رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

والمعنى : في مقام أمنوا فيه من جميع المخاوف.

وقد ذكرنا" الجنات" في أوائل سورة البقرة (١) ، و" السندس والإستبرق" في الكهف (٢) ، و" متقابلين" في سورة الحجر (٣).

قوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : الأمر كذلك. ويجوز أن يكون في محل النصب ، على معنى : آتيناهم مثل ذلك ، (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ).

قال المفسرون : المعنى : قرنّاهم بهنّ وليس من عقد التزويج.

قال يونس : العرب لا يقولون : تزوج بها ، إنما يقولون : تزوجها (٤).

قال أبو علي الفارسي (٥) : والتنزيل على ما قال يونس (٦).

وقال ابن قتيبة (٧) : يقال : زوجته امرأة ، وزوجته بامرأة.

وأما الحور ؛ فقال مجاهد : النساء النقيات البياض (٨).

__________________

(١) عند الآية رقم : ٢٥.

(٢) عند الآية رقم : ٣١.

(٣) عند الآية رقم : ٤٧.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٥١).

(٥) لم أقف عليه في المطبوع من الحجة.

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٥١).

(٧) انظر قول ابن قتيبة في : زاد المسير (٧ / ٣٥١).

(٨) انظر : الطبري (٢٥ / ١٣٦).

وفي تفسير مجاهد (ص : ٥٩٠) قوله : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) يقول : أنكحناهم حورا عينا.

والحور : اللاتي يحار فيهن الطرف ؛ باد مخ سوقهن من وراء ثيابهن ، فينظر الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون. ـ

١٨١

قال أبو [عبيدة](١) : الحوراء : الشديدة بياض العين الشديدة سوادها. وقد ذكرنا في سورة الصافات معنى" عين" (٢).

قوله تعالى : (آمِنِينَ) قال قتادة : من الموت والأوصاب والشيطان (٣).

وقيل : آمنين من انقطاع الفاكهة في بعض الأزمنة (٤).

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) قال صاحب الكشاف (٥) : إن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى ـ المذوقة قبل دخول الجنة ـ من الموت المنفي ذوقه فيها؟

قلت : أريد : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) موضع ذلك ؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها.

__________________

ـ ورد الطبري على مجاهد معنى الحور هذا وقال : وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها أنه يحار فيها الطرف قول لا معنى له في كلام العرب ؛ لأن الحور إنما هو جمع حوراء كالحمر جمع حمراء ، والسود جمع سوداء. والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض كما قيل وبالمنفعة البياض من الطعام الحواري (الطبري ٢٥ / ١٣٦).

(١) في الأصل : عبيد. وانظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (٢ / ٢٤٦).

(٢) عند الآية رقم : ٤٨.

(٣) أخرجه الطبري (٢٥ / ١٣٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٢٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٥١).

(٥) الكشاف (٤ / ٢٨٦).

١٨٢

وقال ابن جرير (١) : " إلا" بمعنى بعد. وقد ذكرنا هذا في قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢]. وأكثر المفسرين يقول : سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.

قوله تعالى : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ) مفعول له ، [أو مفعول](٢) به ، على معنى : أعطاهم فضلا ، أو مصدر مؤكد لما قبله (٣) ؛ لأن قوله تعالى : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) تفضل منه لهم ، فكأنه قال : تفضّل عليهم فضلا.

وقال الزجاج (٤) : المعنى : فعل الله تعالى بهم ذلك فضلا منه.

وقرئ : " فضل" بالرفع (٥) ، على معنى : ذلك فضل.

قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) يعني : القرآن ، (بِلِسانِكَ) أي : بلغتك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أراد : أن يفهموه فيتدبروه.

(فَارْتَقِبْ) انتظر ما يحلّ بهم (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) هلاكك.

وأكثر المفسرين يقولون : هذه الآية منسوخة بآية السيف (٦).

والصحيح : أنها محكمة ، على ما سبق في نظائرها. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر : الطبري (٢٥ / ١٣٧).

(٢) في الأصل : أمفعول.

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢٣١) ، والدر المصون (٦ / ١٢٠).

(٤) معاني الزجاج (٤ / ٤٢٩).

(٥) انظر هذه القراءة في : الكشاف (٤ / ٢٨٦).

(٦) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٥٩) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٥٥).

١٨٣

سورة الجاثية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وتسمى سورة الشريعة. وهي ست وثلاثون آية في المدني ، وسبع في الكوفي (١).

وهي مكية في قول عامة المفسرين (٢).

واستثنى قوم آية واحدة وهي قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) فقالوا : هي مدنية (٣).

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٥)

قال الله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) يجوز أن يكون على ظاهره.

وقال الزجاج (٤) : المعنى ـ والله تعالى أعلم ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٢٦).

(٢) ذكر السيوطي في الدر (٧ / ٤٢٢) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أنزلت بمكة سورة حم الجاثية. وذكر عن ابن الزبير أيضا قال : أنزلت سورة الشريعة بمكة.

(٣) انظر : الماوردي (٥ / ٢٦٠) ، وزاد المسير (٧ / ٣٥٤) ، والإتقان في علوم القرآن (١ / ٥٣).

(٤) معاني الزجاج (٤ / ٤٣١).

١٨٤

ويدل عليه قوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ).

والمعنى : وفي خلقكم من تراب ثم نطفة إلى أن يتكامل خلق الإنسان وينفخ فيه الروح (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) عطف على" الخلق" المضاف ، لا على المضاف إليه ؛ لأنهم يستقبحون عطف المظهر على المضمر المجرور.

وقد ذكرنا علة ذلك في أول النساء (١).

قرأ حمزة والكسائي : " آيات لقوم يوقنون" و" آيات لقوم يعقلون" بالنصب فيهما. وقرأ الباقون" آيات" بالرفع فيهما (٢).

قال الزجاج وأبو علي وغيرهما (٣) : من قرأ برفع" الآيات" ، فإن الرفع من وجهين :

أحدهما : العطف على موضع" إنّ" وما عملت فيه ؛ لأن موضعها رفع بالابتداء ، فيحمل الرفع فيه على الموضع.

والآخر : أن يكون مستأنفا ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة ، فيكون قوله تعالى ـ على هذا ـ (آياتٌ) : مرتفعا بالابتداء ، أو بالظرف في قول من رأى الرفع به.

وأما حمزة والكسائي فإنهما حملا على لفظ" إنّ" دون موضعها ، حملا" آيات" في الموضعين على نصب" إنّ" في قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ

__________________

(١) عند الآية رقم : ١.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٨٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٥٨) ، والكشف (٢ / ٢٦٧) ، والنشر (٢ / ٣٧١) ، والإتحاف (ص : ٣٨٩) ، والسبعة (ص : ٥٩٤).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٤٣١ ـ ٤٣٢) ، والحجة للفارسي (٣ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠).

١٨٥

لِلْمُؤْمِنِينَ) ، ومما يؤكد قراءتهما وأنّ" آيات" محمولة على ما ذكرهن في بعض القرآن بثلاث لا مات ؛ (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) لآيات ، وكذلك الموضعان الآخران ؛ لأن هذه اللام إنما تدخل على خبر" إنّ" أو على اسمها. فأما قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يسلم الكلام من العطف على عاملين ، وجاز حذف" في" هاهنا ، وهي مرادة ؛ لتقدم ذكرها في قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ) ، وفي قوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ) فلما تقدم ذكرها في الموضعين قدّر إثباتها وإن كانت محذوفة ، كما قدر سيبويه (١) في قوله :

أكل امرئ تحسبين امرءا

ونار توقّد بالليل نارا (٢)

أن" كلّ" في حكم الملفوظ به ، واستغني عن إظهاره بتقدّم ذكره.

وفي قراءة ابن مسعود : " وفي اختلاف الليل والنهار" (٣) ، وقد سبق تقدير الاثنين في سورة البقرة (٤).

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً

__________________

(١) انظر : الكتاب (١ / ٦٦).

(٢) البيت لابن أبي دؤاد الإيادي. وهو في : أمالي ابن الشجري (١ / ٢٩٦) بلا نسبة.

(٣) انظر هذه القراءة في : الدر المصون (٦ / ١٢٢) ، والكشاف (٤ / ٢٨٨).

(٤) عند الآية رقم : ١٦٤.

١٨٦

اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(١١)

قوله تعالى : (تِلْكَ) إشارة إلى [ما](١) تقدم إنزاله من القرآن ، أو إلى هذه الحجج المذكورة.

(آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) مفسّر في سورة البقرة (٢).

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) مفسّر في الأعراف (٣).

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص : " يؤمنون" بالياء حملا على ما قبله من الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء (٤) ، حملا على قوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ) ، أو على معنى : قل لهم يا محمد فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون.

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) قال ابن عباس : نزلت في النضر بن الحارث (٥).

و" الويل" مذكور في البقرة ، و" الأفاك الأثيم" في الشعراء (٦) ، والتي تليها في

__________________

(١) زيادة على الأصل.

(٢) عند الآية رقم : ٢٥٢.

(٣) عند الآية رقم : ١٨٥.

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٥٩) ، والكشف (٢ / ٢٦٧) ، والنشر (٢ / ٣٧١ ـ ٣٧٢) ، والإتحاف (ص : ٣٨٩) ، والسبعة (ص : ٥٩٤).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٥٥).

(٦) عند الآية رقم : ٢٢٢.

١٨٧

سورة لقمان (١).

قوله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا) وقرأ ابن مسعود بضم العين وكسر اللام وتشديدها (٢). والمعنى : وإذا أحس بشيء من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اتَّخَذَها هُزُواً).

وقيل : المعنى : وإذا علم من آياتنا شيئا يتشبث به المعاند اتخذها هزؤا وسلّما يرقى فيه إلى أغراضه الفاسدة ، (أُولئِكَ) يشير إلى كل أفّاك أثيم.

قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) مفسّر في سورة إبراهيم (٣).

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا) من الأموال وزينة الدنيا (شَيْئاً) أي : لا ينفع ولا يدفع عنهم شيئا من العذاب ، كقوله تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المجادلة : ١١٧] ، (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يعني : آلهتهم لا تدفع عنهم أيضا شيئا من العذاب.

قوله تعالى : (هذا هُدىً) يريد : القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) من هذه الأمة وغيرهم (بِآياتِ رَبِّهِمْ) القرآن وغيره من كتب الله تعالى (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). وقرئ : " أليم" [بالرفع](٤). وقد [ذكرناه](٥) في سورة سبأ (٦) ، و" الرجز" في

__________________

(١) عند الآية رقم : ٧.

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٣٥٦) ، والدر المصون (٦ / ١٢٦).

(٣) عند الآية رقم : ١٦.

(٤) في الأصل : بالفع. وانظر : الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٨٢) ، والكشف (٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٢) ، والنشر (٢ / ٣٤٩) ، والإتحاف (ص : ٣٩٠) ، والسبعة (ص : ٥٩٤).

(٥) في الأصل : ذكرنا.

(٦) عند الآية رقم : ٥.

١٨٨

الأعراف (١).

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١٥)

قوله تعالى : (جَمِيعاً مِنْهُ) الجار والمجرور في محل الحال (٢). المعنى : سخر لكم هذه الأشياء كائنة من عنده.

ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هي جميعا منه (٣).

وقرأ جماعة ، منهم : عبد الله بن عمرو ، [وعبد الله](٤) بن العباس ، وأبو مجلز ، وابن محيصن ، وابن السميفع ، والجحدري : " جميعا منّة" (٥) بفتح النون وتشديدها مع النصب والتنوين على المصدر ، بما دل عليه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) كأنه قال : منّ عليكم منّة.

__________________

(١) عند الآية رقم : ١٣٤.

(٢) انظر : الدر المصون (٦ / ١٢٧).

(٣) مثل السابق.

(٤) في الأصل : وعبد. والصواب ما أثبتناه.

(٥) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٣٥٦) ، والدر المصون (٦ / ١٢٧).

١٨٩

وقرأ سعيد بن جبير : " منّه" بفتح الميم وتشديد النون ورفعها (١) ، على معنى ذلك ، أو هو منه ، أو هو فاعل" سخّر".

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) ذهب جمهور المفسرين إلى أنها نزلت في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فروى عطاء عن ابن عباس : أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها : المريسيع ، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي له ماء ، فأبطأ عليه ، فلما أتاه قال : ما حبسك؟ قال : غلام عمر ، ما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرب أبي بكر ، وملأ لمولاه ، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمّن كلبك يأكلك ، فبلغ عمر رضي الله عنه قوله ، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه ، فنزلت هذه الآية (٢).

وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضا قال : لما نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] قال يهودي بالمدينة يقال له : فنحاص : احتاج رب محمد ، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه ، فنزل جبريل بهذه الآية ، وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلب عمر ، فلما جاء قال : يا عمر ضع سيفك ، وتلا عليه هذه الآية (٣).

وقال مقاتل (٤) : نزلت في عمر بن الخطاب ، وكان قد شتمه رجل ، فهمّ أن

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٣٥٦) ، والدر المصون (٦ / ١٢٧).

(٢) ذكره الواحدي في : أسباب نزول القرآن (ص : ٣٩٣) ، وابن الجوزي في : زاد المسير (٧ / ٣٥٧).

(٣) ذكره الواحدي في : أسباب نزول القرآن (ص : ٣٩٤) ، وابن الجوزي في : زاد المسير (٧ / ٣٥٨).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٢١٢).

١٩٠

يبطش به ، فنزلت هذه الآية ، وأمره الله تعالى بالعفو والصفح عنه. روي عن ابن عباس أيضا.

فصل

وعامة المفسرين يقولون : هي منسوخة (١) ؛ لأنها نزلت متضمنة الصفح عن المشركين والتجاوز عنهم.

واختلفوا في ناسخها ؛ فقيل : آية السيف (٢).

وقيل : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) [الأنفال : ٥٧] ، وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦]. رويا عن قتادة (٣).

وقال أبو صالح : وقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ) ... الآية (٤) [الحج : ٣٩].

وقال قوم : هي محكمة. وقد ذكرنا أمثال ذلك فيما مضى.

فصل

وأما إعراب" يغفروا" فإنه مثل قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١]. وقد سبق ذكره هناك ، وسبق أيضا [الرجاء](٥) ، يطلق بمعنى : الخوف. فالمعنى : لا يخشون وقائع الله بأمثالهم.

__________________

(١) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٥٩) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٥٥ ـ ٥٦).

(٢) أخرجه الطبري (٢٥ / ١٤٤). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٢٤) وعزاه لابن جرير وابن الأنباري في المصاحف.

(٣) أخرجه الطبري (٢٥ / ١٤٤). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٢٤) وعزاه لعبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري (٢٥ / ١٤٥). وذكره الماوردي (٥ / ٢٦٣).

(٥) زيادة على الأصل.

١٩١

وقيل : لا يأملون ما وعد الله المؤمنين من الثواب.

والأول أظهر المعنيين هاهنا. وقد سبق ذكر المراد (بِأَيَّامِ اللهِ) في سورة إبراهيم (١).

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : " لنجزي" بالنون ، وقرأ الباقون بالياء (٢).

وقرأت لأبي جعفر : " ليجزى" بضم الياء وفتح الزاي (٣).

واتفقوا على نصب" قوما" ، ولا إشكال في نصبه على القراءتين المشهورتين. والتقدير على قراءة أبي جعفر : ليجزى الجزاء قوما. واللام في" ليجزي" يتعلق بقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) ، أي : اغفروا لهم ليجزي قوما.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)

__________________

(١) عند الآية رقم : ٥.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٦٠) ، والكشف (٢ / ٢٦٨) ، والنشر (٢ / ٣٧٢) ، والإتحاف (ص : ٣٩٠) ، والسبعة (ص : ٥٩٤ ـ ٥٩٥).

(٣) النشر (٢ / ٣٧٢) ، والإتحاف (ص : ٣٩٠).

١٩٢

هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)(٢٤)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) يريد : التوراة (وَالْحُكْمَ) يعني : الحكمة والفقه.

وقيل : فصل الخصومات.

(وَالنُّبُوَّةَ) وما في الآية سبق تفسيره في مواضع.

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أعطيناهم برهانا يصدعون به بين الحق والباطل ، ويفرقون به بين الحلال والحرام.

وقيل : آتيناهم العلم بمبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته وصفته.

وما بعده سبق تفسيره فيما مضى إلى قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي : صيّرناك على طريقة واضحة من أمر الدين.

وما بعده ظاهر ومفسّر إلى قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ) الهمزة لإنكار الحسبان (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) اكتسبوا (السَّيِّئاتِ).

١٩٣

قوله تعالى : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " سواء" بالنصب. وقرأ الباقون : بالرفع (١).

فمن نصب جعله المفعول الثاني" لنجعل" ، أو يكون حالا ، ويكون المفعول الثاني" لنجعلهم (كَالَّذِينَ آمَنُوا). ويجوز أن يكون من الضمير المرفوع في (كَالَّذِينَ آمَنُوا) ، وهذا الضمير يعود إلى الضمير المنصوب في" نجعلهم" في كلا الوجهين من كونه مفعولا ثانيا ، أو حالا قد أعمل عمل الفعل ، فرفع به" محياهم" ، ومن رفع جعله خبر مبتدأ متقدم ، والمبتدأ : (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) سواء.

والمراد من الآية : الإعلام بنفي المساواة بين الصالح والطالح في حياته ومماته ، وذم من سوّى بينهم في ذلك.

قال إبراهيم بن الأشعث : كنت كثيرا ما أرى الفضيل بن عياض يردد من أول ليلته إلى آخرها هذه الآية ونظائرها : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) ، ثم يقول : يا فضيل ، ليت شعري! من أي الفريقين أنت؟! (٢).

وما بعده مفسّر وظاهر إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ).

قال مقاتل (٣) : نزلت في الحارث بن قيس السهمي.

وقد سبق تفسيره في الفرقان (٤).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٦١) ، والكشف (٢ / ٢٦٨) ، والنشر (٢ / ٣٧٢) ، والإتحاف (ص : ٣٩٠) ، والسبعة (ص : ٥٩٥).

(٢) ذكره الثعلبي (٨ / ٣٦١).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٢١٤).

(٤) عند الآية رقم : ٤٣.

١٩٤

قوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) قال الزجاج (١) : أي : على ما سبق في علم الله تعالى قبل أن يخلقه أنه ضالّ. وهو معنى قول ابن عباس (٢).

وقال مقاتل (٣) : على علم منه أنه ضالّ.

وتمام الآية مفسّر في البقرة (٤) ، والتي تليها مفسّرة في المؤمنين (٥) إلى قوله تعالى : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي : ما يفنينا إلا مرّ الزمان واختلاف الجديدين. ولم يكن من اعتقادهم أن قبض أرواحهم بإذن الله تعالى على يد ملك الموت وأعوانه ، ونسبتهم ذلك إلى الدهر على عادتهم في إضافة الحوادث التي تنزل بهم إليه. وإذا استقرأت أشعارهم وأخبارهم رأيناها مشحونة بذلك ، وإليه أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر» (٦) ، أي : فإن الله هو الذي يفعل بكم ما تنسبونه إلى الدهر.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٤٣٣).

(٢) أخرجه الطبري (٢٥ / ١٥١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٩١) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (٣ / ٥٦٦ ح ١٠٠٣). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٢٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٢١٤).

(٤) عند الآية رقم : ٧.

(٥) عند الآية رقم : ٣٧.

(٦) أخرجه مسلم (٤ / ١٧٦٣ ح ٢٢٤٦).

١٩٥

لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٩)

وما بعده سبق تفسيره في مواضعه إلى قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً).

قال ابن عباس : مجتمعة (١).

وقال قتادة : جماعات ، من الجثوة ، وهي الجماعة (٢). وقد ذكرناه في سورة مريم (٣).

وقال مجاهد : مستوفزة (٤).

وقال الحسن : باركة على الركب (٥).

قال سلمان الفارسي رضي الله عنه : في القيامة ساعة هي عشر سنين ، يكون الناس فيها جثاة على ركبهم ، حتى إن إبراهيم عليه‌السلام ينادي : نفسي نفسي ، لا أسألك إلا نفسي (٦).

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٢٦٧).

(٢) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٨ / ٥٠).

(٣) عند الآية رقم : ٦٨.

(٤) أخرجه مجاهد (ص : ٥٩٢) ، والطبري (٢٥ / ١٥٤). وذكره الماوردي (٥ / ٢٦٧) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٢٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ٢٦٧).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٠٠).

١٩٦

وقرئ : " جاذية" بالذال المعجمة (١) ، والجذوّ أشد استيفازا من الجثو ؛ لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه (٢).

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) وقرأت على شيخنا أبي البقاء ليعقوب من بعض طرقه : " كلّ أمّة" بالنصب (٣).

فمن رفع فعلى الابتداء ، ومن نصب جعله بدلا مما قبله.

قال ابن [عباس](٤) : تدعى إلى كتابها الذي فيه حسناتها وسيئاتها (٥).

وقال الشعبي : تدعى إلى حسابها (٦). وهو قول الفراء وابن قتيبة (٧) ، وهو يرجع إلى القول.

وقيل : إلى كتابها الذي أنزل على رسولها (٨).

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) قال ابن السائب : كتاب الأعمال الذي كتبته الحفظة (٩).

__________________

(١) انظر هذه القراءة في البحر المحيط (٨ / ٥٠) ، والدر المصون (٦ / ١٣٢).

(٢) انظر : اللسان (مادة : جذا).

(٣) النشر (٢ / ٣٧٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٩٠).

(٤) زيادة من زاد المسير (٧ / ٣٦٤).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٦٤).

(٦) مثل السابق.

(٧) معاني الفراء (٣ / ٤٨) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص : ٤٠٥).

(٨) ذكره الماوردي في تفسيره (٥ / ٢٦٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٦٤).

(٩) مثل السابق.

١٩٧

وقال مقاتل (١) : اللوح المحفوظ.

وقال ابن قتيبة (٢) : المعنى : هذا القرآن يدلكم ويذكركم ، فكأنه ينطق عليهم.

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) أي : نأمر الملائكة بكتب أعمالكم في الدنيا. هذا معنى قول علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

وقال أكثر المفسرين : نأمر الملائكة أن ينسخوا من اللوح المحفوظ في كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيه. قالوا : والاستنساخ لا يكون إلا من أصل (٤).

وقال الحسن : ونستنسخ ما حفظته عليكم الملائكة (٥).

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٢١٥).

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٠٥).

(٣) أخرجه الطبري (٢٥ / ١٥٦). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٣٠) وعزاه لابن جرير.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٦٥).

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ٢٦٨).

١٩٨

فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٣٧)

فإن قيل : أين جواب" أما" في قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)؟

قلت : هو محذوف ، تقديره : فيقال لهم : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ).

فإن قيل : أين المعطوف عليه بالفاء؟

قلت : هو محذوف أيضا ، تقديره : ألم تأتكم رسلي ، فلم تكن آياتي تتلى عليكم.

قوله تعالى : (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) قرأ حمزة : " والساعة" بالنصب. وقرأ الباقون بالرفع (١) ، فمن نصب عطف على" الوعد" ، ومن رفع عطف على محل" إنّ" واسمها.

(قُلْتُمْ) إنكارا وتكذيبا : (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُ) قيامها (إِلَّا ظَنًّا).

وباقي الآية توكيد منهم لنفي علمهم بصحة كونها.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) نترككم في النار (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : كما تركتم الإيمان به والاستعداد له.

قال الزجاج (٢) : والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَمَأْواكُمُ النَّارُ).

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) وقرأ حمزة والكسائي : " يخرجون" بفتح الياء وضم

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٦٢) ، والكشف (٢ / ٢٦٩) ، والنشر (٢ / ٣٧٢) ، والإتحاف (ص : ٣٩٠) ، والسبعة (ص : ٥٩٥).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٤٣٦).

١٩٩

الراء (١).

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يطلب منهم أن يعتبوا ربهم ، أي : يرضوه. وهو مفسّر في المصابيح (٢) وغيرها.

ثم حمد نفسه جلّت عظمته معلّما لعباده كيف يحمدونه ويعظمونه فقال : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) إلى آخر السورة.

والكبرياء : العظمة.

وقيل : السلطان والشرف. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٦٢) ، والكشف (١ / ٤٦٠) ، والنشر (٢ / ٢٦٧) ، والإتحاف (ص : ٣٩٠) ، والسبعة (ص : ٥٩٥).

(٢) هي سورة فصلت ، عند الآية رقم : ٢٤.

٢٠٠