رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

فإن قلت : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) منقطع [عن](١) ذكر القرآن ، فما وجه اتصاله به؟

قلت : لا يخلو إما أن يكون (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) في موضع الجر معطوفا على قوله تعالى : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) على معنى قولك : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ؛ إلا أن فيه عطفا على عاملين ، وإن كان الأخفش يجيزه. وإما أن يكون مرفوعا على تقدير : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ ، أو في آذانهم منه وقر.

وقد ذكرنا فيما مضى أن الوقر : الصّمم.

قوله تعالى : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) وقرأ جماعة ، منهم : ابن عباس ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص : " عم" بكسر الميم (٢) ، وقراءة الأكثرين أرجح ، وهي اختيار أبي عبيد ؛ لقوله : (هُدىً وَشِفاءٌ) ، فكذلك" عمى" مصدر مثلهما ، قال : ولو أنهما" هاد وشاف" لكان الكسر في" عم" أجود ؛ ليكون نعتا مثلهما.

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) تحقيق لمعنى إعراضهم وبعدهم عن الحق ، كأنهم لفرط ذلك كالذي يصاح به من مكان بعيد ، فهو لا يسمع النداء.

والآية التي [بعدها](٣) مفسرة في آخر سورة هود (٤).

__________________

(١) في الأصل : من. والمثبت من الكشاف (٤ / ٢٠٨).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٧ / ٤٨١) ، والدر المصون (٦ / ٧٠).

(٣) زيادة على الأصل.

(٤) عند تفسير الآية رقم : ١١٠.

٤١

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٤٨)

قوله تعالى : (وَما تَخْرُجُ مِنْ) ثمرة (مِنْ أَكْمامِها) قرأ نافع وابن عامر وحفص : " ثمرات" على الجمع ؛ لأن المعنى عليه ؛ لأنه لا يريد ثمرة دون ثمرة. وقرأ الباقون" ثمرة" على لفظ الإفراد (١) ، والمراد : الكثرة ، ويقوّي ذلك قوله تعالى : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى).

قال الزمخشري (٢) : الكمّ ـ بكسر الكاف ـ : وعاء الثمرة ، كجفّ الطّلعة.

وقال غيره : غلاف كل شيء : كمّه ، ومنه قيل للقلنسوة : كمّة ؛ لأنها تغطي الرأس ، [ومن هذا](٣) كمّا القميص ؛ لأنهما يغطيان [اليدين](٤).

والمعنى : وما يحدث من شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضعها إلا وهو عالم به.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٥٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٣٧ ـ ٦٣٨) ، والكشف (٢ / ٢٤٩) ، والنشر (٢ / ٣٦٧) ، والإتحاف (ص : ٣٨٢) ، والسبعة (ص : ٥٧٧).

(٢) الكشاف (٤ / ٢٠٩).

(٣) زيادة من زاد المسير (٧ / ٢٦٥).

(٤) في الأصل : اليد. والتصويب من زاد المسير ، الموضع السابق.

٤٢

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) يريد : على زعمهم أنها شركاء في الإلهية.

(قالُوا) يعني : المشركين. وقيل : الشركاء. والأول أظهر.

(آذَنَّاكَ) أعلمناك بما علمت من عقائدنا الآن ، أو يقولون ذلك وقد سبق إعلامهم به أول ما سئلوا.

ثم أعيد عليهم السؤال توبيخا وتقريعا ، فحكى الله تعالى ذلك عنهم ، أو يكون ذلك إنشاء للإيذان.

(ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) يشهد بأن لك شريك. تبرّؤوا من شركائهم حين تبيّنوا وحدانية الله تعالى ، فلم ينفعهم ذلك.

وإن قلنا : هو من قول الشركاء ، فالمعنى : ما منا من شهيد يشهد بما أضافوه إلينا من الشركة.

(وَظَنُّوا) أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).

وكان سهل يقف على قوله : " وظنوا" ، على معنى : وظنوا ظنا.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(٥١)

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أو من دعائه الخير ، فحذف الفاعل وأضافه إلى المفعول.

٤٣

والمعنى : لا يسأم من طلب السعة في المال وسوغ النعم.

(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) وهو الفقر والضيق (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ).

قال الزمخشري (١) : بولغ فيه من طريقين ؛ بناء فعول ، والتكرير. وهذه صفة الكافر ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧].

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي : ولئن فرجنا عنه فأذقناه غنى بعد فقر ، أو صحة بعد مرض (لَيَقُولَنَ) أشرا وبطرا وبغيا : (هذا لِي) أي : حقي وصل إليّ ؛ لأني أستوجبه بما عندي من الاستحقاق له.

ثم يتمادى في جهله وغيه حتى يقول إنكارا لقدرة الله تعالى على البعث بعد ما رأى وشاهد من تقلبات أحواله وآثار تصرفات الله تعالى فيه : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً).

ثم يقول على سبيل الفرض والتقدير : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) الحالة الحسنى من النعمة والكرامة كما أعطاني في الدنيا.

قال الحسن بن علي عليهما‌السلام : الكافر في أمنيتين ، أما في الدنيا فيقول : لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، وأما في الآخرة فيقول : يا ليتني كنت ترابا (٢).

ثم [هدّدهم](٣) بالآية التي تلي هذه.

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٢١٠).

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (١٥ / ٣٧٣).

(٣) في الأصل : هدهم.

٤٤

والآية التي بعدها مفسّرة في أواخر بني إسرائيل (١).

والمراد بالعريض : الكثير. والعرب تستعمل الطول والعرض في معنى الكثرة ، يقولون : أطال فلان الكلام وأعرض ؛ إذا كثر (٢).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

ثم أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستدرجهم بألطف طريق وأن يستنزلهم عما هم عليه من العناد فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ كانَ) يعني : القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) هذا الكفر وعاندتموه هذا العناد (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) عن الهدى.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) قال الحسن ومجاهد : " في الآفاق" : فتح أقطار الأرض ، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : فتح مكة (٣).

وقال قتادة وغيره : سنريهم وقائعنا في الأمم الخالية ، وذلك بسيرهم في

__________________

(١) في سورة الإسراء ، عند الآية رقم : ٨٣.

(٢) انظر : اللسان (مادة : عرض).

(٣) أخرجه الطبري (٢٥ / ٥). وذكره الماوردي (٥ / ١٨٩) كلاهما عن السدي ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٤٠).

٤٥

الأرض ، وفي أنفسهم يوم بدر (١).

وقيل : (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : وهو كونهم خلقوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ، إلى أن نقلوا إلى العقل والتمييز (٢).

(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) يريد : القرآن ، (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو يشهد لك وعليهم.

والآية التي بعدها مفسّرة فيما مضى ، ومضمونها : تهديدهم. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٦٧).

(٢) وهو قول الزجاج. انظر : معاني الزجاج (٤ / ٣٩١ ـ ٣٩٢).

٤٦

سورة الشورى

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي خمسون آية في المدني ، وثلاث وخمسون في الكوفي (١).

وهي مكية في قول ابن عباس وعامة المفسرين (٢).

ويحكى عنه أيضا أن فيها من المدني : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ...) إلى آخر أربع آيات (٣) ، واستثنى مقاتل : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ) إلى قوله تعالى : (بِذاتِ الصُّدُورِ) ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) إلى قوله تعالى : (مِنْ سَبِيلٍ)(٤).

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٤)

قوله تعالى : (حم عسق) قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي : أقسم الله سبحانه وتعالى بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته (٥).

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٢١).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ١٩١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٧٠) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٣٣٥) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن ابن الزبير ، وعزاه لابن مردويه.

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ١٩١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٧٠).

(٤) انظر : الإتقان في علوم القرآن (١ / ٥٣).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٢) عن ابن عباس ، والقرطبي في تفسيره (١٦ / ٢) عن محمد بن كعب.

٤٧

وقال في رواية ابن أبي طلحة : هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم الله به (١).

وقال قتادة : اسم من أسماء القرآن (٢).

وقال كثير من المفسرين : هي حروف مقطعة من حوادث آتية (٣).

قال عطاء : الحاء من حرب ، والميم من تحويل ملك ، والعين من عدو مقهور ، والسين من [استئصال بسنين](٤) كسني يوسف ، والقاف من قدرة الله تعالى في ملكوت الأرض (٥).

وقال بكر بن عبد الله المزني : حم حرب تكون بين قريش والموالي ، فتكون الغلبة لقريش على الموالي ، [" م"](٦) ملك بني أمية ، " ع" علو ولد العباس ، " سين" سناء المهدي ، " ق" قوة عيسى بن مريم [حين](٧) ينزل فيقتل النصارى ويخرب البيع (٨).

وفي مصحف ابن مسعود : " حم سق" بغير عين (٩).

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ١٩١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٧١).

(٢) مثل السابق.

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ١٩٢).

(٤) في الأصل : استيعال يستبين. والمثبت من زاد المسير (٧ / ٢٧١).

(٥) ذكره الثعلبي (٨ / ٣٠٣) بنحوه ، والماوردي (٥ / ١٩٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٧١).

(٦) في الأصل : من. والتصويب من تفسير الثعلبي (٨ / ٣٠٣).

(٧) في الأصل : حتى. والمثبت من تفسير الثعلبي ، الموضع السابق.

(٨) ذكره الثعلبي (٨ / ٣٠٣). وكل ذلك لا دليل عليه من الشارع وإنما هو اجتهاد.

(٩) انظر : الطبري (٢٥ / ٦) ، والماوردي (٥ / ١٩٢).

٤٨

ويروى : أن ابن عباس كان يقرؤها كذلك (١).

وسئل حسين بن الفضل : لم قطع (حم عسق) ولم يقطع (كهيعص) و (المص) ، يعني في خط المصحف؟. فقال : لكونها بين سور أوائلها حم ، فجرى مجرى نظائرها قبلها وبعدها.

ولأنهما عدّا آيتين وعدت أخواتها التي كتبت موصولة آية (٢).

وقيل : لأن أهل التأويل لم يختلفوا في (كهيعص) وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير ، واختلفوا في (حم) فجعلها بعضهم فعلا ماضيا على معنى" حمّ" ، أي : قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة (٣).

قوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الوحي ، أو مثل ذلك الكتاب (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الرسل.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحيت إليه (حم عسق) ، فذلك قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)(٤).

قرأ ابن كثير : " يوحى" بفتح الحاء على البناء للمفعول به.

فعلى هذا ؛ يرتفع اسم" الله" بما دل عليه" يوحى" ، كأنه قيل : من الموحي؟ فقال : الله تعالى.

__________________

(١) انظر : الطبري (٢٥ / ٦) ، والماوردي (٥ / ١٩٢).

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٤ / ١١٩).

(٣) مثل السابق.

(٤) مثل السابق.

٤٩

قال أبو علي (١) : ومما يقوي هذه القراءة قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزمر : ٦٥] ، وقوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) [هود : ٣٦].

وقرأ الباقون" يوحي" بكسر الحاء على البناء للفاعل (٢) ، فيرتفع اسم الله بإسناد الفعل إليه.

وقرأت لعاصم من رواية أبان عنه : " نوحي" بالنون (٣) ، فيرتفع اسم الله تعالى بالابتداء.

وما بعده إخبار ، و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان ، والظرف خبر (٤).

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٦)

قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : " ينفطرن" بالنون وتخفيف الطاء وكسرها. وقرأ الباقون : " يتفطّرن" بتاء مفتوحة مع تشديد الطاء وفتحها (٥).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٢).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٣٩) ، والكشف (٢ / ٢٥٠) ، والنشر (٢ / ٣٦٧) ، والإتحاف (ص : ٣٨٢) ، والسبعة (ص : ٥٨٠).

(٣) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٢٧٢) ، والدر المصون (٦ / ٧٤).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٢٣) ، والدر المصون (٦ / ٧٤).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٣٦٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٤٠) ، والكشف (٢ / ٢٥٠) ، والنشر (٢ / ٣١٩) ، والإتحاف (ص : ٣٨٢ ـ ٣٨٣) ، والسبعة (ص : ٥٨٠).

٥٠

وقد ذكر في آخر مريم" تكاد" (١).

والمعنى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) من عظمة الله تعالى وعلو شأنه.

واستدل الزجاج على صحة هذا المعنى بقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ، وهذا معنى قول الضحاك وجمهور المفسرين (٢).

وقيل : المعنى : يكدن يتفطرن من عظمة من فوقهن من العرش والكرسي والملائكة الصافين والحافين من حول العرش ، لهم زجل التسبيح والتهليل والتقديس إلى غير ذلك ، مما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من الملكوت العلوي.

وقال ابن عباس : المعنى : تكاد السموات كل واحدة منها تنفطر فوق التي تليها من قول المشركين : اتخذ الله ولدا (٣) ، فتكون نظير الآية التي في أواخر مريم (٤).

قال الزمخشري (٥) : لما جاءت كلمة الكفر من الذين تحت السموات ، كان القياس [أن](٦) يقال : ينفطرن من جهتهن (٧) ، أي : من الجهة التي منها جاءت الكلمة ، ولكن بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن

__________________

(١) عند الآية رقم : ٩٠.

(٢) أخرجه الطبري (٢٥ / ٧). وذكره الماوردي (٥ / ١٩٢) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٣٣٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ عن قتادة.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٣).

(٤) عند الآية رقم : ٩٠.

(٥) الكشاف (٤ / ٢١٤).

(٦) في الأصل : أ. والمثبت من الكشاف ، الموضع السابق.

(٧) في الكشاف : تحتهن.

٥١

ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن. هذا خلاصة ما ذكره المفسرون.

ويجوز أن يكون الضمير في قوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِنَ) راجعة إلى الأرضين. وقد تقدم ذكرها في قوله تعالى : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وهو الذي أشار إليه الزمخشري.

قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : يصلّون. وقيل : ينزّهون الله تعالى ويعظّمونه.

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) قال ابن السائب وغيره : سبب استغفار الملائكة لمن في الأرض : أن الملائكة لما رأت الملكين (١) [اللذين اختبرا](٢) وبعثا إلى الأرض [ليحكما بينهم](٣) ، فافتتنا بالزهرة ـ على ما حكيناه في البقرة ـ ، فأتيا إدريس ، وهو جد أبي نوح عليهما‌السلام فسألاه أن يدعو الله لهما ، سبّحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم (٤).

والذي يقتضيه البحث الصحيح : أنه من العام الذي يراد به الخصوص ، وأن استغفارهم للمؤمنين خاصة ، بدليل قوله تعالى في موضع آخر : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧] ، وقوله تعالى حاكيا عنهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) [غافر : ٧].

__________________

(١) أي : هاروت وماروت.

(٢) في الأصل : الذين اختيرا. والتصويب من الماوردي (٥ / ١٩٣).

(٣) زيادة من الماوردي ، الموضع السابق.

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ١٩٣).

٥٢

ثم إن الله تعالى قد أخبر أن الملائكة يلعنون الكفار في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ) [البقرة : ١٦١] فكيف تتوارد اللعنة والاستغفار على محل واحد؟ وهذا قول الضحاك والسدي (١).

وزعم مقاتل (٢) : أن هذه الآية منسوخة بالآية المخصوصة.

وليس هذا بشيء.

وزعم ابن السائب : أن المراد باستغفارهم لمن في الأرض : سؤال الرزق لهم (٣).

وقال صاحب الكشاف (٤) : يحتمل أن يقصدوا بالاستغفار : طلب الحلم والغفران في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) إلى أن قال : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١] ، وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] والمراد : الحلم عنهم ، وأن لا يعاجلهم بالانتقام ، فيكون عاما.

وهذا قول محتمل.

والتفسير الصحيح ما ذكرته لك أولا [فاعتمد](٥) عليه ، فإن كتاب الله تعالى يصدّق بعضه بعضا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي : جعلوا له أندادا يوالونهم

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ١٩٣).

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ١٧٣).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ١٩٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٧٣).

(٤) الكشاف (٤ / ٢١٤).

(٥) في الأصل : فاتعتمد.

٥٣

ويعبدونهم من دون الله.

(اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) رقيب عليهم على أحوالهم ، وهو يتولى حسابهم وجزاءهم.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : ما أنت يا محمد بموكل عليهم ، فتقهرهم على الإيمان وتضطرهم إليه ، إنما أنت رسول مبلغ.

وجمهور المفسرين قالوا : هذه الآية منسوخة بآية السيف (١). وقد أوضحت لك منهج الصواب في هذه الآية وأضرابها في مواضع من كتابي ، فاسلكه.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٨)

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) قال الزمخشري (٢) : الكاف مفعول به ل" أوحينا". و" قرآنا عربيا" حال من المفعول به ، أي : [أوحيناه](٣) إليك ، وهو قرآن عربي بيّن ، لا لبس فيه عليك ، لتفهم ما يقال لك ، ولا تتجاوز حد الإنذار.

ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر" أوحينا" ، أي : ومثل ذلك الإيحاء البيّن

__________________

(١) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٥٤) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٥٤).

(٢) الكشاف (٤ / ٢١٥).

(٣) في الأصل : أوحينا. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

٥٤

المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك (لِتُنْذِرَ). يقال : أنذرته كذا وأنذرته بكذا. وقد عدّى الأول ، أعني : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) إلى المفعول الأول ، والثاني وهو قوله تعالى : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) إلى المفعول الثاني.

(أُمَّ الْقُرى) مكة ، والمراد : لتنذر أهلها ، (وَمَنْ حَوْلَها) في موضع نصب.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ، سمي بذلك لاجتماع الأولين والآخرين فيه. وفيه أقوال غير ذلك ذكرتها عند قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) في حم المؤمن (١).

(لا رَيْبَ فِيهِ) مفسّر في أول سورة البقرة.

ثم أخبر الله تعالى عن حال المجموعين فيه فقال : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

أخرج الإمام أحمد من حديث شفي الأصبحي ، عن عبد الله بن عمرو قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم قابضا على كفّيه ومعه كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول الله ، فقال : الذي في يدي اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم ، عدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام ، إذ هم في الطينة منجدلون ، فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم ، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. ثم قال للذي في يساره : هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم ، وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في

__________________

(١) في سورة غافر ، عند الآية رقم : ١٥.

٥٥

الأرحام ، إذ هم في الطينة منجدلون ، وليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم ، إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة. فقال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل إذا؟ فقال : اعملوا ، وسددوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ، ثم قال تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(١).

وفي لفظ آخر : «فرغ [ربكم](٢) من العباد ؛ فريق في الجنة وفريق في السعير» (٣).

ثم أخبر الله تعالى أن افتراقهم الموجب لتفرقهم فرقتين في الجنة والسعير بمشيئته ، فقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي : جماعة متفقة على دين الإسلام ؛ كقوله تعالى : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥].

(وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) قال أنس [بن](٤) مالك : في الإسلام (٥).

(وَالظَّالِمُونَ) وهم الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٤٤٩ ح ٢١٤١) ، وأحمد (٢ / ١٦٧ ح ٦٥٦٣).

(٢) في الأصل : ربك. والتصويب من مصادر التخريج.

(٣) انظر : سنن الترمذي (٤ / ٤٤٩) ، ومسند أحمد (٢ / ١٦٧).

(٤) زيادة على الأصل.

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ١٩٤).

٥٦

أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١١)

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا) الهمزة للإنكار ، والفاء في (فَاللهُ) جواب شرط مقدر ، أي : إن أرادوا وليا حقيقا بالولاية (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) لا ما تولوه.

وقال ابن عباس : فالله وليك يا محمد وولي من اتبعك (١).

وفي قوله تعالى : (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) حضّ لهم على إفراد الله سبحانه وتعالى بالولاية ؛ لاختصاصه بالقدرة ، وتخويف لهم من اتخاذهم أولياء من دونه ، بما يستلزم إحياء الموتى من الحساب والجزاء على الأقوال والأعمال.

قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : من شيء من أمر الدين أو من غيره (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) تعالى.

قال مقاتل (٢) : هو يحكم فيه.

قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي)" ذلكم" : مبتدأ ، " الله" : عطف بيان ، " ربي" : نعت له ، والخبر : قوله تعالى : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(٣).

قوله تعالى : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل ، أو نعت ، أو مبتدأ خبره : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)(٤).

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٤٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٢٧٤).

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ١٧٣).

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢٢٤).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٢٤) ، والدر المصون (٦ / ٧٦).

٥٧

وقرئ شاذا : " فاطر" بالجر (١) ، على معنى : فحكمه إلى الله فاطر السموات ، وما بين الصفة والموصوف اعتراض.

(جَعَلَ لَكُمْ) أي : خلق لكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي : من جنسكم من بني آدم (أَزْواجاً) ، قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي (٢) : يعني : نساء ، (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أصنافا ، ذكورا وإناثا.

قال الزجاج (٣) : المعنى : خلق الذكر والأنثى من الحيوان كلّه.

وقال صاحب الكشاف (٤) : المعنى : وخلق من الأنعام أزواجا. ومعناه : وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا.

ويجوز عندي أن يكون المعنى : وجعل لكم يا بني آدم أزواجا من جنسكم ، وجعل لكم أيضا من الأنعام أزواجا ، ذكورا وإناثا يتناسلون لأكلكم ولركوبكم ، ولغير ذلك من أنواع الانتفاع المتعلق بها. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩].

ولأنه لو أراد المعنى الذي ذكره صاحب الكشاف لما اقتصر على بهيمة الأنعام ؛ لأن جميع الحيوانات قد خلق الله تعالى لها من أنفسها أزواجا ، بل أراد الامتنان على عباده بما خلق لهم من الأزواج من جنسهم للسكون وغيره ، ومن بهيمة الأنعام للأكل والركوب وغيرهما.

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : البحر (٧ / ٤٨٨) ، والدر المصون (٦ / ٧٦). وهي قراءة زيد بن علي.

(٢) زاد المسير (٧ / ٢٧٥).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٣٩٥).

(٤) الكشاف (٤ / ٢١٧).

٥٨

(يَذْرَؤُكُمْ) قال الفراء وغيره : يكثّركم. يقال : ذرأ الله تعالى الخلق : بثّهم وكثّرهم.

قال الزجاج (١) : يكثّركم بجعله منكم ومن الأنعام أزواجا.

وقال السدي : يخلقكم (٢).

وقوله تعالى : (فِيهِ) في الأرحام. وقيل : في البطن. وقيل : في الزوج. وقيل : " فيه" بمعنى : به ، أي : يذرؤكم ويكثّركم بما جعل لكم من الأزواج.

وقال الزمخشري (٣) : المعنى : يذرؤكم في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل.

والضمير في" يذرؤكم" يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء.

فإن قلت : هلا قيل : يذرؤكم به؟

قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ؛ كما قال ثعلب : ليس كهو شيء ، [والمثل](٤) زائد للتوكيد (٥). وقد ذكرنا هذا عند قوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) في سورة البقرة (٦).

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٣٩٥).

(٢) أخرجه الطبري (٢٥ / ١١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٣٣٩) وعزاه لابن جرير.

(٣) الكشاف (٤ / ٢١٧).

(٤) في الأصل : المثل. والتصويب من الماوردي (٥ / ١٩٥).

(٥) انظر قول ثعلب في : الماوردي (٥ / ١٩٥).

(٦) عند الآية رقم : ١٣٧.

٥٩

وقال الزجاج (١) : هذه الكاف مؤكدة ، المعنى : ليس مثله شيء ، ولا يجوز أن يقال : ليس مثل مثله شيء ؛ لأن من قال هذا فقد أثبت المثل لله ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وقال الزمخشري (٢) : قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(١٤)

وما بعده مفسّر إلى قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ) أي : بيّن وأوضح لكم (مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً).

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٣٩٥).

(٢) الكشاف (٤ / ٢١٧).

٦٠