رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

والصحيح : ما عليه عامة المفسرين : من أنها الفرش المعروفة ، أي : مرفوعة بزيادة الحشو ، أو على السرر.

وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ارتفاعها كما بين السماء والأرض ، مسيرة ما بينهما خمسمائة عام» (١).

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال ابن عباس : يريد : النساء الآدميات (٢).

وفي الترمذي من حديث أنس : «أن من المنشآت اللاتي كنّ في الدنيا عمشا رمصا» (٣).

والمعنى : أنشأناهنّ إنشاء جديدا من غير أن تشتمل عليهن أصلاب الفحول وأرحام الطوامث.

فإن قيل : قد أسلفت أنه لا يكنى عن شيء إلا وقد تقدمه ما يدل عليه ، فأين جرى هاهنا ذكر نساء أهل الدنيا لترجع الكناية في قوله : " أنشأناهن" إليهن؟

قلت : إن أريد بالفرش : النساء ، فلا إشكال ، وإلا فقد دلّت عليهن دلالة ملازمة.

(فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) عذارى.

قال ابن عباس : لا يأتيها زوجها إلا وجدها بكرا (٤).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٧٩ ح ٢٥٤٠).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٣٥).

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٠٢ ح ٣٢٩٦).

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٤٥٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٤٢).

٦٠١

(عُرُباً أَتْراباً) وقرأ حمزة : " عربا" بإسكان الراء (١).

والعرب : جمع عروب. قال الشاعر :

وفي الحدوج (٢) عروب غير فاحشة

ريّا الرّوادف يغشى دونها البصر (٣)

وهي المتحبّبة إلى زوجها ، الحسنة التّبعّل. قاله ابن عباس وعامة المفسرين واللغويين (٤). وإليه يؤول قول عكرمة : أنهن الغنجات (٥).

وقول الحسن وقتادة : العواشق لأزواجهن (٦) ؛ لأن عشقهن لهم يزيدهم ميلا إليهن.

وقول ابن زيد : الحسنات الكلام (٧).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٢١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٦) ، والكشف (٢ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥) ، والإتحاف (ص : ٤٠٨) ، والسبعة (ص : ٦٢٢).

(٢) الحدوج : جمع ، واحدها : حدج ، وهي مراكب النساء ، أو الهودج. (انظر : اللسان ، مادة : حدج).

(٣) البيت للبيد بن ربيعة ، وهو في : مجاز القرآن (٢ / ٢٥١) ، والحجة للفارسي (٤ / ٢٢) ، والماوردي (٥ / ٤٥٥) ، والطبري (٢٧ / ١٨٦) ، والقرطبي (١٧ / ٢١١).

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٦) وعزاه لابن جرير. وانظر : مجاز القرآن (٢ / ٢٥١).

(٥) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٦) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٨٧ ـ ١٨٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٨ / ١٧ ـ ١٨) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة. ومن طريق آخر عن الحسن ، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٨٨) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٣٢). وذكره الماوردي (٥ / ٤٥٥).

٦٠٢

ويروى في [الحديث](١) : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلامهن عربي» (٢).

" أترابا" مفسر في ص عند قوله : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) [ص : ٥٢].

واللام في قوله : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلقة بقوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) ، تقديره : إنا خلقناهن خلقا جديدا بعد أن كنّ عجائز عمشا ، ثم صرن في القبور ترابا ، فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين.

قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي : أصحاب اليمين ، وهم أهل الجنة جماعة كثيرة من الأولين وجماعة كثيرة من الآخرين.

وفي" الأولين" و" الآخرين" القولان السابقان في التي قبلها.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «في قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : جميع الثّلّتين من أمتي» (٣).

فإن قيل : هل بين قوله : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقوله : (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) مناقضة؟

قلت : كلا ؛ لأن الآية الأولى في السابقين من الأمم ، على ما أشرنا إليه من قول مقاتل ، وقد كشفنا عن وجه معناه. وهذه في مطلق أهل الجنة ، إما من جميع الأمم أو من هذه الأمة. وكلا الفريقين الداخلين إلى الجنة من الأولين والآخرين ثلة غير

__________________

(١) في الأصل : حديث. والمثبت من ب.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٣٢). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٨) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٩١). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ١٩) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه.

٦٠٣

محصورة ، على أن قوله : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لا ينافي كون القليل ثلّة ، وإنما أفاد كثرة الثّلّة الأوّلة بالنسبة إلى الثّلّة الآخرة.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(٥٦)

قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) هذا تعجيب من سوء حالهم.

(فِي سَمُومٍ) قال ابن قتيبة (١) : هو حرّ النار.

(وَحَمِيمٍ) هو الماء الحار. وقد سبق تفسيرهما (٢).

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) يفعول ، من الأحم ، وهو الأسود الشديد السواد.

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٤٩).

(٢) سبق تفسير السموم في سورة الطور ، آية رقم : ٢٧ ، وتفسير الحميم في سورة الحج ، آية رقم : ١٩.

٦٠٤

قال الفراء (١) : الدخان الأسود.

وقال ابن عباس : ظل من دخان (٢).

ثم نعته فقال : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) قال ابن عباس : لا بارد المدخل ولا كريم المنظر (٣).

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) في الدنيا (مُتْرَفِينَ) أي : ممتّعين منعّمين منهمكين في اللذات ، راكبي رؤوسهم في اتباع الشهوات.

(وَكانُوا) مع ذلك (يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ). قال الحسن والضحاك وابن زيد : هو الشرك بالله (٤).

وقال مجاهد وقتادة : هو الذنب العظيم لا يتوبون منه (٥).

وقال الشعبي : هو اليمين الغموس (٦).

يشير ـ والله أعلم ـ إلى حلفهم أنهم لا يبعثون.

ويدل عليه قوله : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

__________________

(١) معاني الفراء (٣ / ١٢٦).

(٢) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٩٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٣٣) ، والحاكم (٢ / ٥١٨ ح ٣٧٧٩).

وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٠) وعزاه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ٢٣٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٤٤).

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ١٩٤). وذكره الماوردي (٥ / ٤٥٧).

(٥) أخرجه مجاهد (ص : ٦٤٩) ، والطبري (٢٧ / ١٩٤). وذكره الماوردي (٥ / ٤٥٧).

(٦) ذكره الماوردي (٥ / ٤٥٧) ، والواحدي في الوسيط (٤ / ٢٣٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٤٤).

٦٠٥

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة : " أئذا" بهمزتين محقّقتين ، وفصل بينهما بألف ؛ هشام ، الباقون بتحقيق الأولى وتليين الثانية ، وفصل بينهما بألف : أبو عمرو وقالون ، ولم يقرأه أحد على الخبر.

وقرأ نافع والكسائي : " إنا" على الخبر ، الباقون : بهمزتين ، وحققهما ابن عامر وعاصم وحمزة ، وفصل بينهما بألف : هشام ، وحقق الأولى وليّن الثانية : ابن كثير وأبو عمرو ، وزاد أبو عمرو الفصل بألف (١). وقد أشرنا إلى علة ذلك في أوائل الرعد (٢).

وقرأ نافع وابن عامر : " أو آباؤنا" بسكون الواو (٣). وقد ذكرته في الصافات (٤) ، وبيّنت معناه.

قال الزمخشري (٥) : إن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في : (لَمَبْعُوثُونَ) من غير تأكيد؟

قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] لفصل" لا" المؤكدة للنفي. و" من" في قوله : (مِنْ شَجَرٍ) لابتداء الغاية ، وفي قوله : (مِنْ زَقُّومٍ) لبيان الشجر وتفسيره. وأنّث ضمير الشجر على المعنى ، وذكّره على اللفظ في قوله : " منها" و" عليه".

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٢٢) ، والنشر (١ / ٣٧٣) ، والإتحاف (ص : ٤٠٨) ، والسبعة (ص : ٦٢٣).

(٢) عند الآية رقم : ٥.

(٣) الحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٦) ، والنشر (٢ / ٣٥٧) ، والإتحاف (ص : ٤٠٨).

(٤) عند الآية رقم : ١٧.

(٥) الكشاف (٤ / ٤٦٢).

٦٠٦

ويجوز عندي : أن يكون الضمير في قوله : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) راجعا إلى" الزقوم" ، يدل عليه قراءة من قرأ : " من [شجرة](١) ".

وما لم أذكره مفسّر في مواضعه.

قوله تعالى : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو جعفر : " شرب" بضم الشين. وقرأ الباقون من العشرة : بفتحها (٢).

قال الزجاج (٣) : " الشّرب" ـ بالفتح ـ : المصدر ، وبالضم : الاسم.

وقال الزمخشري (٤) : هما مصدران.

وقال الكسائي : قوم من بني سعد يقولون : " شرب الهيم" بكسر الشين (٥).

قال غيره : " الشّرب" ـ بكسر الشين ـ بمعنى : المشروب.

والهيم : الإبل التي بها الهيام ، وهو داء لا تروى معه من شرب الماء. يقال : بعير أهيم وناقة هيماء (٦). قال ذو الرمة :

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد

صداها ولا يقضي عليها هيامها (٧)

__________________

(١) في الأصل : شجر. والتصويب من ب.

(٢) الحجة للفارسي (٤ / ٢٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٦) ، والكشف (٢ / ٣٠٥) ، والنشر (٢ / ٣٨٣) ، والإتحاف (ص : ٤٠٨) ، والسبعة (ص : ٦٢٣).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ١١٣).

(٤) الكشاف (٤ / ٤٦٢).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٤٥).

(٦) انظر : اللسان (مادة : هيم).

(٧) البيت لذي الرمة ، انظر : ديوانه (ص : ٧١٤) ، والبحر (٨ / ٢٠٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٦١) ، والكشاف (٤ / ٤٦٢) ، وروح المعاني (٢٧ / ١٤٦).

٦٠٧

هذا قول مجاهد [وعكرمة](١) والضحاك وقتادة وعطاء وجمهور المفسرين (٢).

وقيل : إن الهيم : الرمال التي [لا](٣) تروى من الماء (٤). والقولان عن ابن عباس.

قال أبو عبيدة (٥) : الهيم : ما لا يروى من رمل أو بعير.

وقال الزمخشري (٦) ـ على القول الثاني ـ : وجهه : أن يكون الهيم جمع : الهيام ـ بفتح الهاء ـ ، وهو الرمل الذي [لا](٧) يتماسك ، جمع على فعل ؛ كسحاب وسحب ، ثم خفّف وفعل به ما فعل بجمع أبيض.

ومعنى الآية : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم ، فإذا ملؤوا منه بطونهم سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم ، [فيشربونه](٨) شرب الهيم.

قوله تعالى : (هذا نُزُلُهُمْ) أي : هذا الطعام والشراب نزلهم الذي أعددنا لهم

__________________

(١) في الأصل : عكرمة. والتصويب من ب.

(٢) أخرجه مجاهد (ص : ٦٤٩ ـ ٦٥٠) ، والطبري (٢٧ / ١٩٥ ـ ١٩٦).

وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢١ ـ ٢٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن أبي مجلز وعكرمة وقتادة والحسن والضحاك.

(٣) زيادة من ب.

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٤٥٧) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٢) وعزاه لسفيان بن عيينة في جامعه.

(٥) مجاز القرآن (٢ / ٢٥١).

(٦) الكشاف (٤ / ٤٦٢).

(٧) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٨) في الأصل : فشربونه. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

٦٠٨

(يَوْمَ الدِّينِ) أي : يوم الجزاء والحساب. وقد سبق ذكره في الفاتحة.

وفي هذا تهكّم بهم ؛ لأن النّزل : ما يعدّ للأضياف من الرزق تكرمة لهم.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)(٦٢)

قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي : نحن قدّرنا هيئتكم وأوجدناكم ، (فَلَوْ لا) أي : فهلّا (تُصَدِّقُونَ) بالبعث وتعتبرون إحدى النشأتين بالأخرى ، أو فهلّا تصدقون بالحق تصديقا لا مناقضة فيه ، فإن الإقرار بالخلق الأول مع إنكار الخلق الثاني متناقضان.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) وقرأ أبو [السّمّال](١) : " تمنون" بفتح التاء (٢).

وقد ذكرنا أنهما لغتان ، أمنى ومنى.

والمعنى : أخبروني ما تلقونه في أرحام النساء (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ).

قرأت على أبي المجد القزويني ، أخبركم الإمام أبو منصور محمد بن أسعد العطاري فأقر به قال : سمعت الإمام أبا محمد الحسين بن مسعود البغوي يقول : روي عن علي رضي الله عنه : أنه قرأ في الصلاة بالليل : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ

__________________

(١) في الأصل : السماك. والتصويب من ب.

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٢١٠) ، والدر المصون (٦ / ٢٦٣).

٦٠٩

تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) قال : بل أنت يا رب ثلاثا (١) ، وكذلك في قوله : (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ، (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)(٢).

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وقرأ ابن كثير : " قدرنا" بالتخفيف (٣) ، وهما لغتان بمعنى واحد.

قال الضحاك : سوينا بينكم فيه (٤). فيكون التقدير بمعنى : القضاء.

وقال مقاتل (٥) : المعنى : منكم من يموت كبيرا ، ومنكم من يموت صغيرا وشابا وشيخا.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي : بمغلوبين.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) قال الزجاج (٦) : المعنى : إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ذلك.

(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصور.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٢ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣ ح ٤٠٥٣) ، والحاكم (٢ / ٥١٨ ح ٣٧٨٠) ، والبيهقي في الكبرى (٢ / ٣١١ ح ٣٥١٠). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٢) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه.

(٣) الحجة للفارسي (٤ / ٢٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٦) ، والكشف (٢ / ٣٠٥) ، والنشر (٢ / ٣٨٣) ، والإتحاف (ص : ٤٠٨) ، والسبعة (ص : ٦٢٣).

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٤٥٨ ، ٤٥٩).

(٥) تفسير مقاتل (٣ / ٣١٦).

(٦) معاني الزجاج (٥ / ١١٤).

٦١٠

قال مجاهد : نخلقكم في أيّ خلق شئنا (١).

فمعنى الآية : وما نحن بمسبوقين على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم ، وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونه.

وقيل : تقديره : على أن نبدلكم بأمثالكم ، فحذف المفعول الأول ، والجارّ من المفعول الثاني.

وقيل : الأمثال : جمع مثل ، بمعنى الصفة ، أي : نبدّل صفاتكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أقرّيتم بها واعترفتم بصحّة كونها ، (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) فتستدلوا بالنظير على النظير.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)(٦٧)

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) في الأرض وتلقون فيها من البذر.

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه وتخرجونه نابتا ناميا ، (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ).

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) قال الزجاج (٢) : أبطلناه حتى يكون متحطما لا حنطة فيه ولا شيء.

__________________

(١) أخرجه مجاهد (ص : ٦٥٠) ، والطبري (٢٧ / ١٩٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) معاني الزجاج (٥ / ١١٤).

٦١١

(فَظَلْتُمْ) وقرأ الشعبي وأبو العالية : " فظلتم" بكسر الظاء (١) ؛ لأن الأصل [فيه : " ظللتم"](٢) ، فنقل حركة اللام إلى الظاء ، وهذا الحرف آخر الحروف التسعة التي جاءت بالظاء في القرآن. وقد ذكرتها في سورة النحل عند قوله : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) [٥٨] ، فاطلبها هنا لك.

ومعنى : (تَفَكَّهُونَ) تعجبون مما نزل بكم في زرعكم.

وقيل : تندمون على عملكم (٣) فيه وإنفاقكم عليه. والقولان مشهوران في التفسير.

ويقال : إنه من الأضداد. تفكّه بمعنى : تنعّم ، وتفكّه بمعنى : تحزّن.

وقرأ أبيّ بن كعب وابن السميفع والقاسم بن محمد وعكرمة : " تفكّنون" [بنون](٤) بدل الهاء ، بمعنى : تندّمون (٥).

[ومنه](٦) الحديث : «مثل العالم مثل الحمّة ، يأتيها البعداء ويتركها القرباء ، فبينما هم كذلك إذ غار ماؤها ، فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكّنون» (٧). أي : يتندّمون.

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١٤٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٦٤).

(٢) في الأصل : فظللتم. والمثبت من ب.

(٣) في ب : تعبكم.

(٤) زيادة من ب.

(٥) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١٤٨) ، والدر المصون (٦ / ٢٦٤).

(٦) في الأصل : منه. والتصويب من ب.

(٧) أخرجه ابن قتيبة في المعارف (ص : ٤٣٩). وذكره الزمخشري في : الكشاف (٤ / ٤٦٤).

٦١٢

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) قال الزجاج (١) : أي يقولون : إنا لمغرمون قد غرمنا وذهب زرعنا.

وقيل : لمعذبون من الغرام ، وهو الهلاك.

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) محارفون محدودون.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)(٧٠)

والمزن : السّحاب ، واحدتها : مزنة (٢).

وقيل : هو السحاب الأبيض خاصة ، وهو أعذب ماء.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ملحا زعاقا لا تقدرون على شربه (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي : فهلّا تشكرون الذي أنزله عذبا ثجّاجا ولم يجعله ملحا أجاجا.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٧٤)

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) تقدحونها وتخرجونها (٣) من الزناد.

قال الزجاج (٤) : يقال : ورى الزند يري فهو وار ؛ إذا انقدحت منه النار ،

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ١١٤).

(٢) انظر : اللسان (مادة : مزن).

(٣) في ب : وتستخرجونها.

(٤) معاني الزجاج (٥ / ١١٥).

٦١٣

وأوريت النار ؛ إذا قدحتها (١). والعرب تقدح بالزّند والزّندة ، وهو خشب يحكّ بعضه على بعض ، فتخرج منه النار ، وهذا قول ابن قتيبة أيضا وعامة أهل اللغة والتفسير.

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) وهي المرخ والعفار ، وفي كل شجر نار.

وروى أبو صالح عن ابن عباس : أن المراد بشجرتها : الحديد (٢).

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تذكيرا لنار جهنم وأنموذجا لها.

أنبأنا أبو علي بن عبد الله المذكّر قال : أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ، أخبرنا الحسن بن علي [الواعظ](٣) ، أخبرنا أبو بكر (٤) أحمد بن جعفر ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام ، حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من حر جهنم. قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرّها» (٥). أخرجاه في الصحيحين.

قوله تعالى : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي : ومنفعة للذين ينزلون القواء ، وهي القفر والأرض الخالية.

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : وري).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٤٩).

(٣) في الأصل : الحافظ. والمثبت من ب ، وقد سبق عدة مرات كما أثبتناه.

(٤) في الأصل زيادة قوله : " بن". وهو خطأ. وانظر : ب.

(٥) أخرجه البخاري (٣ / ١١٩١ ح ٣٠٩٢) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٤ ح ٢٨٤٣) ، وأحمد (٢ / ٣١٣ ح ٨١١١).

٦١٤

ومنه قول النابغة :

 .................

أقوت وطال عليها سالف الأبد (١)

وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك (٢).

قال بعض العلماء : المسافر أشدّ حاجة إليها من المقيم ؛ لأنه إذا أوقدها هربت منه السّباع ، واهتدى بها الضّالّ ، واصطلى بها في شدّة البرد (٣).

وقال مجاهد : متاعا للمسافرين [والحاضرين](٤).

ولعمري إنها كذلك ، ولكن الاشتقاق لا يساعده على هذا ، اللهم إلا أن يكون مثل قوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

وقال الربيع والسدي : متاعا للمرملين المقوين الذين لا زاد معهم ، يوقدون نارا فيختبزون بها (٥).

__________________

(١) عجز بيت للنابغة ، وصدره : يا دار ميّة بالعلياء فالسند. انظر : ديوانه (ص : ٣٠) ، والخزانة (٤ / ٤٠٩) ، وشرح شواهد المغني (٤ / ٣١٥) ، والتصريح على التوضيح (١ / ١٤٠) ، والدرر اللوامع (١ / ٦١) ، والأشموني (١ / ٢١٠) ، والبحر المحيط (١ / ١٤١).

(٢) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٠١ ـ ٢٠٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٣٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٤٩).

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٠٢) ، وهناد في الزهد (١ / ١٦٨ ح ٢٣٧). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٤) وعزاه لهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. وما بين المعكوفين في الأصل : والضحاضرين. والتصويب من ب.

(٥) ذكره الثعلبي (٩ / ٢١٧).

٦١٥

وقال ابن زيد : " للمقوين" : للجائعين (١). تقول : أقويت من كذا وكذا ؛ إذا لم تأكل شيئا (٢).

وقال قطرب وغيره من أهل اللغة والواحدي (٣) : المقوي من الأضداد ، يكون بمعنى : الفقير ، ويكون بمعنى : الغني. ويقال : أقوى الرجل ؛ إذا قوي على ما يريد ، وأقوى : إذا افتقر وخلا من المال (٤).

قال الواحدي (٥) : فالمعنى : ومتاعا للأغنياء والفقراء ، وذلك أنه لا غنى لأحد عنها.

وهذا القول من الواحدي فيه إشعار أن اللفظة الواحدة تستعمل في الشيء وضده في حالة واحدة ، وهذا لا يجوز ، فإنه لا يسوغ أن تطلق القرء وأنت تريد به : الحيض والطهر.

قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي : نزّه ربك مما يقولون.

أمر الله تعالى نبيه بالتسبيح شكرا له على ما فضّله من ذكر نعمه ودلائل وحدانيته وقدرته على البعث.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٠٢). وذكره الماوردي (٥ / ٤٦١).

(٢) انظر : اللسان (مادة : قوا).

(٣) الوسيط (٤ / ٢٣٨).

(٤) انظر : اللسان (مادة : قوا).

(٥) الوسيط (٤ / ٢٣٨).

٦١٦

مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٨٢)

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) قال الزجاج (١) وأكثر المفسرين واللغويين : معناه : فأقسم بمواقع النجوم ، ف" لا" مزيدة مؤكدة ، كقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩].

وقيل : إن" لا" على أصلها ، فهي ناهية ، بمعنى : لا تكفروا ولا تجحدوا ما ذكرت من نعمي ، ولا تنكروا قدرتي ، أو نافية لما يقوله الكفار في القرآن.

وقرأ الحسن : " فلأقسم" (٢) على معنى : فلأنا أقسم.

قال مجاهد : " مواقع النجوم" : مطالعها ومساقطها (٣).

وقال الحسن : انتثارها وانكدارها يوم القيامة (٤).

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنها نجوم القرآن (٥) ؛ لأنه كان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما شيئا بعد شيء.

قال الزجاج (٦) : ودليل هذا القول : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ

__________________

(١) معاني الزجاج (٥ / ١١٥).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١٥١) ، والدر المصون (٦ / ٢٦٦).

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٦٥٢) ، والطبري (٢٧ / ٢٠٤).

(٤) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٠٤). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٥) أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (١٠ / ١٥٤) ، والطبري (٢٧ / ٢٠٣). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٥) وعزاه لابن مردويه.

(٦) معاني الزجاج (٥ / ١١٥).

٦١٧

كَرِيمٌ).

وقرأ حمزة والكسائي : " بموقع" على التوحيد وإرادة الجنس (١).

وقال المبرد : هو مصدر ، يصلح للواحد والجمع.

ثم استعظم سبحانه وتعالى القسم بمواقع النجوم تفخيما لشأنه ، وتنبيها على عظيم قدرته فيه وحكمته فقال : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ). وهاهنا اعتراضان :

أحدهما : بين القسم والمقسم عليه ، وهو قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ...) إلى آخر الآية.

الثاني : بين الموصوف وصفته ، وهو قوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ).

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) على الله ، عظيم النفع للناس ؛ لما اشتمل عليه من الأحكام والحكم.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ (٢).

فالمعنى بكونه مكنونا على هذا القول : صيانته عن غير الملائكة المقربين الذين أذن الله لهم في الأخذ منه والنظر فيه.

وقال مجاهد وقتادة : هو المصحف (٣).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٤ / ٢٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٩٧) ، والكشف (٢ / ٣٠٦) ، والنشر (٢ / ٣٨٣) ، والإتحاف (ص : ٤٠٩) ، والسبعة (ص : ٦٢٤).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٤٦٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٥١).

(٣) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٠٥). وذكره السيوطي في الدر (٨ / ٢٦) وعزاه لآدم ابن أبي إياس وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن مجاهد.

٦١٨

فالمعنى على هذا القول بكونه مكنونا : صيانته عن الباطل ، وحفظه عنه.

وقال عكرمة : المراد بالكتاب : التوراة والإنجيل (١).

وقال السدي : الزبور (٢). على معنى : أنّ ذكر القرآن ومن ينزل عليه القرآن في الكتب المتقدمة.

قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الضمير يعود إلى" الكتاب".

فإن قلنا : هو اللوح المحفوظ ؛ فالمطهرون : الملائكة.

وإن قلنا : هو المصحف أو غيره من الكتب المنزلة : فيكون النفي في معنى النهي ، على معنى : لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من الأحداث. وهذا قول قتادة (٣).

ويؤيده ما أخرج مالك في الموطأ : أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم : «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» (٤).

وقال ابن السائب : المطهرون من الشرك (٥).

وقال الربيع بن أنس : المطهرون من الذنوب والخطايا (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٧ / ٢٠٦). وذكره الماوردي (٥ / ٤٦٣) ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٤٦٣) بلا نسبة.

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٤٦٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٥٢).

(٤) أخرجه مالك (١ / ١٩٩ ح ٤٦٩).

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ٤٦٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٨ / ١٥٢).

(٦) ذكره الماوردي ، وابن الجوزي في زاد المسير ، الموضعين السابقين ، والسيوطي في الدر (٨ / ٢٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

٦١٩

وقيل : إن هذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يجد طعم القرآن ونفعه إلا من آمن به. حكاه الفراء (١).

قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ) صفة رابعة" للقرآن" ، أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو تنزيل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٢).

ولما عظّم الله القرآن وفخّمه وأقسم على كرامته أنكر عليهم تكذيبهم به ، فذلك قوله تعالى : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) يعني : القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ).

قال الزجاج (٣) : المدهن والمداهن : الكذّاب المنافق.

وقال ابن قتيبة (٤) : يقال : أدهن في دينه وداهن.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي : شكر رزقكم ، على حذف المضاف.

وقرأ علي عليه‌السلام : وتجعلون شكركم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٥).

فالمعنى : وتجعلون شكر رزقكم ونعمة الله عليكم بالقرآن ؛ التكذيب.

والذي عليه ابن عباس وجمهور المفسرين : أن هذه الآيات نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. وأن المراد بالرزق : المطر ، على معنى : وتجعلون شكر ما [يرزقكم](٦) الله من المطر أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى ، حيث تنسبونه إلى النجوم ، يدل على ذلك ؛ ما أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال :

__________________

(١) معاني الفراء (٣ / ١٣٠).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ٢٥٤) ، والدر المصون (٦ / ٢٦٨).

(٣) معاني الزجاج (٥ / ١١٦).

(٤) تفسير غريب القرآن (ص : ٤٥١).

(٥) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٨ / ١٥٤) ، والدر المصون (٦ / ٢٦٩).

(٦) في الأصل : رزقكم. والمثبت من ب.

٦٢٠