رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

سورة الأحقاف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي أربع وثلاثون آية في المدني ، وخمس في الكوفي (١).

وهي مكية في قول ابن عباس وعامة المفسرين (٢).

واستثنى قتادة وابن عباس في رواية عنه قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وما في حيزها (٣).

وضمّ مقاتل إلى ذلك قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) ... الآية (٤).

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٢٧).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٢٧٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٦٨) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٣٣) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت بمكة سورة حم الأحقاف ، ومن طريق آخر عن ابن الزبير ، وعزاه لابن مردويه.

(٣) انظر : الماوردي (٥ / ٢٧٠) ، وزاد المسير (٧ / ٣٦٨).

(٤) انظر : زاد المسير ، الموضع السابق.

٢٠١

حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)(٦)

قال الله تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : خلقا ملتبسا بالحكمة.

وقال الكلبي : إلا للحق (١).

قوله تعالى : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : ما خلقنا ذلك إلا بالحق وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه ، وهو يوم القيامة.

و" ما" في قوله : (عَمَّا أُنْذِرُوا) موصولة أو مصدرية ، بمعنى : عن إنذارهم ذلك اليوم.

وما بعده مفسّر في فاطر (٢) إلى قوله : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي : من قبل هذا القرآن فيه برهان ما تدعون ، (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ).

قال ابن عباس ، ويروى مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أو أثارة من علم" : الخط (٣).

وقال مجاهد : بقية من علم تأثرونه عن غيركم (٤).

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٢٧١).

(٢) عند الآية رقم : ٤٠.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٢٢٦ ح ١٩٩٢) ، والطبراني في الكبير (١٠ / ٢٩٩ ح ١٠٧٢٥) ، والأوسط (١ / ٩٠ ح ٢٦٩) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٩٣). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٣٤) وعزاه لأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) أخرجه مجاهد (ص : ٥٩٣) ، والطبري (٢٦ / ٣) بمعناه. وذكره الماوردي (٥ / ٢٧١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٦٩). وذكر نحوه السيوطي في الدر (٧ / ٤٣٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

٢٠٢

قال الزمخشري (١) : هو من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أي : على بقية من شحم كانت بها من شحم [ذاهب](٢).

وقال الحسن : أو أثارة شيء تستخرجونه وتثيرونه (٣).

وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة : " أثرة" بسكون الثاء ، على وزن قطرة (٤).

وقرأ ابن مسعود وأبو رزين وابن عباس بخلاف عنه ، وعكرمة وعمرو بن ميمون : " أثرة" ، مثل : شجرة.

قال أبو الفتح ابن جني (٥) : الأثرة والأثارة التي تقرأ بها العامة : البقية ، وما يؤثر. وهي من قولهم : أثر الحديث يأثره أثرا وأثرة. وأما الأثرة ساكنة الثاء فهي أبلغ معنى ؛ وذلك أنها الفعلة الواحدة من هذا الأصل ، فهي كقولك : ائتوني بخبر واحد ، أو حكاية [شاذة](٦) ، أي : قد قنعت منكم في الاحتجاج بهذا على [قلّته](٧).

وقال الزمخشري (٨) : قرئ : " أثرة" ـ يريد : بفتح الثاء ـ أي : من شيء أوثرتم به وخصصتم من علمه لا إحاطة به لغيركم.

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٢٩٨).

(٢) في الأصل : ذهب. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) أخرجه الطبري (٢٦ / ٣). وذكره الماوردي (٥ / ٢٧١).

(٤) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٣٦٩) ، والدر المصون (٦ / ١٣٥).

(٥) المحتسب (٢ / ٢٦٤).

(٦) في الأصل : شاهدة. والتصويب من المحتسب (٢ / ٢٦٤).

(٧) في الأصل : قلة. والتصويب من المحتسب ، الموضع السابق.

(٨) الكشاف (٤ / ٢٩٨).

٢٠٣

قلت : وهو معنى قول ميمون وقتادة وأبي سلمة بن عبد الرحمن : خاصة من علم (١).

قال (٢) : وقرئ : " أثرة" بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء ، فالإثرة ـ بالكسر ـ بمعنى : الأثرة. وأما الأثرة فالمرة من مصدر : [أثر](٣) الحديث إذا رواه. وأما الأثرة ـ بالضم ـ : فاسم ما يؤثر ، كالخطبة : اسم ما يخطب [به](٤).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُ) أي : أشد ضلالا (مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا).

وقرأ ابن مسعود : " ما لا" (٥).

(يَسْتَجِيبُ لَهُ) يريد : الأصنام ؛ لأن" ما" لمن لا يعقل. ويجوز أن يراد على قراءة العامة : كل من عبد من دون الله من الجن والإنس والأصنام ، فغلب ما يعقل.

وقيل : ويجوز أن يراد الأصنام وحدها ، فأجريت مجرى من يعقل لوصفهم إياها بذلك. والجائز الثاني أظهر وأشهر في التفسير ، على أن" ما" و" من" يتعاقبان.

(وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) في محل الحال.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) يعني : يوم القيامة (كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) يتبرؤون منهم (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) جاحدين.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٣٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.

(٢) أي : الزمخشري في الكشاف.

(٣) في الأصل : أثرت. والتصويب من الكشاف (٤ / ٢٩٨).

(٤) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) انظر هذه القراءة في : الكشاف (٤ / ٢٩٩).

٢٠٤

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٩)

قال الزمخشري (١) : واللام في قوله تعالى : و (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) مثلها في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً) [الأحقاف : ١١] ، أي : لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم : إن محمدا افتراه.

ومعنى الهمزة في" أم" : للإنكار والتعجب ، كأنه قيل : دع هذا واسمع قولهم المستنكر المفضى منه العجب ، وذلك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه.

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لا تقدرون على دفع عذابه عني ، فكيف أفتري عليه وأتعرض لعقابه؟

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : بما تقولون في القرآن (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالتكذيب ، (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠).

٢٠٥

قال الزجاج لما ذكر هاهنا الغفران والرحمة (١) : ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم ثم تاب فإن الله غفور رحيم به.

قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وأبو حيوة : " بدعا" بفتح الدال (٢).

فالمعنى على قراءة الأكثرين : ما كنت أول من أرسل.

والبدع والبديع من كل شيء : مبتدأه ، ومنه : البدعة ؛ لأنه قول [ما لم](٣) يسبق إليه ، و (بَدِيعُ السَّماواتِ) : مبتدؤها على غير مثال سبق.

والمعنى على القراءة الأخرى : ما كنت ذا بدع ، على حذف المضاف.

وقيل : المعنى : ما كنت بدعا من الرسل فآتيكم بكل ما تقترحونه وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات ؛ فإن الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم الله من آياته ، ولا يخبرون إلا بما أوحي إليهم.

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قرأ ابن أبي عبلة وابن يعمر : " يفعل" بفتح الياء (٤).

واختلفوا هل المراد نفي علمه بما يفعل به في الآخرة أم في الدنيا؟ على قولين :

أحدهما : في الآخرة ، قال : ثم نزل بعدها : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، وقال : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [الفتح : ٥]

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٤٣٩).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٥٧) ، والدر المصون (٦ / ١٣٦).

(٣) زيادة على الأصل.

(٤) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٣٧١) ، والدر المصون (٦ / ١٣٦).

٢٠٦

فأعلمه ما يفعل به وبالمؤمنين (١).

الثاني : في الدنيا ، ثم في ذلك قولان :

أحدهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وشجر وماء ، فقصّها على أصحابه فاستبشروا ؛ لما كان يلحقهم من الأذى بسبب المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله! متى تهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) يعني : لا أدري أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا؟ ثم قال : إنما هو شيء رأيته في منامي ، وما أتبع إلا ما يوحى إليّ. روي ذلك كله عن ابن عباس (٢).

وقال الحسن : ما أدري أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي؟ أو أقتل كما قتلوا؟ وما أدري ما يفعل بكم أتعذبون أم تؤخرون؟ أتصدقون أم تكذبون (٣)؟.

وقال عطية : ما أدري هل يتركني بمكة أو يخرجني منها (٤)؟.

وقيل : المعنى : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم فيما يستقبل من الزمان ، ويقدر لي ولكم في قضاياه.

وقيل : هو نفي للدراية المفصلة.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ٧) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٩٣). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٣٥) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) ذكره الواحدي في أسباب نزول القرآن (ص : ٣٩٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٧٢).

(٣) أخرجه الطبري (٢٦ / ٧ ـ ٨). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٣٧) وعزاه لابن جرير.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٠٤) بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٧٢) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٣٥) وعزاه لابن المنذر.

٢٠٧

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ)(١١)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) خبروني ، (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني : القرآن (وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو عبد الله بن سلام ، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعامة المفسرين (١).

وقال سعد بن أبي وقاص : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام ، وفيه نزلت : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ)(٢).

ف" المثل" على هذا : صلة ، أي : شهد على صحته ، وكونه من عند الله.

وقيل : المعنى : وشهد على ما يماثله في التوراة ويطابقه من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك.

وقيل : وشهد على مثل ما أقول أنه من عند الله ، أو على نحو ذلك.

__________________

(١) أخرجه مجاهد (ص : ٥٩٣) ، والطبري (٢٦ / ١٠ ـ ١١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٣٨) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد والضحاك ، وعزاه لابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير. ومن طريق آخر عن زيد بن أسلم وقتادة ، وعزاه لابن عساكر. ومن طريق آخر عن مجاهد وعطاء وعكرمة ، وعزاه لابن سعد وابن عساكر.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١٣٨٧ ح ٣٦٠١) ، ومسلم (٤ / ١٩٣٠ ح ٢٤٨٣).

٢٠٨

قال الزجاج (١) : والأجود أن يكون على مثل شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني : كونه من عند الله. فيكون المقصود تقريع اليهود وتبكيتهم وإلزامهم الحجة بإسلام عالمهم وابن عالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبد الله بن سلام.

وروى الشعبي عن مسروق قال : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ؛ لأن آل حم نزلت بمكة ، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة ، وإنما كانت محاجة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

ومثل القرآن التوراة ، فشهد موسى على التوراة ، ومحمد على القرآن ، وكلاهما مصدق الآخر.

فعلى هذا يكون المعنى : وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن ، ومصدقة له في التوحيد والإخبار بما كان وما يكون ، وناطقة بصحته ومخبرة بوجوده.

والأول أشهر وأكثر وأحسن في انتظام الكلام ومطابقة المعنى.

فإن قيل : أين جواب الشرط في قوله : (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ)؟

قلت : هو محذوف. وفي تقديره أربعة أوجه :

أحدها : فمن أضلّ منكم؟ قاله الحسن (٣).

والثاني : أن التقدير : إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد فآمن به ، أو

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٤٤٠).

(٢) أخرجه الطبري (٢٦ / ٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٧ / ٤٣٩) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٢٧٤) بلا نسبة ، والواحدي في الوسيط (٤ / ١٠٥).

٢٠٩

تؤمنون؟ قاله الزجاج (١).

الثالث : تقديره : أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو علي الفارسي (٢).

الرابع : تقديره : ألستم ظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). ذكره الواحدي (٣). واختاره صاحب الكشاف قال (٤) : فالواو في قوله : (وَكَفَرْتُمْ) عاطفة ل" كفرتم" على فعل الشرط ، كما عطفت" ثم" في قوله : (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) [فصلت : ٥٢] ، وفي قوله تعالى : (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عاطفة ل" استكبرتم" على" شهد شاهد" ، [وأما](٥) الواو في قوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ) فقال الزمخشري أيضا (٦) : قد عطفت جملة قوله : " شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم" على جملة قوله : " إن كان من عند الله وكفرتم به".

ويجوز أن يكون الواو في قوله : (وَكَفَرْتُمْ) واو الحال ، وفي قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ) حالا معطوفة عليها ، على معنى : أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وقد كفرتم به ، والحال أنه قد شهد [حبر](٧) من بني إسرائيل ، ومن تعرفونه بالمهارة في العلم ، ودراسة الكتاب الأول على مثله ، فآمن واستكبرتم ، ألستم أظلم الناس

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٤٤٠).

(٢) انظر قول أبي علي في : زاد المسير (٧ / ٣٧٤).

(٣) الوسيط (٤ / ١٠٥).

(٤) الكشاف (٤ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤).

(٥) في الأصل : فأما. والتصويب من الكشاف (٤ / ٣٠٣).

(٦) الكشاف (٤ / ٣٠٤).

(٧) في الأصل : خبر. ولعل الصواب ما أثبتناه.

٢١٠

[وأضلّهم](١)؟ ويكون ذلك تقريعا لليهود وتوبيخا لهم.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) اختلفوا في هذه الآية أيضا هل هي مكية أو مدنية؟

فإن قلنا : هي مكية ، فالمعنى : وقال كفار قريش للضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان ؛ كصهيب ، وبلال ، وعمار بن ياسر ، وخباب بن الأرت ، تعظما عليهم واستكبارا : لو كان ما بادروا إليه خيرا ما سبقونا إليه.

قال أبو الزناد : أسلمت امرأة ضعيفة البصر ، فقال الأشراف من قريش يهزؤون بها : والله لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا هذه إليه ، فنزلت هذه الآية (٢).

وقال أبو المتوكل : لما أسلم أبوذر استجاب قومه إلى الإسلام ، قالت قريش : لو كان خيرا لم يسبقونا إليه (٣).

وإن قلنا : هي مدنية ـ قال الثعلبي (٤) : وهو قول أكثر المفسرين ـ فقال الكلبي : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : يعني : أسد وغطفان ، (لِلَّذِينَ آمَنُوا) : يعني : جهينة ومزينة ، لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهمة ورذال الناس.

وقيل : هو قول اليهود عند إسلام ابن سلام وأصحابه.

فإن قيل : ما معنى قوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا)؟

__________________

(١) في الأصل : وأظلمهم.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٠٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٧٥).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٢٧٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٧٥).

(٤) تفسير الثعلبي (٩ / ١٠).

٢١١

قلت : قد سبق في مواضع من هذا الكتاب التنظير (١) بهذه الآية ، وأن المعنى : لأجل الذين آمنوا. ويجوز أن يكون من خطاب التلوين والرجوع من المخاطبة إلى المغايبة ، فتكون اللام على بابها.

قوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي : بالقرآن.

قال الزمخشري (٢) : إن قلت : لا بد من عامل في الظرف في قوله : (إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ومن متعلق بقوله : " فسيقولون" ، وغير مستقيم أن يكون" فسيقولون" هو العامل في الظرف ، لتدافع دلالتي المضي والاستقبال ، فما وجه هذا الكلام؟

قلت : العامل في" إذ" محذوف ؛ لدلالة الكلام عليه ، كما حذف من قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) [يوسف : ١٥] ، وقولهم : حينئذ الآن ، وتقديره : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، فسيقولون هذا إفك قديم ، فهذا المضمر صح به الكلام ، حيث انتصب به الظرف ، وكان قوله : " فسيقولون" [مسببا](٣) عنه ، كما صح بإضمار أن قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢١٤] لمصادفة" حتى" مجرورها ، والمضارع ناصبه.

وقولهم : (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) كقولهم : أساطير الأولين.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ)(١٢)

__________________

(١) رسمت في الأصل هكذا : التنيطير.

(٢) الكشاف (٤ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥).

(٣) في الأصل : سببا. والتصويب من الكشاف (٤ / ٣٠٥).

٢١٢

قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي : ومن قبل القرآن كتاب موسى ، و (كِتابُ مُوسى) : مبتدأ ، والظرف خبر مقدم عليه ، وبه انتصب" إماما" على الحال (١) ، كقولك : في الدار زيد قائما.

وقال أبو عبيدة (٢) : فيه إضمار ، تقديره : أنزلناه إماما ورحمة.

وقال الأخفش (٣) : انتصب على القطع.

ومعنى : " إماما" : قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه ، " ورحمة" لمن آمن واتبعه.

(وَهذا) يعني : القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى.

وقيل : مصدق لما تقدمه من كتب الله.

(لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير الكتاب في" مصدق" ، والعامل فيه : " مصدق". ويجوز أن ينتصب عن" كتاب" لتخصصه بالصفة ، ويعمل فيه معنى الإشارة. ويجوز أن يكون مفعولا ل" مصدق" (٤) ، أي : يصدق ذا لسان عربي ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قرأت لأبي جعفر يزيد بن القعقاع ونافع وابن عامر وابن فليح عن ابن كثير ، وهبة الله عن اللهبي عن ابن كثير أيضا ، وللمفضل عن عاصم ، وليعقوب الحضرمي : " لتنذر" بالتاء ، على الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأت لباقي العشرة من جميع طرقهم اللاتي خرجها الإمام أبا طاهر أحمد بن

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٦ / ١٣٧).

(٢) لم أقف عليه في مجاز القرآن لأبي عبيدة.

(٣) انظر : معاني الأخفش (ص : ٢٨٥) وفيه : نصب ؛ لأنه خبر معرفة.

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٣٤) ، والدر المصون (٦ / ١٣٧).

٢١٣

علي بن عبيد الله بن سوار المقرئ رحمه‌الله في كتابه" المستنير" ، وقرأت بجميع ما فيه على شيخنا العلامة أبي البقاء عبد الله بن الحسين اللغوي تلاوة ، وأخبرني أنه قرأ بجميع ذلك وهو ما فيه على الشيخ أبي الحسن علي بن المرحب البطائحي تلاوة ، وأخبره أنه قرأ بجميع ما فيه على ابن سوار المصنف تلاوة : " لينذر" بالياء (١) ، يعني : الكتاب.

(وَبُشْرى) أي : وهو بشرى (لِلْمُحْسِنِينَ) الموحدين.

وقيل : (وَبُشْرى) في محل النصب عطفا على" لتنذر" (٢) ، فإنه في محل النصب ؛ لأنه مفعول له.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(١٦)

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٦٢ ـ ٦٦٣) ، والكشف (٢ / ٢٧١) ، والنشر (٢ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣) ، والإتحاف (ص : ٣٩١) ، والسبعة (ص : ٥٩٦).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ٢٣٤) ، والدر المصون (٦ / ١٣٧).

٢١٤

وما بعده مفسّر إلى قوله تعالى : (بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) قرأ أهل الكوفة : " إحسانا". وقرأ الباقون : " حسنا" (١). وقد سبق القول فيه إعرابا وتفسيرا.

قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) سبق ذكر اختلاف القراء فيه في سورة النساء في قوله تعالى : (أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ، ونصبه على الحال (٢). أي : ذات كره ، أو على أنه صفة للمصدر ، أي : حملا ذاكره.

والمعنى : حملته على مشقة ووضعته على مشقة. وهذا خارج مخرج التعليل للإحسان.

قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) وقرأت ليعقوب : " وفصله" بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف (٣).

ومعنى الكلام : ومدة حمله وفصاله بالفطام عن أمه (ثَلاثُونَ شَهْراً).

وبهذه الآية احتج علي عليه‌السلام وفقهاء الأمصار من بعده : على أن أقل الحمل ستة أشهر ؛ لأن مدة الرضاع لمن أراد الإتمام مقدرة بحولين ، فيتعين لأقل الحمل ستة أشهر.

وقال ابن إسحاق : حمله تسعة أشهر ، [وفصاله](٤) من اللبن لأحد وعشرين شهرا (٥).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٦٣) ، والكشف (٢ / ٢٧١) ، والنشر (٢ / ٣٧٣) ، والإتحاف (ص : ٣٩١) ، والسبعة (ص : ٥٩٦).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ٢٣٤) ، والدر المصون (٦ / ١٣٨).

(٣) النشر (٢ / ٣٧٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٩١).

(٤) في الأصل : فصاله. والتصويب من الثعلبي (٩ / ١٢).

(٥) ذكره الثعلبي (٩ / ١٢).

٢١٥

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وهو زمن اكتهاله واشتداد قوته واستحكام عقله وتمييزه ، وذلك إذا أربى على الثلاثين وناهز الأربعين.

وقال ابن قتيبة (١) : أشدّ الرجل غير أشدّ اليتيم ؛ لأن أشد الرجل : الاكتهال والحنكة ـ الحنكة : فهم الشيء وإحكامه (٢) ـ وأن يشتد رأيه وعقله ، وذلك ثلاثون سنة ، ويقال : ثمان وثلاثون سنة. وأشد الغلام : أن يشتد خلقه ويتناهى نباته.

وقد ذكرنا الأشدّ في الأنعام (٣) ويوسف (٤).

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) مفسّر في النمل (٥).

والمراد بالنعمة التي سأل ربه أن يوزعه شكرها : نعمة التوحيد والإسلام.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي : وأوزعني أن أعمل صالحا ترضاه ، (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) اجعلهم محلا ومقرا للصلاح ومظنة له.

فصل

ذهب ابن عباس وعامة المفسرين إلى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه (٦) ، ويؤيد ذلك تعذر إجرائها على العموم في كل إنسان ؛ لأنه ليس كل من بلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني ، ودعا بما أخبر الله تعالى عنه في هذه

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٥٤).

(٢) انظر : اللسان (مادة : حنك).

(٣) عند الآية رقم : ١٥٣.

(٤) عند الآية رقم : ٢٢.

(٥) عند الآية رقم : ١٩.

(٦) ذكره الطبري (٢٦ / ١٧) ، والماوردي (٥ / ٢٧٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٧٧) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٤٣) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.

٢١٦

الآية.

قال علي عليه‌السلام : هذه الآية نزلت في أبي بكر ، أسلم أبواه جميعا (١).

وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه : نزلت في أبي بكر الصديق ، وذلك أنه صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة ، [فنزلوا](٢) منزلا فيه سدرة ، فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظلها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين ، فقال : من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال : ذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فقال : هذا والله نبي ، وما استظل أحد بعد عيسى تحتها إلا محمد نبي الله ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، فكان لا يفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره وحضوره (٣) ، فلما نبّئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو ابن أربعين سنة ، وأبو بكر وهو ابن ثماني وثلاثون سنة ـ صدّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بلغ أربعين سنة قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ)(٤). [فأجابه](٥) الله ، فأعتق سبعة من المؤمنين ، فكانوا يعذبون في الله ، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه ، واستجاب له في ذريته فآمنوا. هذا كلام ابن عباس (٦).

وقال جمهور المفسرين : لما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا الله تعالى بما ذكره في هذه

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٠٧).

(٢) في الأصل : فلما نزلوا. والمثبت من زاد المسير (٧ / ٣٧٧).

(٣) في زاد المسير : وحضره.

(٤) أسباب نزول القرآن للواحدي (ص : ٣٩٥ ـ ٣٩٦).

(٥) في الأصل : فأحبه. والتصويب من زاد المسير (٧ / ٣٧٨).

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٧٨).

٢١٧

الآية ، فأجابه الله تعالى فأسلم وأسلم [والداه](١) وأولاده ذكورهم وإناثهم ، ولم يتفق ذلك لأحد غيره من الصحابة (٢).

وقال الضحاك والسدي : نزلت في سعد بن أبي وقاص (٣). وقد ذكرنا قصته في موضعها (٤). والصحيح : الأول.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ) يتقبل (عَنْهُمْ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : ["نتقبّل" ، و" نتجاوز"](٥) بنون مفتوحة فيهما ، (أَحْسَنَ) بالنصب. ومثلهم قرأ أبو المتوكل وأبو رجاء وأبو عمران الجوني ، إلا أنه بالياء فيهما (٦). وقرأ باقي القراء السبعة بالياء المضمومة فيهما ، " أحسن" بالرفع (٧).

والأحسن بمعنى : الحسن.

وقوله تعالى : (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) في محل الحال (٨) ، على معنى : كائنين في جملة أصحاب الجنة ومنتظمين في زمرتهم.

(وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد ؛ لأن قوله : " يتقبل" و" يتجاوز" وعد من الله

__________________

(١) في الأصل : والده. والتصويب من زاد المسير (٧ / ٣٧٨).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٧٨).

(٣) مثل السابق.

(٤) في سورة العنكبوت ، عند الآية رقم : ٨.

(٥) في الأصل : يتقبل ويتجاوز. وهو خطأ.

(٦) انظر هذه القراءة في : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٩١) ، وزاد المسير (٧ / ٣٧٩).

(٧) الحجة للفارسي (٣ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٦٤ ـ ٦٦٥) ، والكشف (٢ / ٢٧٢) ، والنشر (٢ / ٣٧٣) ، والإتحاف (ص : ٣٩١) ، والسبعة (ص : ٥٩٧).

(٨) انظر : الدر المصون (٦ / ١٣٩).

٢١٨

تعالى لهم بالتقبل والتجاوز.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٩)

قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) سبق القول على" أفّ" في بني إسرائيل (١). وذكرنا اختلاف القراء فيها ، ولغات العرب.

(أَتَعِدانِنِي) وقرأت لأبي عمرو من رواية القزاز عن عبد الوارث عنه : بفتح نون التثنية (٢) ، وهي لغة شاذة. وعلته : استثقال اجتماع نونين وكسرتين.

وروى هشام : " أتعدانّي" بنون واحدة مشددة على الإدغام (٣) ، تحريا للتخفيف أيضا ، كما تحرّاه من أسقط إحدى النونين.

(أَنْ أُخْرَجَ) أي : أبعث وأخرج من الأرض ، (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي).

قال مقاتل (٤) : مضت فلم يبعث منهم أحد.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٢٣.

(٢) انظر هذه القراءة في : الدر المصون (٦ / ١٣٩).

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٩٢).

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٢٢٤).

٢١٩

وقال أبو سليمان الدمشقي : مضت القرون مكذبة بهذا (١).

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يستصرخان الله ويستغيثانه عليه ويقولان له : (وَيْلَكَ آمِنْ) دعاء عليه بالثبور ، ومقصودهما : استنقاذه من الهلكة وتحريضه على الإيمان لا حقيقة الهلاك.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وقرئ : " أنّ" بفتح الهمزة (٢) ، على معنى : آمن بأن وعد الله حق.

فصل

اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية ، فذهب جمهور المفسرين إلى أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه ، وكان أبواه ألحّا عليه فيما دعواه إليه من الإيمان ، فقال : أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم ما يقولون (٣).

وقال مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر الصديق (٤).

وروي عن عائشة رضي الله عنها : أنها أنكرت أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن إنكارا شديدا (٥).

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٨١).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٦٢) ، والدر المصون (٦ / ١٤٠).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٩٥ ـ ٣٢٩٦) عن السدي. وذكره الماوردي (٥ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٨٠) ، والسيوطي في الدر المنثور (٧ / ٤٤٥) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٢٨٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٨٠).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣٨٠) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٤٥) وعزاه لعبد الرزاق ـ

٢٢٠