تفسير البغوي - ج ٣

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٣

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا (١).

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) ، من البلاء والمصائب ، (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) ، أي : المقيمين للصلاة في أوقاتها ، (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، أي : يتصدقون.

(وَالْبُدْنَ) ، جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبدينا. قال عطاء والسدي : البدن [الإبل](٢) والبقر ، أما الغنم فلا تسمى بدنة. (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، من أعلام دينه ، سميت شعائر لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي ، (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) ، النفع في الدنيا والأجر في العقبى ، (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) ، أي : عند نحرها ، (صَوافَ) ، أي : قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك.

[١٤٦٤] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن مسلمة أنا يزيد بن زريع عن يونس عن زياد بن جبير قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها ، قال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث [قوائم](٣) ، وقرأ ابن مسعود «صوافن» وهي أن تعقل منها [يد](٤) وتنحر على ثلاث ، وهو مثل صواف وقرأ أبيّ والحسن ومجاهد : صوافي» بالياء أي صافية خالصة لله لا شريك له فيها ، (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) ، يعني : سقطت بعد النحر

__________________

[١٤٦٤] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ يونس هو ابن عبيد.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٩٥٠ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ١٧١٣ عن عبد الله بن مسلمة به.

ـ وأخرجه ابن خزيمة ٢٨٩٣ وابن حبان ٥٩٠٣ عن يزيد بن زريع به.

ـ وأخرجه مسلم ١٣٢٠ وأبو داود ١٧٦٨ وأحمد ٢ / ٣ و ٨٦ و ١٣٩ وابن خزيمة ٢٨٩٣ والبيهقي ٥ / ٢٣٧ من طريق عن يونس بن عبيد به.

(١) تصحف في المطبوع «يعتصروا».

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) زيد في المطبوع.

(٤) زيادة عن المخطوط.

٣٤١

ووقعت جنوبها على الأرض ، وأصل الوجوب : الوقوع. يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، (فَكُلُوا مِنْها) ، أمر إباحة ، (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) ، اختلفوا في معناهما ، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل ، والمعترّ الذي يسأل. وروى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض (١) ولا يسأل ، فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة يقال قنع قناعة إذ رضي بما قسم له. وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع الذي يسأل والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل ، فيكون القانع من قنع يقنع قنوعا إذا سأل. وقرأ الحسن (والمعتري) وهو مثل المعتر ، يقال : عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتى يطلب معروفه ، إمّا سؤالا وإما تعرضا. وقال ابن زيد : القانع المسكين ، والمعتر الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم. (كَذلِكَ) يعني : مثل ما وصفنا من نحرها قياما ، (سَخَّرْناها لَكُمْ) ، نعمة منا لتتمكنوا من نحرها ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، لكي تشكروا إنعامي عليكم.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) ، وذلك أن [أهل](٢) الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله (٣) فأنزل الله هذه الآية : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) قرأ يعقوب «تنال وتناله» بالتاء فيهما ، وقرأ العامة بالياء ، قال مقاتل لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها ، (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) ، ولكن ترفع إليه منكم [الطاعة و](٤) الأعمال الصالحة والتقوى ، والإخلاص وما أريد به وجه الله تعالى (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) ، يعني : البدن ، (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) ، أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه ، وهو أن يقول [أحدكم](٥) : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ، قال ابن عباس : الموحدين.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة (يدفع) ، وقرأ الآخرون (يدافع) بالألف يريد يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المشركين (٦). (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) ، يعني : خوان في أمانة الله كفور لنعمته ، قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا معه شريكا وكفروا نعمه. قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحة (٧) وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

(أُذِنَ) ، قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم أذن بضم الألف والباقون بفتحها ، أي : أذن الله ، (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) ، قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص (يقاتلون) بفتح التاء يعني المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون ، وقرأ الآخرون بكسر التاء يعني الذين أذن لهم بالجهاد (يُقاتَلُونَ) المشركين.

__________________

(١) في المطبوع «يعترض».

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) في المخطوط «لله».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المطبوع «عن المؤمنين».

(٧) في المطبوع «بذبيحته».

٣٤٢

[١٤٦٥] قال المفسرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يزالون يجيئون (١) من بين مضروب ومشجوج ، ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فيقول لهم : «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية](٢) ، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال ونزلت هذه الآية بالمدينة. وقال مقاتل (٣) : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا يمنعون [من الهجرة إلى رسول الله](٤) فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة ، (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، يعني : بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء ، (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) ، بدل من الذين الأولى (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) ، يعني : لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده ، (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ، بالجهاد وإقامة الحدود ، (لَهُدِّمَتْ) ، قرأ أهل المدينة (٥) بتخفيف الدال وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير فالتخفيف يكون للتقليل والتكثير والتشديد يختص بالتكثير ، (صَوامِعُ) ، قال مجاهد والضحاك : يعني صوامع الرهبان. وقال قتادة : صوامع الصابئين ، (وَبِيَعٌ) ، يعني : بيع النصارى جمع بيعة وهي كنيسة النصارى ، (وَصَلَواتٌ) ، يعني كنائس اليهود ويسمونها بالعبرانية صلوتا ، (وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) ، يعني مساجد المسلمين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى الآية ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض [بالمجاهدة وإقامة شرائع كل ملة](٦) لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم ، لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى البيع والصوامع ، وفي زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المساجد. وقال ابن زيد : أراد بالصلوات صلوات أهل الإسلام فإنها لا تنقطع إذا دخل العدو عليهم. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ، يعني : ينصر دينه ونبيه ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) ، قال

__________________

[١٤٦٥] ـ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٢١ وفي «الوسيط» ٣ / ٢٧٣ نقلا عن المفسرين.

ـ وقد ورد نحوه من مرسل قتادة أخرجه الطبري ٢٥٢٦١.

ـ ومن مرسل مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم كما قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٣ / ١٦٠.

ـ فهذه الروايات واهية لا يحتج بشيء منها.

(١) في المطبوع «محزونين».

(٢) زيد في المطبوع.

(٣) في المخطوط «مجاهد».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) في المخطوط «الحجاز» وهو خطأ.

(٦) زيادة عن المخطوط.

٣٤٣

الزجاج : هذا من صفة ناصريه ومعنى مكناهم نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا في البلاد قال [قتادة](١) هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الحسن : هذه الأمة ، (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ، يعني : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه يعني يبطل كل ملك سوى ملكه فتصير الأمور [كلها](٢) إليه بلا منازع ولا مدع.

قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) ، يعزي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ).

(وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ) (٤٣).

(وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) ، يعني : أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) ، عاقبتهم ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، يعني : إنكاري ، أي : كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك يخوف به من يخالف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكذبه.

(فَكَأَيِّنْ) ، فكم (مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ، بالتاء ، هكذا قرأ أهل البصرة ويعقوب ، وقرأ الآخرون «أهلكناها» بالنون والألف على التعظيم ، (وَهِيَ ظالِمَةٌ) ، يعني : وأهلها ظالمون ، (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) ، على سقوفها ، (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) : يعني وكم بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل ، من قولهم شاد بناءه إذا رفعه. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء : مجصّص من الشيد (٣) ، وهو الجهد. وقيل : إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر فعلى قلة جبل والبئر في سفحه ، ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين. وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء ، وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح نجوا من العذاب أتوا حضرموت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح ، فسمي حضرموت لأن صالحا لما حضره مات فبنوا [القرية وسميت](٤) حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمّروا عليهم رجلا فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا ، ثم إنّهم عبدوا الأصنام وكفروا [بخالق الأرض والسماوات](٥) فأرسل الله إليهم (٦) نبيا يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، يعني : كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ، يعني : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبرون بها ، (فَإِنَّها) ، الهاء عماد ، (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، ذكر التي في الصدور تأكيدا

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «مشيد».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المطبوع «عليهم».

٣٤٤

كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] معناه أن العمى الضار هو عمى القلب ، فأمّا عمى البصر فليس بضار في أمر الدين ، قال قتادة : البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلب هو البصر النافع.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) ، نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، فأنجز ذلك يوم بدر. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعدون بالياء هاهنا لقوله : (يستعجلونك) ، وقرأ الباقون بالتاء لأنه أعم ولأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين واتفقوا في تنزيل السجدة [٥] أنه بالتاء ، قال ابن عباس : يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقال مجاهد وعكرمة : يوما من أيام الآخرة ، والدليل عليه ما :

[١٤٦٦] روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشروا يا معشر (١) صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقداره خمسمائة سنة».

قال ابن زيد : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) هذه أيام الآخرة. وقوله : (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] يوم القيامة (٢). والمعنى على هذا أنهم يستعجلون بالعذاب [في الدنيا](٣) ، وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة.

وقيل : معناه وإن يوما من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كألف سنة مما تعدون ، فكيف تستعجلونه هذا؟ كما يقال : أيام الهموم طوال ، وأيام السرور قصار.

وقيل : معناه إن يوما عنده وألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) ، يعني أمهلتها ، (وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٥٠) ، الرزق الكريم : الذي لا ينقطع أبدا. وقيل : هو الجنة.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) ، يعني عملوا في إبطال آياتنا ، (مُعاجِزِينَ) ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجّزين» بالتشديد هاهنا وفي سورة سبأ [٥] يعني مثبطين الناس عن الإيمان ، وقرأ الآخرون «معاجزين» بألف أي يعني معاندين مشاقين.

__________________

[١٤٦٦] ـ تقدم في تفسير سورة الأنعام عند آية : ٥٣.

(١) في المطبوع «معاشر».

(٢) زيد في النسخ «مما تعدون» وليس في المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

٣٤٥

وقال قتادة : معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، ومعنى يعجزوننا أي يفوتوننا فلا نقدر عليهم. وهذا كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) [العنكبوت : ٤] ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ، وقيل : معاجزين مغالبين يريد كل واحد أن يظهر عجز صاحبه.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، الآية.

[١٤٦٧] قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تولي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه

__________________

[١٤٦٧] ـ موضوع مفترى. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٢٣ نقلا عن المفسرين.

ـ وورد عن ابن عباس أخرجه البزار ٢٢٦٣ «كشف» والطبراني ١٢٤٥٠ ومداره على أمية بن خالد القيسي ، وهو وإن وثقه الجمهور ، فقد فعل الذهبي في «الميزان» ١٠٢٩ عن أحمد أنه لم يحمده ، وذكره العقيلي في «الضعفاء» وقد روى هذا الحديث غيره عن سعيد بن جبير مرسلا ليس فيه ذكر ابن عباس.

وللحديث علة أخرى وهي : قال البزار : لا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره إلّا بهذا الإسناد ، وأمية بن خالد ثقة مشهور ، وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ا ه.

ـ قلت : والكلبي متروك متهم ، وأبو صالح لم يلق ابن عباس.

ـ وورد عن ابن عباس من وجه آخر أخرجه الطبري ٢٥٣٣٣ وفيه عطية العوفي منكر الحديث وعنه مجاهيل.

ـ وورد من مرسل سعيد بن جبير أخرجه الطبري ٢٥٣٣١ و ٢٥٣٣٢.

ـ وكرره ٢٥٣٢٩ من مرسل أبي العالية.

وبرقم ٢٥٣٣٤ من مرسل الضحاك.

وبرقم ٢٥٣٢٨ من مرسل محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس.

ـ وورد من مرسل عروة أخرجه الطبراني ٥٠٧٨ ومع إرساله فيه ابن لهيعة قال الهيثمي في «المجمع» ١١١٨٦ : فيه ابن لهيعة ، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة ا ه ـ أي لنكارة المتن الذي ساقه ، فإن فيه رجوع بعض من هاجر إلى الحبشة إلى المدينة بسبب هذا الخبر.

الخلاصة : هذه مراسيل واهية ، المتصل منها لا يصح ، وقد حكم ببطلان قصة الغرانيق القاضي أبو بكر بن العربي ، وكذا الشوكاني والبيهقي وابن إسحاق صاحب «السيرة» حيث سئل عن هذه القصة فقال : هذا من وضع الزنادقة.

نقله أبو حيان في «البحر» وقال أبو منصور الماتريدي : هذا الخبر من إيحاء الشيطان إلى أوليائه الزنادقة ، والرسالة بريئة من هذه الرواية.

وقال القاضي عياض : يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل.

وقال العلامة الألوسي : ويكفي في ردها قول الله تعالى في وصف القرآن (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

وقال الحافظ ابن كثير : هي من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها من وجه صحيح. والله أعلم.

قلت : والمراسيل في هذا المقام مردودة لا يحتج بها ، وهذا خبر قد اضطربوا في ألفاظه ، وهو خبر موضوع مفترى.

انظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي و «أحكام القرآن» ١٥١٧ و «الكشاف» ٧١٣ و «فتح القدير» ١٦٨١ وهي جميعا بتخريجي ، ولله الحمد والمنة.

٣٤٦

وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، فكان يوما في مجلس لقريش فأنزل الله تعالى سورة والنجم فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) [النجم : ١٩ ـ ٢٠] ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه : تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءته ، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلّا سجد إلّا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه ، فلما أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه جبريل فقال : يا محمد ما ذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عزوجل فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كبيرا (١) فأنزل الله هذه الآية يعزيه وكان به رحيما ، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغهم سجود قريش. وقيل : [قد](٢) أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم ، وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به (٣) من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفيا فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه ، وشدة على من أسلم ، قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا ، ولا نبي ، وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما ، فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا. إلا إذا تمنى ، قال بعضهم : أي : أحب شيئا واشتهاه وحدّث به نفسه مما لم يؤمر به ألقى الشيطان في أمنيته يعني مراده. وعن ابن عباس قال : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ما وجد إليه سبيلا ، وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمنى ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضي به قومه فينسخ الله ما يلقي الشيطان. وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله (تَمَنَّى) يعني تلا وقرأ كتاب الله تعالى ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر

واختلفوا في أنه هل كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة ، فقال قوم : كان يقرأ في الصلاة. وقال قوم : كان يقرأ في غير الصلاة. فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معصوما من الغلط في أصل الدين وقال جلّ ذكره في القرآن : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) يعني إبليس؟ قيل : قد اختلف الناس في الجواب عنه فقال بعضهم : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقرؤه (٤) ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته فظن المشركون أن الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأه (٥). وقال قتادة : أغفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إغفاءة

__________________

(١) في المطبوع «كثيرا».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «يحدثونه».

(٤) في المطبوع «يقرأ».

(٥) زيد في المطبوع «وقرّأه».

٣٤٧

فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر ، والأكثرون قالوا : جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه ، وقيل : إن شيطانا يقال له الأبيض (١) عمل هذا العمل ، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء (٢). (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) ، أي : يبطله ويذهبه ، (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ، فيثبتها ، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) ، أي : محنة وبلية ، (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، شك ونفاق ، (وَالْقاسِيَةِ) ، يعني :

الجافية ، (قُلُوبِهِمْ) ، عن قبول الحق وهم المشركون ، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك ، ثم نسخ ورفع فازدادوا عتوا ، وظنوا أن محمدا يقوله من عند (٣) نفسه ثم يندم فيبطل ، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) ، المشركين ، (لَفِي شِقاقٍ) [أي](٤) ضلال ، (بَعِيدٍ) أي : في خلاف شديد.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨))

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، التوحيد والقرآن. وقال السدي : التصديق بنسخ الله تعالى ، (أَنَّهُ) ، يعني : الذي أحكم الله من آيات القرآن هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) ، أي : يعتقدوا أنه من الله ، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) ، يعني : فتسكن [وتطمئن](٥) إليه قلوبهم ، (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، أي : [إلى](٦) طريق قويم هو الإسلام.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) يعني في شكّ مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : ما باله [ذكر آلهتنا](٧) بخير ثم ارتد عنها. وقال ابن جريج : منه [أي من القرآن. وقيل : من الدين وهو الصراط المستقيم](٨). (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) ، يعني : [يوم](٩) القيامة. وقيل : الموت ، (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) ، قال الضحاك وعكرمة : عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. والأكثرون على أن اليوم العقيم يوم بدر لأنه ذكر الساعة من قبل وهو يوم القيامة. وسمي يوم بدر عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير ، كالريح العقيم التي لا تأتي بغير سحاب ولا مطر ، [والعقم في اللغة : المنع ، يقال : رجل عقيم إذا منع من الولد](١٠) ، وقيل : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة

__________________

(١) في المطبوع «أبيض».

(٢) في المخطوط «شاء».

(٣) في المطبوع «تلقاء».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المطبوع «ذكرها».

(٨) ما بين الحاصرتين في المخطوط عقب الآية مباشرة.

(٩) زيادة عن المخطوط.

(١٠) ما بين الحاصرتين في المخطوط بعد كلام ابن جريج.

٣٤٨

فيه. وقال ابن جريج : لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل حتى قتلوا قبل المساء.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) ، يعني يوم القيامة ، (لِلَّهِ) ، من غير منازع ، (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، ثم بيّن الحكم ، فقال تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧).

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه ، (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) ، وهم كذلك ، قرأ ابن عامر (قتلوا) بالتشديد (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) ، والرزق الحسن الذي لا ينقطع أبدا هو رزق الجنة ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) قيل : هو قوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩].

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) ، لأن لهم فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) ، بنياتهم ، (حَلِيمٌ) ، عنهم.

(ذلِكَ) ، يعني : الأمر ذلك الذي قصصنا عليكم ، (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ، جازى الظالم بمثل ظلمه. قال الحسن : يعني قاتل المشركين كما قاتلوه ، (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) ، يعني ظلم بإخراجه من منزله يعني ، ما آتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم ، نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم ، قال الله تعالى : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) ، والعقاب الأول بمعنى الجزاء ، (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) ، عفا عن مساوئ المؤمنين وغفر لهم ذنوبهم.

(ذلِكَ) يعني ذلك النصر (بِأَنَّ اللهَ) [بأنه](١) القادر على ما يشاء فمن قدرته بأن (٢) ، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) ، قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي وحفص بالياء وقرأ الآخرون بالتاء ، يعني المشركين ، (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) ، العالي على كل شيء ،

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «أنه».

٣٤٩

(الْكَبِيرُ) ، العظيم الذي كل شيء دونه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ، بالنبات ، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) ، بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض ، (خَبِيرٌ) ، بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، عبيدا وملكا ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) ، عن عباده ، (الْحَمِيدُ) ، في أفعاله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ) يعني وسخر لكم الفلك ، (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) ، وقيل : ما في الأرض الدواب التي تركب في البر ، والفلك التي تركب في البحر ، (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) ، لكيلا تسقط على الأرض ، (إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١))

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) ، يعني : أنشأكم ولم تكونوا شيئا ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) ، عند انقضاء آجالكم ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، يوم البعث للثواب والعقاب ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) ، لنعم الله [عزوجل](١).

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) ، قال ابن عباس : يعني شريعة هم عاملون بها. وروي عنه أنه قال : عيدا. قال قتادة ومجاهد : موضع قربان يذبحون فيه. وقيل : موضع عبادة. وقيل : مألفا يألفونه. والمنسك في كلام العرب : الموضع المعتاد لعمل خير أو شر ، ومنه مناسك الحج لتردد الناس إلى أماكن أعمال الحج. (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) ، يعني في أمر الذبائح. نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله؟ قال الزجاج : معنى قوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ) أي : لا تنازعهم أنت ، كما يقال : لا يخاصمك فلان ، أي : لا تخاصمه ، وهذا جائز فيما يكون بين الاثنين ، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه وذلك أن المنازعة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هناك. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) ، إلى الإيمان بربك ، (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ).

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (٦٨).

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٦٩) ، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل. والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ) ، كله ، (فِي كِتابٍ) ، يعني اللوح المحفوظ ، (إِنَّ ذلِكَ) يعني : علمه بجميع (٢) ذلك ، (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «لجميع».

٣٥٠

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ، حجة وبرهانا ، (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) ، يعني أنهم فعلوا ما فعلوا عن جهل لا عن علم ، (وَما لِلظَّالِمِينَ) ، المشركين (١) ، (مِنْ نَصِيرٍ) ، [ينصرهم ولا](٢) مانع يمنعهم من عذاب الله.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) ، يعني : القرآن ، (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) ، يعني الإنكار يتبين ذلك في وجوههم من الكراهية والعبوس ، (يَكادُونَ يَسْطُونَ) ، يعني : يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء. وقيل : يبطشون ، (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) ، يعني : بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ. يقال : سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف ، وأصل السطو القهر. (قُلْ) ، يا محمد [لهم](٣) ، (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) ، يعني بشرّ لكم أو أكره إليكم من [هذا](٤) القرآن الذي تستمعون ، (النَّارُ) يعني : هي النار ، (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) ، معنى : ضرب جعل كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس وضرب الجزية على أهل الذمة أي جعل ذلك عليهم. ومعنى الآية : جعل لي شبه وشبه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ، يعني : فاستمعوا حالها وصفتها ، ثم بين ذلك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، يعني : الأصنام ، قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) ، واحدا في صغره وقلته لأنها لا تقدر عليه والذباب واحد وجمعه القليل أذبة والكثير ذباب مثل غراب وأغربة وغربان ، (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) ، يعني خلقه ، (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) ، قال ابن عباس كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه. وقال (٥) السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه. وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بألوان الطيب فربما يسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ، فذلك قوله : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) أي : وإن يسلب الذباب الأصنام شيئا مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه ، (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ، قال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن (٦) الصنم ، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب. وقيل : على العكس : الطالب الصنم والمطلوب الذباب. وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود.

__________________

(١) في المطبوع «للمشركين».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) في المخطوط «وعن».

(٦) في المطبوع «من».

٣٥١

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ، ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ، ولا وصفوه حق صفته إن أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه ، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

(اللهُ يَصْطَفِي) ، يعني يختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) ، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم ، (وَمِنَ النَّاسِ) ، يعني : يختار من الناس رسلا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم من الأنبياء [صلوات الله عليهم أجمعين](١) ، نزلت حين قال المشركون : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] فأخبره أن الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ، يعني : سميع لقولهم بصير بمن يختاره لرسالته.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ، قال ابن عباس : ما قدموا ، (وَما خَلْفَهُمْ) ، ما خلفوا. وقال الحسن : ما بين أيديهم ما عملوا وما خلفهم ما هم عاملون من بعد. وقيل : ما بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم وما خلفهم أي ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) ، يعني : صلوا لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود ، (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) ، أي : وحدوه ، (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) ، قال ابن عباس : صلة الرحم ومكارم الأخلاق ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة. واختلف أهل العلم في سجود التلاوة عند (٢) قراءة هذه الآية ، فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها وهو قول عمرو وعلي وابن مسعود وابن عباس ، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، واحتجوا بما :

[١٤٦٨] أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو

__________________

[١٤٦٨] ـ صدره حسن ، وعجزه ضعيف. إسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة ، وشيخه مشرح بن هاعان لين الحديث.

ـ قتيبة هو ابن سعيد ، ابن لهيعة هو عبد الله.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٦٦ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «سنن الترمذي» ٥٧٨ عن قتيبة بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أبو داود ١٤٠٢ والدار قطني ١ / ٤٠٨ والحاكم ١ / ٢٢١ وأحمد ٤ / ١٥١ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٢٨١ والبيهقي ٢ / ٣١٧ من طرق عن ابن لهيعة به.

ـ وإسناده ضعيف ، وله علتان : ضعف ابن لهيعة ، وشيخه مشرح بن هاعان قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول.

ـ وقال الذهبي في «الميزان» ٤ / ١١٧ : صدوق لينه ابن حبان ، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين : ثقة ، وقال ابن حبان : يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها ، فالصواب ترك ما انفرد به ا ه.

ـ وعجزه ضعيف ، وهو قوله «فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» بل هو منكر ، وهو إما من مناكير ابن لهيعة حيث اختلط ، أو من شيخه مشرح ، وأيّا كان فعجز الحديث ضعيف منكر.

ـ وقد ضعفه الترمذي بقوله : هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي.

(١) في المطبوع «عليهم السلام».

(٢) في المطبوع «عقيب».

٣٥٢

العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا قتيبة أنا ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان (١) عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله فضلت سورة الحج بأنّ فيها سجدتين؟ فقال : «نعم ، من لم يسجدهما فلا يقرأهما».

وذهب قوم إلى أنه لا يسجد هاهنا وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، [وعدد سجدات القرآن أربع عشرة سجدة عند](٢) أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل. وذهب قوم إلى أنه ليس في المفصل سجود. روي ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس ، وبه قال مالك.

[١٤٦٩] وقد صح عن أبي هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «اقرأ» ، و «إذا السماء انشقت».

وأبو هريرة من متأخري الإسلام.

واختلفوا في سجود (ص) فذهب الشافعي إلى أنه سجود شكر ليس من عزائم السجود ، ويروى ذلك عن ابن عباس وذهب قوم إلى أنه يسجد فيها ، يروى ذلك عن عمر ، وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق ، فعند ابن المبارك وإسحاق وأحمد وجماعة سجود القرآن خمس

__________________

ـ وعارضه أحمد شاكر رحمه‌الله فقال : بل هو حديث صحيح ، فإن ابن لهيعة ومشرح ثقتان ....؟!.

ـ وأما الألباني فذكر الحديث في «ضعيف سنن أبي داود» ٣٠٣ وفي ذلك نظر ، فإن لصدره شواهد منها :

ـ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أخرجه أبو داود ١٤٠١ وابن ماجه ١٠٥٧ والحاكم ١ / ٢٢٣ والبيهقي ٢ / ٧٩ وإسناده ضعيف ، فيه عبد الله بن منين مجهول ، وعنه الحارث بن سعيد العتكي ، لا يعرف.

وقال الحاكم عقبه : رواية مصريون ، واحتج الشيخان بأكثر الرواة! وسكت الذهبي! وقال الزيلعي في «نصب الراية» ٢ / ١٨٠ : قال عبد الحق : ابن منين لا يحتج به ، قال ابن القطان : وذلك الضعف حيث فيه الجهالة فقط ، ومع ذلك فقد أدخله الألباني في «ضعيف سنن أبي داود» ٣٠١؟!.

ـ وله شاهد مرسل ، أخرجه أبو داود في «المراسيل» ص ١١٣ عن خالد بن معدان ، ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي ٢ / ٣١٧ ونقل عن أبي داود قوله : وقد أسند هذا الحديث ، ولا يصح ا ه.

ومراده والله أعلم أن هناك من وصل مرسل ابن معدان ، والصواب إرساله.

ومع ذلك يصلح شاهدا للموصول المتقدم ، وما قبله.

ـ وقد ورد موقوفا عن جماعة من الصحابة ، أسند ذلك كله الحاكم في «المستدرك» ٢ / ٣٩٠ ـ ٣٩١ والبيهقي ٢ / ٣١٧ ـ ٣١٨ وكذا الدار قطني ١ / ٤٠٨ ـ ٤١٠ وقال الحاكم : قد صحت الرواية فيه من قول عمر وابنه وابن عباس وابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء وعمار.

ـ فهذه الموقوفات مع المرسل مع الموصول المتقدم تشهد لصدر حديث عقبة دون عجزه وترقى به إلى درجة الحسن والله أعلم.

ـ وانظر «أحكام القرآن» ١٥١٩.

[١٤٦٩] ـ صحيح. أخرجه مسلم ٥٧٨ وأبو داود ١٤٠٧ والترمذي ٥٧٣ والنسائي ٢ / ١٦٢ وابن ماجه ١٠٥٨ وابن حبان ٦٧٦٧ وابن خزيمة ٥٥٤ والدارمي ١ / ٣٤٣ من طرق عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة.

ـ وأخرجه البخاري ١٠٧٤ ومسلم ٥٧٨ والنسائي ٢ / ١٦١ وابن حبان ٢٧٦١ والدارمي ١ / ٣٤٣ من طرق عن أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه.

(١) في المطبوع «عاهان».

(٢) ما بين الحاصرتين في المطبوع «وعدة سجود القرآن أربعة عشر».

٣٥٣

عشرة سجدة فعدوا سجدتي الحج سجدة (١) ص.

[١٤٧٠] روي عن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) ، قيل : جاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس ، وعنه أيضا أنه قال : لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد ، كما قال تعالى : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة : ٥٤]. قال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حقّ عمله واعبدوه حق عبادته. وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن تكون نيته صادقة خالصة لله عزوجل. وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى. وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر وهو حق الجهاد.

[١٤٧١] وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار والجهاد الأكبر الجهاد مع النفس. (هُوَ اجْتَباكُمْ) يعني : اختاركم لدينه ، (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، ضيق ، معناه أنّ المؤمن لا يبتلي بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات ، فليس في دين الإسلام ذنب (٢) لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب فيه. وقيل : من ضيق في أوقات

__________________

[١٤٧٠] ـ تقدم تخريجه في أثناء التعليق على حديث عقبة بن عامر المتقدم قبل حديث واحد.

[١٤٧١] ـ باطل. ذكره الثعلبي في «تفسيره» كما في «تخريج الكشاف» ٣ / ١٧٣ بغير سند.

ـ وورد بنحوه من حديث جابر أخرجه البيهقي في «الزهد» ٣٧٣ بلفظ «قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم غزاة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قدمتم خير مقدم من جهاد الأصغر إلى جهاد الأكبر» فقيل : وما الجهاد الأكبر؟ قال : «مجاهدة العبد هواه».

قال الحافظ البيهقي عقبه : وهذا إسناد فيه ضعف.

ـ وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٣ / ١٧٣ : هو من رواية عيسى بن إبراهيم عن يحيى بن يعلى عن ليث بن أبي سليم ، والثلاثة ضعفاء.

قلت : يحيى وليث كلاهما ضعيف فحسب ، وأما عيسى بن إبراهيم ، فهو متروك الحديث قاله أبو حاتم والنسائي ، وقال يحيى : ليس بشيء. وقال البخاري : منكر الحديث. أي لا تحل الرواية عنه كما هو معلوم من اصطلاح البخاري ، والحمل عليه في هذا الحديث. وقد ورد هذا من كلام إبراهيم بن أبي عبلة أحد التابعين من أهل الشام كما قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٣ / ١٧٣ وهو الصواب ، فالمرفوع باطل ، والصواب مقطوع أي هو من كلام التابعي.

ـ تنبيه : وقد استشهد الدكتور البوطي بهذا الحديث في عدة دروس ، وعند ما روجع فيه ، أجاب بأن ضعفه محتمل وغير شديد وأنه يعمل به في فضائل الأعمال ، والصواب ما ذكرت ، والله الموفق.

(١) في المطبوع «وسجدتي».

(٢) في المطبوع «ما».

٣٥٤

فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم وسع ذلك (١) عليكم حتى تتيقنوا. وقال مقاتل : يعني الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم عند فقد الماء وأكل الميتة عند الضرورة والإفطار بالسفر وبالمرض والصلاة قاعدا عند العجز عن القيام. وهو قول الكلبي ، وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر (٢) التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ، يعني كلمة أبيكم نصب بنزع حرف الصفة وقيل : نصب على الإغراء ، يعني اتبعوا ملّة أبيكم إبراهيم ، وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قيل : ما وجه قوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) وليس كل المسلمين يرجع نسبه (٣) إلى إبراهيم؟ قيل : خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل : خاطب به جميع المسلمين وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، وهو كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

[١٤٧٢] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما أنا لكم مثل الوالد» ، (هُوَ سَمَّاكُمُ) ، يعني أن الله تعالى سماكم (الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) ، يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة. (وَفِي هذا) يعني : في الكتاب ، هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن زيد هو يرجع إلى إبراهيم [أي إن إبراهيم هو](٤) سماكم المسلمين في أيامه ، من قبل هذا الوقت وفي هذا الوقت ، وهو قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ٢١٨] ، (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) ، يوم القيامة أن قد بلغكم ، (وَتَكُونُوا) ، أنتم ، (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، أن رسلهم قد بلغتهم ، (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) ، ثقوا بالله وتوكلوا عليه. قال الحسن : تمسكوا بدين الله. وروي عن ابن عباس قال : سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره. وقيل : معناه ادعوه ليثبتكم على دينه. وقيل : الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة ، (هُوَ مَوْلاكُمْ) ، وليكم وناصركم وحافظكم ، (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ، الناصر لكم.

تفسير سورة المؤمنون

مكية وهي مائة وثماني عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢))

__________________

[١٤٧٢] ـ صحيح. أخرجه أبو داود (٨) والنسائي ١ / ٣٨ وابن ماجه ٣١٢ وأحمد ٢ / ٢٥٠ والدارمي ١ / ١٧٢ و ١٧٣ وابن حبان ١٤٣١ وأبو عوانة ١ / ٢٠٠ والطحاوي في «المعاني» ١ / ١٢٣ و ٤ / ٢٣٣ والبيهقي في «السنن» ١ / ١١٢ من طرق عن ابن

(١) في المطبوع «الله».

(٢) في المطبوع «الأعمال».

(٣) في المطبوع «نسبهم».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٣٥٥

[١٤٧٣] أخبرنا [أبو حامد](١) أحمد بن عبد الله (٢) الصالحي أنا أحمد بن الحسين الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد أنا عبد الرزاق أنا يونس بن سليم (٣) أملى عليّ يونس صاحب أيلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان إذا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي يسمع عند وجهه دوي كدويّ النحل ، فمكثنا ساعة. وفي رواية : فنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال : «اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا [ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا](٤) وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنّا» ، ثم قال : «لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة» ، ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١) إلى عشر آيات.

ورواه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وجماعة عن عبد الرزاق ، وقالوا : «وأعطنا ولا تحرمنا وأرضنا وارض عنّا».

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١) ، قد حرف تأكيد ، وقال المحققون (قد) يقرب الماضي من الحال ، يدل على أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال وهو أبلغ من تجريد ذكر الفعل ، والفلاح : النجاة والبقاء ، قال ابن عباس : قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢) ، اختلفوا في معنى الخشوع ، فقال ابن عباس : مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة : خائفون. وقال مقاتل : متواضعون. وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت ، والخشوع قريب من الخضوع إلّا أن الخضوع في البدن والخشوع في القلب (٥) والبصر

__________________

عجران عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا بأتم منه. وإسناده حسن لأجل ابن عجلان ، لكن له شواهد ، ولعلها تأتي في الأحزاب ، والله أعلم.

[١٤٧٣] ـ إسناده ضعيف لجهالة يونس بن سليم شيخ عبد الرزاق.

ـ عبد الرزاق بن همام ، يونس بن يزيد ، ابن شهاب محمد بن مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٣٧٠ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الترمذي بإثر ٣١٧٣ والنسائي في «الكبرى» ١٤٣٩ وأحمد ١ / ٣٤ والحاكم ٢ / ٣٩٢ والواحدي في «أسباب النزول» ٦٢٥ من طرق عن عبد الرزاق به.

ـ وأخرجه عبد الرزاق ٦٠٣٨ والترمذي ٣١٧٣ من طريق عبد الرزاق عن يونس بن سليم الصنعاني عن الزهري به.

وصححه الحاكم وقال الذهبي : سئل عبد الرزاق عن شيخه ذا ، فقال : لا أظنه شيئا.

وقال الترمذي : هذا أصح من الحديث الأول ، سمعت إسحاق بن منصور يقول : روى أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث.

وقال الترمذي : ومن سمع عبد الرزاق قديما ، فإنهم إنما يذكرون فيه عن يونس بن يزيد وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد ، ومن ذكر فيه يونس بن يزيد ، فهو أصح ، وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد ، وربما لم يذكر فيه يونس فهو مرسل.

(١) زيد في المطبوع.

(٢) في المطبوع «السلام».

(٣) تصحف في المطبوع «سليمان».

(٤) سقط من المطبوع.

(٥) في المخطوط وسط «البدن».

٣٥٦

والصوت ، قال الله عزوجل : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) [طه : ١٠٨] ، وعن عليّ رضي الله عنه : هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا. وقال سعيد بن جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله (١) ، ولا يلتفت من الخشوع لله عزوجل.

[١٤٧٤] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثنا مسدد أنا أبو الأحوص أنا أشعث بن سليم عن أبيه ، عن مسروق عن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال : «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد».

[١٤٧٥] أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا أبو علي زاهر بن أحمد أنا أبو الحسن القاسم بن بكر الطيالسي

__________________

ـ وقال النسائي : هذا حديث منكر ، لا نعلم أحدا رواه غير يونس بن سليم ، ويونس بن سليم لا نعرفه ، والله أعلم.

ـ وانظر «أحكام القرآن» ١٥٢٢ و «فتح القدير» ١٦٩٠ بتخريجي.

[١٤٧٤] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم سوى مسدد ، فإنه من رجال البخاري.

ـ مسدد بن مسرهد ، أبو الأحوص هو سلّام بن سليم ، سليم والد أشعث هو ابن الأسود.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٣٣ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٧٥١ عن مسدد بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٣٢٩١ وأبو داود ٩١٠ والترمذي ٥٩٠ والنسائي ٣ / ٨ وأحمد ١٠٧٦ وابن خزيمة ٤٨٤ و ٩٣١ وابن حبان ٢٢٨٧ والبيهقي ٢ / ٢٨١ من طرق عن أشعث بن سليم به.

ـ وأخرجه النسائي ٣ / ٨ من طريق إسرائيل عن أشعث عن أبي عطية عن مسروق به.

ـ وأخرجه النسائي ٣ / ٨ ـ ٩ من وجه آخر عن عائشة موقوفا عليها.

لكن الصحيح رفعه ، ولا يضره وقف من وقفه.

[١٤٧٥] ـ حسن صحيح بشواهده. إسناده ضعيف ، وله علتان : ضعف صالح بن أبي الأخضر ، ولين أبي الأحوص ، فإنه مقبول ، وقد توبع صالح ، تابعه غير واحد ، وللحديث شواهد يتقوى بها إن شاء الله.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٣٤ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أبو داود ٩٠٩ والبيهقي ٢ / ٢٨١ والبغوي في «شرح السنة» ٧٣٥ من طريق أحمد بن صالح عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أبي الأحوص يحدثنا في مجلس سعيد بن المسيب قال : قال أبو ذر .... فذكره.

ـ وأخرجه النسائي ٣ / ٨ وأحمد ٥ / ١٧٢ من طريق ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن أبي الأحوص مولى بني ليث يحدثنا في مجلس سعيد بن المسيب أنه سمع أبا ذر يقول : .... فذكره.

ـ أخرجه ابن خزيمة ٤٨٢ والبيهقي ٢ / ٢٨٢ من طريق الليث عن يونس عن الزهري قال : سمعت أبا الأحوص يحدث سعيد بن المسيب أن أبا ذر قال : .... فذكره.

ـ وأخرجه الحاكم ١ / ٢٦ من طريق الزهري قال : سمعت أبا الأحوص يحدث عن سعيد بن المسيب أن أبا ذر قال : ... فذكره.

وصححه ووافقه الذهبي! وليس بشيء ، فالحديث عن أبي الأحوص عن أبي ذر.

وقال المصنف في «شرح السنة» صالح بن أبي الأخضر ضعيف. قلت : توبع كما تقدم.

ـ وله شاهد من حديث الحارث الأشعري ، أخرجه الطيالسي ١١٦١ وأحمد ٤ / ٢٠٢ وابن خزيمة ٩٣٠ وإسناده حسن صحيح ، وهو شاهد قوي لحديث أبي ذر.

ـ وله شاهد من حديث حذيفة أخرجه ابن ماجه ١٠٢٣ وابن خزيمة في «صحيحه» ٣٢٤.

ـ وقال البوصيري في «الزوائد» : رجال إسناده ثقات.

ـ الخلاصة : هو حديث حسن صحيح بشاهديه ، وقد أدرجه الألباني في «ضعيف أبي داود» ١٩٤ في حين ذكر حديث

(١) زيد في المطبوع والمخطوط ـ أ ـ وفي المخطوط ـ ب ـ و ـ ط «يساره».

٣٥٧

ببغداد أنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي أنا عبد الغفار بن عبيد الله الكريدي أنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي الأحوص عن أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه».

وقال عمرو بن دينار : هو السكون وحسن الهيئة. وقال ابن سيرين وغيره : هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك.

قال أبو هريرة : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢) رموا بأبصارهم إلى مواضع السجود.

[١٤٧٦] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا يحيى بن سعيد أنا ابن أبي عروبة أنا قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم» ، فاشتد قوله في ذلك حتى قال : «لينتهنّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم».

وقال عطاء : هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة.

[١٤٧٧] وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه».

[١٤٧٨] أخبرنا أبو عثمان الضبي أنا أبو محمد الجراحي أنا أبو العباس المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي

__________________

حذيفة في «الصحيحة» ١٥٩٦ ، ولم أدر وجه التفريق بين الحديثين ، والذي يظهر لي أن حديث الحارث شاهد قوي ، وأما حديث حذيفة فهو شاهد للمعنى.

[١٤٧٦] ـ إسناده صحيح ، رجاله رجال البخاري ومسلم غير علي بن عبد الله وهو المديني ، فإنه من رجال البخاري.

ـ ابن أبي عروبة هو سعيد بن مهران ، قتادة هو ابن دعامة.

ـ وهو في «شرح السنة» ٧٤٠ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٧٥٠ عن علي بن عبد الله بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أبو داود ٩١٣ والنسائي ٣ / ٧ وابن ماجه ١٠٤٤ وأحمد ٣ / ١٤٠ وابن خزيمة ٤٧٥ و ٤٧٦ وابن حبان ٢٢٨٤ والبيهقي ٢ / ٢٨٢ من طرق عن سعيد بن أبي عروبة به.

ـ وأخرجه الطيالسي ٢٠١٩ من طريق هشام الدستوائي عن قتادة به.

[١٤٧٧] ـ باطل. أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» كما في «تخريج الكشاف» ٣ / ١٧٥ من حديث أبي هريرة ، بإسناد ساقط فيه أبو داود النخعي سليمان بن عمرو ، وهو كذاب.

قال يحيى : كان أكذب الناس. انظر «الميزان» ٢ / ٢١٦.

وكذا ذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» بعد أن عزاه للحكيم الترمذي حيث قال : فيه سليمان بن عمرو ، وهو أبو داود النخعي ، أحد من اتهم بوضع الحديث ا ه.

ـ وبهذا يعلم تساهل العراقي ـ رحمه‌الله ـ إذ قال في «تخريج الإحياء» ١ / ١٥١ : أخرجه الحكيم من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف ، لكن ذكر فائدة بعد ذلك حيث قال : رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» من قول سعيد بن المسيب ، وفيه راو لم يسمّ.

ـ ومع ذلك الصواب موقوف على سعيد ، والله أعلم.

ـ وانظر «الكشاف» ٧١٨ بتخريجي.

[١٤٧٨] ـ إسناده ضعيف رجاله ثقات مشاهير غير أبي الأحوص ، وهو مولى بني ليث ، قال الذهبي في «الميزان» ٤ / ٤٧٨ : أبو

٣٥٨

أنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي أنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي الأحوص عن أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه».

وقيل : الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة والإعراض عما سواها ، والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (٣) قال عطاء عن ابن عباس : عن الشرك ، وقال الحسن : عن المعاصي. وقال الزجاج : عن كل باطل ولهو وما لا يحمد (١) من القول والفعل. وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب : قال الله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] ، أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤) ، أي : للزكاة الواجبة مؤدّون ، فعبّر عن التأدية بالفعل لأنها (٢) فعل. وقيل : الزكاة هاهنا هو العمل الصالح ، أي : والذين هم للعمل الصالح فاعلون.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) (٥) ، الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة ، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام.

(إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) ، أي : من أزواجهم ، على بمعنى من. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، «ما» في محل خفض يعني أو مما ملكت أيمانهم ، والآية في الرجال خاصة بدليل قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) والمرأة لا يجوز [لها](٣) أن تستمتع بفرج مملوكها. (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ، يعني يحفظ فرجه إلا من امرأته أو أمته فإنه لا يلام على ذلك ، وإنما لا يلام فيهما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي ، وفي حال الحيض والنفاس ، فإنه محظور وهو على فعله ملوم.

__________________

الأحوص عن أبي ذر ما حدث عنه غير الزهري ، وثقه بعض الكبار ، وقال ابن معين : ليس بشيء ، وقال ابن القطان : لا يعرف حاله ، وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالمتين عندهم ا ه.

ـ وقال الحافظ في «التقريب» : مقبول ، أي حيث يتابع ، ولم يتابع على هذا الحديث ، وهو غريب.

ـ وهو في «شرح السنة» ٦٦٣ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «سنن الترمذي» ٣٧٩ سعيد بن عبد الرحمن بهذا الإسناد.

ـ أخرجه أبو داود ٩٤٥ والنسائي ٣ / ٦ وابن ماجه ١٠٢٧ وأحمد ٥ / ١٥٠ وابن أبي شيبة ٢ / ٤١٠ ـ ٤١١ والحميدي ١٢٨ وابن حبان ٢٢٧٣ وابن الجارود ٢١٩ والبيهقي ٢ / ٢٨٤ من طرق عن سفيان به.

وأخرجه أحمد ٥ / ١٦٣ و ١٧٩ والطيالسي ٤٧٦ والمصنف في «شرح السنة» ٦٦٤ من طرق عن الزهري به.

وقال الترمذي : حديث أبي ذر حديث حسن!.

ـ والصواب أنه ضعيف ، ولم يتابع أبو الأحوص على هذا الحديث ، وحسنه الشيخ شعيب في «الإحسان» وفيه نظر ، فالرجل لم يرو عنه غير الزهري ، فهو على القاعدة مجهول العين ، ولم يرو سوى حديثين كما ذكر الذهبي في «الميزان»

(١) في المخطوط «يحل» وكذا في ـ ط ـ وفي المطبوع «يجمل» والمثبت عن «الوسيط» ٣ / ٢٨٤ للواحدي.

(٢) في المخطوط «لأنه».

(٣) زيادة عن المخطوط.

٣٥٩

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) ، أي : التمس وطلب سوى الأزواج والولائد المملوكة ، (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) ، الظالمون المتجاوزون من الحلال والحرام ، وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام ، وهو قول أكثر العلماء. قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه ، سمعت أنّ قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء. وعن سعيد بن جبير قال : عذب الله أمّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) ، قرأ ابن كثير «لأمانتهم» على التوحيد هاهنا وفي سورة المعارج [٣٢] ، لقوله تعالى : (وَعَهْدِهِمْ) والباقون بالجمع ، كقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] ، (وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) ، حافظون ، أي يحفظون ما ائتمنوا عليه ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها ، يقومون بالوفاء بها ، والأمانات تختلف فتكون بين الله تعالى وبين العباد كالصلاة والصيام والعبادات التي أوجبها الله عليه ، وتكون [بين العباد](١) كالودائع والصنائع فعلى العبد الوفاء بجميعها.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) ، قرأ حمزة والكسائي : «صلاتهم» على التوحيد ، والآخرون صلواتهم على الجمع. (يُحافِظُونَ) ، أي : يداومون على حفظها ويراعون أوقاتها ، كرر ذكر الصلاة ليبين أن المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب.

(أُولئِكَ) ، أهل هذه الصفة ، (هُمُ الْوارِثُونَ) ، يرثون منازل أهل النار من الجنة.

[١٤٧٩] وروي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (١٠). وقال مجاهد : لكل واحد منزلان (٢) منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأما المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدّم منزله الذي له في النار ، وأما الكافر فيهدم منزله الذي [له](٣) في الجنة ويبني منزله الذي في النار. وقال بعضهم : معنى الوارثة هو أنه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) ، وهو أعلى الجنة قد ذكرناه في سورة الكهف ، (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، لا يموتون ولا يخرجون.

[١٤٨٠] وجاء في الحديث : «إن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده

__________________

فالرجل غير مشهور بحمل العلم.

[١٤٧٩] ـ تقدم في تفسير سورة الأعراف عند آية : ٤٣.

[١٤٨٠] ـ ضعيف جدا. أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» ١٠٣٢ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٦٩٢ وأبو نعيم في «صفة الجنة» ٢٣ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٢٨٥ من طريق عبد الله بن عبد الله بن الحارث عن أبيه مرسلا فهذه علة.

(١) في المطبوع «من العبيد».

(٢) في المطبوع «منزلا».

(٣) زيادة عن المخطوط.

٣٦٠