رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

قال الزمخشري (١) : حقيقته : [محراكم ومقمنكم. أي](٢) : مكانكم الذي يقال فيه : هو أولى بكم ، كما يقال : هو مئنّة للكرم ، أي : مكان لقول الناس : إنه لكريم. ويجوز أن يراد : هي ناصركم ، أي : لا ناصر لكم غيرها. والمراد : نفي الناصر على البت. ومنه قوله : (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف : ٢٩].

وقيل : هي تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧)

قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) أخرج مسلم في صحيحه أن ابن مسعود قال : «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بقوله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) إلا أربع سنين» (٣).

وفي رواية أخرى : فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا (٤).

وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٤٧٤).

(٢) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٣١٩ ح ٣٠٢٧).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٦٧).

٦٤١

اللهِ)(١).

وقال ابن السائب : نزلت في المنافقين ، آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم (٢).

والمعنى : ألم يحن ، من أنى الأمر يأني ؛ إذا جاء إناه ، وهو حينه ووقته (٣) ، (أَنْ تَخْشَعَ) : تلين وتخضع ، (لِذِكْرِ اللهِ)" : وهو القرآن.

(وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) وهو القرآن أيضا ؛ [لأنه](٤) جامع بين الوصفين ، كونه ذكرا وحقا نازلا.

قرأ نافع وحفص : " نزل" بالتخفيف ، وشدّدها الباقون من العشرة (٥).

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية : " نزّل" بضم النون وكسر الزاي وتشديدها (٦).

وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء : " أنزل" بهمزة مفتوحة (٧).

وقرأ أبو مجلز وعمرو بن دينار : " أنزل" بهمزة مضمومة وكسر الزاي (٨).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٣٨). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥٨) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٤٧٧). وهذا القول غير صحيح ؛ لأن الآية صريحة في الذين آمنوا.

(٣) انظر : اللسان (مادة : أني).

(٤) في الأصل : لا. والتصويب من ب.

(٥) الحجة للفارسي (٤ / ٣٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٠) ، والكشف (٢ / ٣١٠) ، والنشر (٢ / ٣٨٤) ، والإتحاف (ص : ٤١٠) ، والسبعة (ص : ٦٢٦).

(٦) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٤١٠) ، وزاد المسير (٨ / ١٦٨).

(٧) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١٦٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٧٧).

(٨) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١٦٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٧٧).

٦٤٢

(وَلا يَكُونُوا) وقرأ رويس عن يعقوب : " ولا تكونوا" بالتاء (١) ، على طريقة الالتفات ، أو على مخاطبتهم بالنهي.

وقراءة الأكثرين عطف على" أن تخشع".

(كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) وهم اليهود والنصارى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) قال ابن قتيبة (٢) : الأمد : الغاية.

والمعنى : أنه بعد عهدهم بالأنبياء والصالحين.

(فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) قال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله (٣).

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وهم الذين رفضوا ما في الكتابين ونبذوه وراء ظهورهم.

ويروى : أن أبا موسى رضي الله عنه طلب قرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه بثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤها ، فاتلوه ، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم (٤).

والمقصود من الآية التي بعدها : الاستدلال على صحة البعث وكونه.

وقال ابن عباس : المعنى : اعلموا أن الله يليّن القلوب بعد قسوتها (٥) ، فيجعلها

__________________

(١) النشر (٢ / ٣٨٤) ، والإتحاف (ص : ٤١٠).

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٥٣).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٥٠).

(٤) أخرجه مسلم (٢ / ٧٢٦ ح ١٠٥٠) ، وابن أبي شيبة (٧ / ١٤٢ ح ٣٤٨٢٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٥٩) وعزاه لابن أبي شيبة.

(٥) أخرجه ابن المبارك في الزهد (٣ / ١٤٧) عن صالح المري. وذكره السيوطي في الدر المنثور ـ

٦٤٣

مجيبة منيبة ، ويحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة ، وإلا فقد [علم](١) إحياء الأرض بالمطر مشاهدة.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١٩)

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) أصلها : المتصدقين والمتصدقات ، فأدغمت التاء في الصاد.

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم : بتخفيف الصاد فيهما (٢) ، بمعنى : إن المؤمنين والمؤمنات.

قال أبو علي (٣) : من حجة من شدّد أنهم زعموا : أن في قراءة أبيّ : " إنّ المتصدقين والمتصدقات" ، ومن حجتهم : أن قوله : (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) اعتراض بين الخبر والمخبر عنه ، والاعتراض بمنزلة الصفة ، فهو للصدقة أشدّ [ملاءمة](٤) منه للتصديق.

__________________

ـ (٨ / ٥٧) وعزاه لأبن المبارك.

(١) زيادة من ب.

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ٣١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠١) ، والكشف (٢ / ٣١٠) ، والنشر (٢ / ٣٨٤) ، والإتحاف (ص : ٤١٠) ، والسبعة (ص : ٦٢٦).

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ٣١).

(٤) في الأصل : ملازمة. والمثبت من ب ، والحجة (٤ / ٣١).

٦٤٤

ومن حجة من خفّف : أن" المصدّقين" أعمّ من" المتصدّقين" ، فهو أذهب في باب المدح ، والعطف بقوله : (وَأَقْرَضُوا اللهَ) على معنى الفعل في المصدقين ؛ لأن اللام بمعنى : الذين ، واسم الفاعل بمعنى : اصدقوا ، كأنه قيل : إن الذين اصدّقوا وأقرضوا.

(يُضاعَفُ لَهُمْ) وقرأ ابن عامر وابن كثير : " يضعّف" بتشديد العين من غير ألف (١). وقد ذكرنا تفسير ذلك في البقرة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) مبتدأ ، خبره : (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)(٢).

قال مجاهد : كلّ من آمن بالله ورسوله فهو صدّيق ، ثم قرأ هذه الآية (٣).

ثم استأنف كلاما آخر فقال : (وَالشُّهَداءُ) وهو جمع شاهد ، أو شهيد.

وهم الأنبياء ، في قول ابن عباس ، ومسروق ، والكلبي ، في آخرين (٤).

وقال مقاتل بن سليمان ومحمد بن جرير (٥) : هم الذين قتلوا في سبيل الله.

ثم أخبر عن حال الشهداء فقال : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يعني : أنهم في جنة مخصوصة بهم في جوار ربهم عزوجل.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٢٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٩) ، والنشر (٢ / ٢٢٨) ، والإتحاف (ص : ٤١٠) ، والسبعة (ص : ٦٢٥).

(٢) انظر : الدر المصون (٦ / ٢٧٨).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٥١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٧٠) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٦١) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٤٧٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٧٠).

(٥) تفسير مقاتل (٣ / ٣٢٤) ، وتفسير ابن جرير الطبري (٢٧ / ٢٣٢).

٦٤٥

ويجوز أن يكون الخبر : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ)(١) ، على معنى : والشهداء في حكم ربهم لهم أجرهم الذي هو أجرهم المخصوص بهم ، (وَنُورُهُمْ).

وقال قوم : الواو في قوله : " والشهداء" واو النّسق. والمعنى : أولئك هم الصديقون ، وهم الشهداء عند ربهم.

قال ابن مسعود : كلّ مؤمن صدّيق شهيد (٢).

وقال غيره : يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة (٣).

وقال الضحاك : نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وزيد ، وحمزة بن عبد المطلب ، وتاسعهم عمر بن الخطاب ، ألحقه الله بهم ؛ لما عرف من صدق نيته (٤).

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٦ / ٢٧٨).

(٢) ذكره الثعلبي في تفسيره (٩ / ٢٤٤) من قول مجاهد ، والسيوطي في الدر (٨ / ٦١) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد ، ومن طريق آخر ، وعزاه لعبد بن حميد عن عمرو بن ميمون.

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٤٧٩) من قول الكلبي.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٥١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٧٠).

٦٤٦

ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢١)

قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) باطل وغرور ، ثم ينقضي ويزول عن قريب.

والمراد : إعلام العبد أن الدنيا التي حالت بين أكثرهم وبين النظر لآخرتهم الباقية هي هذه اللذات الحائلة الزائلة ، التي هي في نضارتها وحسن رونقها كالزرع.

قال علي عليه الصلاة والسّلام لعمار بن ياسر : لا تحزن على الدنيا فهي ستة أشياء : مطعوم ، ومشروب ، وملبوس ، ومشموم ، ومركوب ، ومنكوح ، فأكبر طعامها العسل ، وهو بزقة ذبابة ، وأكبر شرابها الماء ، واستوى فيه جميع الحيوان ، وأكبر الملبوس من الديباج ، وهو نسج دودة ، وأكبر المشموم المسك ، وهو دم فأرة ظبية ، وأكبر المركوب الفرس ، وعليها تقتل الرجال ، وأكبر المنكوح النساء ، وهو مبال في مبال. والله! إن المرأة لتزيّن أحسنها ، [فيراد منها](١) أقبحها (٢).

ثم إن الله سبحانه وتعالى ضرب لها مثلا فقال : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ)(٣) يعني : الزرّاع. وقيل : الكفّار بالله ؛ لأنهم أفرح بالدنيا وجودة نباتها من المؤمنين.

قوله تعالى : (نَباتُهُ) وهو ما ينبت به ، (ثُمَّ يَهِيجُ) ييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد خضرته وريّه (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) يتحطم وينكسر.

__________________

(١) في الأصل وب : يراد به ، والمثبت من تفسير السراج المنير (٤ / ٢١١).

(٢) ذكره الثعلبي (٩ / ٢٤٤) في تفسيره ، والخطيب الشربيني في تفسيره السراج المنير (٤ / ٢١١).

(٣) في الأصل زيادة قوله : نَباتُهُ. وستأتي بعد قليل.

٦٤٧

وقد سبق بيان هذا المثل في سورة يونس (١) ، وفي سورة الكهف (٢).

والمقصود : تحقير شأن الدنيا وتعظيم أمر الآخرة ، ألا تراه يقول : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) يعني : لمن كفر وعصى ، (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لمن آمن وأطاع.

وباقي الآية والتي تليها مفسّر في آل عمران (٣) إلى قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فبيّن بهذا أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضله سبحانه وتعالى.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٤)

قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) يعني : من انقطاع المطر ونقصان الثمر وغير ذلك ، (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من الأمراض وموت الأولاد وغير ذلك ، (إِلَّا فِي كِتابٍ) وهو اللوح المحفوظ ، ومحله : الحال (٤) ، تقديره : إلا مكتوبا أو مثبتا في كتاب (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي : من قبل أن نخلق الأنفس أو المصيبة.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٢٤.

(٢) عند الآية رقم : ٤٥.

(٣) عند الآية رقم : ١٨٥.

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٥٦) ، والدر المصون (٦ / ٦٧٩).

٦٤٨

وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نبرأ الأرض والنفس (١).

(إِنَّ ذلِكَ) أي : إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب من قبل كونه (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

ثمّ بيّن الحكمة في ذلك ، فقال : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) أي : تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) من الدنيا مما لا يقدّر لكم (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) قرأ أبو عمرو وحده من بين القرّاء العشرة : " بما أتاكم" بقصر الهمزة (٢) ، جعله فعلا ماضيا ، بمعنى : جاءكم ليعادل به ما فاتكم ، فكما أن الفعل [للفائت](٣) في قوله : " فاتكم" ، كذلك يكون الفعل [للآتي](٤) في [قوله](٥) : " بما أتاكم" ، والعائد إلى الموصول بين الكلمتين ، أعني : " فاتكم" و" أتاكم" هو الضمير المرفوع ، بأنه فاعل.

ومن قرأ : (بِما آتاكُمْ) بالمد ، فمعناه : بما أعطاكم ، والفاعل هو الله تعالى.

والمراد : لكيلا تفرطوا في الأسى والفرح.

قال ابن عباس : ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن العاقل من جعل الفرح شكرا ، والحزن صبرا (٦).

__________________

(١) ذكره القرطبي (١٧ / ٢٥٧).

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ٣١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠١ ـ ٧٠٢) ، والكشف (٢ / ٣١١) ، والنشر (٢ / ٣٨٤) ، والإتحاف (ص : ٤١١) ، والسبعة (ص : ٦٢٦).

(٣) في الأصل : الفائت. والتصويب من ب.

(٤) في الأصل : الآتي. والتصويب من ب.

(٥) زيادة من ب.

(٦) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٣٥) ، والحاكم (٢ / ٥٢١ ح ٣٧٨٩) ، وابن أبي شيبة (٧ / ١٣٧ ح ٣٤٧٨٩) ، والبيهقي في الشعب (١ / ٢٢٩ ح ٢٣٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٦٢) وعزاه ـ

٦٤٩

وقال جعفر الصادق عليه‌السلام : يا ابن آدم! ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت (١).

وقيل لبرزجمهر : ما لك أيها الحكيم ، لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت ، فقال : إن الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام [بالحبرة](٢).

وكان سالم الخواص يقول : من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين [ليضع](٣) الله [تعالى](٤) الدنيا والآخرة بين يديه ، قيل : وما مذهبكم؟ قال : الرضا بالقضاء ومخالفة الهوى (٥) ، وأنشد :

لا تطل الحزن على فائت

فقلّما يجدي عليك الحزن

سيّان محزون على ما مضى

ومظهر حزنا لما لم يكن (٦)

وقال قتيبة بن سعيد : دخلت بعض أحياء العرب ، فإذا أنا بفضاء من الأرض [مملوء](٧) من الإبل موتى ، بحيث لا أحصي عددها ، فسألت عجوزا : لمن هذه

__________________

ـ لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.

(١) أخرجه البيهقي في الشعب (١ / ٢٢٩ ح ٢٣٦) عن يحيى بن معاذ الرازي. وذكره القرطبي (١٧ / ٢٥٨) عن جعفر الصادق.

(٢) ذكره الثعلبي في تفسيره (٩ / ٢٤٥). وما بين المعكوفين في الأصل : بالخبرة. والمثبت من ب.

والحبرة : الفرح والسرور (اللسان ، مادة : حبر).

(٣) في الأصل : ليضيع. والتصويب من ب.

(٤) زيادة من ب.

(٥) ذكره الثعلبي (٩ / ٢٤٦).

(٦) البيتان لمحمود الوراق ، انظرهما في : أدب الدنيا والدين (١ / ٣٦٣).

(٧) في الأصل : مملوءا. والتصويب من ب.

٦٥٠

الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ [يغزل](١) الصوف ، فقلت له : [يا شيخ](٢) ألك كانت هذه الإبل؟ قال : كانت باسمي. قلت : فما أصابها؟ قال : ارتجعها الذي أعطاها ، قلت : فهل قلت في ذلك شيئا؟ قال : نعم :

لا والذي أنا عبد من خلائقه

والمرء في الدّهر نصب الرّزء والمحن

ما سرّني أنّ إبلي في مباركها

وما جرى في قضاء الله لم يكن (٣)

وما بعد هذه الآية مفسّر في النساء (٤) إلى قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : من يعرض عن أوامر الله ونواهيه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) لم يأمركم وينهاكم لنفع يعود عليه بل عليكم ، (الْحَمِيدُ) فهو يستحق الحمد منكم بإحسانه إليكم.

وقرأ ابن عامر ونافع : " فإن الله الغني" ، بإسقاط" هو" ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام (٥).

قال أبو علي (٦) : من قرأ (فَإِنَّ اللهَ هُوَ) بإثبات" هو" ، فإن" هو" يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون فصلا لا موضع له من [الإعراب](٧) ، ويكون الخبر : " الغني".

__________________

(١) في الأصل : يغز. والتصويب من ب.

(٢) زيادة من ب.

(٣) ذكره الثعلبي (٩ / ٢٤٦).

(٤) عند الآية رقم : ٣٧.

(٥) الحجة للفارسي (٤ / ٣٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٧٠٢) ، والكشف (٢ / ٣١٢) ، والنشر (٢ / ٣٨٤) ، والإتحاف (ص : ٤١١) ، والسبعة (ص : ٦٢٧).

(٦) الحجة للفارسي (٤ / ٣٢).

(٧) في الأصل : إعراب. والتصويب من ب.

٦٥١

والآخر : أن يكون" هو" مبتدأ ، و" الغني" : خبره ، والجملة خبر" إنّ".

والأول أولى ؛ بدلالة قول من حذفه ؛ لأن الفصل حذفه أسهل من حيث إنه لا موضع له من الإعراب.

ومن قرأ بحذف" هو" فحجّته : أنه حذفه اختصارا ؛ إذ كان لا موضع له من الإعراب ، وحذفه لا يخلّ بالمعنى.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٢٥)

قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أي : بعثنا المرسلين من الأنبياء بالحجج البالغة ، (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) [وهو](١) اسم جنس ، يريد : الكتب التي جاءت بها المرسلون ، والمعيّة هاهنا مثلها في قوله في الأعراف : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧] ، غير أن الوجه الذي [استنبطته](٢) هناك مختص بتلك الآية.

وقال بعض العلماء : (أَرْسَلْنا رُسُلَنا) يريد : الملائكة إلى الأنبياء ، وأظن الحامل له على ذلك [قوله](٣) : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ) ، والأنبياء منزّل عليهم لا منزّل (٤) معهم.

__________________

(١) في الأصل : هو. والتصويب من ب.

(٢) في الأصل : استنبطه. والتصويب من ب.

(٣) زيادة من ب.

(٤) قوله : " منزل" ساقط من ب.

٦٥٢

والأول هو الصحيح ، وهو المتبادر إلى الأفهام. والذي يدل على صحته قوله : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) [البقرة : ٢١٣].

(وَالْمِيزانَ) العدل ، في قول ابن عباس وقتادة ومقاتل بن حيان (١) ، على معنى : أمرناهم به.

وقال ابن زيد ومقاتل بن سليمان (٢) : هو ما يوزن به.

فيكون المعنى : وأنزلنا معهم الأمر بالميزان.

ويروى : أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح ، وقال : مرقومك يزنوا به (٣).

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) قال ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد : السّندان والكلبتان والميقعة (٤) والمطرقة والإبرة (٥).

ويروي في الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد ، والنار ، والماء ، والملح» (٦).

وقال الحسن وجمهور أهل المعاني : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) : خلقناه ؛ كقوله في الزمر :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٣٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٦٤) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة.

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٣٢٦) وفيه : العدل ـ كالقول الأول ـ. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٧٤).

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف (٤ / ٤٧٨).

(٤) الكلبتان : هي الآلة التي تكون مع الحدّادين (اللسان ، مادة : كلب).

والميقعة : المسنّ الطويل. وقيل : هي المطرقة (اللسان ، مادة : وقع).

(٥) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٣٧) من غير ذكر الإبرة. وذكره الثعلبي (٩ / ٢٤٦).

(٦) ذكره القرطبي في تفسيره (١٧ / ٢٦٠) ، والبغوي (٤ / ٢٩٩).

٦٥٣

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ)(١) [الزمر : ٦].

(فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) وهو المحاربة به ، يشير إلى أنه يتخذ منه السلاح (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) في معايشهم ومصالحهم وصنائعهم ، فقلّ أن ترى صنعة إلا والحديد قوامها ، أو له فيها مدخل بوجه من الوجوه.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ) علم مشاهدة ورؤية (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) أي : وينصر رسله بالآلة التي تتّخذ من الحديد للمحاربة ؛ كالسيوف والرماح ، (بِالْغَيْبِ) أي : ينصرونه غائبا عنهم ، فهو حال من المفعول (٢).

قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه (٣).

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) لا يغالب ، فلو شاء أن ينتقم من أعدائه لفعل ، لكنه أمر أولياءه بمجاهدة (٤) أعدائه لينتقم منهم بأيديهم ، وينيلهم إذا امتثلوا أمره درجات مخصوصات بالمجاهدين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٥٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٧٤) بلا نسبة.

(٢) انظر : الدر المصون (٦ / ٢٨٠).

(٣) ذكره الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٤٧٨).

(٤) في ب : بجهاد.

٦٥٤

فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٧)

وما بعده مفسّر إلى قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) يعني : الحواريين وأتباعهم (رَأْفَةً) وقد ذكرنا فيما مضى أنها أبلغ الرحمة ، (وَرَهْبانِيَّةً) منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده (١) ، تقديره : ابتدعوها من قبل أنفسهم ؛ تقربا إلينا ، ابتدعوها ونذروها.

(ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي : ما فرضناها وأوجبناها عليهم ، (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع ، أي : [ولكنهم](٢) ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.

قال ابن مسعود : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حمار فقال : يا ابن أم عبد! هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل هذه الرهبانية؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه‌السلام ، يعملون بمعاصي الله ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن [ظهرنا لهؤلاء](٣) أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه ، فتعالوا نتفرّق في

__________________

(١) وهو ما ذهب إليه الزمخشري في الكشاف (٤ / ٤٧٩) ، وأبو البقاء في التبيان (٢ / ٢٥٧) ، فهو من باب الاشتغال.

وردّ أبو حيان في البحر (٨ / ٢٢٦) هذا الإعراب من حيث الصناعة ، وقال : وهذا إعراب المعتزلة ، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء ، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله : " ورهبانية" لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بها ، فلا يصلح نصبها على الاشتغال.

(٢) في الأصل : ولكونهم. والتصويب من ب.

(٣) في الأصل : ظهروا هؤلاء ، والمثبت من ب ، ومصادر التخريج.

٦٥٥

الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى ـ يعنون : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية ، فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) ... الآية ، (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) أي : الذين ثبتوا عليها (أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن أم عبد : تدري ما رهبانية أمّتي؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التّلاع (١).

قوله تعالى : (فَما رَعَوْها) يعني : جميعهم (حَقَّ رِعايَتِها) بل فرطوا فيما وجب عليهم بالتزامهم وإن لم يكن واجبا بأصل الشرع ، كما لو نذر الواحد منا في شريعتنا فعل عبادة لا تلزمه ، فإنه يصير لازما له بالتزامه ونذره ، كذلك أولئك نذروا والتزموا فعل الرهبانية ، فلما ضيّعوا وفرّطوا عاب الله عليهم ذلك (٢).

وقيل : إن منهم من بدّل وغيّر الدين الذي جاء به عيسى عليه‌السلام.

وقيل : الإشارة بقوله : " فمارعوها" إلى الأتباع لا إلى المتبوعين الذين كانوا الأصل في الرهبانية. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس (٣).

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثبتوا على إيمانهم ، وتمسكوا بقوانين دينهم وشريعة نبيهم ، إلى أن بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَجْرَهُمْ) ثواب إيمانهم وطاعتهم ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي (٩ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨).

(٢) قال ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٧٦ ـ ١٧٧) : قال القاضي أبو يعلى : والابتداع قد يكون بالقول ؛ وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه ، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه. وعموم الآية تتضمن الأمرين. فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها وإتمامها.

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٣٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٧٧).

٦٥٦

خارجون عن الطاعة.

أخرج الحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اختلف من كان قبلي على ثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهم ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين [الله ودين عيسى بن مريم حتى قتلوا. وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم ، فدعوهم إلى دين الله ودين](١) عيسى ، فأخذوهم فقتلوهم وقطعوهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ، ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ، فساحوا في البلاد وترهّبوا ، وهم الذين قال الله عزوجل (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ... الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من آمن بي وصدّقني واتّبعني ، فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يتّبعني فأولئك هم الهالكون (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لأهل الكتابين (اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما آمنتم بموسى وعيسى ، (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) سبق

__________________

(١) زيادة من الحاكم (٢ / ٥٢٢).

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٢٢ ح ٣٧٩٠).

٦٥٧

معنى" الكفل" في النساء (١).

والمعنى : يؤتكم كفلين بسبب إيمانكم الأول والثاني. ومنه الحديث الصحيح : «أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد فله أجران» (٢). أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن زيد : يؤتكم أجر الدنيا والآخرة (٣).

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ) على الصراط (نُوراً تَمْشُونَ بِهِ).

وقيل : يجعل لكم نورا وهو القرآن (٤). والقولان عن ابن عباس.

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) قال الفراء (٥) : العرب تجعل" لا" صلة في كل كلام دخل في آخره أو في أوله جحد ، فهذا مما جعل في آخره جحد.

واللام في ل" يعلم" يتعلق ب (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) ، وما في حيزها.

المعنى : يؤتكم لإيمانكم أجركم مرتين ، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أن لا (يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ)" أن" مخففة من الثقيلة بإضمار الشأن ، على معنى : أن الشأن لا يقدرون على شيء من فضل الله ، وأنهم لا أجر لهم.

(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فآتى المؤمنين أجرهم مرتين.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٨٥.

(٢) أخرجه مسلم (١ / ١٣٤ ح ١٥٤).

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٤٣).

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٤٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٦٧) وعزاه لعبد بن حميد.

(٥) معاني الفراء (٣ / ١٣٧).

٦٥٨

قال الواحدي ـ وقد ذكر هذا المعنى ـ (١) : هذه آية مشكلة ، ليس للمفسرين ولا [لأهل](٢) المعاني فيها بيان ينتهي إليه ، ويلفّق بينه وبين الآية التي قبلها ، وأقوالهم مختلفة متدافعة ، وقد بان واتضح المعنى فيما ذكرناه.

ولقد صدق الواحدي رحمه‌الله ، فإنني تتبعت كثيرا من كتب التفسير والمعاني ، فلم [أظفر](٣) بقول يكشف عن وجه المقصود ويوضح ارتباط إحدى الآيتين بالأخرى.

وفي الذي ذكره واعتقد اتضاح المعنى به وقفة.

والذي يظهر في نظري : أن المعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من أهل الكتابين ، واستثمروا من إيمانهم علما جازما بمعرفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستطيعون دفاعه عنهم ، بل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، (اتَّقُوا اللهَ) بترك العناد والحسد ، (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) الذي تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ، (يُؤْتِكُمْ) ... إلى آخر الآية.

ثم قال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي : يؤتكم إذا اتقيتم وآمنتم كفلين ، ويجعل لكم نورا ، ويغفر لكم ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا (يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، إذ لو قدروا عليه لما رضوا لأنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة ، وليعلموا أن الفضل بيد الله في ملكه وتصرفه وتحت قدرته ، فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وليس لهم إلى هداية أنفسهم والقدرة على شيء من فضل الله من الإسلام وغيره سبيل إلا بإذنه ، (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ممن

__________________

(١) الوسيط (٤ / ٢٥٧).

(٢) في الأصل وب : أهل. والمثبت من الوسيط ، الموضع السابق.

(٣) في الأصل : أ. والمثبت من ب.

٦٥٩

خلقه [للسعادة](١) وعلم أنه أهل لها (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

__________________

(١) في الأصل : للعبادة. والتصويب من ب.

٦٦٠