تفسير البغوي - ج ٣

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٣

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٨) ، أي أسلموا.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) ، أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا ، (عَلى سَواءٍ) ، يعني إنذارا بينا نستوي في علمه لا أستبدّ به (١) دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم ، يعني آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم (٢) في العلم به ، وقيل لتستووا (٣) في الإيمان به ، (وَإِنْ أَدْرِي) ، يعني وما أعلم. (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) ، يعني القيامة.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) (١١٠).

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ) ، يعني لعل تأخير العذاب عنكم كناية عن غير مذكور ، (فِتْنَةٌ) ، اختبار ، «لكم» ، ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) ، يعني تتمتعون إلى انقضاء آجالكم.

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) قرأ حفص عن عاصم : (قال رب احكم) ، وقرأ الآخرون : (قل رب احكم) يعني أفضل بيني وبين من كذبني بالحق ، فإن قيل كيف قال احكم بالحق [والله لا يحكم إلا بالحق](٤)؟ قيل : الحق هاهنا بمعنى العذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر ، نظيره قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩].

قال أهل المعاني : معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه ، والله تعالى يحكم بالحق طلب منه أو لم يطلب ، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه من الحق ، (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ، من الكذب والباطل.

__________________

ـ وأيضا أخرجه ابن سعد ١ / ١٥١ من طريق الأعمش عن أبي صالح مرسلا.

ـ وأخرجه مسلم ٢٥٩٩ والبخاري في «الأدب المفرد» ٣٢١ وأبو يعلى ٦١٧٤ من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ «إني لم أبعث لعّانا ، إنما بعثت رحمة».

(١) في المطبوع «لاستبدأنا به» وفي ـ ط «لا استيذانا به» والمثبت عن المخطوط ـ ب ـ.

(٢) زيد في المخطوط «فيه».

(٣) في المخطوط «لنستوي».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٣٢١

تفسير سورة الحج

مكية [غير آيات من قوله](١)

(هذانِ خَصْمانِ)(٢) [إلى قوله (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)](٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ، أي : احذروا عقابه بطاعته ، (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، والزلزلة والزّلزال شدة الحركة على الحالة الهائلة ، واختلفوا في هذه الزلزلة فقال علقمة والشعبي : هي من أشراط الساعة. وقيل : قيام الساعة. وقال الحسن والسدي : هذه الزلزلة تكون يوم القيامة. وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها فتكون معها.

(يَوْمَ تَرَوْنَها) ، يعني الساعة ، وقيل : الزلزلة ، (تَذْهَلُ) قال ابن عباس : تشغل ، وقيل : تنسى ، يقال : ذهلت عن كذا إذا تركته واشتغلت بغيره عنه. (كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ، أي : كل امرأة معها ولد ترضعه ، يقال : امرأة مرضع بلا هاء إذا أريد به الصفة مثل حائض وحامل ، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء. (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) ، أي : تسقط ولدها من هول ذلك اليوم ، قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام ، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حمل. ومن قال : تكون في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر لا على حقيقته كقولهم أصابنا أمر يشيب منه الوليد يريد به شدته. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) ، قرأ حمزة والكسائي (سكرى وما هم بسكرى) بلا ألف وهما لغتان في جمع السكران مثل كسلى وكسالى ، قال الحسن : معناه وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب. وقيل : معناه وترى الناس كأنهم سكارى ، (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

__________________

(١) في المطبوع وحده «إلّا (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ) الآيتين أو إلا».

(٢) في المطبوع «الست آيات فمدنيات».

(٣) زيد في المطبوع وحده «وهي أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان وسبعون آية»؟! وهذا من صنع النساخ بلا ريب وإنما هي (٧٨) آية.

٣٢٢

[١٤٤٤] أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن [محمد بن](١) محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل يوم القيامة يا آدم قم فابعث بعث النار (٢) ، قال فيقول : لبيك وسعديك والخير [كله](٣) في يديك ، يا رب وما بعث النار؟ قال : فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال : فحينئذ يشيب المولود وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» ، قال فيقولون : وأينا ذلك الواحد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد» [قال](٤) فقال الناس : الله أكبر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة والله [إني](٥) لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة قال فكبر الناس فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو (٦) كالشعرة السوداء في الثور الأبيض».

[١٤٤٥] وروي عن عمران بن حصين وأبي سعيد الخدري وغيرهما أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة [تبوك وقيل في](٧) بني المصطلق ليلا فنادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب

__________________

[١٤٤٤] ـ صحيح. إبراهيم الكوفي قد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ وكيع هو ابن الجراح ، الأعمش هو سليمان بن مهران ، أبو صالح اسمه ذكوان.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٢٢٠ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٢٢٢ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٧١ من طريقين عن وكيع بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٣٣٤٨ و ٤٧٤١ و ٦٥٣١ وأحمد ٣ / ٣٢ و ٣٣ والطبري ٢٤٩٧ و ٢٤٩٠٨ من طرق عن الأعمش به.

ـ وفي الباب من حديث أنس أخرجه أبو يعلى ٣١٢٢ والحاكم ١ / ٢٩ و ٤ / ٥٦٦ ـ ٥٦٧ وابن حبان ٧٣٥٤ وصححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا.

وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٣٩٤ وقال : رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح ، غير محمد بن مهدي ، وهو ثقة.

[١٤٤٥] ـ لم أقف على إسناده.

وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٣ / ١٤١ : هكذا ذكر الثعلبي والبغوي. قالا : روي عن عمران بن حصين وأبي سعيد الخدري ، وغيرهما أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق .... ا ه.

فالخبر واه جدا بهذا اللفظ.

ـ وحديث عمران بن حصين جاء مسندا لكن بلفظ آخر عند الترمذي ٣١٦٨ و ٣١٦٩ وأحمد ٤ / ٤٣٢ والحاكم ٤ / ٥٦٧ والطبري ٢٤٩٠٣ وليس فيه ذكر عكاشة بن محصن.

وخبر عكاشة في الصحيحين بغير هذا السياق.

ـ وحديث أبي سعيد الخدري هو المتقدم قبل هذا الحديث.

ـ وانظر «تفسير القرطبي» ٤٣٦٧ و ٤٣٦٩ و «تفسير الشوكاني» ١٦٥٩ و ١٦٦٠ و «الكشاف» ٧٠٣ بتخريجي.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيد في المطبوع «من ولدك».

(٣) زيد في المطبوع.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في «شرح السنة» «و».

(٧) زيادة عن المخطوط.

٣٢٣

ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدورا ، والناس ما بين باك أو جالس حزين متفكر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون أي يوم ذاك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذاك يوم يقول الله لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك ، قال فيقول آدم من كل كم فيقول الله عزوجل : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة ، قال : فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا : فمن ينجو إذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلّا كثرتاه يأجوج ومأجوج ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفا ثمانون منها أمتي ، وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، ثم قال : ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب ، فقال عمر : سبعون ألفا؟ قال : نعم ومع كل واحد سبعون ألفا ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت منهم ، [أو قال : اللهم اجعله منهم](١) ، فقام رجل [من الأنصار](٢) [فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم](٣) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبقك بها عكاشة».

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥))

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، نزلت في النضر بن الحارث ، كان كثير الجدل وكان يقول الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا. قوله تعالى : (وَيَتَّبِعُ) أي : ويتبع في جداله في الله بغير علم ، (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ، والمريد المتمرد الغالي العاتي والمستمر في الشر.

(كُتِبَ عَلَيْهِ) ، أي : قضي على الشيطان ، (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) اتبعه (فَأَنَّهُ) ، يعني الشيطان : (يُضِلُّهُ) ، أي : يضل من تولاه ، (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ، ثم ألزم الحجة منكري البعث فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) ، يعني : في شك ، (مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) ، يعني : أباكم آدم الذي هو أصل النسل ، (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يعني : ذريته والنطفة هي المني وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف ، (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ، وهي الدم الغليظ المتجمد الطري ، وجمعها علق وذلك أن النطفة تصير دما غليظا ثم تصير لحما ، (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) ، وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ، (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ، قال ابن عباس وقتادة : مخلّقة أي تامة وغير مخلّقة غير تامة أي ناقصة الخلق. وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة يعني السقط. وقيل : المخلّقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته ، وغير المخلقة السقط.

__________________

(١) زيد في المطبوع.

(٢) في المطبوع «منهم».

(٣) سقط من المطبوع.

٣٢٤

وروي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي ربّ مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة قذفها الرحم دما ولم تكن نسمة ، وإن قال مخلقة قال الملك : أي ربّ أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد؟ ما العمل ما الأجل ما الرزق وبأي أرض يموت؟ فيقال له : اذهب إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر الصفة (١). (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ، كمال (٢) قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة. وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة ، (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) ، فلا تمجه ولا تسقطه ، (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، إلى وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً) أي : صغارا ولم يقل أطفالا لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد. وقيل : تشبيها بالمصدر مثل عدل وزور. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) يعني : الكمال والقوة ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) ، من قبل بلوغ الكبر ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ، أي : الهرم والخرف ، (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ، أي : يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئا ، ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) ، أي : يابسة لا نبات فيها ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) ، المطر ، (اهْتَزَّتْ) ، تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها ، (وَرَبَتْ) ، أي : ارتفعت وزادت ، وقرأ أبو جعفر : (وربأت) بالهمزة ، وكذلك في حم السجدة أي : ارتفعت وعلت ، قال المبرد : أراد اهتزوا بإنباتها فحذف المضاف ، والاهتزاز في النبات أظهر ، يقال : اهتز النبات أي : طال وإنما أنث لذكر الأرض. وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت ، (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ، أي : صنف حسن يبهج به من رآه أي : يسر ، فهذا دليل آخر على البعث.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ، أي : لتعلموا أن الله هو الحق ، (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، يعني : النضر بن الحارث ، (وَلا هُدىً) ، بيان (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ).

(ثانِيَ عِطْفِهِ) [أي](٣) : متبخترا لتكبره. وقال مجاهد وقتادة : لاوي عنقه. قال عطية وابن زيد : معرضا عمّا يدعى إليه تكبرا. وقال ابن جريج : يعرض عن الحق تكبرا. والعطف : الجانب ، وعطفا الرجل : جانباه عن يمين وشمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء ، نظيره قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) [لقمان : ٧] ، وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ

__________________

(١) في المطبوع «صفته».

(٢) في المطبوع «كما».

(٣) زيادة عن المخطوط.

٣٢٥

تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) [المنافقون : ٥]. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، عن دين الله ، (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ، عذاب وهوان هو القتل ببدر ، فقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ).

ويقال له : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠) ، فيعذبهم بغير ذنب وهو جل ذكره على أيّ وجه شاء تصرف في عبيده (١) فحكمه عدل وهو غير ظالم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) ، الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما (٢) وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت فرسه وقلّ ماله قال : ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرا فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة ، فأنزل الله عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) ، أكثر المفسرين قالوا على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائط الذي [القائم](٣) عليه غير مستقر ، فقيل للشاك في الدين : إنه يعبد الله على حرف لأنه على طرف وجانب من الدين لم يدخل فيه على الثبات والتمكن كالقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه ، ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف ، قال الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) ، صحة في جسمه وسعة في معيشته ، (اطْمَأَنَّ بِهِ) ، أي : رضي (٤) وسكن إليه ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) ، بلاء في جسده وضيق في معيشته ، (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) ، ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ، (خَسِرَ الدُّنْيا) ، يعني هذا الشاك خسر الدنيا بفوات ما كان يؤمله ، (وَالْآخِرَةَ) ، بذهاب الدين والخلود في النار. قرأ يعقوب «خاسر» بالألف (والآخرة) جرّ. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [أي](٥) : الظاهر.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ) ، إن عصاه ولم يعبده ، (وَما لا يَنْفَعُهُ) ، إن أطاعه وعبده ، (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) [يعني البعيد](٦) عن الحق والرشد.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، هذه الآية من مشكلات القرآن وفيها أسئلة أولها (٧) قالوا قد قال الله في الآية السابقة (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) وقال هاهنا : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) فكيف التوفيق بينهما؟ قيل : قوله في الآية الأولى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ) أي : لا يضره ترك عبادته ، وهو قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أي : ضر عبادته ، فإن قيل : قد قال لمن ضره

__________________

(١) في المطبوع «عبده».

(٢) في المطبوع «ذكرا».

(٣) في المطبوع «كالقائم» وكذا في ـ ط ـ.

(٤) زيد في المطبوع «به».

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) زيد في المطبوع «ثانيها».

٣٢٦

أقرب من نفعه ولا نفع في عبادة الصنم أصلا؟ قيل : هذا على عادة العرب فإنهم يقولون لما لا يكون أصلا بعيد ، كقوله : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٣] أي : لا رجع أصلا فلما كان نفع الصنم بعيدا على معنى أنه لا نفع فيه أصلا قيل ضربه أقرب من نفعه لأنه كائن ، السؤال الثالث : قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ما وجه هذه اللام؟ اختلفوا فيه فقال بعضهم : هي صلة مجازها «يدعو من ضره أقرب» ، وهكذا قرأها ابن مسعود [أي إلى الذي ضره أقرب من نفعه](١). وقيل : يدعو بمعنى يقول ، والخبر محذوف أي يقول لمن ضره أقرب من نفعه هو إله. وقيل : معناه يدعو لمن ضره أقرب من نفعه يدعو ، فحذف يدعو الأخيرة اجتزاء بالأولى ولو قلت يضرب لمن خيره أكثر من شره يضرب ، ثم يحذف الأخيرة جاز. وقيل : على التوكيد (٢) معناه يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. وقيل : (يَدْعُوا مِنْ) صلة قوله ذلك هو الضلال البعيد يقول ذلك هو الضلال البعيد يدعو ، ثم استأنف فقال لمن ضره أقرب من نفعه فيكون (مِنْ) في محل رفع بالابتداء وخبره ، (لَبِئْسَ الْمَوْلى) : أي : الناصر. وقيل : المعبود. (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ، أي : الصاحب والمخالط يعني الوثن ، والعرب تسمي الزوج عشير (٣) لأجل المخالطة.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١٤).

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) ، يعني نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) ، أي : بحبل (إِلَى السَّماءِ) أراد بالسماء سقف البيت على قول الأكثرين أي : ليشدد حبلا في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) الحبل بعد الاختناق. وقيل : ثم ليقطع أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا ، (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) ، صنعه وحيلته ، (ما يَغِيظُ) (ما) بمعنى المصدر أي : هل يذهبنّ كيده وحيلته غيظه معناه فليختنق غيظا حتى يموت ، وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعله لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت ، ولكنه كما يقال للحاسد إن لم ترض هذا فاختنق ومت غيظا.

وقال ابن زيد : المراد [من السماء](٤) السماء المعروفة ومعنى الآية : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإن أصله من السماء فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي الذي يأتي من السماء فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل.

وروي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف فقالوا لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود ، فلا يميروننا ولا يأووننا فنزلت هذه الآية (٥).

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «التوحيد».

(٣) في المطبوع «العشير».

(٤) في المخطوط «منه».

(٥) لم أقف على إسناده ، وسياق المصنف له بصيغة التمريض توهين له.

٣٢٧

وقال مجاهد : النصر بمعنى الرزق والهاء راجعة إلى (من) ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة نزلت في من أساء الظن بالله وخاف ألا يرزقه ، فليمدد بسبب إلى السماء أي إلى سماء البيت فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، وهو خيفة أن لا يرزق وقد يأتي النصر بمعنى الرزق ، تقول العرب : من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله ، قال أبو عبيدة : تقول العرب أرض منصورة أي ممطورة ، قرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر ويعقوب «ثم ليقطع» «ثم ليقضوا» بكسر اللام ، والباقون بجزمها لأن الكل لام الأمر ، زاد ابن عامر (وليوفوا وليطوفوا) بكسر اللام فيهما ، ومن كسر في ثم ليقطع وفي ثم ليقضوا فرق بأن ثم مفصول من الكلام والواو كأنها من نفس الكلمة كالفاء في قوله فلينظر.

(وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك يعني ما تقدم من آيات القرآن ، (أَنْزَلْناهُ) ، يعني : القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، يعني : عبدة الأوثان ، (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) ، يحكم بينهم ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

(أَلَمْ تَرَ) ، ألم تعلم ، وقيل : (أَلَمْ تَرَ) بقلبك (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) ، قال مجاهد : سجودها تحول ظلالها. وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وقيل : سجودها بمعنى الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع لله مسبح له كما أخبر الله تعالى عن السموات والأرض (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، وقال في وصف الحجارة (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤] ، وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ، وهذا مذهب حسن موافق [لقول أهل](١) السنة. قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ، أي : من هذه الأشياء كلها تسبح الله عزوجل وكثير من الناس يعني المسلمين. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، وهم الكفار لكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عزوجل والواو في قوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، واو الاستئناف. (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) أي : يهنه الله (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي : من يذله الله فلا يكرمه أحد ، (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ، أي : يكرم ويهين فالسعادة والشقاوة بإرادته ومشيئته.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

__________________

(١) في المطبوع «لأهل».

٣٢٨

قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي : جادلوا في دينه وأمره والخصم اسم شبيه بالمصدر ، فلذلك قال : (اخْتَصَمُوا) بلفظ الجمع كقوله : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١) [ص : ٢١] ، واختلفوا في هذين الخصمين.

[١٤٤٦] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد] المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يعقوب بن إبراهيم أنا هشيم أنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.

[١٤٤٧] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حجاج بن منهال ثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت أبي قال أنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة ، قال قيس : وفيهم نزلت : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال : هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.

[١٤٤٨] قال محمد بن إسحاق خرج ـ يعني يوم بدر ـ عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، وعبد الله بن رواحة فقالوا : من أنتم؟ فقالوا : رهط من الأنصار ، فقالوا : حين انتسبوا : أكفاء كرام ، ثم نادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب ، فلما دنوا قالوا من أنتم؟ فذكروا فقالوا : نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد بن عتبة ، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة ، وعلي الوليد بن عتبة ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه ، فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة

__________________

[١٤٤٦] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ هشيم هو ابن بشير ، أبو هاشم هو يحيى بن دينار ، أبو مجلز ، هو لا حق بن حميد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٧٠١ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٣٩٦٩ عن يعقوب بن إبراهيم به.

ـ وأخرجه البخاري ٣٩٦٦ و ٣٩٦٨ ومسلم ٣٠٣٣ والنسائي في «التفسير» ٣٦١ وابن ماجه ٢٨٣٥ والطبري ٢٤٩٧٩ والواحدي في «أسباب النزول» ٦١٩ من طرق عن أبي هاشم به.

[١٤٤٧] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ سليمان والد المعتمر هو ابن طرخان ، أبو مجلز هو لا حق بن حميد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٧٤٤ عن حجاج بن منهال بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٣٩٦٥ والطبري ٢٤٩٧٨ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٧٣ من طريقين عن أبي مجلز به.

وانظر الحديث المتقدم.

[١٤٤٨] ـ أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣ / ٧٢ عن ابن إسحاق عمن روى عنه قصة بدر ... فذكره.

ـ ولأصله شاهد موصول عن علي دون بعض ألفاظه.

ـ أخرجه أبو داود ٢٦٦٥ وأحمد ١ / ١١٧ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٦٣ ـ ٦٤ و ٧١ من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرّب عن علي ، ورواية البيهقي وأحمد مطولة ، وليس في الحديث ذكر كلام عبيدة والشعر ، وفيه اختلاف يسير عن مرسل ابن إسحاق ، ورجال الإسناد ثقات كلهم.

٣٢٩

فذففا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه ، وقد قطعت رجله ومخها يسيل ، فلم أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألست شهيدا يا رسول الله؟ قال : «بلى» ، فقال (١) عبيدة : لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول :

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهب عن أبنائنا والحلائل

وقال ابن عباس وقتادة : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نحن أولى بالله منكم وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسدا ، فهذه خصومتهم في ربهم.

وقال مجاهد : وعطاء بن أبي رباح والكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا. وقال بعضهم : جعل الأديان ستة في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [الحج : ١٧] الآية فجعل خمسة للنار وواحدا للجنة.

فقوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) ينصرف إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم. وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا كما :

[١٤٤٩] أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحاجّت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغزاتهم؟ قال الله عزوجل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله عزوجل ينشئ لها خلقا» ثم بيّن الله عزوجل ما للخصمين فقال : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وسمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب. وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من نار (٢) ، (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) والحميم : هو الماء الحار الذي انتهت حرارته.

(يُصْهَرُ بِهِ) أي : يذاب بالحميم ، (ما فِي بُطُونِهِمْ) [من الأمعاء](٣) يقال : صهرت الألية والشحم

__________________

[١٤٤٩] ـ إسناده صحيح ، أحمد بن يوسف روى له مسلم ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٣١٨ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «مصنف عبد الرزاق» ٢٠٨٩٣ عن معمر به.

ـ وأخرجه البخاري ٤٨٥٠ ومسلم ٢٨٤٦ ح ٣٦ وأحمد ٢ / ٣١٤ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٩٤ وابن حبان ٧٤٤٧ والبيهقي في «الاعتقاد» ص ١٥٨ من طرق عن عبد الرزاق به.

(١) زيد في المخطوط «أبو».

(٢) في المطبوع «النار».

(٣) زيادة عن المخطوط.

٣٣٠

بالنار إذا أذبتهما (١) أصهرها صهرا معناه يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رءوسهم حتى يسقط ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء ، (وَالْجُلُودُ) أي : يشوي حرها جلودهم [وما في بطونهم](٢) فتتساقط.

[١٤٥٠] أخبرنا أبو بكر [محمد بن عبد الله بن أبي توبة حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم](٣) بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة واسمه عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان».

قوله تعالى : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١) ، سياط من حديد واحدتها (٤) مقمعة ، قال الليث : المقمعة شبه الجزر من الحديد ، من قولهم : قمعت رأسه إذا ضربته ضربا عنيفا.

[١٤٥١] وفي الخبر : «لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض».

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍ) ، يعني : كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم (أُعِيدُوا فِيها) ، يعني : ردوا إليها بالمقامع. وفي التفسير : إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد فيهوون فيها سبعين خريفا. (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، أي : تقول لهم الملائكة ذوقوا عذاب الحريق ، أي : المحرق مثل الأليم والوجيع ، قال الزجاج : هؤلاء أحد الخصمين. وقال في الآخر وهم المؤمنون :

__________________

[١٤٥٠] ـ إسناده لين ، رجاله ثقات سوى أبي السمح ، وقد اختلف في روايته عن غير أبي الهيثم ، فبعضهم حسن حديثه ، وبعضهم ضعفه مطلقا عن أبي الهيثم وغيره ، وقد رواه هنا عن غير أبي الهيثم ، أبو السمح درّاج بن سمعان ، عبد الرحمن هو ابن حجيرة.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٣٠٢ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الزهد ابن المبارك» ٣١٣ «زيادات نعيم بن حماد» عن سعيد بن يزيد به.

ـ وأخرجه الترمذي ٢٥٨٢ وأحمد ٢ / ٣٧٤ والحاكم ٢ / ٣٨٧ والطبري ٢٤٩٩٣ و ٢٤٩٩٤ وأبو نعيم في «الحلية» ٨ / ١٨٢ ـ ١٨٣ من طرق عن ابن المبارك به.

وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

ـ وله شاهد من حديث أبي أمامة ، أخرجه نعيم في «زيادات الزهد» ٣١٤ والترمذي ٢٥٨٣ وإسناده ضعيف ، فيه عبيد الله بن بسر ، وهو مجهول ، لكن يصلح حديثه شاهدا ، فهو حسن.

[١٤٥١] ـ ضعيف. أخرجه أحمد ٣ / ٢٩ وأبو يعلى ١٣٨٨ والبيهقي في «البعث» ٥٩٠ ومن طريق ابن لهيعة عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة ، وكذا ضعف درّاج عن أبي الهيثم.

ـ وأخرجه الحاكم ٤ / ٦٠٠ من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري به ، وصححه وسكت عليه الذهبي! لكن قال الذهبي في مواضع عديدة : دراج ذو مناكير.

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٣٨٨ وقال : رواه أحمد ، وأبو يعلى ، وفيه ضعفاء ، وقد وثقوا!!.

ـ وانظر «الكشاف» ٧٠٥ و «فتح القدير» ١٦٦٦ بتخريجي.

(١) في المخطوط «أذبتها».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) ما بين الحاصرتين في المطبوع «بن محمد».

(٤) في المخطوط «واحدها».

٣٣١

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) ، جمع سوار ، (وَلُؤْلُؤاً) ، قرأ أهل المدينة وعاصم (ولؤلؤا) هاهنا وفي سورة الملائكة [فاطر : ٣٣] بالنصب وافق يعقوب هاهنا على معنى ويحلون لؤلؤا ولأنها مكتوبة في المصاحف بالألف وقرأ الآخرون بالخفض عطفا على قوله : (من ذهب) وترك الهمزة الأولى في كل القرآن أبو جعفر وأبو بكر ، واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه فقال أبو عمرو : أثبتوها فيها كما أثبتوا في : قالوا وكالوا (١) ، وقال الكسائي : أثبتوها للهمزة لأن الهمزة حرف من الحروف (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي : أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال.

[١٤٥٢] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه الله إيّاه في الآخرة ، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو».

قوله تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) ، قال ابن عباس : هو شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن زيد : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله. وقال السدي : أي القرآن. وقيل : هو قول أهل الجنة الحمد لله الّذي صدقنا وعده. (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) ، إلى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المحمود في أفعاله [وأقواله](٢).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

__________________

[١٤٥٢] ـ صدره صحيح. إسناده ضعيف ، رجاله ثقات مشاهير غير داود السراج ، فإنه مجهول لم يرو عنه غير قتادة ، وثقه ابن حبان على قاعدته ، وجهّله علي المديني ، والقول قول المديني.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٩٩٥ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «مسند علي بن الجعد» ١٠١٠ عن شعبة بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه النسائي في «الكبرى» ٩٦٠٩ و ٩٦١٠ من طريقين عن شعبة به.

ـ وأخرجه أحمد ٣ / ٢٣ والطيالسي ٢٢٠٧ والحاكم ٤ / ١٩١ وابن حبان ٥٤٣٧ والطحاوي في «المشكل» ٤٨٤٥ من طرق عن قتادة به.

وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! مع أنه ذكر داود السراج في «الميزان» وقال : لم يرو عنه غير قتادة. أي هو مجهول.

ـ وصدر الحديث عند البخاري ٥٨٣٢ ومسلم ٢٠٧٣ وابن ماجه ٣٥٨٨ وأحمد ٣ / ١٠١ وأبو يعلى ٣٩٣٠ وابن حبان ٥٤٢٩ من حديث أنس.

(١) في المطبوع و ـ ط «وكانوا».

(٢) زيادة عن المخطوط.

٣٣٢

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، عطف المستقبل على (١) الماضي لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي كما قال تعالى في موضع آخر : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، وقيل : معناه إن الذين كفروا فيما تقدم ويصدون عن سبيل الله في الحال ، أي : وهم يصدون. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، أي : ويصدون عن المسجد الحرام. (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) ، قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال : (وُضِعَ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ٩٦]. (سَواءً) ، قرأ حفص عن عاصم ويعقوب : (سواء) نصبا بإيقاع الجعل عليه [لأن الجعل](٢) يتعدى إلى مفعولين. وقيل : معناه مستويا فيه ، (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر ، وتمام (٣) الكلام عند قوله (لِلنَّاسِ) وأراد بالعاكف المقيم فيه ، وبالبادي الطارئ المنتاب إليه من غيره ، واختلفوا في معنى الآية فقال قوم (سواء العاكف فيه والباد) يعني في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه ، وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، وقالوا : المراد منه نفس المسجد الحرام ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت ، وقال آخرون المراد منه جميع الحرم ، ومعنى التسوية أن المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما بأحق بالمنزل يكون فيه من الآخر غير أنه لا يزعج فيه أحد إذا كان قد سبق إلى منزل ، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد ، قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل. وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم.

وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها ، وعلى القول الأول وهو الأقرب إلى الصواب يجوز لأن الله تعالى قال : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٤٠].

[١٤٥٣] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

فنسب [الديار إليهم نسبة](٤) ملك ، واشترى عمر دارا للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم ، فدل على جواز بيعها وهذا قول طاوس وعمر بن دينار وبه قال الشافعي. قوله عزوجل : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) أي : في المسجد الحرام (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) وهو الميل إلى الظلم ، والباء في قوله : (بِإِلْحادٍ) زائدة كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] ، ومعناه من يرد فيه إلحادا بظلم ، قال الأعشى : ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ، أي : رزق عيالنا. وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال : معنى الآية من تكن إرادته فيه أن (٥) يلحد بظلم. واختلفوا في هذا الإلحاد فقال مجاهد وقتادة : هو الشرك وعبادة غير الله. وقال قوم : هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم. وقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم أو ارتكاب شيء من محظورات الإحرام (٦) من قتل صيد أو قطع شجر. وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا

__________________

[١٤٥٣] ـ سيأتي في تفسير سورة البلد إن شاء الله وفي سورة النصر أيضا ، وهو صحيح.

(١) في المطبوع «عن».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «وتم».

(٤) في المطبوع «الدار إليه نسب».

(٥) في المطبوع «بأن».

(٦) في المطبوع «الحرم».

٣٣٣

يقتلك أو تظلم من لا يظلمك ، وهذا معنى قول الضحاك. وعن مجاهد أنه قال : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال حبيب بن أبي ثابت : هو احتكار الطعام بمكة. وقال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ، قال : لو أن رجلا همّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ، ولو أن رجلا همّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من العذاب الأليم. قال السدي : إلا أن يتوب. وروي عن عبد الله بن عمر [و](١) أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل (٢) ، فسئل عن ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله.

قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) ، أي : وطّأنا ، وقال ابن عباس : جعلنا. وقيل :بينا. قال الزجاج : جعلنا مكان البيت مبوأ إبراهيم (٣). وقال مقاتل بن حيان : هيأنا. وإنما ذكر مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء في زمن الطوفان ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحا خجوجا فكنّست له ما حول البيت على الأساس. وقال الكلبي : بعث الله سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبنى عليه (٤). قوله تعالى : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) أي : عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له لا تشرك بي شيئا ، (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) ، أي : الذين يطوفون بالبيت [من دنس الذنوب](٥) ، (وَالْقائِمِينَ) أي : المقيمين ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ، أي : المصلين.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) أي : أعلم ونادي في الناس ، (بِالْحَجِ) ، فقال إبراهيم وما يبلغ صوتي؟ فقال : عليك الأذان وعلينا البلاغ ، فقام إبراهيم على المقام فارتفع [به](٦) المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى لكم بيتا وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من كان يحج (٧) من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات : لبيك اللهم لبيك ، قال ابن عباس : فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا.

وروي أن إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى. وقال ابن عباس عني بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أن قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) كلام مستأنف وإن المأمور بهذا التأذين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.

[١٤٥٤] وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا».

__________________

[١٤٥٤] ـ صحيح. أخرجه مسلم ١٣٣٧ والنسائي ٥ / ١١٠ ـ ١١١ والدار قطني ٢ / ٢٨١ وابن حبان ٣٧٠٤ والبيهقي ٤ / ٣٢٦ من حديث أبي هريرة مطوّلا.

(١) سقط من النسخ.

(٢) في المطبوع «الآخر».

(٣) في المطبوع «مبدأ لإبراهيم».

(٤) في المخطوط «عليها».

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المخطوط «حج».

٣٣٤

قوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً) ، أي : مشاة على أرجلهم جمع راجل ، مثل قائم وقيام وصائم وصيام ، (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) ، أي : ركبانا على كل ضامر ، والضامر : البعير المهزول. (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي : من كل طريق بعيد ، وإنما جمع يأتين لمكان كل وارد النوق.

(لِيَشْهَدُوا) ، ليحضروا ، (مَنافِعَ لَهُمْ) ، قال سعيد بن المسيب ومحمد بن علي الباقر : العفو والمغفرة. وقال سعيد بن جبير : التجارة ، وهي رواية ابن زيد عن ابن عباس ، قال الأسواق. وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ، يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين. قيل لها : معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. ويروى عن علي رضي الله عنه أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، وفي رواية عطاء عن ابن عباس : أنها يوم عرفة والنحر وأيام التشريق. وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، يعني الهدايا والضحايا تكون من النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم. واختار الزجاج أن الأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق [لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدل على التسمية على نحرها](١) ، ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام. (فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة وليس بواجب ، وإنما قال ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما :

[١٤٥٥] أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال في قصة حجة الوداع : وقدم عليّ ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي ، ثم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها.

واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئا مثل دم التمتع والقران والدم الواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد ، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئا وبه قال الشافعي ، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر ، وقال ابن عمر : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ، ويأكل مما سوى ذلك ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور ، وعند أصحاب الرأي يأكل من دم التمتع والقران ولا أكل من واجب سواهما. قوله عزوجل : (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) ، يعني : الزّمن الفقير الذي لا شيء له والبائس الذي اشتد بؤسه ، والبؤس شدة الفقر.

__________________

[١٤٥٥] ـ إسناده صحيح على شرط مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٩١١ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ١٢١٨ وأبو داود ١٩٠٥ وابن ماجه ٣٧٤ والدارمي ٢ / ٤٤ ـ ٤٩ وأبو يعلى ٢٠٢٧ والبيهقي ٥ / ٧ ـ ٩ من طرق عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر به.

(١) ما بين الحاصرتين في «الوسيط» ٣ / ٢٦٨ «... واختاره الزجاج» قال : لأن الذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).

٣٣٥

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ، التفث الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث ، تقول العرب لمن تستقذره : ما أتفثك أي أوسخك. والحاج أشعث أغبر أي : لم يحلق شعره ولم يقلم ظفره فقضاء التفث إزالة هذه الأشياء ليقضوا تفثهم ، أي : ليزيلوا أدرانهم ، والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط والاستحداد وقلم الأظفار ولبس الثياب. قال ابن عمر وابن عباس : قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال مجاهد : هو مناسك الحج وقص (١) الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار. وقيل : التفث هاهنا رمي الجمار. قال الزجاج : لا نعرف التفث ومعناه إلا من القرآن. قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ، قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي : ليتموها بقضائها. وقيل : المراد منه الوفاء بما نذر على ظاهره. وقيل : أراد به الخروج عما وجب عليه نذرا ولم ينذر. والعرب تقول لكل من خرج عن الواجب عليه وفّى بنذره. وقرأ عاصم برواية أبي بكر «وليوفوا» بنصب الواو وتشديد الفاء ، (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، أراد به الطواف الواجب عليه وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق ، والطواف ثلاثة ، طواف القدوم ، وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعا ، وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه.

[١٤٥٦] أخبرنا عد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أحمد هو ابن عيسى أنا ابن وهب أنا عمرو بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي [أنه](٢) سأل عروة بن الزبير فقال : قد حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت.

[١٤٥٧] أخبرنا عبد الوهّاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعي (٣) ثلاثة أطواف ومشي أربعا ثم يصلي سجدتين ثم يطوف بين

__________________

[١٤٥٦] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أحمد بن عيسى هو ابن حسان المصري ، ابن وهب هو عبد الله.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٨٩١ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ١٦٤١ عن أحمد بن عيسى بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ١٦١٤ ومسلم ١٢٣٥ وابن خزيمة ٢٦٩٩ وابن حبان ٣٨٠٨ والبيهقي ٥ / ٧٧ من طرق عن عبد الله بن وهب به.

[١٤٥٧] ـ صحيح ، إسناده صحيح ، الربيع ثقة ، والشافعي ثقة ، وكلاهما توبع ومن فوق الشافعي رجال الشيخين.

ـ الربيع هو ابن سليمان المرادي ، الشافعي محمد بن إدريس. نافع هو أبو عبد الله.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٨٩٢ بهذا الإسناد.

(١) في المطبوع «وأخذ».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «يسعى».

٣٣٦

الصفا والمروة سبعا».

والطواف الثاني هو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق ، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.

[١٤٥٨] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص ثنا أبي أنا الأعمش أنا إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : حاضت صفية ليلة النفر فقالت : ما أراني إلا حابستكم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عقرى حلقى» أطافت يوم النحر؟ قيل : نعم ، قال : فانفري».

فثبت بهذا أن (١) [من](٢) لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر ، والطواف الثالث هو طواف الوداع لا رخصة فيه لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعا فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض يجوز لها ترك طواف الوداع.

[١٤٥٩] أخبرنا عبد الوهّاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا

__________________

ـ وهو في «مسند الشافعي» ١ / ٣٤٧ عن أنس بن عياض به.

ـ وأخرجه البخاري ١٦١٦ من طريق أنس بن ضمرة به.

ـ وأخرجه مسلم ١٢٦١ من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة به.

ـ وأخرجه البخاري ١٦١٧ من طريق أنس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر به.

[١٤٥٨] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ حفص والد عمر هو ابن غياث ، الأعمش سليمان بن مهران ، إبراهيم بن يزيد النخعي ، الأسود بن يزيد.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٩٦٨ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ١٧٧١ عن عمر بن حفص به.

ـ وأخرجه البخاري ١٧٦٢ و ٦١٥٧ ومسلم ١٢١١ ح ٣٨٧ وابن ماجه ٣٠٧٣ وأحمد ٦ / ١٢٢ و ١٧٥ و ٢١٣ و ٢٢٤ و ٢٥٣ والدارمي ٢ / ٥٦٨ والطحاوي في «المعاني» ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ والبيهقي ٥ / ١٦٢ ـ ٣٦٣ من طرق عن إبراهيم النخعي به.

ـ وأخرجه البخاري ٣٢٨ ومسلم ١٢١١ ح ٣٨٥ والنسائي ١ / ١٩٤ ومالك ١ / ٤١٢ والطحاوي ٢ / ٢٣٤ والبيهقي ٥ / ١٦٣ من طرق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة بنحوه.

ـ وأخرجه مسلم ١٢١١ و ٣٨٤ وأحمد ٦ / ٩٩ و ١٩٢ و ٢٠٧ وابن حبان ٩٠٠ من طرق عن القاسم بن محمد عن عائشة به بنحوه.

ـ وأخرجه البخاري ١٧٥٧ ومسلم ١٢١١ والترمذي ٩٤٣ والشافعي ١ / ٣٦٧ وأحمد ٦ / ٣٩ وابن حبان ٣٩٠٢ والطحاوي ٢ / ٢٣٤ من طرق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة بنحوه.

[١٤٥٩] ـ إسناده صحيح. الربيع والشافعي كلاهما ثقة ، وقد توبع الشافعي فمن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ سفيان هو ابن عيينة ، سليمان هو ابن أبي مسلم ، قيل : اسم أبيه عبيد الله.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٩٦٦ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «مسند الشافعي» ١ / ٣٦٤ عن سفيان به.

ـ وأخرجه الحميدي ٥٠٢ من طريق سفيان به.

ـ وأخرجه البخاري ١٧٥٥ والنسائي في «الكبرى» ٤١٩٩ والشافعي ١ / ٣٦٤ والطحاوي ٢ / ٢٣٣ والبيهقي ٥ / ١٦١ من طريق سفيان عن ابن طاوس عن طاوس به.

(١) في المطبوع «إن».

(٢) زيادة عن المخطوط.

٣٣٧

الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن سليمان الأحول عن طاوس [عن ابن عباس](١) قال : «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت إلا أنه رخّص للمرأة الحائض».

والرمل مختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع. قوله : (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) اختلفوا في معنى العتيق ، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة : سمي عتيقا لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه ، فلم يظهر عليه جبار قط ، وقال سفيان بن عيينة : سمي عتيقا لأنه لم يملك قطّ ، وقال الحسن وابن زيد : سمي به لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس ، يقال دينار عتيق أي قديم ، وقيل : سمي عتيقا لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان.

(ذلِكَ) أي : الأمر (٢) يعني ما ذكر من أعمال الحج ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) ، أي معاصي الله وما نهى [الله](٣) عنه وتعظيمها ترك ملابستها. قال الليث : حرمات الله ما لا يحل انتهاكها. وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه ، وذهب قوم إلى أن معنى الحرمات هاهنا المناسك بدليل (٤) ما يتصل بها. من الآيات. وقال ابن زيد : الحرمات هاهنا البيت الحرام ، والبلد الحرام والشهر الحرام والمسجد الحرام والإحرام. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، أي : تعظيم الحرمات ، خير له عند الله في الآخرة ، (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) ، أن : تأكلوها إذا ذبحتموها وهي الإبل والبقر والغنم ، (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، تحريمه وهو قوله في سورة المائدة : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [المائدة : ٣] ، الآية ، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي : عبادتها ، يقول كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي : سبب الرجس ، وهو العذاب والرجس : بمعنى الرجز. وقال الزجاج : (مَنْ) هاهنا للجنس أي : اجتنبوا الأوثان التي هي رجس ، (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ، يعني : الكذب والبهتان. وقال ابن مسعود : شهادة الزور.

[١٤٦٠] وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا فقال : «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ، ثم قرأ هذه الآية.

__________________

ـ وأخرجه البخاري ٣٢٩ و ١٧٦٠ والدارمي ٢ / ٧٢ وابن حبان ٣٨٩٨ من طريق عن وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس بنحوه.

[١٤٦٠] ـ أخرجه أحمد ٤ / ١٧٨ و ٢٣١ و ٣٢٢ والترمذي ٢٢٩٩ والطبري ٢٥٣٧ من طريق فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم مرفوعا.

وإسناده ضعيف ، فاتك هذا مجهول الحال كما في «التقريب» وأيمن مختلف في صحبته.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب ، ولا نعرف لأيمن سماعا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ـ وأخرجه أبو داود ٣٥٩٩ والترمذي ٢٣٠٠ وابن ماجه ٢٣٧٢ وأحمد ٤ / ٣٢١ والطبري ٢٥١٣٦ من طريق سفيان بن زياد عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك مرفوعا.

قال الترمذي : هذا عندي أصح ، وخريم بن فاتك له صحبة ا ه.

قلت : إسناده ضعيف له علتان : زياد العصفري عن حبيب بن النعمان قال الحافظ في ترجمته كلّ : مقبول.

وقال الذهبي في : زياد لا يدرى من هو عن مثله.

ثم ذكر هذا الحديث.

ـ وورد عن ابن مسعود موقوفا أخرجه الطبراني ٨٥٦٩ وهو أصح من المرفوع ، والله أعلم.

انظر «فتح القدير» للشوكاني ١٦٧٦ و «أحكام القرآن» ١٥٠٧ و «الكشاف» ٧٠٧ وجميعا بتخريجي ، ولله الحمد والمنة.

(١) سقط من المطبوع.

(٢) زيد في المطبوع «ذلك».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المخطوط «بدلالة».

٣٣٨

وقيل : هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤))

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) ، مخلصين له ، (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) ، قال قتادة : كانوا في الشرك يحجون ويحرمون البنات والأمهات والأخوات وكانوا يسمون حنفاء ، فنزلت : (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي : حجاجا لله مسلمين موحدين يعني : من أشرك لا يكون حنيفا. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ) ، أي : سقط ، (مِنَ السَّماءِ) ، إلى الأرض ، (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) ، أي : تستلبه الطير وتذهب به ، والخطف والاختطاف تناول الشيء بسرعة ، وقر أهل المدينة (فتخطفه) بفتح الخاء وتشديد الطاء ، أي : يتخطفه ، (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) ، أي : تميل وتذهب به ، (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) ، أي بعيد معناه أن بعد من أشرك بالحق كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير ، أو هوت به الريح ، فلا يصل [إليه](١) بحال. وقيل : شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع بحيث تسقطه الريح ، فهو هالك لا محالة إما باستلاب الطير لحمه وإما بسقوطه إلى المكان السحيق ، وقال الحسن : شبه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها.

(ذلِكَ) ، يعني الذي ذكرت من اجتناب الرجس وقول الزور ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ، قال ابن عباس : شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار وهو إعلامها ليعرف (٢) أنها هدي وتعظيمها استسمانها واستحسانها ، وقيل : شعائر الله أعلام دينه فإنها من تقوى القلوب ، أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب.

(لَكُمْ فِيها) أي : في البدن قبل تسميتها للهدي ، (مَنافِعُ) ، في درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها ، (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، وهو أن يسميها ويوجبها هديا فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها ، هذا قول مجاهد ، وقتادة والضحاك ، ورواه مقسم عن ابن عباس. وقيل معناه : لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هديا بأن تركبوها وتشربوا ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى ، يعني إلى أن تنحروها وهو قول عطاء بن أبي رباح واختلف أهل العلم في ركوب الهدي ، فقال قوم : يجوز له ركوبها والحمل عليها غير مضر بها ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، لما :

[١٤٦١] أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا أبو علي زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب

__________________

[١٤٦١] ـ إسناده على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو مصعب أحمد بن أبي بكر المدني ، مالك بن أنس ، أبو الزناد عبد الله بن ذكوان ، الأعرج ، عبد الرحمن بن هرمز.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٩٤٧ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الموطأ» ١ / ٣٧٧ عن أبي الزناد به.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «ليعلم».

٣٣٩

عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال [له](١) «اركبها ، فقال [يا رسول الله](٢) إنها بدنة ، فقال : اركبها (٣) ، ويلك ، في الثانية أو الثالثة» [١٤٦٢] وكذلك قال له : «اشرب لبنها بعد ما فضل من ريّ ولدها».

وقال أصحاب الرأي : لا يركبها. وقال قوم : لا يركبها إلا أن يضطر إليه. وقال بعضهم : أراد بالشعائر المناسك ومشاهدة مكة ، (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) بالتجارة والأسواق (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، وهو الخروج من مكة. وقيل : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) بالأجر والثواب في قضاء المناسك (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي : إلى انقضاء أيام الحج ، (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : منحرها عند البيت العتيق ، يريد أرض الحرم كلها ، كما قال : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [التوبة : ٢٨] أي : الحرم كله.

[١٤٦٣] وروي عن جابر في قصة حجة الوداع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم».

ومن قال الشعائر المناسك قال معنى قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق ، أي : أن يطوفوا به طواف الزيادة يوم النحر.

قال الله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) ، يعني جماعة مؤمنة سلفت قبلكم ، (جَعَلْنا مَنْسَكاً) ، قرأ حمزة والكسائي بكسر السين هاهنا وفي آخر السورة ، على معنى الاسم مثل المجلس (٤) والمطلع ، يعني مذبحا وهو موضع القربان ، وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر ، مثل المدخل والمخرج يعني إهراق (٥) الدماء وذبح القرابين ، (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، عند نحرها وذبحها وسماها بهيمة لأنها لا تتكلم ، وقال : (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وقيدها بالنّعم لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير ، لا يجوز ذبحها في القرابين. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، أي : سموا على الذبائح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد ، (فَلَهُ أَسْلِمُوا) ، انقادوا وأطيعوا ، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ، قال ابن عباس وقتادة : المتواضعين. وقال مجاهد : المطمئنين إلى الله عزوجل ، والخبت المكان المطمئن من الأرض. وقال الأخفش : الخاشعين. وقال النخعي : المخلصين. وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو (٦) بن

__________________

ـ وأخرجه البخاري ١٦٨٩ و ٦١٦٠ ومسلم ١٣٢٢ ح ٣٧١ وأبو داود ١٧٦٠ والنسائي ٥ / ١٧٦ وأحمد ٢ / ٤٨٧ وابن الجارود في «المنتقى» ٤٢٨ والبيهقي ٥ / ٢٣٦ من طرق عن مالك به.

[١٤٦٢] ـ لم أره مرفوعا. وإنما أخرجه مالك ١ / ٣٧٨ ومن طريقه البيهقي ٥ / ٢٣٦ عن هشام بن عروة : أن أباه قال : إذا اضطرت إلى بدنتك فاركبها ركوبا غير فادح ، وإذا اضطررت إلى لبنها ، فاشرب بعد ما يروى فصيلها ، فإذا نحرتها فانحر فصيلها معها.

ـ وكذا ذكره المصنف في «شرح السنة» ٤ / ١١٦ من قول عروة بن الزبير.

فلعل البغوي سبق قلمه هاهنا ، فجعله مرفوعا.

[١٤٦٣] ـ هو بعض حديث جابر في صفة حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تقدم برقم ١٤٥١ أخرجه مسلم وغيره.

(١) سقط من المطبوع.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) زيد في المطبوع «فقال إنها بدنه اركبها».

(٤) في المطبوع «المسجد».

(٥) في المطبوع «إراقة».

(٦) تصحف في المطبوع «عمر» وفي المخطوط «عروة» والمثبت عن «الدر المنثور» ٤ / ٦٤٩ وكتب التراجم.

٣٤٠