تفسير البغوي - ج ٣

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٣

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

تفسير سورة القصص

مكية إلا قوله عزوجل : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ)

إلى قوله : (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [٥٢ ـ ٥٥]

وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة.

وهي قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [٨٥]

[وهي ثمان وثمانون آية](١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧))

(طسم) (١).

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢).

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) ، وبالصدق ، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، يصدقون بالقرآن.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا) ، استكبر وتجبّر وتعظّم ، (فِي الْأَرْضِ) ، أرض مصر ، (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) ، فرقا وأصنافا في الخدمة والتسخير ، (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) ، أراد الطائفة بني إسرائيل ، ثم فسّر الاستضعاف فقال : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ). سمى هذا استضعافا لأنهم عجزوا أو ضعفوا عن دفعه عن أنفسهم ، (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ، يعني بني إسرائيل ، (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) ، قادة في

__________________

(١) زيد في المطبوع.

٥٢١

الخير يقتدى بهم. وقال قتادة [ولاة](١) ملوكا دليله قوله عزوجل : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠] ، وقال مجاهد : دعاء إلى الخير. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ، يعني أملاك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم.

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، أوطّن لهم في أرض مصر والشام ، ونجعلها لهم مكانا يستقرون فيه ، (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ) ، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي «يرى» بالياء وفتحها ، (فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) ، مرفوعات على أن الفعل لهم ، وقرأ الآخرون بالنون وضمها وكسر الراء ونصب الياء ونصب ما بعده بوقوع (٢) الفعل عليه ، (مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ، والحذر هو التوقي من الضرر ، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل فكانوا على على وجل منه ، فأراهم الله ما كانوا يحذرون.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) ، وهو وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، وأم موسى يوحانذ بنت لاوى بن يعقوب ، (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ، واختلفوا في مدة الرضاع ، قيل : ثمانية أشهر. وقيل : أربعة أشهر. وقيل : ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها ، وهو لا يبكي ولا يتحرك ، (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) ، يعني من الذبح ، (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) ، واليم البحر وأراد هاهنا النيل ، (وَلا تَخافِي) ، قيل : لا تخافي عليه من الغرق ، وقيل : من الضيعة ، (وَلا تَحْزَنِي) ، على فراقه ، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

روى عطاء و (٣) الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى ، فلما حزبها الطلق أرسلت إليها فقالت قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إيّاي اليوم ، قالت : فالجت قبالتها فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عيني موسى. فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى قلبها. ثم قالت لها : يا هذه ما جئت إليك حين دعوتيني إلا ومرادي قتل مولودك ، ولكن وجدت لابنك هذا حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه ، فاحفظي ابنك فإني أراه عدونا ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاءوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب فلفت موسى في خرقة ووضعته في التنور وهو مسجور وطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع ، قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن ، فقالوا لها ما أدخل عليك القابلة؟ قالت : هي مصافية لي فدخلت علي زائرة فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : فأين الصبي؟ قالت : لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه بردا وسلاما ، فاحتملته ، قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله في نفسها أن تتخذ له تابوتا فتجعله فيه ثم تقذف التابوت في اليم وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها النجار ما تصنعين بهذا التابوت ، قالت : اين لي أخبئه في

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) في المطبوع «يوقع».

(٣) في المطبوع «عن» بدل «و» وهو خطأ.

٥٢٢

التابوت ، وكرهت الكذب ، قال ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق (١) الكلام ، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول ، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم ، فانطلق أيضا يريد الأمناء فلما هم (٢) ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئا ، فضربوه وأخرجوه فوقع في واد يهوي فيه حيران ، فجعل الله عليه وإن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيث ما كان ، فعرف الله منه الصدق فردّ عليه لسانه وبصره فخر لله ساجدا ، فقال : يا رب دلني على هذا العبد الصالح فدله الله عليه فخرج (٣) من الوادي فآمن به وصدقه ، وعلم أن ذلك من الله عزوجل.

وقال وهب بن منبه : لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها [عن](٤) جميع الناس فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي ولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن يفتشن النساء تفتيشا لم يفتشن قبل ذلك مثله ، وحملت أم موسى فلم ينتأ بطنها ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها ، فكانت القوابل لا يتعرضن لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم ، فأوحى الله إليها أن أرضعيه فإذا خفت عليه [فألقيه في اليم](٥) الآية ، فمكثت (٦) أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت تابوتا له مطبقا ثم ألقته في البحر ليلا.

قال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا [له](٧) : أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان يوم الاثنين ، غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون إن هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ايتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فدنت منه آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبنا فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون فلما [أخرجوه](٨) من التابوت عمدت بنت فرعون إلى مكان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت فقبلته وضمته إلى صدرها فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه [من](٩) بني

__________________

(١) في المطبوع «ينطق».

(٢) في المطبوع «فأتاهم».

(٣) في المطبوع «فخر».

(٤) سقط من المطبوع.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المطبوع «فكتمته».

(٧) زيادة عن المخطوط.

(٨) في المطبوع «أخرجوا الصبي».

(٩) سقط من المطبوع.

٥٢٣

إسرائيل هو هذا رمي به في البحر خوفا منك فاقتله ، فهمّ فرعون بقتله ، فقالت آسية قرة عين لي ولك لا تقتله عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه.

[١٦٠٩] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها».

فقيل لآسية سميه فقالت قد سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء وسى هو الشجر ، فذلك قوله عزوجل.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢))

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) ، والالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب ، (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، وهذه اللام تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك ، قرأ حمزة والكسائي «حزنا» بضم الحاء وسكون الزاي ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي ، وهما لغتان ، (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) ، عاصين آثمين.

قوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ، قال وهب : لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحوه فوجدوا فيه موسى فلما نظر إليه قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك ، وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وكانت امرأة للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم ، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن تذبح الولدان لهذه السنة فدعه يكون قرة عين لي ولك ، (لا تَقْتُلُوهُ) ، وروي أنها قالت له إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل ، (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، أن هلاكهم على يديه فاستحياه فرعون وألقى الله عليه محبته وقال لامرأته عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه ، قال وهب : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية عسى أن ينفعنا لنفعه الله ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه.

وقوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) ، أي خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى ، وهمه. هذا قول أكثر المفسرين.

__________________

[١٦٠٩] ـ أخرجه الطبري ٢٧١٨٨ من حديث ابن عباس ، وإسناده ضعيف ، وعلته أصبغ بن زيد وهو بعض حديث الفتون أخرجه النسائي في «التفسير» ٣٤٦ وأبو يعلى ٢٦١٨ والطحاوي في «المشكل» ٦٦ من حديث ابن عباس مطوّلا ، وهو حديث ضعيف مداره على أصبغ بن زيد تفرد به ، وهو غير حجة.

وللفظ المصنف شاهد مرسل أخرجه الطبري ٢٧١٨٥ عن محمد بن قيس مرسلا ومع إرساله فيه أبو معشر ، واسمه نجيح ، وهو ضعيف ، والراجح كونه موقوفا على ابن عباس وأنه أخذه عن أهل الكتاب.

٥٢٤

وقال الحسن : فارغا أي ناسيا للوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في اليم ولا تخاف ولا تحزن ، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين ، فجاءها الشيطان فقال كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيته في البحر ، وأهلكتيه ، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه ، فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها.

وقال أبو عبيدة : فارغا أي من الحزن لعلمها بصدق وعد الله تعالى وأنكر القتيبي هذا وقال كيف يكون هذا والله تعالى يقول : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) ، والأول أصح قوله عزوجل : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) ، قيل الهاء في به راجعة إلى موسى أي كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها. وقال عكرمة عن ابن عباس : كادت تقول وابناه.

وقال مقاتل : لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها. وقال الكلبي : كادت تظهر أنه ابنها وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شب موسى بن فرعون ، فشق عليها وكادت تقول بل هو ابني. وقال بعضهم : الهاء عائدة إلى الوحي أي كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أن يردّه إليها ، (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) ، بالعصمة والصبر والتثبيت ، (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، المصدقين بوعد الله حين قال لها : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ).

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) ، أي لمريم أخت موسى (قُصِّيهِ) ، اتبعي أثره حتى تعلمي خبره ، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) ، أي عن بعد ، وفي القصة أنها كانت تمشي جانبا وتنظر اختلاسا ترى أنها لا تنظره ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، أنها أخته وأنها ترقبه.

قال ابن عباس : إن امرأة فرعون كان همها في الدنيا أن تجد له مرضعة وكلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها ، فذلك قوله عزوجل :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) ، والمراد من التحريم المنع والمراضع جمع المرضع ، (مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل مجيء أم موسى فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك قالت لهم هل أدلكم؟

وفي القصة أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا ويصيح وهم في طلب مرضعة له ، (فَقالَتْ) ، يعني أخت موسى ، (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ) ، أي يضمونه «لكم» ، ويرضعونه ، وهي امرأة قد قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيرا ترضعه ، (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) ، والنصح ضد الغش وهو تصفية العمل من شوائب الفساد ، قالوا : نعم فأتينا بها.

قال ابن جريج والسدي : لما قالت أخت موسى وهم له ناصحون أخذوها وقالوا إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه ، وقلت هم للملك ناصحون.

وقيل : إنها قالت إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به ، وقيل إنها لما قالت هل أدلكم على أهل بيت قالوا لها من؟ قالت : أمي ، قالوا : أو لأمك ابن؟ قالت : نعم هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها الولدان ، قالوا [لها](١) صدقت فأتينا بها فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا.

قال السدي : كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى :

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

٥٢٥

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥))

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) ، برد موسى إليها ، (وَلا تَحْزَنَ) ، أي لئلا تحزن ، (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، برده إليها ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أن الله وعدها رده إليها.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) ، قال الكلبي : الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة. وقال مجاهد وغيره : ثلاث وثلاثون سنة ، (وَاسْتَوى) ، أي بلغ أربعين سنة ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقيل : استوى انتهى شبابه (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ، أي الفقه والعقل والعلم في الدين ، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا ، (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) ، يعني دخل موسى المدينة ، قال السدي : هي مدينة منف من أرض مصر.

وقال مقاتل : كانت قرية يقال لها خانين (١) على رأس فرسخين من مصر. وقيل : مدينة عين الشمس ، (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ، وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة.

وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء.

واختلفوا في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت.

قال السدي : وذلك أن موسى كان يسمى ابن فرعون ، فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه فركب فرعون يوما وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فأدركه المقبل بأرض منف فدخلها نصف النهار وليس في طرفها أحد ، فذلك قوله عزوجل : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ، قال محمد بن إسحاق كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به فلم عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم (٢) في دينهم حتى كثر (٣) ذلك منه وخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها.

وقال ابن زيد : لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله فقالت امرأته هو صغير فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته [فلم يدخل عليهم إلا بعد أن](٤) كبر وبلغ أشده (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ، يعني عن ذكر موسى أي (٥) من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم [به](٦) ، وروي عن علي في قوله : (حِينِ غَفْلَةٍ) كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم ، (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) ، يختصمان ويتنازعان ، (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) ، من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) ، من القبط ، قيل : الذي كان من شيعته السامري والذي من عدوه [من القبط ، قيل](٧) : طباخ فرعون اسمه فاتون. وقيل :

__________________

(١) في المطبوع «حابين».

(٢) تصحف في المطبوع «فحالفهم».

(٣) تصحف في المطبوع «ذكر».

(٤) ما بين الحاصرتين في المطبوع «فلما».

(٥) تصحف في المطبوع «أمر».

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) زيد في المطبوع.

٥٢٦

هذا من شيعته وهذا من عدوه أي هذا مؤمن وهذا كافر ، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ ، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع ، وكان بنو إسرائيل قد عزوا لمكان (١) موسى لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم ، فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون ، (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، والاستغاثة طلب الغوث فغضب موسى واشتد غضبه لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة من أم موسى ، فقال للفرعوني خلّ سبيله ، فقال إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه ، فقال الفرعوني : لقد هممت أن أحمله عليك ، وكان موسى قد أتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش ، (فَوَكَزَهُ مُوسى) ، وقرأ ابن مسعود «فلكزه موسى» ، ومعناهما واحد وهو الضرب بجميع الكف. وقيل : الوكز الضرب في الصدر واللكز في الظهر. وقال الفراء : معناهما واحد وهو الدفع ، قال أبو عبيدة : الوكز الدفع بأطراف الأصابع.

وفي بعض التفاسير : عقد موسى ثلاثا وثمانين وضربه في صدره ، (فَقَضى عَلَيْهِ) ، أي قتله وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه ، فندم موسى عليه ولم يكن قصده القتل فدفنه في الرمل ، (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ، أي بيّن الضلالة.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨))

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) ، بقتل القبطي من غير أمر ، (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) ، بالمغفرة ، (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) ، عونا ، (لِلْمُجْرِمِينَ) ، قال ابن عباس : للكافرين وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا ، وهو قول مقاتل ، وقال قتادة : لن أعين بعدها على خطيئة ، قال ابن عباس : لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ) ، أي في المدينة التي قتل فيها القبطي (خائِفاً) ، من أهل (٢) القبطي ، (يَتَرَقَّبُ) ، ينتظر سوءا ، والترقب انتظار المكروه [و](٣) قال الكلبي : ينتظر متى يؤخذ به ، (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) ، يستغيثه ويصيح به من بعد.

قال ابن عباس : أتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا منّا رجلا فخذ لنا بحقنا ، فقال ابغوا لي قاتله ـ ومن يشهد عليه فلا يستقيم أن يقضي (٤) بغير بينة ، ـ فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مرّ موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا [آخر](٥) فاستغاثه على الفرعوني فصادف موسى ، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي ، (قالَ لَهُ مُوسى) ، للإسرائيلي ، (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ، ظاهر الغواية

__________________

(١) في المطبوع «بمكان».

(٢) في المطبوع «قتله».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع ـ ب ـ «أقضي».

(٥) زيادة عن المخطوط.

٥٢٧

قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك ، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه ، وقيل : إنما قال موسى للفرعوني إنك لغوي مبين بظلمك ، والأول أصوب وعليه الأكثرون أنه قال ذلك للإسرائيلي.

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢))

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) ، وذلك أن موسى أدركته الرقة بالإسرائيلي فمدّ يده ليبطش بالفرعوني فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه وسمع قوله إنك لغوي مبين ، (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ) ، ما تريد ، (إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) ، بالقتل ظلما ، (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ، فلما سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني فانطلق إلى فرعون وأخبره بذلك ، وأمر فرعون بقتل موسى.

قال ابن عباس : فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم.

(وَجاءَ رَجُلٌ) ، من شيعة موسى ، (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) ، أي من آخرها ، قال أكثر أهل التأويل : اسمه حزقيل مؤمن آل فرعون ، وقيل : اسمه شمعون ، وقيل : سمعان ، (يَسْعى) ، أي يسرع في مشيه فأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى ، فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقا آخر ، (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) ، يعني أشراف قوم فرعون يتشاورون فيك ، (لِيَقْتُلُوكَ) قال الزجاج : يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، (فَاخْرُجْ) ، من المدينة ، (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ، في الأمر لك بالخروج.

(فَخَرَجَ مِنْها) ، موسى ، (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) ، أي ينتظر الطلب ، (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، الكافرين ، وفي القصة أن فرعون بعث في طلبه حين أخبر بهربه فقال اركبوا بنيات الطريق فإنه لا يعرف كيف الطريق.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) ، أي قصد نحوها ماضيا يقال داره تلقاء دار فلان إذا كانت محاذيتها ، وأصله من اللقاء.

قال الزجاج : أي سلك الطريق التي يلقى مدين فيها ، ومدين هو مدين بن إبراهيم سميت البلدة باسمه ، وكان موسى قد خرج خائفا بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد ، وكانت مدين على مسيرة (١) ثمانية أيام من مصر ، (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ، أي قصد الطريق إلى مدين ، قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها. قيل : فلما دعا جاء ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين.

قال المفسرون : خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلّا ورق الشجر والبقل حتى كان يرى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه. قال ابن عباس : وهو أول ابتلاء من الله عزوجل لموسى عليه الصلاة والسلام.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما

__________________

(١) في المطبوع «مسير».

٥٢٨

قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) ، وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ، (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) ، جماعة ، (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) ، مواشيهم ، (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) ، أي الجماعة [وقيل بعيدا عن الجماعة بجانب عنهم](١) ، (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) ، يعني تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهما البئر ، وقال الحسن : تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس ، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما. وقيل : تمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب. والقول الأول أصوبهما لما بعده وهو قوله ، (قالَ) ، يعني موسى للمرأتين ، (ما خَطْبُكُما) ، ما شأنكما لا تسقيان أغنامكما مع الناس ، (قالَتا لا نَسْقِي) ، أغنامنا ، (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) ، قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن عامر «يصدر» بفتح الياء وضم الدال على اللزوم ، أي حتى يرجع الرعاء من (٢) الماء ، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء ، والرعاء جمع راع مثل تاجر وتجار ، ومعنى الآية : لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء لأنا امرأتان لا نطيق أن نستسقي ولا نستطيع أن نزاحم الرجال ، فإذا صدروا [وتولوا](٣) سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض [من الماء](٤) ، (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ، لا يقدر أن يسقي مواشيه ، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم. واختلفوا في اسم أبيهما ، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن [هو](٥) شعيب النبي عليه‌السلام.

وقال وهب بن منبه وسعيد بن جبير : هو بيرون (٦) بن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعد ما كفّ بصره ، فدفن بين المقام وزمزم ، وقيل : رجل ممن آمن بشعيب ، قالوا فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس. وقال ابن إسحاق : إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين.

ويروى : أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر فجاء موسى ورفع الحجر وحده وسقى غنم المرأتين. ويقال : إنه نزع ذنوبا واحدا ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم ، فذلك قوله :

(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) ، ظل شجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع ، (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، من طعام (فَقِيرٌ) ، قال أهل اللغة اللام بمعنى إلى يقال هو فقير له وفقير إليه يقول إني لما أنزلت إليّ من خير أي طعام فقير محتاج ، كان يطلب الطعام لجوعه.

قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه. قال محمد [بن علي](٧) الباقر : لقد قالها

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «عن».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المخطوط «نترون».

(٧) زيادة عن المخطوط.

٥٢٩

وإنه لمحتاج إلى شق تمرة. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لقد قال موسى : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شق تمرة. وقال مجاهد : ما سأله إلا الخبز ، قالوا فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما [أتيتما قبل الرعاة](١) قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦))

قال الله تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليست بسلفع (٢) من النساء خرّاجة ولاجة ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء ، (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) قال أبو حازم سلمة بن دينار : لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب ، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت ففعلت ذلك ، فلما دخل على شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذ بالله ، فقال شعيب : ولم ذاك ألست بجائع؟ قال : بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وإنا أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى وأكل. (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) ، يعني أمره أجمع ، من قتله القبطي وقصد فرعون قتله ، (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، يعني فرعون وقومه ، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على أهل مدين.

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) ، اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا ، (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) ، يعني خير من استعملت من قوي على العمل وأداء الأمانة ، فقال لها أبوها وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت : أمّا قوته فإنه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة. وقيل إلا أربعون رجلا ، وأمّا أمانته فإنه قال لي : امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك.

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

(قالَ) شعيب عند ذلك ، (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) ، واسمهما صفوراء ، وليا في قول شعيب الجبائي وقال ابن إسحاق : صفورة وشرقا وقال غيرهما الكبرى صفراء والصغرى صفيراء. وقيل زوجه الكبرى وذهب أكثرهم إلى أنه زوجه الصغرى منهما واسمها صفورة وهي التي ذهبت لطلب

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «بسلع».

٥٣٠

موسى ، (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) ، يعني أن تكون أجيرا لي ثمان سنين ، قال الفراء : يعني تجعل (١) ثوابي من تزويجها أن ترعى غنمي ثماني حجج ، تقول العرب : أجرك الله يأجرك (٢) أي أثابك ، والحجج السنون واحدتها حجة ، (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) ، أي إن أتممت عشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ، وليس بواجب عليك ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) ، أن ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع ، (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، قال عمر [رضي الله عنه](٣) : يعني في حسن الصحبة والوفاء بما قلت.

(قالَ) ، موسى (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) ، يعني هذا الشرط بيني وبينك ، فما شرطت عليّ فلك وما شرطت من تزويج إحداهما فلي ، والأمر بيننا ، تم الكلام ، ثم قال : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) ، يعني أيّ الأجلين و «ما» صلة «قضيت» أتممت أو فرغت من الثمان أو العشر ، (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) لا ظلم عليّ بأن أطالب بأكثر منها (٤) ، (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ، قال ابن عباس ومقاتل : شهيد فيما بيني وبينك. وقيل : حفيظ.

[١٦١٠] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن عبد الرحيم أنا سعيد بن سليمان أنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأساله ، فقدمت على ابن عباس فسألته ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قال فعل.

[١٦١١] وروي عن أبي ذرّ مرفوعا : إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما ، وإذا

__________________

[١٦١٠] ـ موقوف صحيح. إسناده لا بأس به من أجل مروان بن شجاع ، فهو وإن روى له البخاري ، فقد ضعفه غير واحد ، لكن له شواهد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٢٦٨٤ عن محمد بن عبد الرحيم بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الطبري ٢٧٤٠٥ من طريق حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير به.

وورد مرفوعا عند الطبري ٢٧٤٠٩ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٩٧ من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سألت جبرائيل أي الأجلين قضى موسى؟ قال : «أتهمها وأكملهما».

ورواية الواحدي : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأطيبهما».

ـ وإسناده غير قوي لأجل الحكم بن أبان.

ـ وورد عن محمد بن كعب القرظي مرسلا أخرجه الطبري ٢٧٤٠٨ ؛ والمرسل من قسم الضعيف ، وانظر ما بعده.

[١٦١١] ـ الراجح وقفه. أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨ والطبراني في «الأوسط» ٥٤٢٦ و «الصغير» ٨١٥ والخطيب في «التاريخ» ٢ / ١٢٨ من طريق عوبد بن أبي عمران عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر به.

ـ وإسناده ضعيف جدا ، عوبد ويقال : عويدبه.

ـ وأخرجه البزار ٢٢٤٤ «كشف» من طريق إسحاق بن إدريس عن عوبد به.

ـ وهذا إسناد ساقط ، إسحاق هذا متروك ، وشيخه عوبد متروك أيضا كما تقدم.

ـ وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٨٨ / ١١٢٥٢ : رواه البزار ، وفيه إسحاق بن إدريس ، وهو متروك ، ورواه الطبراني في ـ

(١) في المطبوع «اجعل».

(٢) في المطبوع «بأجرك».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «منهما».

٥٣١

سئلت بأي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما ، وهي التي جاءت ، فقالت : يا أبت استأجره ، فتزوج أصغرهما وقضى أوفاهما.

وقال وهب : أنكحه الكبرى.

[١٦١٢] روي عن شداد بن أوس مرفوعا : «بكى شعيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى عمي فردّ الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فردّ الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فردّ الله عليه بصره ، فقال الله : ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ فقال : لا يا رب ، ولكن شوقا إلى لقائك ، فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئا لك لقائي يا شعيب ، لذلك أخدمتك موسى كليمي» ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في تلك العصا.

قال عكرمة : خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه.

وقال آخرون : كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب ، وكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى.

وقال السدي : كانت تلك العصا استودعها إيّاه ملك [في](١) صورة رجل [قال](٢) فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتته بها فلما رآها شعيب قال لها : ردي هذه العصا [فإنها وديعة عندي](٣) ، وأتاه بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا تقع في يدها إلّا هي ، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فأعطتها موسى فأخرجها موسى معه ، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة [عندي أعطيها لغيري](٤) ، فذهب في أثره وطلب أن يرد العصا فأبى موسى أن يعطيه. وقال : هي عصاي فرضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فلقيهما ملك في صورة آدمي فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها فلم يطقها ، فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ ، ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه. قال موسى للمرأة : اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم فطلب من أبيها [شعيب](٥) فقال شعيب لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها (٦).

__________________

ـ «الصغير» و «الأوسط» وإسناده حسن!!.

ـ كذا قال رحمه‌الله ، ومداره على عوبد ، وهو متروك كما تقدم.

ـ ولصدره شواهد ، والوهن في عجزه فقط.

ـ وانظر «أحكام القرآن» ١٧١٦ لابن العربي بتخريجي.

[١٦١٢] ـ باطل. أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧ من حديث شداد بن أوس ، وإسناده ساقط ، فيه علي بن الحسن بن بندار ، قال الذهبي في «الميزان» ٣ / ١٢١ : اتهمه ابن طاهر. وفيه إسماعيل بن عياش ، وهو ضعيف في روايته عن غير الشاميين ، وشيخه هنا حجازي ، والخبر باطل ، والصواب أنه من الإسرائيليات.

(١) سقط من المطبوع.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المخطوط «شبهها».

٥٣٢

وقيل : أراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيته [في غنمه](١) إكراما له وصلة لابنته ، فقال له إني قد وهبت لك من الجدايا التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستسقى الأغنام فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلّا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم [شعيب](٢) فقال له : إن ذلك رزق ساقه الله عزوجل إلى موسى وامرأته فوفّى له بشرطه (٣) وسلم الأغنام إليه.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

قوله عزوجل : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) ، يعني أتمه وفرغ منه ، (وَسارَ بِأَهْلِهِ) ، قال مجاهد : لما قضى الأجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرا أخرى فأقام عنده عشرين سنة ثم استأذنه في العود إلى مصر فأذن له ، فخرج بأهله إلى جانب مصر ، (آنَسَ) ، يعني أبصر ، (مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) ، وكان في البرية في ليلة مظلمة شاتية شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق ، (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) ، يعني عن الطريق لأنه كان قد أخطأ الطريق ، (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) ، يعني قطعة وشعلة من النار ، وفيها ثلاث لغات قرأ عاصم «جذوة» بفتح الجيم ، وقرأ حمزة بضمها وقرأ الآخرون بكسرها ، قال قتادة ومقاتل : هي العود الذي قد احترق بعضه وجمعها جذى ، (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ، تستدفئون.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) ، يعني من جانب الوادي الذي عن يمين موسى ، (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) ، لموسى جعلها الله مباركة لأن الله كلّم موسى هناك وبعثه نبيا. وقال عطاء : يريد المقدسة ، (مِنَ الشَّجَرَةِ) ، من ناحية الشجرة.

قال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء تبرق.

وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة ، قال وهب : من العليق ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها العنّاب ، (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) ، تتحرك ، (كَأَنَّها جَانٌ) ، وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها ، (وَلَّى مُدْبِراً) ، هاربا منها ، (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع [إليها](٤) فنودي ، (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).

(اسْلُكْ) ، أدخل (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ، برص فخرجت ولها شعاع كضوء

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «شرطه».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٥٣٣

الشمس ، (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) ، قرأ أهل الكوفة والشام بضم الراء وسكون الهاء وبفتح الراء حفص ، وقرأ الآخرون بفتحهما وكلها لغات بمعنى الخوف ، ومعنى الآية إذا هالك أمر يدك وما ترى من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى ، والجناح اليد كلها. وقيل : هو العضد.

وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم : أمره الله بضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية ، وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وقال مجاهد : كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع [وما يجد من الخوف](١) ، وقيل : المراد من ضم الجناح السكون أي سكن روعك واخفض عليك جأشك لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ، ومثله قوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء : ٢٤] ، يريد الرفق [بهما](٢) ، وقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٥) [الشعراء : ٢١٥] أي ارفق بهم وألن جانبك لهم ، وقال الفراء : أراد بالجناح العصا ، معناه أضمم إليك عصاك. وقيل : الرهب الكم (٣) بلغة حمير ، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي [ما](٤) في كمك ، معناه واضمم إليك يدك وأخرجها من الكم ، لأنه تناول العصا [حين صارت حية](٥) ويده في كمه ، (فَذانِكَ) ، يعني العصا واليد البيضاء ، (بُرْهانانِ) ، آيتان ، (مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٣٣).

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) ، وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه ، (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) ، عونا ، يقال ردأته أي أعنته ، قرأ نافع «ردا» بفتح الدال من غير همز طلبا للخفة ، وقرأ الباقون بسكون الدال مهموزا ، (يُصَدِّقُنِي) ، قرأ [عاصم](٦) وحمزة برفع القاف على الحال ، أي ردءا مصدقا ، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والتصديق لهارون في قول الجميع ، قال مقاتل : لكي يصدقني فرعون ، (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) ، يعني فرعون وقومه.

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) ، أي نقويك بأخيك وكان هارون يومئذ بمصر ، (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) ، حجة وبرهانا ، (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) ، أي لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء لمكان آياتنا ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ونجعل لكما سلطانا بآياتنا بما نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما ، (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ، أي لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) تصحف في المطبوع «الكلم».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المطبوع «ابن عمر وعامر».

٥٣٤

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١))

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) ، واضحات ، (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) ، مختلق (وَما سَمِعْنا بِهذا) ، الذي تدعونا إليه ، (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

(وَقالَ مُوسى) ، قرأ أهل مكة (١) [قال موسى](٢) بغير واو وكذلك هو في مصاحفهم ، (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) ، بالمحق من المبطل ، (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ، يعني العقبى المحمودة في الدار الآخرة ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، يعني الكافرون.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) ، يعني فاطبخ لي الآجر ، وقيل : إنه أول من اتخذ الآجر وبنى به ، (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) ، قصرا عاليا ، وقيل : منارة.

قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء ، ومن يطبخ الآجر والجص وينجر (٣) الخشب ويضرب المسامير ، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، أراد الله عزوجل أن يفتنهم فيه ، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابه [فوضعها في القوس](٤) فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما ، فقال قد قتلت إله موسى ، وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله جبريل جنح غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلّا هلك ، فذلك قوله تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) ، انظر إليه وأقف على حاله ، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) ، يعني موسى ، (مِنَ الْكاذِبِينَ) ، في زعمه أن للأرض وللخلق إلها غيري ، وأنه رسوله.

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) (٣٩) ، قرأ نافع وحمزة والكسائي ويعقوب : «يرجعون» بفتح الياء وكسر الجيم ، والباقون بضم الياء وفتح الجيم.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ) ، فألقيناهم ، (فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) ، قادة ورؤساء ، (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) ، لا يمنعون من العذاب.

__________________

(١) في المطبوع «المكي».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المخطوط «وينحت».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٥٣٥

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥))

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) ، خزيا وعذابا ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ، أي : (١) المبعدين الملعونين ، وقال أبو عبيدة : من المهلكين.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما [قال](٢) : من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، يقال : قبحه الله وقبحه إذا جعله قبيحا ، ويقال : قبحه قبحا وقبوحا إذا أبعده من كل خير.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) ، يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى ، (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) ، يعني ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به ، (وَهُدىً) ، من الضلال لمن عمل به ، (وَرَحْمَةً) ، لمن آمن به ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ، بما فيه من المواعظ والبصائر.

(وَما كُنْتَ) ، يا محمد (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) ، يعني بجانب الجبل الغربي ، قاله قتادة والسدي ، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد حيث ناجى موسى ربّه ، (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) ، يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه ، (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [أي](٣) الحاضرين ذلك المقام فتذكره من ذات نفسك.

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) ، خلقنا أمما من بعد موسى عليه‌السلام ، (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، أي طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وميثاقه وتركوا أمره.

وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به ، فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها ، (وَما كُنْتَ ثاوِياً) ، مقيما ، (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) ، كمقام موسى وشعيب فيهم ، (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) ، تذكرهم بالوعد والوعيد ، قال مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ، (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ، أي أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار ، فتتلوها عليهم ولو لا ذلك لما عملتها ولم تخبرهم بها.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩))

__________________

(١) في المطبوع «من».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

٥٣٦

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) ، بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، (إِذْ نادَيْنا) ، قيل : إذ نادينا موسى خذ الكتاب بقوّة.

وقال وهب : قال موسى يا ربّ أرني محمدا ، قال : إنك لن تصل إلى ذلك وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك أصواتهم ، قال : بلى يا رب ، قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم.

وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير : نادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ورفعه بعضهم ، قال الله : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، لبيك اللهم لبيك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، قال الله تعالى : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي ، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني ، وقد غفرت لكم من قبل أن تستغفروني ، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة ، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر (١). قوله تعالى : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن رحمناك رحمة بإرسالك وبالوحي إليك واطلاعك على الأخبار الغائبة عنك ، (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، يعني أهل مكة ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) ، عقوبة ونقمة ، (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعصية ، (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا) ، هلا ، (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وجواب لو لا محذوف أي لعاجلناهم بالعقوبة [بكفرهم](٢) ، يعني لو لا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم. وقيل : معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) ، يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (قالُوا) ، يعني كفار مكة ، (لَوْ لا) ، هلا ، (أُوتِيَ) ، محمد ، (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) ، من الآيات كاليد البيضاء والعصا ، وقيل : مثل ما أوتي موسى كتابا جملة واحدة. قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) ، أي فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد ، (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) ، قرأ أهل الكوفة : «سحران» أي التوراة والقرآن تظاهرا يعني كل سحر يقوي الآخر نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع.

قال الكلبي : كانت مقالتهم تلك حين بعثوا (٣) إلى رءوس اليهود بالمدينة ، فسألوهم عن محمد فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة ، فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا : «سحران تظاهرا» ، وقرأ الآخرون : «ساحران» يعنون محمدا وموسى عليهما‌السلام ، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب ، (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ).

(قُلْ) ، لهم يا محمد ، (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) ، يعني من التوراة والقرآن ، (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

__________________

(١) باطل ، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» ٥ / ٢٤٦ وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا ، وابن مردويه لم يطبع تفسيره بعد ، وهو يروي عن متروكين وكذابين من غير تعمد ، والحديث باطل ، وظاهر الآية بيّن بأن النداء كان من الله عزوجل لموسى عليه‌السلام.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيد في المطبوع وحده «في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٥٣٧

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣))

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) ، أي : [إن](١) لم يأتوا بما طلبت ، (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : بينا ، قال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا قال قتادة : وصل لهم القول في هذا القرآن كيف صنع بمن مضى. قال مقاتل : بيّنا لكفار مكة ما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم ، وقال ابن زيد وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) ، من قبل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وقيل من قبل القرآن ، (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ، نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.

وقال مقاتل : بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١٦١٣] وقال سعيد بن جبير : هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا : يا نبي الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا وجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، فنزل فيهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص : ٥٤].

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من [أهل](٢) الحبشة وثمانية من الشام ، ثم وصفهم الله فقال :

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) ، يعني القرآن ، (قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا).

وذلك أن ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ، أي من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي حق.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨))

__________________

[١٦١٣] ـ ذكره المصنف هاهنا عن سعيد بن جبير مرسلا ، وسنده إليه في أول الكتاب.

ـ وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٥ / ٢٥٢ عن سعيد بن جبير مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

٥٣٨

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) ، لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، (بِما صَبَرُوا) ، على دينهم ، قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا.

[١٦١٤] أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا أبو علي زاهر بن أحمد أنا أبو عبد الله محمد بن حفص (١) الجويني أنا أحمد بن سعيد الدارمي أنا عثمان أنا شعبة عن صالح عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها (٢) ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله وتصح سيده (٣)».

قوله عزوجل : («وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، قال مقاتل : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو والمغفرة ، (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، في الطاعة.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) ، القبيح من القول ، (أَعْرَضُوا عَنْهُ) ، وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ، (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ، لنا ديننا ولكم دينكم ، (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، ليس المراد منه سلام التحية ولكنه سلام المتاركة ، معناه سلمتم منّا لا نعاوضكم بالشتم والقبح من القول ، (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ، أي دين الجاهلين ، يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه (٤) ، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال.

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، أي أحببت هدايته. وقيل : أحببته لقرابته ، (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، قال مجاهد ومقاتل : بمن قدّر له الهدى ، نزلت في أبي طالب قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لو لا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) ، مكة.

[١٦١٥] نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لنعلم أن

__________________

[١٦١٤] ـ صحيح ، أحمد والدارمي ثقة ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ عثمان هو ابن عمر بن فارس ، شعبة هو ابن الحجاج ، صالح هو ابن صالح بن حي ، الشعبي هو عامر بن شراحيل ، أبو بردة ، قيل اسمه عامر ، مشهور بكنيته.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٥٧ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٩٧ و ٣٠١١ و ٣٤٤٦ و ٥٠٨٣ ومسلم ١٥٤ والترمذي ١١١٦ والنسائي ٦ / ١١٥ وابن ماجه ١٩٦٥ وأحمد ٤ / ٣٩٥ و ٤٠٢ و ٤٠٤ و ٤٠٥ والطيالسي ٥٠٢ والحميدي ٧٦٨ والدارمي ٢ / ١٥٥ وابن حبان ٢٢٧ وابن مندة ٣٩٥ ـ ٤٠٠ وأبو عوانة ١ / ١٠٣ والبيهقي ٧ / ١٢٨ من طرق عن صالح به.

ـ وأخرجه البخاري ٢٥٤٤ وأبو داود ٢٠٥٣ والترمذي ١١١٦ والنسائي ٦ / ١١٥ وأحمد ٤ / ٤٠٥ وأبو عوانة ١ / ١٠٣ وابن مندة ٤٠٠ والطبراني في «الصغير» ١ / ٤٤ من طرق عن الشعبي به.

[١٦١٥] ـ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٦٣ هكذا بدون إسناد. ـ

(١) تصحف في المطبوع «جعفر».

(٢) في المطبوع «تأديبها».

(٣) في المطبوع وحده «لسيده».

(٤) تصحف في المطبوع «والسعة».

٥٣٩

الذي تقول حق ولكنّا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة.

وهو معنى قوله : (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) ، والاختطاف الانتزاع بسرعة ، قال الله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) ، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تعير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون حيث كانوا ، لحرمة الحرم ، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة ، (يُجْبى) ، قرأ أهل المدينة (١) : «تجبى» بالتاء لأجل الثمرات ، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ، أي يجلب ويجمع ، (إِلَيْهِ) ، يقال : جبيت الماء في الحوض أي جمعته ، قال مقاتل : يحمل إلى الحرم ، (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أنّ ما يقوله حق.

قوله عزوجل : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية ، (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) ، أي في معيشتها ، أي أشرت وطغت ، قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافرون وما رأوا الطريق يوما أو ساعة ، معناه لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا. وقيل : معناه لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) ، كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠].

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) ، أي القرى الكافر أهلها ، (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) ، يعني في أكبرها وأعظمها رسولا [أي](٢) ينذرهم وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها ، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف والأشراف يسكنون المدائن ، والمواضع التي هي أم ما حولها ، (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) ، قال مقاتل : يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا ، (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ). مشركون ، يريد أهلكم بظلمهم.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) ، تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء ، (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، أن الباقي خير من الفاني ، قرأ عامة القراء : «تعقلون» بالتاء وأبو عمرو بالخيار بين التاء والياء.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) ، أي الجنة ، (فَهُوَ لاقِيهِ) ، مصيبة ومدركه وصائر إليه ، (كَمَنْ مَتَّعْناهُ

__________________

ـ وأخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٣٨٥ من طريق عمرو بن شعيب عن ابن عباس «أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا).

قال النسائي : ولم يسمعه منه أي لم يسمع عمرو من ابن عباس.

ـ فالإسناد ضعيف ، ولا يصح هذا الخبر.

(١) زيد في المطبوع «يعقوب».

(٢) زيادة عن المخطوط.

٥٤٠