبي بكر مال مرة ، فتصدق به كله في سبيل الله [والخير](١) ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فأنزل الله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٢) إلى قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣). خص به أبا بكر وعمّ به من اتبعه.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) قال ابن جريج : إذا بغى المشركون عليهم انتصروا بالسيف منهم (٤).

وقال زيد بن أسلم : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين بمكة ، فرقة منهم كانت تؤذى فتعفو عن المشركين ، وفرقة كانت تؤذى فتنتصر ، فأثنى الله تعالى عليهم جميعا ، فقال في الذين لم ينتصروا : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) وقال في المنتصرين : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)(٥).

وقال في رواية أخرى عنه : ذكر الله تعالى المهاجرين وكانوا (٦) صنفين ، صنفا عفى (٧) ، وصنفا انتصر فقال : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) فبدأ بهم ، وقال [في

__________________

(١) في الأصل : لخير. والتصويب من الكشاف (٤ / ٢٣٣).

(٢) في الأصل زيادة قوله : وزينتها. وهو خطأ.

(٣) ذكره الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣) ، والقرطبي (١٦ / ٣٦).

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٢٠٦) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٣٥٨) وعزاه لابن المنذر.

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٩١).

(٦) في الأصل زيادة قوله : " له". وانظر النص في : زاد المسير (٧ / ٢٩١).

(٧) في الأصل زيادة قوله : " الله تعالى عنهم" وهو وهم. انظر : الطبري (٢٥ / ٣٧) ، وزاد المسير (٧ / ٢٩١).

٨٥

المنتصرين : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) وقال](١) : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) إلى قوله : (يُنْفِقُونَ) وهم الأنصار ، ثم ذكر الصنف الثالث فقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) من المشركين (٢).

وقيل : إنها عامة في جميع الناس.

قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا (٣).

فإن قيل : هل يحمدون على الانتصار؟

قلت : نعم إذا لم يكن المنتصر متعديا فيه ؛ لأنه إذا تجرأ في الانتصار فجانب ما لا يسيغه الشارع له ، وفعل ما يبيحه له كان مطيعا لله تعالى ، ألا ترى أن مجتنب المعاصي ممدوح محمود في الآية السالفة ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ).

فإن قيل : فكيف يجمع بين هذه الآية الدالة على كونهم محمودين وبين الآيات المشتملة على فضيلة العفو؟

قلت : لا تناقض بين الحالتين ، فإن المنتصر على الوجه المشروع محمود على الوجه الذي ذكرناه ، والعافي له رتبة الفضيلة ، حيث أغضى عن حقه وكظم على ما في نفسه ابتغاء وجه الله تعالى ، وصار هذا بمنزلة من استحق دم إنسان قصاصا ، فإنه إن طالب القصاص على الوجه المشروع أو الدية على الوجه المقدر في الشرع

__________________

(١) زيادة من زاد المسير (٧ / ٢٩١ ـ ٢٩٢).

(٢) أخرجه الطبري (٢٥ / ٣٧). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٩١ ـ ٢٩٢).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٧٩). وذكره البخاري تعليقا (٢ / ٨٦٣) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٣٥٧) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٨٦

كان محسنا باعتبار اقتفائه أثر الشرع ، وإن عفى كان أجمل وأفضل.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(٤٣)

قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) مثل قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة : ١٩٤]. وقد سبق الكلام عليه.

قال مجاهد والسدي : إذا قال له كلمة أجابه بمثلها من غير أن يتعدّى (١).

وقال مقاتل (٢) : هذا في القصاص في الجراحات والدماء.

ثم رغب في العفو فقال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) تعالى.

قال الحسن : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد : ليقم من كان أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا (٣).

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يبدؤون بالظلم.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) هذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول. ويفسره

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٥ / ٣٨). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٣٥٩) وعزاه لابن جرير.

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ١٨٠).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٥٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٩٣) ، والسيوطي نحوه في الدر (٧ / ٣٥٩) وعزاه لابن مردويه.

٨٧

قراءة من قرأ : " بعد (١) ما ظلم" (٢).

(فَأُولئِكَ) إشارة إلى معنى" من" دون لفظها (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بعقاب ولا عاب ولا عتاب.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدؤونهم بالظلم ، (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) بالفساد والتكبر (بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) أي : صبر على الظلم ، وغفر فلم ينتصر (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) مفسّر في آل عمران (٣).

ويروى : أن رجلا سبّ رجلا في مجلس الحسن البصري ، فكان المسبوب يكظم ، ويعرق فيمسح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله [وفهمها](٤) إذ ضيّعها الجاهلون (٥).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : من. وانظر النص في : المصادر التالية.

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٧ / ٥٠٠) ، والدر المصون (٦ / ٨٦).

(٣) عند الآية رقم : ١٨٦.

(٤) زيادة من القرطبي (١٦ / ٤٤).

(٥) ذكره القرطبي في تفسيره (١٦ / ٤٤).

٨٨

فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)(٤٦)

قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي : ما له من ولي بعد الله يتولى هدايته ، أو منعه من الله تعالى.

(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) في الدار الآخرة (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) مرجع إلى الدنيا لنصلح ما أفسدنا.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي : على النار ، ودلّ عليها ذكر العذاب من قبل.

(خاشِعِينَ) خاضعين متواضعين (مِنَ الذُّلِ). وبعض القرّاء يقف على : " خاشعين" ، ويبتدئ : (مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) فيجعل (مِنَ الذُّلِّ) متعلقا ب" ينظرون".

قال الأخفش (١) : الطّرف : العين.

قال ابن عباس : (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) : أي : ذليل (٢).

وقال قتادة : يسارقون النظر (٣).

وقال أبو عبيدة (٤) : ينظرون ببعض العين.

ويروى : أنهم يحشرون عميا فلا ينظرون إلى النار إلا بقلوبهم ، وهو النظر من

__________________

(١) معاني الأخفش (ص : ٢٨٢).

(٢) أخرجه الطبري (٢٥ / ٤٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٨٠). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٣٦١) وعزاه لابن جرير.

(٣) أخرجه الطبري (٢٥ / ٤٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٣٦١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٤) مجاز القرآن (٢ / ٢٠١).

٨٩

طرف خفي (١).

وفيه بعد.

وكان يونس يقول : " من" بمعنى الباء ، [مجازه](٢) : بطرف خفي (٣).

قوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن تعلق ب" خسروا" ؛ كان المعنى : وقال الذين آمنوا في الدنيا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

وإن تعلق ب" قال" ؛ كان المعنى : وقال الذين آمنوا يوم القيامة إذا رأوا المشركين على الصفة الفظيعة والحال الشنيعة : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)(٤٨)

قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي : استجيبوا له [بالتوحيد](٤) والطاعة.

وقوله : (مِنَ اللهِ)" من" صلة" لا مردّ" ، على معنى : لا يرده الله بعد ما حكم به ، أو" من" صلة" يأتي" ، أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه.

__________________

(١) ذكره الطبري (٢٥ / ٤٢) ، والماوردي (٥ / ٢١٠).

(٢) في الأصل : محازة.

(٣) انظر : القرطبي (١٦ / ٤٦).

(٤) في الأصل : التوحيد.

٩٠

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) تلجؤون إليه (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) يحتمل وجهين :

أحدهما : من منكر ينكر ويغيّر ما بكم. قاله ابن السائب (١).

الثاني : ما لكم من إنكار ، أي : لا تقدرون أن تنكروا شيئا. قاله جماعة ، منهم الزجاج (٢).

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) سبق تفسيره (٣).

(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) منسوخ بآية القتال عند أكثر المفسرين (٤).

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ)(٥) هو اسم جنس.

قال المفسرون : يريد : الكافر.

(مِنَّا رَحْمَةً) نعمة من صحة وغنى وغيرهما ، (فَرِحَ بِها) أعجب بها غير شاكر ولا ذاكر.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) بلاء من مرض وفقر وغيرهما (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) بالله ونعمه.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(٥٠)

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٢١٠).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٤٠٢).

(٣) في سورة النساء ، آية رقم : ٨٠.

(٤) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٥٧) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٥٥).

(٥) في الأصل زيادة قوله : رحمة هم.

٩١

قوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائنهما وما فيهما ، فهو يتصرف كيف يشاء ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) كما وهب للوط وشعيب عليهما‌السلام ، (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) كإبراهيم ويعقوب.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) يقرنهم (ذُكْراناً وَإِناثاً) كما وهب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال مجاهد وجمهور المفسرين : هو أن تلد المرأة غلاما ثم جارية ، ثم غلاما ثم جارية (١).

وقال محمد بن الحنفية : أن تلد المرأة توأمين ذكرا وأنثى (٢).

(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا يولد له ؛ كيحيى بن زكريا ، وعيسى بن مريمعليهما‌السلام.

وهذه الأقسام موجودة في جميع الناس ، وإنما ذكرنا الأنبياء عليهم‌السلام تمثيلا.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ) بمصالح العباد وما يصلح لكل واحد منهم من الأولاد (قَدِيرٌ) على ما يصلحهم.

قال الزمخشري (٣) : فإن قلت : لم قدم الإناث أولا على الذكور مع تقدمهم عليهنّ ، ثم رجع فقدمهم ، ولم عرّف الذكور بعدما نكّر الإناث؟

قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى ، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده ، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث ؛ لأن

__________________

(١) أخرجه مجاهد (ص : ٥٧٧) ، والطبري (٢٥ / ٤٤). وذكره الماوردي (٥ / ٢١١).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٢١١) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٣٦٢) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) الكشاف (٤ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧).

٩٢

سياق الكلام أنه فاعل ما [يشاؤه](١) لا [ما](٢) يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ ، والأهمّ واجب التقديم ، وليلي الجنس الذي كانت العرب [تعدّه](٣) بلاء ذكر البلاء ، فلما أخّرهم لذلك تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم ؛ لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، لكن لمقتضى آخر.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٥٣)

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ) سبب نزولها : أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا [صادقا](٤) كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم : لم

__________________

(١) زيادة من الكشاف (٤ / ٢٣٧).

(٢) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) في الأصل : بعده. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) زيادة من الماوردي (٥ / ٢١٢) ، وزاد المسير (٧ / ٢٩٧).

٩٣

ينظر موسى إلى الله ، ونزلت هذه الآية (١).

ومعنى الآية : ما صلح لبشر (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) إلا على أحد أوجه ثلاثة :

(إِلَّا وَحْياً) في المنام ، أو بطريق الإلهام ، كما أوحى إلى إبراهيم في ذبح ولده ، وإلى أم موسى بما قذف في قلبها ، ومنه قول عبيد بن الأبرص :

وأوحى إليّ الله أن قد تأمّروا

بإبل أبي أوفى فقمت على رجل (٢)

أي : ألهمني وقذف في قلبي.

(أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) وهو أن يسمع كلامه ولا يراه ، كما كلّم الله تعالى موسى. وهذا الوجه الثاني.

(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) من ملائكته ، إما جبريل أو غيره إلى من اختصه بالنبوة واختاره للرسالة ، وجبريل أمين الوحي ، وهو صاحبه الملازم له. وهذا الوجه الثالث.

قرأ نافع : " أو يرسل" بالرفع ، (فَيُوحِيَ) بسكون الياء ، على الاستئناف والقطع مما قبله ، أو على إضمار مبتدأ ، تقديره : وهو يرسل.

وقال أبو علي (٣) : " يرسل" فعل مضارع قد وقع موقع الحال ، والتقدير : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو إرسالا ، " فإرسالا" معطوف على" وحيا" الذي هو مصدر في موضع الحال.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٢١٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٩٧).

(٢) البيت في : البحر المحيط (٧ / ٥٠٣) ، وروح المعاني (٢٥ / ٥٤) ، والكشاف (٤ / ٢٣٧).

(٣) انظر : الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨).

٩٤

وقرأ الباقون" يرسل" ، " فيوحي" بالنصب فيهما (١) ، حملا على معنى المصدر ؛ لأن قوله : (إِلَّا وَحْياً) معناه : إلا أن يوحي ، فيعطف" أو يرسل" على أن يوحي.

فإن قيل : هل يجوز أن يكون معطوفا على" أن يكلمه الله"؟

قلت : كلا ؛ لأن معناه على هذا التقدير : وما كان لبشر أن يرسل رسولا ، أو أن يرسله الله رسولا. والمعنيان فاسدان.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي : وكما أوحينا إلى الرسل أوحينا إليك روحا ، وهو القرآن ، وسائر ما أوحيناه إليه سمي روحا ؛ لأنه حياة القلوب.

قال مقاتل (٢) : وحيا بأمرنا.

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) قال ابن قتيبة ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأكثر المحققين (٣) : ما كنت تدري ما القرآن وشرائع الإيمان ، فإن شرائع الإيمان تسمى إيمانا. قال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] يريد : صلاتكم.

ولا بد من هذا التقدير ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشرك بالله طرفة عين ، ولا جهل التوحيد.

قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه : من زعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٤٤) ، والكشف (٢ / ٢٥٣) ، والنشر (٢ / ٣٦٨) ، والإتحاف (ص : ٣٨٤) ، والسبعة (ص : ٥٨٢).

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ١٨٣).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٦١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٩٨).

٩٥

على دين قومه فهو قول سوء ، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النّصب (١).

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي) يريد : الكتاب والإيمان.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) أي : [إنك لترشد](٢) وتدعو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

قوله تعالى : (صِراطِ اللهِ) بدل من الأول (٣).

وقد فسّرنا (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) في الفاتحة (٤).

قوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) إيذان بالبعث وتنبيه على الجزاء. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر : السنة للخلال (١ / ١٩٥ ـ ١٩٦) ، وزاد المسير (٧ / ٢٩٨).

(٢) في الأصل : إن سد. ولعل الصواب ما أثبتناه. وانظر : القرطبي (١٦ / ٦٠).

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢٢٦) ، والدر المصون (٦ / ٨٩).

(٤) الآية : ٦.

٩٦

سورة الزخرف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي تسع وثمانون آية في العدد المدني والكوفي (١) ، ومكية بإجماعهم (٢).

واستثنى مقاتل منها آية واحدة فقال : هي مدنية وهي : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) ... الآية (٣).

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)(٨)

قوله تعالى : (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) سبق تفسير "حم" في أول آل حم ، وتفسير" الكتاب المبين" في أول سورة يوسف.

وهذا قسم جوابه : (إِنَّا جَعَلْناهُ).

قال مجاهد : أوحيناه (٤).

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٢٣).

(٢) قال السيوطي في الدر (٧ / ٣٦٥) : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت بمكة سورة" حم" الزخرف.

(٣) انظر : زاد المسير (٧ / ٣٠١) ، والإتقان في علوم القرآن (١ / ٥٣).

(٤) انظر قول مجاهد في : الماوردي (٥ / ٢١٥) ، ولفظه : " قلناه" بدل : " أوحيناه".

٩٧

وقال السدي : أنزلناه (١) (قُرْآناً عَرَبِيًّا).

وقيل : صيّرناه ، ولذلك تعدى إلى مفعولين.

فإن قيل : إنما يقسم على الشيء إذا كان في مظنة الخفاء ، وكون هذا القرآن عربيا لا يفتقر في تقريره وتحقيقه إلى قسم ؛ لأنه لا ينكر؟

قلت : لم يقسم على كون القرآن عربيا فقط ، إنما أقسم على كونه قرآنا ، ثم وصفه بكونه عربيا امتنانا عليهم بإنزاله بلسانهم ، إرادة أن يعقلوه ويفهموه ، ألا تراه أتبع ذلك بقوله : (وَإِنَّهُ) يعني : القرآن.

وقال ابن جريج : ما يكون من الخلق من طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر (٢).

والأول أصح (٣).

(فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي : في أصله ، وهو اللوح المحفوظ ، كما قال في موضع آخر : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢].

(لَدَيْنا) أي : عندنا (لَعَلِيٌ) رفيع الشأن (حَكِيمٌ) محكم بالأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، أو حكيم ذو حكمة وبلاغة.

قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) قال ابن قتيبة (٤) : أفنمسك عنكم ، فلا نذكركم؟

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٢١٥).

(٢) مثل السابق.

(٣) ورجحه غير واحد من المفسرين ؛ كالطبري (٢٥ / ٤٨) وغيره.

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٣٩٥).

٩٨

" صفحا" : أي إعراضا. يقال : صفحت عن فلان ؛ إذا أعرضت عنه (١). والأصل في ذلك : أن تولّيه صفحة عنقك. قال كثيّر يصف امرأة :

صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت (٢)

أي : معرضة بوجهها ، يقال : ضربت عن فلان كذا ؛ إذا أمسكته ، وأضربت عنه (٣).

وقال الزمخشري (٤) : الفاء للعطف على محذوف ، تقديره : [أنهملكم](٥) فنضرب عنكم الذكر إنكارا لأن يكون الأمر على خلاف ما تقدم. و" صفحا" مصدر ، من صفح عنه : إذا أعرض ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به ، إعراضا عنكم؟.

قرأ نافع وحمزة والكسائي : " إن كنتم قوما مسرفين" بكسر الهمزة ، وفتحها الباقون (٦).

وقال أبو علي (٧) : من كسر الألف جعل" إن" شرطا ، واستغني عن جوابه بما

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : صفح).

(٢) البيت لكثير ، وهو في : اللسان (مادة : صفح) ، والقرطبي (١٦ / ٦٣) ، وزاد المسير (٧ / ٣٠٢) ، والبحر (٨ / ٧).

(٣) انظر : اللسان (مادة : ضرب).

(٤) الكشاف (٤ / ٢٤١).

(٥) في الأصل : أنمهلكم. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٦) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٤٤) ، والكشف (٢ / ٢٥٥) ، والنشر (٢ / ٣٦٨) ، والإتحاف (ص : ٣٨٤) ، والسبعة (ص : ٥٨٤).

(٧) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٩).

٩٩

تقدّمه ، ومن فتحها فالمعنى : لأن كنتم ، فموضع" أن" نصب على أنه مفعول له.

قال قتادة : المعنى : أفنمسك عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمنون (١)؟.

قوله تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) يشير إلى كثرة الرسل قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَما يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية ، على معنى : وما كان يأتيهم (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم خوّف كفار قريش فقال : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) قوة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي : سبق وصف عقابهم فيما أنزلناه عليك.

وقيل : سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب ، فستقع بينهم المشابهة في الإهلاك.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(١٤)

__________________

(١) ذكره الثعلبي (٨ / ٣٢٨) ، من قول قتادة وابن زيد.

١٠٠