رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه [وعانقه](١).

ثم وصفهم بكثرة الصلاة فقال : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) ، ثم وصفهم بالإخلاص فقال : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) وهذا عام في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عند جمهور المفسرين.

وروي عن الحسن أنه قال : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) : أبو بكر ، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) : عمر ، (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : عثمان ، (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) : علي بن أبي طالب ، (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة (٢).

قوله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) اختلف العلماء هل هذه السّيما في الدنيا أم في الآخرة؟ على قولين :

أحدهما : في الدنيا.

قال ابن عباس : هو السمت الحسن (٣).

وقال مجاهد : الخشوع والوقار والتواضع (٤).

__________________

(١) في الأصل : وعنانقه. والتصويب من الكشاف (٤ / ٣٤٨).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤٦).

(٣) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٠) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٠١) ، والبيهقي (٢ / ٢٨٦ ح ٣٣٧٠).

وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٤١ ـ ٥٤٢) وعزاه لمحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.

(٤) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١١) ، وابن المبارك في الزهد (ص : ٥٦). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٢) وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر.

٣٢١

وقال الحسن : الصفرة (١).

وقال سعيد بن جبير : أثر السهر (٢).

وقال الأوزاعي : بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض (٣).

وقيل : السّمة التي تحدث في جبهة الساجد من كثرة السجود ، يدل على ذلك قوله تعالى : (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

وكان كل واحد من العليّين : أبي الخلفاء علي بن عبد الله بن العباس ، وزين العابدين علي بن الحسين بن علي ، يسمى ذا الثّفنات (٤) ؛ لأن كثرة سجودهما أثّر في جبهة كل واحد منهما أثرا يشبه ثفنات البعير.

القول الثاني : أن هذه السّيما في الآخرة.

قال عطية العوفي : هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة (٥). ونحوه عن الزهري (٦).

وقيل : هو نعتهم يوم القيامة غرّا محجّلين من أثر الوضوء (٧).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١١).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤٧).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤٦).

(٤) الثّفنة من البعير والناقة : هو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ ؛ كالركبتين وغيرهما (اللسان ، مادة : ثفن).

(٥) أخرج نحوه الطبري (٢٦ / ١١٠). وذكره الماوردي في تفسيره (٥ / ٣٢٣). وذكر نحوه السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٢) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن نصر وابن جرير.

(٦) انظر : زاد المسير (٧ / ٤٤٧).

(٧) انظر : معاني الزجاج (٥ / ٢٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤٧) حكاية عن الزجاج.

٣٢٢

قوله تعالى : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي : صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه هذه الصفة في التوراة. وهاهنا تم الكلام.

ثم أخبر عن صفتهم في الإنجيل فقال : (كَزَرْعٍ) وهذا قول الضحاك وابن زيد (١).

وقال مجاهد وغيره : مثلهم في التوراة والإنجيل واحد (٢).

ثم ذكر مثلهما في الكتابين فقال : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) وقرأ ابن كثير وابن عامر : " شطأه" بفتح الطاء (٣).

قال أبو علي (٤) : هما لغتان ، [كالشّمع والشّمع](٥) ، والنّهر والنّهر.

وقرأ أبي بن كعب وابن أبي عبلة : " شطاءه" بفتح الطاء وألف بعد الطاء مع المد والهمز (٦).

قال أبو عبيدة (٧) : " شطأه" أي : فراخه ، يقال : أشطأ الزّرع فهو مشطئ ، أي : مفرّخ (٨).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٣). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤٨).

(٢) مثل السابق.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٤١٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٤) ، والكشف (٢ / ٢٨٢) ، والنشر (٢ / ٣٧٥) ، والإتحاف (ص : ٣٩٦) ، والسبعة (ص : ٦٠٤).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٤١٠).

(٥) في الأصل : كالسمع والسمع. والمثبت من الحجة ، الموضع السابق.

(٦) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤٤٨) ، والدر المصون (٦ / ١٦٧).

(٧) مجاز القرآن (٢ / ٢١٨).

(٨) انظر : اللسان (مادة : شطأ).

٣٢٣

(فَآزَرَهُ) وقرأ ابن عامر : " فأزره" بقصر الهمزة (١). والمعنى : فأزره الصغار الكبار وقوّاه ولحق به.

(فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى) الجميع (عَلى سُوقِهِ) جمع ساق. أي : قام على أصوله. وهذا مثل لاستحكام الإسلام وقواة أهله واشتداد بعضهم ببعض ، واستفحال أمرهم وسلطانهم بعد أن ظهر ضعيفا كالطاقة من الزرع.

قال قتادة : في الإنجيل مكتوب : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (٢).

وقال ابن عباس : المراد ب" الزرع" : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) : [أبو بكر](٣) ، " فآزره" بعمر ، " فاستغلظ" بعثمان ، (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) بعلي بن أبي طالب ، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) يعني : المؤمنين ، (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) وهو [قول عمر](٤) لأهل مكة : لا يعبد الله تعالى سرا بعد اليوم (٥).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٤١٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٤ ـ ٦٧٥) ، والكشف (٢ / ٢٨٢) ، والنشر (٢ / ٣٧٥) ، والإتحاف (ص : ٣٩٧) ، والسبعة (ص : ٦٠٥).

(٢) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٤). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٣) زيادة من زاد المسير (٧ / ٤٤٩).

(٤) في الأصل : قوله. والتصويب والزيادة من زاد المسير (٧ / ٤٤٩).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤٩). وذكر نحوه السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٤) وعزاه لابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : " كزرع" قال : أصل الزرع : عبد المطلب ،" أَخْرَجَ شَطْأَهُ " : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، " فآزره" بأبي بكر ، " فاستغلظ" بعمر ، " فاستوى" بعثمان ، عَلى سُوقِهِ" بعليّ ، لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ".

٣٢٤

وقوله : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من اشتداد قوتهم وزيادة ترقيهم.

فصل

قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أصابته هذه الآية (١).

وقال ابن إدريس : لا آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار ـ يعني : الرافضة ـ ؛ لأن الله تعالى يقول : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)(٢).

أخبرنا أبو علي بن الفرج المذكر في كتابه ، أخبرنا هبة الله بن الحصين ، أخبرنا الحسن بن علي بن المذهب ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان ، أخبرنا عبد الله بن الإمام أحمد ، حدثنا لوين (٣) ، حدثنا يحيى بن المتوكل (٤) ، عن كثير النواء (٥) ، عن إبراهيم بن حسن [بن حسن](٦) بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال :

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٤٧) ، والخلال في السنة (٢ / ٤٧٨ ح ٧٦٠) ، وأبو نعيم في الحلية (٦ / ٣٢٧).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤٩).

(٣) محمد بن سليمان بن حبيب بن جبير الأسدي ، أبو جعفر المصيصي العلاف ، المعروف بلوين ، كوفي الأصل ، ثقة ، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب ٩ / ١٧٦ ، والتقريب ص : ٤٨١).

(٤) يحيى بن المتوكل العمري ، أبو عقيل المدني ، ويقال : الكوفي الحذاء الضرير ، ضعيف ، مات سنة سبع وستين ومائة (تهذيب التهذيب ١١ / ٢٣٧ ، والتقريب ص : ٥٩٦).

(٥) كثير بن إسماعيل ، ويقال : بن نافع النواء ، أبو إسماعيل التيمي ، مولى بني تيم الله الكوفي ، ضعيف (تهذيب التهذيب ٨ / ٣٦٧ ، والتقريب ص : ٤٥٩).

(٦) زيادة من المسند (١ / ١٠٣).

٣٢٥

قال لي علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج من آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام» (١).

وفي صحيح مسلم من حديث عروة ، عن عائشة قالت : «يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبّوهم» (٢).

وقال سفيان الثوري رحمه‌الله : من قال : علي أحق بالولاية من أبي بكر وعمر فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار ، ولا أدري يرفع له عمل إلى السماء أم لا؟.

قال الزمخشري (٣) : ويجوز أن يكون قوله : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليلا لقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ؛ لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك.

ومعنى (مِنْهُمْ) البيان ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد لمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح (٤).

وقال محمد بن جرير (٥) : " منهم" يعني : من الشطء الذي أخرج الزرع ، وهم

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ١٠٣ ح ٨٠٨).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٣١٧ ح ٣٠٢٢).

(٣) الكشاف (٤ / ٣٥٠).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٥٠).

(٥) تفسير الطبري (٢٦ / ١١٥).

٣٢٦

الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة.

ورد الهاء والميم على معنى الشطأ لا على لفظه.

وقال أبو العالية في قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أحبوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكورين في الآية. فبلغ قوله الحسن البصري رحمه‌الله ، فارتضاه واستصوبه. والله تعالى أعلم.

٣٢٧

سورة الحجرات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي ثماني عشرة آية (١). وهي مدنية بإجماعهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(٣)

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) السبب في نزولها مع ما في حيزها : ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم بن عبد الله بن عبد الصمد ، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي البغداديان قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني ابن أبي مليكة ، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم : «أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٣٠).

٣٢٨

رضي الله عنه : أمّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) حتى انقضت الآية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)(١). هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.

قال ابن عباس : نهو أن يتكلموا بين يدي كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال مجاهد : لا تفتاتوا على الله ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يقضي الله على لسان رسوله (٣).

وقال الحسن : نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح (٤).

وقال قتادة : كان ناس يقولون (٥) : لو أنزل فيّ كذا ، لو أنزل فيّ كذا ، فنزلت هذه

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٣٤ ح ٤٥٦٦).

(٢) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٠٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٦) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٦٠٥) ، والطبري (٢٦ / ١١٦) ، والبيهقي في الشعب (٢ / ١٩٥ ح ١٥١٦).

وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.

(٤) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٥) من هنا يبدأ الجزء السادس من مخطوط المكتبة الظاهرية والذي يبدأ من أول الحجرات إلى آخر القرآن ، وقد رمز لهذه النسخة بحرف (ب).

٣٢٩

الآية (١).

قرأ يعقوب : " لا تقدّموا" بفتح التاء والدال ، وهي قراءة ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبو رزين ، وعائشة ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن سيرين ، وقتادة. وقرأ باقي القراء العشرة : " تقدّموا" بضم التاء وكسر الدال (٢).

قال الفراء (٣) : كلاهما صواب ، يقال : قدمت وتقدّمت.

وقال الزجاج (٤) : كلاهما واحد.

وقال ابن جني (٥) : المفعول على قراءة العامة محذوف.

والمعنى : لا تسبقوهما بالقول والفعل ، ولا تقطعوا أمرا دونهما.

[وقيل](٦) : لا تمشوا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الثعلبي (٧) : وكذلك بين يدي العلماء ، فإنهم ورثة الأنبياء.

ودليل هذا التأويل : ما روى عطاء عن أبي الدرداء قال : «رآني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمشي أمام أبي بكر ، فقال : تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة ، وما طلعت

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٧) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٠٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٤٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) انظر : النشر (٢ / ٣٧٥ ـ ٣٧٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٩٧).

(٣) معاني الفراء (٣ / ٦٩).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٣١).

(٥) المحتسب (٢ / ٢٧٨).

(٦) في الأصل : قيل. والمثبت من ب.

(٧) تفسير الثعلبي (٩ / ٧١).

٣٣٠

شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير وأفضل من أبي بكر رضي الله عنه» (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ) في التقدم بين يدي الله ورسوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم.

قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) وبالإسناد قال البخاري : حدثنا [يسرة](٢) بن صفوان بن جميل اللخمي ، حدثنا نافع (٣) بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال : «كاد الخيّران أن يهلكا ، أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ... الآية. قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه ، يعني : أبا بكر الصديق رضي الله عنه» (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط (٧ / ٢١٤).

(٢) في الأصل : بسرة. والتصويب من الصحيح (٤ / ١٨٣٣). وهو : يسرة بن صفوان بن جميل اللخمي ، أبو صفوان ، وقيل : أبو عبد الرحمن الدمشقي البلاطي ، كان ثقة ، ولد سنة عشرة ومائة ، ومات سنة خمس عشرة ومائتين (تهذيب التهذيب ١١ / ٣٣١ ، والتقريب ص : ٦٠٧ ، وتهذيب الكمال ٣٢ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠).

(٣) في الأصل زيادة قوله : عن. وهو وهم. انظر : الصحيح (٤ / ١٨٣٣). ونافع : هو ابن عمر بن عبد الله بن جميل الجمحي. انظر : ترجمته في : التهذيب (١٠ / ٣٦٥) ، والتقريب (ص : ٥٥٨).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٣٣ ح ٤٥٦٤).

٣٣١

وبالإسناد قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا أزهر بن سعد (١) ، حدثنا ابن عون (٢) ، قال : أنبأني موسى بن أنس (٣) ، عن أنس بن مالك : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل : يا رسول الله أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده جالسا في بيته يبكي منكسا رأسه ، فقال له : ما شأنك؟ فقال : شرّ ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار ، فأتى الرجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ـ قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة ـ فقال : اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة» (٤).

قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) وهو رفع الصوت عليه ، ولا تظنن أن المنهي عنه من ذلك ما قصد به الاستخفاف ، فإن ذلك كفر. والخطاب للمؤمنين.

ولأن رفع الصوت عنده حرام في كل حالة ، فقد كان ذلك مشروعا في الحرب وعند الحاجة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة» (٥).

وقال للعباس عليه‌السلام يوم حنين : " اصرخ بالناس" ، فصرخ : يا أصحاب

__________________

(١) أزهر بن سعد السمان ، أبو بكر الباهلي البصري ، ثقة مأمون ، مات سنة ثلاث ومائتين (تهذيب التهذيب ١ / ١٧٧ ، والتقريب ص : ٩٧).

(٢) عبد الله بن عون بن أرطبان المزني مولاهم ، أبو عون البصري ، ثقة ثبت فاضل ، من أقران أيوب في العلم والعمل والسن ، مات سنة خمسين أو إحدى وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب ٥ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، والتقريب ص : ٣١٧).

(٣) موسى بن أنس بن مالك الأنصاري ، قاضي البصرة ، كان ثقة قليل الحديث (تهذيب التهذيب ١٠ / ٢٩٨ ، والتقريب ص : ٥٤٩).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٣٣ ح ٤٥٦٥).

(٥) أخرجه أحمد (٣ / ١١٢ ح ١٢١٢٢).

٣٣٢

السّمرة ، وكان العباس أجهر الناس صوتا (١).

ويروى : أن غارة أتتهم يوما ، فصاح العباس : يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته (٢).

بل المنهي عنه جهر ينافي الهيبة والوقار ، فندبهم إلى غضّ أصواتهم عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ توقيرا وتعظيما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال سعيد بن جبير والضحاك في قوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) : لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، يا نبي الله (٣).

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) قال الأخفش (٤) : مخافة أن تحبط أعمالكم الصالحة.

وقيل : حبط الأعمال مجاز عن نقص المنزلة لا إسقاط العمل من أصله (٥).

قال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) قال أبو بكر : والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار ، فأنزل الله في أبي بكر : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) ... الآية (٦).

والغضّ مذكور في سورة لقمان (٧).

(أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) قال ابن عباس : أخلصها للتقوى

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٣٩٨ ح ١٧٧٥).

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (١٦ / ٣٠٧).

(٣) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٨) عن الضحاك. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٥٧).

(٤) معاني الأخفش (ص : ٢٨٧).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٥٧).

(٦) مثل السابق.

(٧) عند الآية رقم : ١٩.

٣٣٣

من المعصية (١).

وقال الزجاج (٢) : اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين ، كما تقول : قد امتحنت هذا الذهب والفضة ، أي : اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا ، فعلمت حقيقة كل واحد منهما.

وقال ابن جرير (٣) : اختبرها بامتحانه إياها فاصطفاها وأخلصها للتقوى.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) هذا من تمام ما نزل في وفد بني تميم ، على ما ذكرناه في حديث ابن الزبير.

قال جابر بن عبد الله : جاءت بنو تميم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنادوا على الباب : يا محمد! اخرج ، فإن مدحنا زين وذمّنا شين ، قال : فسمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج عليهم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين ، فقالوا : نحن أناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك ونفاخرك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا ، فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم : قم فاذكر فضلك وفضل قومك ، فقام فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدة ومالا

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٥٨).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٣٣).

(٣) تفسير الطبري (٢٦ / ١٢٠).

٣٣٤

وسلاحا ، فمن أنكر علينا فضلنا وقولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وبفعال هو خير من فعالنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت بن قيس بن شماس ـ وكان خطيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : قم فأجبه ، فقام فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأؤمن به وأ توكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ثم دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما فأجابوه ، فقالوا : الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله ، وعزا لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فمن قالها منع منا ماله ودمه ، ومن أباها قتلناه ، وكان رغمه في الله علينا هينا. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.

فقال الزبرقان لشاب من شبابهم : قم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك ، فقام الشاب فأنشد أبياتا يفتخر فيها ، أولها :

نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا

فينا الرؤوس وفينا يقسم الرّبع

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [قم](١) يا حسان فأجبه ، فقام حسان فأنشد أبياتا منها :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد شرعوا سنّة للناس تتّبع

ثم أنشد أبياتا غيرها منها :

فأحياؤنا من خير من وطئ الحصا

وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقام الأقرع بن حابس فأنشد أبياتا منها :

__________________

(١) زيادة من ب.

٣٣٥

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإنا رؤوس الناس من كل معشر

وأن ليس في أرض الحجاز [كدارم](١)

فأجابه حسان بن ثابت بأبيات منها :

فلا تجعلوا لله ندا [وأسلموا](٢)

ولا تفخروا عند النبي بدارم

وإلا وربّ البيت مالت أكفّنا

على هامكم بالمرهفات الصّوارم (٣)

فقام الأقرع بن حابس فقال : ما أدري ما هذا! تكلم خطيبنا فكان خطيبكم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعركم أشعر ، ثم دنا فأسلم ، فأعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكساهم ، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية (٤).

ويروى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) فقال : هم الجفاة من بني تميم ، لو لا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدّجّال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم (٥).

__________________

(١) في الأصل : كدام. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : واسموا. والتصويب من ب.

(٣) انظر : ديوان حسان (ص : ٢٢٧). وانظر : الأبيات السابقة في : البحر (٨ / ١٠٦ ـ ١٠٧).

(٤) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٤٠٤ ـ ٤٠٦) ، والبغوي في تفسيره (٤ / ٢١١) مختصرا.

وانظر : سيرة ابن هشام (٥ / ٢٥١) وما بعدها ، والبداية والنهاية (٥ / ٤١) وما بعدها ، وتاريخ الطبري (٢ / ١٨٨) وما بعدها.

(٥) ذكره ابن حجر في الإصابة (٣ / ٦٧ ح ٣١٧٦) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٥٥٣) وعزاه لابن منده وابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبد الله.

٣٣٦

قال المفسرون : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نام للقائلة ، فتأذى بأصواتهم ، ولم يعلموا في أي حجرة هو ، فكانوا يطوفون على الحجرات وينادونه.

قرأ أبو جعفر : " الحجرات" بفتح الجيم (١) ، وهي قراءة أبيّ بن كعب ، وعائشة ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، ومجاهد ، وأبي العالية ، في آخرين.

وقرأ باقي القراء العشرة : " الحجرات" بضم الجيم. وأسكن الجيم أبو [رزين](٢) ، وسعيد بن المسيب ، وابن أبي عبلة (٣).

قال ابن قتيبة (٤) : واحد الحجرات : حجرة ، مثل : ظلمة وظلمات.

وقال الفراء (٥) : وجه الكلام : أن تضم الحاء والجيم ، وبعض العرب يقول : الحجرات ، وربما خفّفوا. والتخفيف في تميم ، والتثقيل في أهل الحجاز.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ)؟

قلت : لأنه لو خرج إليهم لكان الأولى بهم والأليق بالأدب أن يصبروا حتى يخرج إليهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي

__________________

(١) انظر : النشر (٢ / ٣٧٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٩٧).

(٢) في الأصل : زين. والتصويب من ب.

(٣) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤٥٩) ، والدر المصون (٦ / ١٦٩).

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٤١٥).

(٥) معاني الفراء (٣ / ٧٠).

٣٣٧

قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٨)

قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) نزلت في الوليد بن عقبة ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما سمعوا به خرجوا ليتلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحدثه الشيطان أنهم [يريدون](١) قتله ، وكان يعاديهم في الجاهلية ، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهمّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : يا رسول الله! سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله ، فبدا له الرجوع ، فخشينا أنما يكون رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبت علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث خالد بن الوليد في خفية في عسكر ، [وأمره](٢) أن يخفي عليهم قدومه ، فقال له : انظر ، فإن [كان](٣) رأيهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ، ففعل ذلك ووافاهم ، فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ صدقاتهم ولم ير منهم شيئا إلا الطاعة والخير.

فانصرف خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى : (يا

__________________

(١) في الأصل : يريدن. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل وب : وأمرهم. وقد عدلت في هامش ب إلى : وأمره.

(٣) زيادة من ب.

٣٣٨

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ... الآية (١).

قوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) مذكور في سورة النساء (٢) وتفسيره واختلاف القراء فيه.

(أَنْ تُصِيبُوا) مفعول له (٣) ، أي : [كراهة](٤) إصابتكم (قَوْماً).

وقوله : (بِجَهالَةٍ) حال (٥) ، كقوله تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) [الأحزاب : ٢٥] يعني : جاهلين بحقيقة الأمر.

(فَتُصْبِحُوا) أي : فتصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ) من إصابتهم (نادِمِينَ).

ثم وعظهم وخوفهم فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) معناه : اجتنبوا الكذب وغيره من أسباب الفسق ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهركم ، أفتأمنون أن يفضحكم الله تعالى بإطلاعه عليكم.

ثم قال تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) مما تخبرونه به من الباطل (لَعَنِتُّمْ) لوقعتم في العنت. وهو الضّرر. وقيل : الإثم والهلاك.

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ)(٦) أيها المؤمنون المتحرزون من أسباب الفسق

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٢٧٩) ، والطبري (٢٦ / ١٢٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٠٣). وذكره الماوردي (٥ / ٣٢٨ ـ ٣٢٩) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٥٥٥) وما بعدها من عدة طرق ، فانظرها. وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٤٠٧).

(٢) عند الآية رقم : ٩٤.

(٣) انظر : الدر المصون (٦ / ١٦٩).

(٤) في الأصل : كرهة. والتصويب من ب.

(٥) انظر : البحر المحيط (٨ / ١٠٩).

(٦) في الأصل زيادة قوله : " الإيمان". وستأتي بعد.

٣٣٩

(الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) وحسنه عندكم بما ألهمكم من الهدى والبراهين الشاهدة بصحته.

(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) قال ابن عباس : يريد : الكذب (١).

(وَالْعِصْيانَ) جميع معاصي الله ، (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) المهتدون إلى محاسن الأمور.

ثم أخبر الله تعالى أن ذلك بفضل منه فقال تعالى : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) قال الزجاج (٢) : منصوب مفعول له. والمعنى : [فعل](٣) الله ذلك بكم للفضل والنعمة عليكم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) بمن يحبب إليه الإيمان ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان ، (حَكِيمٌ) في تدبيره وقضائه وتقديره.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١٠)

قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) السبب في نزولها : ما أخرج في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال : قيل لرسول الله

__________________

(١) ذكره القرطبي (١٦ / ٣١٤) ، والبغوي (٤ / ٢١٢).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٣٥).

(٣) في الأصل : فضل. والتصويب من ب ، ومعاني الزجاج ، الموضع السابق.

٣٤٠