رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

وقيل : في كتب الحفظة.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال ، وما كان وما يكون (مُسْتَطَرٌ) مكتوب في اللوح.

وقيل : كونه ووقوعه.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) يريد : أنهار الجنة من الماء واللبن والخمر والعسل ، فوحّد لوفاق الفواصل ، أو ذهب به مذهب الجنس ، وأنشد الخليل وسيبويه (١) :

 بها جيف [الحسرى](٢) فأمّا عظامها

فبيض وأما جلدها فصليب (٣)

وقيل : المراد بالنّهر : الضّياء والسعة ، من قولك : أنهرت الطّعنة ؛ إذا أوسعتها (٤).

وقرأ الأعمش والأعرج : " ونهر" بضم النون والهاء (٥) ، [جمع](٦) نهر ، كأسد وأسد ، أو جمع نهار ، يريد : لا ليل لهم ، بل هم في ضياء أبدا.

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي : في مكان مرضي ومجلس. وقد نبهنا على هذا في قوله

__________________

(١) انظر : الكتاب لسيبويه (١ / ٢٠٩).

(٢) في الأصل : الحشرى. والمثبت من ب ، ومصادر البيت.

(٣) البيت لعلقمة بن عبدة المعروف بالفحل. انظر : ديوانه (ص : ٤٠) والكتاب (١ / ٢٠٩) ، والمفضليات (ص : ٣٩٤) ، والطبري (٤ / ٢٤٤ ، ١٧ / ١٢) ، والقرطبي (١ / ١٩٠) ، ومعاني الزجاج (١ / ٨٣ ، ٢ / ٧٤) ، وزاد المسير (١ / ٣٠٧ ، ٤٠١ ، ٢ / ١٢٨ ، ٨ / ١٠٣) ، والدر المصون (١ / ١٠٨ ، ٢ / ١٢٥).

(٤) انظر : اللسان (مادة : نهر). وفي ب : وسعتها.

(٥) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤٠٥).

(٦) في الأصل : وجمع. والتصويب من ب.

٥٤١

تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) [يونس : ٢].

(عِنْدَ مَلِيكٍ)(١) مالك ، وجاء على بناء فعيل ؛ للمبالغة ، (مُقْتَدِرٍ) قادر على ما يشاء.

والمراد : المجالس التي أعدّها الله تعالى لأوليائه في جواره. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : مقتدر. وستأتي بعد.

٥٤٢

سورة الرحمن عزوجل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي سبع وسبعون آية في المدني ، وثمان في الكوفي (١).

وهي مكية في قول الحسن وعطاء ومقاتل (٢) والأكثرين ، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة عنه (٣) ، واستثنى آية وهي : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٤).

ومدنية في قول ابن مسعود وابن عباس في رواية عطية عنه (٥).

والصحيح الأول ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها على الجن الذين صرفهم الله تعالى إليه ، وكان ذلك بمكة.

وسنذكر الحديث في آخر السورة إن شاء الله.

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٣٧).

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٣٠٣).

(٣) انظر : الإتقان (١ / ٤٣).

(٤) انظر : الماوردي (٥ / ٤٢٢) ، وزاد المسير (٨ / ١٠٥) ، والدر المنثور (٧ / ٦٨٩).

(٥) انظر : المصادر السابقة.

٥٤٣

بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(١٣)

قال الله عزوجل : (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قال مقاتل (١) : لما نزل قوله : (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٦٠] قال كفار مكة : وما الرحمن؟ فأنكروه. فقال الله : الرحمن الذي أنكروه هو الذي علم القرآن.

قال الكلبي : علّم محمدا وعلّم محمد أمته (٢).

وقال الزجاج (٣) : يسّر القرآن لأن يذكر.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) قال ابن عباس وقتادة : آدم (٤).

و (الْبَيانَ) : اللغات ، والأسماء كلها.

وقال ابن كيسان : المراد بالإنسان : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علّمه بيان ما كان ويكون (٥).

والصحيح : أن الإنسان : اسم جنس ، وهو قول جمهور المفسرين (٦).

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٣٠٣).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢١٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٦).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٩٥).

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ١١٤) عن قتادة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير ٨ / ١٠٦) عن ابن عباس وقتادة ، والسيوطي في الدر (٧ / ٦٩١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٦).

(٦) ذكره الطبري (٢٧ / ١١٤) ، والماوردي (٥ / ٤٢٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٦).

٥٤٤

قال الحسن : البيان : النطق والتمييز (١).

وقال يمان : البيان : الكتابة والخط (٢).

قال بعض العلماء : لما أراد الله تعديد نعمه على خلقه في هذه السورة بدأ بنعمة الدّين ؛ لكونها أجلّ المنن وأعظمها ، وتعليم القرآن أعلى مراتبها وأقصى مراقيها ؛ لأنه الصراط المستقيم المفضي إلى الجنة والسعادة الأبدية ، وثنّى بخلق الإنسان ؛ تنبيها له أنه خلق للدين والعلم بالقرآن ، وثلّث بنعمة تعليم البيان ، وهو النطق الذي تميّز به عن سائر الحيوان ، والذي هو وسيلة إلى العلم بالقرآن [والتمييز](٣) بين الخير والشر (٤).

قال صاحب الكشاف (٥) : " الرحمن" : مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزّك بعد ذل ، كثّرك بعد قلّة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد.

قوله : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي : يجريان بحساب معلوم ، لمصالح العالم ، على ما بيناه في مواضعه.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٦).

(٢) مثل السابق.

(٣) في الأصل : والتميز. والتصويب من ب.

(٤) قال السمين الحلبي في الدر المصون (٦ / ٣٥) : فإن قيل : لم قدّم تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود؟

قيل : لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.

(٥) الكشاف (٤ / ٤٤٣).

٥٤٥

(وَالنَّجْمُ) قال ابن عباس : هو كل نبت ليس له ساق (١).

قال اللغويون (٢) : هو النبات الذي ينجم ، أي : يطلع ليس له ساق ؛ كالبقول.

(وَالشَّجَرُ) الذي له ساق.

وقال مجاهد : المراد بالنجم : نجوم السماء (٣).

وجوّز الزجاج (٤) أن يراد : جميع ما نبت على وجه الأرض ، وما طلع من نجوم السماء. وقال : يقال لكل ما يطلع : قد نجم.

والأول أصح.

وسجودهما : انقيادهما لما خلقا له.

وقيل : سجودهما : ميلهما مع الشمس.

وقيل : [تفيّؤ](٥) ظلالهما.

وقد أشرنا إلى ذلك وإلى ما هو المختار عندنا من القول في هذه الآية وأمثالها في سورة الحج (٦).

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) أي : جعلها رفيعة عالية ؛ ليتسع الفضاء بين الأرض والسماء ، ولو لا ذلك وجريان الريح ؛ لمات الخلق كربا.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٤٢٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٧).

(٢) انظر : معاني الزجاج (٥ / ٩٦) ، ومعاني الفراء (٣ / ١١٢).

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٦٣٩) ، والطبري (٢٧ / ١١٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٩٦).

(٥) في الأصل : تفؤ. والتصويب من ب.

(٦) عند الآية رقم : ١٨.

٥٤٦

وقرأ أبو [السمّال](١) : " والسماء" بالرفع (٢) ، جعلها جملة مركّبة من مبتدأ وخبر معطوفة على الجملة التي هي قوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ).

(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) لينتصف بعض الناس من بعض.

قال الضحاك : هو الميزان ذو اللسان والكفّتين (٣).

وقال مجاهد وقتادة والسدي : المراد بالميزان : العدل (٤).

وقيل : القرآن (٥).

والعدل شامل لجميع الأقوال ، وبه تقدير الأشياء ووزنها ، وتمييز باطلها من حقها.

فالمراد بالميزان على هذا : كل ما تعرف به المقادير ، من ميزان ومكيال ومقياس وغير ذلك.

أن لا (تَطْغَوْا) أي : وضعها لئلا تطغوا وتتجاوزوا القدر والعدل.

ويجوز أن تكون" أن" مفسرة و" لا" للنهي ، تقديره : أي : لا تطغوا (فِي الْمِيزانِ)(٦).

__________________

(١) في الأصل : السماك. والتصويب من ب.

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ١٨٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٣٧).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٤٢٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٧).

(٤) أخرجه مجاهد (ص : ٦٤٠) ، والطبري (٢٧ / ١١٨). وذكره الماوردي (٥ / ٤٢٤) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٦٩٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٧) من قول الحسين بن الفضل.

(٦) هو قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٤٤٣) ، وأبي البقاء العكبري في التبيان (٢ / ٢٥١) ، إلا أن أبا البقاء كأنّه تنبّه للاعتراض فقال : و" أن" بمعنى : أي ، والقول مقدّر. قال السمين الحلبي في الدر ـ

٥٤٧

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ) وفي قراءة ابن مسعود : " وأقيموا اللسان".

(بِالْقِسْطِ) أي : لسان الميزان.

والمعنى : قوّموه بالقسط ، وهو العدل.

(وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي : لا تنقصوه. فنهى سبحانه أولا عن الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في الاعتداء ، وأمر بالتسوية والعدل ثانيا ، ثم نهى عن التطفيف والنقصان ثالثا. وكرّر ذكر الميزان ؛ مبالغة في الحث على الأخذ به والعدل فيه.

قرأ بلال بن أبي بردة : " ولا تخسروا" بفتح التاء والسين ، على معنى : لا تخسروا في الميزان ، فلما سقط الحرف الجار تعدّى الفعل ، فنصب (١). وروي عنه : " تخسروا" بفتح التاء وكسر السين (٢).

قال الزجاج (٣) : روى أهل اللغة : أخسرت الميزان ، وخسرت الميزان.

وقال ابن جني (٤) : هو ما يشترك فيه فعلت وأفعلت من المعنى

__________________

ـ المصون (٦ / ٢٣٧) : وقوله : " والقول مقدّر" ليس بجيد ؛ لأنها لا تفسّر القول الصريح ، فكيف يقدّر ما لا يصح تفسيره؟ فإصلاحه أن يقول : وما هو بمعنى القول مقدّر.

وردّ هذا القول ـ أي : أن تكون" أن" مفسرة و" لا" للنهي ـ أبو حيان في البحر المحيط (٨ / ١٨٨) فقال : ولا يجوز ؛ لأنه فات أحد شرطيها ، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول ، ووضع الميزان جملة ليس فيها معنى القول ، والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد ، وأما ما لا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه.

(١) قال أبو حيان في البحر (٨ / ١٨٨) : ولا يحتاج إلى هذا التخريج ؛ لأن خسر جاء متعديا ؛ كقوله تعالى : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [الزمر : ١٥] ، (وخَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١٥].

(٢) انظر القراءتين في : البحر المحيط (٨ / ١٨٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٣٧).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٩٦).

(٤) المحتسب (٢ / ٣٠٣).

٥٤٨

[الواحد](١) ، نحو : أجبرته وجبرته ، وأهلكته وهلكته.

وقال الزمخشري (٢) : يقال أيضا : خسر الميزان يخسره ويخسره ، بضم السين وكسرها.

قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي : بسطها ومهّدها للأنام.

قال ابن عباس : الأنام : الإنس (٣). وأنشدوا قول [رقيقة](٤) بنت أبي صيفي في عبد المطلب :

مبارك الوجه يستسقى الغمام به

ما في الأنام له عدل ولا خطر (٥)

وقال الحسن والزجاج (٦) : الإنس والجن (٧).

__________________

(١) زيادة من المحتسب ، الموضع السابق.

(٢) الكشاف (٤ / ٤٤٤).

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ١١٩) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٢٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٢ ـ ٦٩٣) وعزاه للفريابي وابن أبي حاتم. وذكره من نفس الطريق أيضا ، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) في الأصل : رفيقة. والمثبت من ب.

(٥) البيت لرقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف ، تمدح عمها عبد المطلب حين استسقى به قومه فسقوا ، وأولها :

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

وقد فقدنا الحيا واجلوّذ المطر

وحديث رقيقة في سقيا عبد المطلب أخرجه ابن سعد في طبقاته (١ / ٨٩ ـ ٩٠) ، والطبراني في الكبير (٢٤ / ٢٥٩ ح ٦٦١) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (٥٧ / ١٤٩).

(٦) معاني الزجاج (٥ / ٩٧).

(٧) أخرجه الطبري (٢٧ / ١١٩) عن الحسن. وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٣) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن الحسن.

٥٤٩

وقال مجاهد وقتادة : هو اسم لكل ذي روح (١).

قال بعضهم : سمّي بذلك ؛ لأنه ينام.

والآية التي بعد هذه مفسرة فيما مضى.

قوله تعالى : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) قرأ ابن عامر : " والحبّ" بالنصب ، " ذا" بالألف ، " والريحان" بالنصب (٢) ؛ عطفا على قوله : (وَضَعَها لِلْأَنامِ) ، على أن" وضعها" بمعنى : خلقها. المعنى : والأرض خلقها وخلق الحب والريحان.

وقرأ الباقون : " والحبّ" بالرفع (٣) ، على معنى : فيها فاكهة والنخل والحب ذو العصف وفيها الريحان.

وقرأ حمزة والكسائي : " والريحان" بالجر (٤) ، على معنى : ذو العصف وذو الريحان.

والحب : اسم جنس ، يريد : الحبوب المأكولة.

قال ابن كيسان : يبدو أولا ورقا وهو العصف ، ثم يبدو له ساق ، ثم يحدث الله فيه أكماما ، ثم يحدث في الأكمام الحبّ (٥).

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٤٢٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٠٧ ـ ١٠٨).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ١٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٠) ، والكشف (٢ / ٢٩٩) ، والنشر (٢ / ٣٨٠) ، والإتحاف (ص : ٤٠٥) ، والسبعة (ص : ٦١٩).

(٣) انظر : المصادر السابقة.

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٠) ، والكشف (٢ / ٢٩٩) ، والنشر (٢ / ٣٨٠) ، والإتحاف (ص : ٤٠٥) ، والسبعة (ص : ٦١٩).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢١٨).

٥٥٠

قال الزجاج (١) : والعصف : ورق الزرع ، ويقال : التّبن.

والريحان : الرزق. في قول أكثر المفسرين (٢).

قال الفراء (٣) : الريحان في كلام العرب : الرّزق ، يقولون : خرجنا نطلب ريحان الله. وأنشد الزجاج (٤) للنمر بن تولب :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر (٥)

وبهذا التفسير تحسن قراءة حمزة والكسائي.

المعنى : وفيها الحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام ، وذو الريحان الذي هو [مطعم](٦) الناس.

وقال الحسن والضحاك وابن زيد : هو الريحان المشموم (٧).

والقولان مرويان عن ابن عباس.

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٩٧).

(٢) أخرجه مجاهد (ص : ٦٤٠) ، والطبري (٢٧ / ١٢٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٣ ـ ٦٩٤) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك ، وعزاه من طرق الثلاثة لابن جرير.

(٣) معاني الفراء (٣ / ١١٣ ـ ١١٤).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٩٧).

(٥) البيت للنمر بن تولب. انظر : ديوانه (ص : ٣٤٥) ، واللسان (مادة : روح ، درر) ، وغريب القرآن (ص : ٤٢٦) ، والطبري (٢٧ / ١٢٣) ، والقرطبي (١٧ / ١٥٧ ، ٢٣٣) ، وزاد المسير (٨ / ١٠٨) ، والماوردي (٥ / ٤٢٦) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٢٢١) ، والحجة للفارسي (٤ / ١٣).

(٦) في الأصل : طعام. والمثبت من ب.

(٧) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٢٢). وذكره الماوردي (٥ / ٤٢٦) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٦٩٣ ـ ٦٩٤) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الحسن ، وعزاه لابن جرير. ومن طريق آخر عن ابن زيد ، وعزاه لابن جرير أيضا.

٥٥١

ثم خاطب الثقلين الإنس والجن بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : بأيّ نعمه المذكورة في هذه السورة وغيرها تكذبان.

والآلاء : النّعم ، وهو جمع ، واحده : إلى ، مثل : معى ، ويقال : ألى ، مثل : قفا (١).

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٢٥)

قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) أي : خلقه من طين يابس لم يطبخ ، إذا نقرته صوّت ، فهو كالفخار ، أي : كالطين المطبوخ بالنار.

وقد ذكرنا" الصلصال" و" الجان" في الحجر (٢).

قال ابن عباس : " المارج" : لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت (٣).

وقال مجاهد : المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأخضر والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت (٤).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : ألا).

(٢) عند الآية رقم : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٢٦).

(٤) أخرجه مجاهد (ص : ٦٤٠) ، والطبري (٢٧ / ١٢٦). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٤) وعزاه ـ

٥٥٢

قال الزجاج (١) : هو اللهب المختلط بسواد النار.

قال غيره : من مرج الشيء ؛ إذا اضطرب واختلط (٢).

وقال مقاتل (٣) : المارج : لهب النار الصافي من غير دخان.

قال الزجاج (٤) رحمه‌الله في قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) [الرحمن : ١٤] ، وقوله : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١] ، وقوله : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦] ، وقوله : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] : لا مناقضة بين هذه الآيات ، فأصل الطين : التراب ، فأعلم الله عزوجل أنه خلق آدم من تراب جعل طينا ، ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. فهذا كله أصله التراب.

قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) أي : مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) مغربهما.

وقيل : مشرق الشمس والقمر ومغربهما.

وقيل : مشرق الفجر والشمس ، ومغرب الشمس والشفق.

قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسل كل واحد من البحر العذب والبحر الملح على صاحبه (يَلْتَقِيانِ).

__________________

ـ للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير.

(١) معاني الزجاج (٥ / ٩٩).

(٢) انظر : اللسان (مادة : مرج).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٣٠٤).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٩٨).

٥٥٣

(بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله (لا يَبْغِيانِ) لا يختلطان فيبغي [أحدهما](١) على الآخر.

وقد سبق هذا في سورة الفرقان (٢).

وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك : هو بحر السماء وبحر الأرض ، يلتقيان كل عام (٣).

وقال الحسن وقتادة : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يعني : بحر فارس والروم (٤) ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) : وهو الجزائر (٥).

قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) قرأ نافع وأبو عمرو : " يخرج" بضم الياء وفتح الراء ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الباقون بفتح الياء وضم

__________________

(١) في الأصل : إحداهما. والمثبت من ب.

(٢) عند الآية رقم : ٥٣.

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٢٨) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٦) وعزاه لابن جرير. وهذا القول هو الذي رجّحه الطبري ، وأيّده بسياق الآية فقال : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : عني به بحر السماء وبحر الأرض ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء ؛ فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء.

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٢٨). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٦) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن. ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٥) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٢٩). وذكره الماوردي (٥ / ٤٣٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١١٢) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٦٩٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة ، ولفظه : برزخ الجزيرة.

٥٥٤

الراء (١) ؛ لأنه إذا أخرج فقد خرج.

وقرأت لأبي عمرو من رواية العباس بن الفضل عنه : " يخرج منهما" بضم الياء وكسر الراء ، ونصب" اللؤلؤ والمرجان" (٢).

قال الزجاج (٣) : إنما يخرج من البحر الملح ، وإنما جمعهما ؛ لأنه إذا أخرج من أحدهما فقد أخرج منهما. ومثله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦].

وقال أبو علي (٤) : أراد : [يخرج](٥) من أحدهما ، فحذف المضاف.

وقال الزمخشري (٦) : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن [يقال](٧) : يخرج منهما ، [كما](٨) يقال : يخرج من البحر ، ولا يخرج من جميعه ، ولكن من بعضه.

وجمهور المفسرين واللغويين : على أن اللؤلؤ : اسم جامع للحبّ الذي يخرج من البحر ، والمرجان : صغاره (٩). وقول مقاتل (١٠) والسدي على الضد من ذلك.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ١٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩١) ، والكشف (٢ / ٣٠١) ، والنشر (٢ / ٣٨٠ ـ ٣٨١) ، والإتحاف (ص : ٤٠٥) ، والسبعة (ص : ٦١٩).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ١٥) ، والسبعة (ص : ٦١٩).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ١٠٠).

(٤) الحجة للفارسي (٤ / ١٥).

(٥) في الأصل : خرج. والتصويب من ب.

(٦) الكشاف (٤ / ٤٤٥).

(٧) في الأصل : يقول. والتصويب من ب ، والكشاف (٤ / ٤٤٥).

(٨) في الأصل : لا. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٩) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٣٠ ـ ١٣١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٧) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس ، ومن عدة طرق أخرى عن قتادة ومجاهد والحسن والضحاك.

(١٠) انظر : تفسير مقاتل (٣ / ٣٠٥) ، وزاد المسير (٨ / ١١٣).

٥٥٥

وقال ابن مسعود : " المرجان" : الخرز الأحمر كالقضبان (١).

قال ابن عباس : إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها ، فما وقع فيها من مطر السماء فهو لؤلؤ (٢).

قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) وقرأ حمزة وعاصم بخلاف عنه : " المنشآت" بكسر الشين (٣).

والمعنى : وله السفن الجواري ، الواحدة منها : جارية ، سميت بذلك ؛ لأنها تجري في الماء بإذن الله.

والجارية : المرأة الشابّة ، سميت بذلك لجريان ماء الشباب فيها.

والمنشآت : بفتح الشين : المرفوعات الشّرع ، وبالكسر الرّافعات الشّرع ، أو اللاتي ينشئن [الأمواج بجريهن](٤).

قال الكلبي : ما رفع قلعه منها ، فهي منشأة ، وما لم يرفع فليس بمنشأة (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير (٩ / ٢١٨ ح ٩٠٥٨). وذكره الماوردي (٥ / ٤٣١) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٦٩٧) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني.

(٢) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٣٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٢٤) ، وابن أبي الدنيا في كتاب" المطر" (ص : ٩). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٦٩٦) وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب المطر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ١٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩١ ـ ٦٩٢) ، والكشف (٢ / ٣٠١) ، والنشر (٢ / ٣٨١) ، والإتحاف (ص : ٤٠٦) ، والسبعة (ص : ٦١٩ ـ ٦٢٠).

(٤) في الأصل : بخروجهن. والتصويب والزيادة من ب.

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ٤٣١).

٥٥٦

والأعلام : جمع علم ، وهو الجبل الطويل (١). وقد سبق ذكره (٢).

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٠)

قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) أي : جميع من على الأرض هالك.

وقد تقدم ذكرها في قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) [الرحمن : ١٠].

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) مثل قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

(ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) قال الخطابي (٣) : الجلال : مصدر الجليل ، [يقال](٤) : جليل بين الجلالة والجلال.

[والإكرام](٥) : مصدر أكرم يكرم إكراما.

والمعنى : أنه يستحق أن يجلّ ويكرم ؛ لعزّته وعظمته ، أو لأنه يجلّ أولياءه ويكرمهم برفع الدرجات في الجنات.

وهاتان الصفتان من أعظم صفات الله عزوجل. وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أمته](٦) أن يضرعوا إلى الله ويسألوه بهما على وجه الملازمة والإلحاح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : علم).

(٢) في سورة الشورى آية رقم : ٣٢.

(٣) شأن الدعاء (ص : ٩١ ـ ٩٢).

(٤) زيادة من ب ، وشأن الدعاء (ص : ٩١).

(٥) في الأصل : وإكرام. والتصويب من ب ، وشأن الدعاء ، الموضع السابق.

(٦) زيادة من ب.

٥٥٧

«ألظّوا بياذا الجلال والإكرام» (١).

فإن قيل : أي نعمة في قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) حتى عقبه بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

قلت : هو نعمة لأولياء الله ؛ حيث أفضى بهم إلى السعادة الأبدية والنعمة العظمى.

وجميع ما يأتيك في هذه السورة ؛ فهو إما تحديث [بنعمة](٢) ، أو تحذير من نقمة ، أو إعلام بقدرة باهرة ، أو عظمة ظاهرة ، وجميع ذلك نعم. فإن شخصا لو جاءك منقذا لك من هلكة كنت غافلا عنها لرأيتها له نعمة جسيمة ومنّة عظيمة.

قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يطلبون منه أنواع الحاجات ؛ لغناه وفقرهم إليه.

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) أي : كل وقت وزمان هو في شأن من شؤون الملك ، يعزّ ويذلّ ، ويغني ويفقر ، ويحيي ويميت ، ويسعد ويشقي ، ويمرض ويشفي ، إلى غير ذلك من تدبير ملكوت السموات والأرض ، مما لا يحيط به علما سواه.

قرأت على أبي القاسم بن أبي منصور الموصلي ، أخبركم أبو القاسم يحيى بن أسعد ، أخبرنا أبو العز بن كادش ، أخبرنا أبو علي الجازري ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، حدثنا الحسن بن الحسين بن عبد الرحمن الأنطاكي ، حدثنا محمد بن الحسن ـ يعني : أبا الحارث ـ الرملي ، حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي ، حدثنا الوزير بن

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٤٠ ح ٣٥٢٥) ، وأحمد (٤ / ١٧٧).

(٢) في الأصل : نعمة. والتصويب من ب.

٥٥٨

صبيح الثقفي (١) ، حدثنا يونس بن ميسرة بن [حلبس](٢) ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في قول الله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) : من شأنه [أن](٣) يغفر ذنبا ، ويكشف كربا ، ويجيب داعيا ، ويرفع قوما ويضع آخرين» (٤).

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٦)

قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) قرأ أهل الكوفة إلا حفصا وعبد الوارث عن أبي عمرو : " سيفرغ لكم" بالياء ، حملا على قوله : (وَلَهُ) الجواري" ، إلا أن الحلبي عن عبد الوارث زاد : ضم الياء وفتح الراء (٥). وقرأ الباقون من العشرة

__________________

(١) الوزير بن صبيح الثقفي ، أبو روح الشامي ، صالح الحديث (تهذيب التهذيب ١١ / ١٠٢ ، والتقريب ص : ٥٨٠).

(٢) في الأصل : حليس. والتصويب من ب. وانظر ترجمته في : تهذيب التهذيب (١١ / ٣٩٤) ، والتقريب (ص : ٦١٤).

(٣) زيادة من سنن ابن ماجه (١ / ٧٣).

(٤) أخرجه ابن ماجه (١ / ٧٣ ح ٢٠٢). وذكره البخاري معلقا موقوفا على أبي الدرداء (٤ / ١٨٤٧).

(٥) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١١٥) ، والدر المصون (٦ / ٢٤٢).

٥٥٩

بالنون وضم الراء (١).

وقد سبق ذكر اختلافهم في" أيها (الثَّقَلانِ)(٢).

قال المفسرون : هذا وعيد من الله وتهديد منه لعباده (٣).

قال الزجاج (٤) : تقول : سأفرغ لفلان ، أي : سأجعله قصدي.

فمعنى الآية : سيقصد لحسابكم. والثّقلان : الإنس والجن ، سميّا بذلك ؛ لأنهما ثقلا الأرض.

ويدل على ذلك قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) الأقطار : النواحي.

قال ابن عباس : المعنى : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض (٥).

وقيل : إن استطعتم أن [تخرجوا](٦) من ملكوتي ومن سمائي وأرضي وتهربوا من قضائي وقدري ، فلا يدركم الموت ولا ما تكرهونه من مرض وفقر وغيرهما ، فانفذوا.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ١٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٢) ، والكشف (٢ / ٣٠١) ، والنشر (٢ / ٣٨١) ، والإتحاف (ص : ٤٠٦) ، والسبعة (ص : ٦٢٠).

(٢) في سورة النور ، آية رقم : ٣١.

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٣٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٢٥). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٧٠١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن الضحاك ، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٩٩).

(٥) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٣٧).

(٦) في الأصل : تحروا. والتصويب من ب.

٥٦٠