رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

فلعلك أن تذكره بما هو فيك ، أو لعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه ، فما هذا جزاء العافية أن تجحد الشكر عليها ، [أو لعلك](١) تذكره بما فيك أعظم منه ، فذلك أشد استحكاما لمقته إياك ، أما كنت تسمع : [ارحم](٢) أخاك ، واحمد الله الذي عافاك (٣).

الفصل الثالث : في كفارتها

روى سهل بن سعد الساعدي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا اغتاب أحدكم أخاه من خلفه فليستغفر الله ، فإن ذلك كفارة له» (٤).

وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كفارة من اغتبت أن تستغفر الله» (٥).

ثم إن الله سبحانه وتعالى ضرب للغيبة مثلا فقال تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) فنهى سبحانه وتعالى عن الاغتياب ، ثم حذر منه بأوكد الأسباب فقال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) يعني مع الإباء البشري والتنزه عن الخلق البهيمي أن يأكل لحم إنسان من جنسه ، ثم جعله أخا له ليجمع إلى كراهية الإنسان لحم من لا يقتات بمثله كون المأكول أخا له يحنو عليه ويفتديه من المكاره بنفسه ، ثم جعل ذلك الأخ ميتا ، إذ كان أكل الميت من لحوم الطير المشتهاة لا تقبله النفس ولو شارفت من الطّوي الموت ، فكيف إذا كان بشرا ، ثم قسيما في النسب وأخا.

__________________

(١) في الأصل : ولعلك. والمثبت من ب.

(٢) زيادة من ب.

(٣) ذكره ابن الجوزي في : صفة الصفوة (٣ / ١٧٦).

(٤) ذكره ابن عدي في الكامل (٣ / ٢٤٧) ، وابن حجر في اللسان (٣ / ٧٩) في ترجمة سليمان بن عمرو بن عبد الله. قال ابن عدي : وهذه الأحاديث عن أبي حازم كلها مما وضعه سليمان بن عمرو عليه.

(٥) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (ص : ١٧١) ، وفي كتاب الغيبة والنميمة (ص : ١٣١).

٣٦١

قال قتادة : كما يمتنع أحدكم من أكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع أن يغتابه (١).

قال الماوردي (٢) : استعمل أكل اللحم مكان الغيبة ؛ لأن عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر :

وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا (٣)

قوله تعالى : (فَكَرِهْتُمُوهُ) وقرأ الضحاك وعاصم الجحدري : " فكرّهتموه" بضم الكاف وتشديد الراء (٤).

قال الفراء (٥) : أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه.

قال الزجاج (٦) : تأويله : كما تكرهون أكل لحمه ميتا ، كذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائبا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(١٣)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي : من آدم وحواء.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٣٣٥).

(٢) تفسير الماوردي (٥ / ٣٣٥).

(٣) البيت للمقنع الكندي ، وهو في : الأغاني (١٧ / ١١١) ، وديوان الحماسة (٢ / ٣٨) ، وجمهرة الأمثال (٢ / ٢٠٦) ، والماوردي (٥ / ٣٣٥) ، والقرطبي (١٦ / ٣٣٥).

(٤) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤٧٢) ، والدر المصون (٦ / ١٧١).

(٥) معاني الفراء (٣ / ٧٣).

(٦) معاني الزجاج (٥ / ٣٧).

٣٦٢

هذا استنزال للعرب عما ألفوه من التفاخر بالأحساب ، وتعريض لهم بالزجر عن الاستسخار واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة ، حيث أعلمهم أنهم من أب واحد وأم واحدة.

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) لا لتتفاخروا.

قال جمهور المفسرين واللغويين : الشّعوب : جمع شعب ـ بفتح الشين ـ وهو الحي العظيم ، مثل : ربيعة ومضر ، والقبائل دونها ؛ كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر. سميت بذلك ؛ لتشعّب القبائل منها.

وقال مجاهد : الشّعوب : النسب الأبعد ، والقبائل : النسب الأقرب (١).

وقيل : الشّعوب : [عرب](٢) اليمن من قحطان ، والقبائل : ربيعة ومضر وسائر عدنان (٣).

وروى عطاء عن ابن عباس : الشّعوب : الموالي ، والقبائل : العرب (٤).

وقال قوم : هم من لا يعرف لهم نسب ؛ كالهند والترك.

وقرأ الأكثرون : " لتعارفوا" ، وشدّد التاء مجاهد وأبو المتوكل وابن محيصن (٥).

وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن يعمر ، وأبان عن عاصم :

__________________

(١) أخرجه مجاهد (ص : ٦٠٨) ، والطبري (٢٦ / ١٣٩). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٧٩) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٢) في الأصل : العرب. والتصويب من ب.

(٣) ذكره الماوردي في تفسيره (٥ / ٣٣٦).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٥٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٧٤).

(٥) انظر : النشر (٢ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣) ، والإتحاف (ص : ٣٩٨).

٣٦٣

" لتعرفوا" بغير ألف وكسر الراء وسكون العين (١) ، من عرف يعرف ، والمفعول محذوف على هذه القراءة.

وقرأ أبو نهيك والأعمش : " لتتعرّفوا" بتاءين مفتوحة الراء مشدّدة من غير ألف (٢).

وفي قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) إعلام أن ارتفاع المنازل عند الله تعالى بالتقوى لا بالنسب.

قرأت على الشيخ أبي الحسن علي بن ثابت الطالباني الفقيه الحنبلي رحمه‌الله ، أخبركم أبو منصور بن مكارم المؤدب فأقرّ به ، أخبرنا أبو القاسم نصر بن محمد بن أحمد بن صفوان ، أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم السراج ، أخبرنا أبو طاهر هبة الله بن إبراهيم بن أنس ، أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن طوق ، حدثنا أبو جابر زيد بن عبد العزيز بن حيان ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عمار ، حدثنا المعافى بن عمران رحمه‌الله ، عن موسى بن خلف ، عن أبي المقدام (٣) ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزوجل» (٤).

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤٧٤) ، والدر المصون (٦ / ١٧٢).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤٧٤) ، والدر المصون (٦ / ١٧١).

(٣) هشام بن زياد بن أبي يزيد القرشي ، أبو المقدام بن أبي هشام المدني ، مولى عثمان ، ضعيف متروك الحديث (تهذيب التهذيب ١١ / ٣٦ ، والتقريب ص : ٥٧٢).

(٤) أخرجه الحارث في مسنده (٢ / ٩٦٧ ح ١٠٧٠) مطولا ، والشهاب في مسنده (١ / ٢٣٤ ح ٣٦٧) ، وأبو نعيم في الحلية (٣ / ٢١٨).

٣٦٤

وبهذا الإسناد قال : حدثنا المعافى ، عن هشام [بن](١) سعد (٢) ، حدثنا سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله قد أذهب عنكم [عبيّة](٣) الجاهلية وفخرها بالآباء ، مؤمن تقي ، وفاجر شقي ، الناس بنو آدم ، وآدم من تراب ، ليدعن رجال فخرهم بأقوام ، إنما هم فحم من فحم جهنم ، [أو ليكوننّ](٤) أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النّتن» (٥).

وقال رجل لعيسى بن مريم : أيّ الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب فقال : أيّ هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب ، فأكرمهم أتقاهم (٦).

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ

__________________

(١) في الأصل : عن. والتصويب من ب ، وسنن أبي داود. وانظر ترجمته في التعليق التالي.

(٢) هشام بن سعد المدني ، أبو عباد ، ويقال : أبو سعد القرشي مولاهم ، صدوق له أوهام ، ورمي بالتشيع ، مات سنة ستين ومائة (تهذيب التهذيب ١١ / ٣٧ ، والتقريب ص : ٥٧٢).

(٣) في الأصل : غيبة. والتصويب من ب ، وسنن أبي داود. وعبيّة الجاهلية : الكبر (اللسان ، مادة : عبب).

(٤) في الأصل : وليكونن. والتصويب من ب ، وسنن أبي داود.

(٥) أخرجه أبو داود (٤ / ٣٣١ ح ٥١١٦). والجعلان : جمع ، واحده : جعل. وهو : حيوان معروف يشبه الخنفساء (اللسان ، مادة : جعل).

(٦) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (٤٧ / ٤٥١).

٣٦٥

الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٨)

قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) قال المفسرون : نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة ، قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة في سنة مجدبة ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارهم ، وكانوا يمنّون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك. فنزلت هذه الآية (١).

قال الزجاج (٢) : الإسلام : إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبذلك يحقن الدم ، فإن [كان](٣) مع ذلك الإظهار اعتقاد [وتصديق](٤) بالقلب فذلك الإيمان. والذي هذه صفته مؤمن مسلم. فأما من أظهر قبول الشريعة فهو في الظاهر مسلم ، وفي الباطن غير مصدق ، فقد أخرجه الله من الإيمان بقوله : (قُلْ لَمْ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ١٤١ ـ ١٤٢). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٥٨٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٣٨).

(٣) زيادة من ب ، ومن معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل وب : أو تصديق. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

٣٦٦

تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : لم تصدقوا بما أسلمتم تعوذا من القتل.

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) قال ابن عباس : إن تخلصوا الإيمان (١).

(لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) قرأ أبو عمرو : " يألتكم" بهمزة بعد الياء ، من ألت يألت ألتا ، مثل : ضرب يضرب ضربا ، وحجته : (ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١].

وقرأ الباقون" يلتكم" بغير همز (٢) ، من لات يليت ، مثل : باع يبيع. وحجتهم : أنها مكتوبة في المصحف بغير ألف. ومعناهما واحد.

قال ابن عباس : لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا (٣). [وأنشدوا](٤) قول الحطيئة :

أبلغ سراة بني سعد مغلغلة

جهد الرّسالة لا ألتا ولا كذبا (٥)

أي : لا نقصانا ولا كذبا.

وقيل : المعنى : لا نمنعكم من ثواب أعمالكم شيئا ، وأنشدوا قول رؤبة :

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٦٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٧٧).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٤١٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٦) ، والكشف (٢ / ٢٨٤) ، والنشر (٢ / ٣٧٦) ، والإتحاف (ص : ٣٩٨) ، والسبعة (ص : ٦٠٦).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٣٣٨).

(٤) في الأصل : وأنشد. والمثبت من ب.

(٥) البيت للحطيئة. انظر : ديوانه (ص : ٧) ، والمحتسب (٢ / ٢٩٠) ، واللسان (مادة : ألت) ، والبحر (٨ / ١٠٤) ، والدر المصون (٦ / ١٧٢) ، والقرطبي (١٦ / ٣٤٩) ، والطبري (٢٧ / ٢٧) ، والدر المنثور (٧ / ٥٨٤) ، وروح المعاني (٢٦ / ١٦٨) ، والماوردي (٥ / ٣٣٨).

٣٦٧

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت (١)

والمعنى متقارب.

ثم نعت الله تعالى المؤمنين في الآية التي تليها.

قال المفسرون : لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون ، وعرف [الله](٢) غير ذلك منهم ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ)(٣).

علم هاهنا بمعنى : أعلم ، ولذلك دخلت الباء في" بدينكم".

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو يعلم ما أنتم عليه لا يحتاج إلى إخباركم. وفيهم نزل : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) فإنهم قالوا : أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان (٤).

قرأ ابن كثير : والله بصير بما يعملون بالياء على لفظ الغيبة ؛ لتقدم ذكرها في قوله : (يَمُنُّونَ).

__________________

(١) البيت لرؤبة. وهو في : المحتسب (٢ / ٢٩٠) ، واللسان (مادة : ليت) ، والطبري (٢٦ / ١٤٣) ، والقرطبي (١٦ / ٣٤٩) ، وزاد المسير (٧ / ٤٧٧) ، والبحر (٨ / ١٠٤) ، والدر المصون (٦ / ١٧٢) ، والماوردي (٥ / ٣٣٨).

(٢) زيادة من ب.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٧٧).

(٤) أخرجه الطبري (٢٦ / ١٤٥) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٠٦) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٤٦٧ ح ١١٥١٩) ، والطبراني في الأوسط (٨ / ٧٨ ح ٨٠١٦). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٨٥) وعزاه لابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى. ومن طريق آخر عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن.

٣٦٨

وقرأ الباقون بالتاء (١) ، حملا على قوله : (قُلْ لا تَمُنُّوا) وما في حيزه. والله أعلم.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٤١٤ ـ ٤١٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٧) ، والكشف (٢ / ٢٨٤) ، والنشر (٢ / ٣٧٦) ، والإتحاف (ص : ٣٩٨) ، والسبعة (ص : ٦٠٦).

٣٦٩

سورة ق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي [خمس وأربعون](١) آية في العددين (٢).

وهي مكية في قول عامة المفسرين. واستثنى ابن عباس وقتادة آية واحدة ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(٣).

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)(٥)

قال الله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قرأ الأكثرون : " قاف" [بسكون](٤) الفاء. ونصبها أبو عبد الرحمن وأبو رجاء وأبو المتوكل وأبو الجوزاء ، ورفعها أبو رزين وقتادة ، وكسرها الحسن وأبو عمران الجوني (٥).

__________________

(١) في الأصل وب : أربع وخمسون. وهو خطأ. وقد صححت في هامش الأصل : خمس وأربعون.

(٢) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٣١).

(٣) انظر : الماوردي (٥ / ٣٣٩) ، وزاد المسير (٨ / ٣) ، والإتقان (١ / ٥٣).

(٤) في الأصل : بكسر. والتصويب من ب.

(٥) انظر هذه القراءات في : زاد المسير (٨ / ٣ ـ ٤) ، والدر المصون (٦ / ١٧٤) ، وإتحاف فضلاء البشر ـ

٣٧٠

وقد سبق القول على علل ذلك في سورة" ص" ، وعلى الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.

قال ابن عباس : هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به (١).

وقال قتادة : من أسماء القرآن (٢).

وقال مجاهد والفراء والزجاج (٣) : معناه : قضي الأمر ، كما قيل في" حم" : حمّ الأمر (٤).

وقال الضحاك : هو اسم للجبل المحيط بالأرض (٥) ، وهو من زمردة خضراء ، عليه كتفا السماء ، وخضرة السماء منه (٦).

قال ابن عباس : خلق الله تعالى جبلا يقال له : قاف ، يحيط بالعالم ، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا (٧) أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فتحرّك العرق الذي يلي تلك القرية (٨).

__________________

ـ (ص : ٣٩٨).

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ١٤٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٨٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري (٢٦ / ١٤٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٨٩) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٣) معاني الفراء (٣ / ٧٥) ، ومعاني الزجاج (٥ / ٤١).

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٣٣٩).

(٥) ذكره الطبري (٢٦ / ١٤٧) بلا نسبة ، والماوردي (٥ / ٣٣٩).

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٤).

(٧) في الأصل زيادة قوله : إذا.

(٨) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب" العقوبات" (ص : ٣٢) ، وأبو الشيخ في العظمة (٤ / ١٤٨٩ ح ٩٨٠٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٧ / ٥٨٩) وعزاه لابن أبي الدنيا في العقوبات وأبي ـ

٣٧١

وقال أبو العالية : هو افتتاح اسم قدير (١).

وقال القرظي : افتتاح كل اسم لله أوله قاف ، مثل : قدير ، وقاهر ، وقريب (٢).

وقال أبو بكر الوراق : معناه : قف عند أمرنا ونهينا (٣).

وقيل : معناه : قل يا محمد (٤).

والمجيد : [الكريم](٥) ، في قول ابن عباس وعامة المفسرين (٦).

فإن قيل : أين جواب القسم؟

قلت : قال الأخفش (٧) : جوابه محذوف ، تقديره : والقرآن المجيد لتبعثن. ويدل عليه قوله تعالى : (أَإِذا مِتْنا).

وقيل : جوابه : إن محمدا رسول الله ، بدليل قوله تعالى : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)(٨).

وقال ابن كيسان : جوابه : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ)(٩).

__________________

ـ الشيخ في العظمة.

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٤).

(٢) مثل السابق.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٥).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ٥) حكاية عن الثعلبي.

(٥) في الأصل : والكريم. والمثبت من ب.

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٠٧) ، والطبري (٢٦ / ١٤٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٨٩) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٧) معاني الأخفش (ص : ٢٨٧).

(٨) ذكره الماوردي (٥ / ٣٤٠).

(٩) ذكره القرطبي في تفسيره (١٧ / ٣).

٣٧٢

وقيل : (قَدْ عَلِمْنا) أي : لقد علمنا ، فحذف اللام ؛ كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)(١) [الشمس : ٩].

وقال أهل الكوفة : جوابه : (بَلْ عَجِبُوا) وهو مفسر في" ص" (٢) إلى قوله تعالى : (شَيْءٌ عَجِيبٌ) ، أي : معجب (٣).

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) فيه إضمار ، تقديره : نبعث ، فحذفه لدلالة الكلام عليه.

(ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) رد إلى الحياة بعيد غير كائن.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي : ما تأكله من لحومهم وعظامهم وأشعارهم وتشرب من دمائهم.

وقال قتادة : قد علمنا من يموت منهم (٤).

(وَعِنْدَنا) بذلك وبغيره (كِتابٌ حَفِيظٌ) محفوظ من التبديل والتغيير ، أو حافظ لأسمائهم وعدتهم ، وهو اللوح المحفوظ.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) وقرأ عاصم الجحدري : " لما" بكسر اللام وتخفيف الميم (٥) ، أي : عند مجيئه إياهم.

قال ابن جني (٦) : هو كقولهم : أعطيته ما سأل لطلبته ، أي : عند طلبته ومع طلبته ، وكذلك في التاريخ : لخمس خلون ، أي : عند خمس خلون ، أو مع خمس

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٨ / ٥).

(٢) عند الآية رقم : ٤.

(٣) انظر : زاد المسير (٨ / ٦).

(٤) أخرجه الطبري (٢٦ / ١٤٩). وذكره الماوردي (٥ / ٣٤٠).

(٥) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٨ / ١٢١) ، والدر المصون (٦ / ١٧٥).

(٦) المحتسب (٢ / ٢٨٢).

٣٧٣

خلون ، فيرجع ذلك بالمعنى إلى قراءة العامة.

و" الحق" : القرآن.

(فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ملتبس مختلط. ومنه الحديث : «مرجت عهودهم وأمانتهم» (١).

قال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم (٢).

قال الزجاج في معنى اختلاط أمرهم هاهنا (٣) : [هو](٤) أنهم كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة شاعر ، ومرة ساحر ، ومرة معلم ، وللقرآن أنه سحر ، ومرة مفترى ، فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ)(١١)

ثم دلّهم على البعث ، وقدرته عليه بما يشاهدونه من عجائب المخلوقات

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤ / ١٢٣ ح ٤٣٤٢) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٠٧ ح ٣٩٥٧) ، والحاكم (٢ / ١٧١ ح ٢٦٧١).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٦٣).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ٤٢).

(٤) في الأصل : هم. والتصويب من ب.

٣٧٤

وعظائمها ، فقال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) بناء عجيبا متناسبا ، لا يفتقر إلى علاقة ولا دعامة ، (وَزَيَّنَّاها) بالشمس والقمر والنجوم ، (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) صدوع وشقوق. فإن [في](١) ذلك أثر القدرة الباهرة والحكمة البالغة.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت ، وأنشدوا :

رسا أصله تحت الثّرى وسما به

إلى النجم فرع لا ينال طويل (٢)

(وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي : من كل نوع حسن يبهج الناظر إليه. تقول : أبهجني هذا الأمر ؛ إذا سرّك.

قوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) مفعول له (٣).

قال الزجاج (٤) : أي فعلنا ذلك ليبصر به ويدل على القدرة.

(لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) قال قتادة : تائب إلى ربه (٥).

وقال السدي : مخلص (٦).

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني : المطر (مُبارَكاً) كثير الخير والبركة ، (فَأَنْبَتْنا بِهِ

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) البيت للسمو أل بن عادياء ، وهو في : الماوردي (٥ / ٣٤٢) ، والمستطرف (١ / ٢٩٢) ، وديوان الحماسة (١ / ٢٩).

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢٤١) ، والدر المصون (٦ / ١٧٥).

(٤) معاني الزجاج (٥ / ٤٣).

(٥) أخرجه الطبري (٢٦ / ١٥٢) بلفظ : مقبل بقلبه إلى الله. وذكره الماوردي (٥ / ٣٤٢).

(٦) ذكره الماوردي (٥ / ٣٤٢).

٣٧٥

جَنَّاتٍ) بساتين (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) وهو كل ما يحصد ، [حصد أو لم](١) يحصد.

و" الحصيد" : نعت" للحبّ" ، إلا أنه خرّج مخرج الإضافة ، كقولهم : بارحة الأولى أو حب النبت الحصيد. وقد سبق نظائر هذا في مواضع.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي : [طوالا](٢) (لَها طَلْعٌ) وهو أول ما يبدو من ثمار النخل (نَضِيدٌ) منضود متراكم ، وذلك قبل أن يتفتح ، فإذا خرج من أكمامه وتفرّق فليس بنضيد.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ) مفعول له (٣).

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)(١٥)

وتبّع : هو تبع الحميري ، المذكور في الدخان (٤).

وما لم أذكره مفسّر إلى قوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي : أعجزنا عن ابتداء الخلق ، وكانوا يقرون بأن الله خلقهم وينكرون إعادتهم بعد الموت ، فدلّهم بالنشأة الأولى على صحة الثانية.

(بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) أي : في شكّ (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) يريد : البعث.

__________________

(١) في الأصل : حصدا ولم. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : طولا. والتصويب من ب.

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢٤١) ، والدر المصون (٦ / ١٧٦).

(٤) عند الآية رقم : ٣٧.

٣٧٦

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(١٨)

قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال الواحدي (١) : " ونحن أقرب إليه" بالعلم ، (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) : وهو عرق يتفرق في البدن ، مخالط للإنسان في جميع أعضائه ، وذلك أن أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضا ، ولا يحجب علم الله تعالى شيء.

وقال الزجاج (٢) : الوريد : عرق في باطن العنق ، وهما وريدان.

قال الفراء (٣) : الوريد : عرق بين الحلقوم [والعلباوين (٤).

والعلباوان : العصبان الصفراوان](٥) في متن العنق.

والحبل : هو الوريد ، والقول فيه كالقول في : " وحبّ الحصيد".

ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه مع علمه بالإنسان وقربه منه قد وكل به ملكين يحفظان عليه أقواله إلزاما للحجة عليه ، وتحقيقا لمعنى العدل ، فقال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ).

__________________

(١) الوسيط (٤ / ١٦٥).

(٢) معاني الزجاج (٥ / ٤٤).

(٣) معاني الفراء (٣ / ٧٦).

(٤) جاء في اللسان (مادة : علب) : العلباء ـ ممدود ـ : عصب العنق. قال الأزهري : الغليظ خاصة ، وهما علباوان يمينا وشمالا بينهما منبت العنق.

(٥) في الأصل : العلياويين العلياوان العصبتان الصفروان. والتصويب من ب.

٣٧٧

قال الزجاج (١) : هما كاتباه الموكّلان به ، يتلقيان ما يعمله فيثبتانه عليه. المعنى : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، [فدل](٢) أحدهما على الآخر.

قال غيره (٣) : فحذف المدلول عليه. كقول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأي مختلف (٤)

والمراد بالقعيد هاهنا : الملازم الذي لا يبرح ، لا القاعد الذي هو ضد القائم.

قال مجاهد : عن اليمين كاتب الحسنات ، وعن الشمال كاتب السيئات (٥).

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي : ما يتكلم من كلام يلفظه ، أي : يلقيه من فمه (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) حافظ موكل به (عَتِيدٌ) حاضر معه ملازم له.

وروى أبو أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، فكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة [وأراد](٦) صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين : أمسك ، فيمسك عنه سبع ساعات ، فإن

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ٤٤).

(٢) في الأصل وب : يمل. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٣) انظر : معاني الزجاج (٥ / ٤٤).

(٤) البيت نسب لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي ، ونسب أيضا لقيس بن الخطيم ، ولدرهم بن زيد.

انظر : الكتاب (١ / ٧٥) ، ومعاني الفراء (١ / ٤٣٤) ، وملحقات ديوان قيس (ص : ١٧٣) ، والمقتضب (٣ / ١١٢ ، ٤ / ٧٣) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٣١٠) ، والهمع (٢ / ١٠٩) ، والأشموني (٣ / ١٥٢) ، والبحر المحيط (٥ / ٦٥) ، والدر المصون (٢ / ٥٧٢ ، ٣ / ٤٧٨).

(٥) أخرجه الطبري (٢٦ / ١٥٩). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٩٣) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٦) في الأصل : وأرد. والتصويب من ب.

٣٧٨

استغفر منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة» (١).

فصل

اختلفوا هل يكتبان عليه جميع أقواله وأفعاله؟ فذهب قوم إلى أنهم يكتبون جميع ما يصدر منه ؛ قال مجاهد : حتى أنينه في مرضه (٢).

وقال عكرمة : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يوزر فيه (٣).

وقال الضحاك : مجلسهما على الحنك (٤).

وكان الحسن يعجبه أن ينظف [عنفقته](٥).

فصل

وفي هذه الآية ما يزجر المكلف عن إطلاق لسانه فيما لا يعنيه.

ويروى أن عليا رضي الله عنه (٦) سمع رجلا يشتم رجلا ، فقال له : يا هذا إنك تملي على كاتبيك كتابا إلى ربك ، فانظر على من تمل وإلى من تكتب.

__________________

(١) أخرجه الطبراني (٨ / ٢٤٧ ، ح ٧٩٧١) ، قال الهيثمي (١٠ / ٢٠٨) : فيه جعفر بن الزبير ، وهو كذاب. والبيهقي في شعب الإيمان (٥ / ٣٩٠ ، ح ٧٠٤٩).

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٢ / ٤٤٣ ح ١٠٨٣٠). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٩٦) وعزاه لابن المنذر.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١١).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٢).

(٥) ذكره القرطبي (١٧ / ١٠). وما بين المعكوفين في الأصل : عنفته. والتصويب من ب ، وتفسير القرطبي.

(٦) في ب : عليه‌السلام.

٣٧٩

وقال مخلد بن الحسين (١) : ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها منذ خمسين سنة (٢).

وكان وهب بن منبه يعدّ كلامه كل يوم ويحفظه.

وقال أبو الدرداء : أنصف أذنيك من [فمك ، فإنما](٣) جعل لك أذنان لتسمع أكثر مما تتكلم به.

وقال خارجة بن مصعب (٤) : صحبت ابن عون أربعا وعشرين سنة ، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة (٥).

قرأت على الشيخ أبي الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة ، أخبركم أبو الوقت عبد الأول بن عيسى فأقرّ به.

وأخبرنا الشيخ أبو القاسم بن عبد الله العطار قال : أخبرنا أبو الوقت قال : أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا عبد الله بن منير (٦) ، عن أبي

__________________

(١) مخلد بن الحسين الأزدي المهلبي ، أبو محمد البصري ، نزيل المصيصة ، ثقة صالح ، مات سنة إحدى وتسعين ومائة (تهذيب التهذيب ١٠ / ٦٥ ، والتقريب ص : ٥٢٣).

(٢) ذكره أبو نعيم في : حلية الأولياء (٨ / ٢٦٦) ، وابن الجوزي في صفة الصفوة (٤ / ٢٦٦).

(٣) في الأصل : قلبك فما. والتصويب من ب.

(٤) خارجة بن مصعب بن خارجة الضبعي ، أبو الحجاج الخراساني السرخسي ، متروك ، وكان يدلس عن الكذابين ، توفي سنة ثمان وستين ومائة ، وهو ابن ثمان وتسعين سنة (تهذيب التهذيب ٣ / ٦٧ ، وتهذيب الكمال ٨ / ١٦ ـ ٢٢ ، والتقريب ص : ١٨٦).

(٥) أخرجه البيهقي في الشعب (٤ / ٢٦٧ ح ٥٠٤٢).

(٦) عبد الله بن منير ، أبو عبد الرحمن المروزي ، ثقة عابد ، مات سنة إحدى وأربعين (تهذيب التهذيب ـ

٣٨٠