تفسير البغوي - ج ٣

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٣

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، ابتداء ، [وقوله](١) (طُوبى لَهُمْ) خبره ، واختلفوا في تفسير (طُوبى) ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : فرح لهم وقرّة عين.

وقال عكرمة : نعم مآلهم. وقال قتادة : حسنى لهم. وقال معمر عن قتادة : هذه كلمة عربية يقول الرجل للرجل : طوبى لك أي أصبت خيرا.

وقال إبراهيم : خير لهم وكرامة. قال الفراء : أصله من الطيب والواو فيه لضمة الطاء وفيه لغتان ، تقول العرب : طوباك وطوبى لك أي لهم الطيب. (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي : حسن المنقلب.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : طوبى اسم الجنة بالحبشية. وقال الربيع : هو البستان بلغة الهند.

وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء قال : طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها [من كبرها](٢). وقال عبيد بن عمير : هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلا وفيها منها إلا السواد ، ولم يخلق الله تعالى فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ، ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل.

وقال مقاتل : كل ورقة منها تظلّ أمة عليها ملك يسبح الله عزوجل بأنواع التسبيح.

[١٢٠٤] وروي عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما طوبى؟ قال : «شجرة في الجنة ظلها مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها».

[١٢٠٥] وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه : «طوبى شجرة غرسها الله تعالى بيده ، ونفخ فيها من روحه ، تنبت الحلي (٣) والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة».

[١٢٠٦] أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحارث أنا محمد بن يعقوب الكسائي

__________________

[١٢٠٤] ـ أخرجه أحمد ٣ / ٧١ وأبو يعلى ١٣٧٤ والخطيب في «تاريخه» ٤ / ٩١ من طريقين عن ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري به.

ـ وأخرجه ابن أبي داود في «البعث» ٦٨ والطبري ٢٠٣٩٤ من طريق عمرو بن الحارث عن دراج بالإسناد السابق ، وهذا إسناد ضعيف ، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم.

ـ وله شواهد موقوفة ، لكن لا يحتج بشيء من ذلك ، لأن ظاهر الآية لا يدل على أن المراد بذلك شجرة.

[١٢٠٥] ـ ضعيف. أخرجه الطبري ٢٠٣٩٣ بإسناد ضعيف لضعف فرات بن أبي الفرات ، والفقرة الأولى والثانية منه منكرة.

[١٢٠٦] ـ إسناده ضعيف ، فيه زياد مولى بني مخزوم ، قال عنه ابن معين : لا شيء رواه المصنف من طريق ابن المبارك ، وهو في ـ

(١) زيد في المطبوع وحده.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المخطوط «بالحلي» والمثبت هو الصواب.

٢١

أنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى بني مخزوم أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة (١) لا يقطعها ، اقرءوا إن شئتم : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) [الواقعة : ٣٠] فبلغ ذلك كعبا فقال : صدق والذي أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام (٢) والقرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما ، إن الله تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من روحه ، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة ، ما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة.

[١٢٠٧] وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، يقول الله عزوجل لها تفتّقي لعبدي عما شاء فتفتق (٣) له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء وتفتق (٤) له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء وعن الثياب.

قوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) أي : كما أرسلنا الأنبياء إلى الأمم أرسلناك إلى هذه الأمة ، و (قَدْ خَلَتْ) ، مضت ، (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا) ، لتقرأ ، (عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ).

[١٢٠٨] قال قتادة ومقاتل وابن جريج : الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية ، وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» ، قالوا : لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم ، فهذا معنى قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ).

والمعروف أن الآية مكية وسبب نزولها :

[١٢٠٩] أن أبا جهل سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الحجر يدعو «يا الله يا رحمن» فرجع إلى المشركين فقال :

إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمى الرحمن ، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ونزل قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠].

__________________

ـ «الزهد» ٢٦٧ زيادات نعيم بن حماد عن إسماعيل بن أبي خالد به.

ـ وكلام أبي هريرة صح مرفوعا ، فقد أخرجه البخاري ٤٨٨١ ومسلم ٢٨٢٦ والترمذي ٢٥٢٣ وأحمد ٢ / ٤١٨ وابن حبان ٧٤١١ وأبو نعيم في «صفة الجنة» ٤٠٣ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٦٨ من طرق من حديث أبي هريرة دون ذكر قول كعب.

ـ وخبر كعب ورد مرفوعا من حديث ابن عباس أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ١٥ ـ ١٦ وإسناده ضعيف جدا.

[١٢٠٧] ـ موقوف : إسناده لا بأس به لأجل شهر بن حوشب.

ـ رواه المصنف من طريق ابن المبارك ، وهو في «الزهد» ٢٦٥ «زيادات نعيم بن حماد» عن معمر به.

ـ وأخرجه الطبري ٢٠٣٨٣ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ١٦ من طريق معمر به.

[١٢٠٨] ـ ضعيف. أخرجه الطبري ٢٠٣٩٦ عن قتادة مرسلا و ٢٠٣٩٧ عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا. والخبر فيه نكارة بذكر نزول الآية ، وقوله «لا نعرف الرحمن إلّا صاحب اليمامة». وأما أصل الحديث ففي الصحيح ، وسيأتي.

[١٢٠٩] ـ يأتي في سورة الإسراء عنه آية : ١١٠ إن شاء الله.

(١) كذا في المطبوع و «الزهد» وفي المخطوط «عام».

(٢) زيد في المخطوط وحده «والإنجيل على عيسى» وليست في «الزهد».

(٣) في المطبوع «ففتقت».

(٤) في المطبوع «وتفتقت».

٢٢

[١٢١٠] وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسجدوا للرحمن» ، قالوا : وما الرحمن؟ قال الله تعالى : (قُلْ) ، لهم يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته ، (هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ، اعتمدت (وَإِلَيْهِ مَتابِ) ، أي : توبتي ومرجعي.

قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) ، الآية نزلت في نفر من مشركي مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أمية إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسخ فإنها أرض ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا لنغرس فيها الأشجار ونزرع ، ونتخذ البساتين فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود عليه‌السلام حيث سخر له الجبال تسبح معه ، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت ، ولست بأهون على ربك من سليمان أو أحيي لنا جدك قصيا أو من شئت من آبائنا وموتانا لنسأله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل ، فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ)(١) فأذهبت عن وجه الأرض ، (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) ، أي : شققت فجعلت أنهارا وعيونا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى).

واختلفوا في جواب لو فقال قوم جوابه محذوف اكتفاء بمعرفة السامعين مراده وتقديره لكان هذا القرآن كقول الشاعر :

فأقسم لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أراد لرددناه ، وهذا معنى قول قتادة قال : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقال آخرون (٢) : جواب لو مقدم وتقدير الكلام : وهم يكفرون بالرحمن (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) ، كأنه قال : لو سيرت به الجبال (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا ، لما سبق من علمنا فيهم كما قال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] ، ثم قال : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) ، أي : في هذه الأشياء إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا).

قال أكثر المفسرون : معناه أفلم يعلم. قال الكلبي : هي لغة النخع. وقيل : هي لغة هوازن ، يدل عليه قراءة ابن عباس : أفلم يتبين الذين آمنوا ، وأنكر الفراء أن يكون ذلك بمعنى العلم وزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول يئست بمعنى علمت ، ولكن معنى العلم فيه مضمر.

وذلك أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا فيؤمنوا فنزل : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من إيمان هؤلاء ، أي ألم (٣) ييأسوا علما وكل من علم شيئا يئس من خلافه ، يقول : ألم ييئسهم العلم ، (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) ، من كفرهم وأعمالهم الخبيثة (قارِعَةٌ) أي : نازلة

__________________

[١٢١٠] ـ ذكره المصنف تعليقا ، فهذه علة ، والضحاك لم يلق ابن عباس فالخبر لا شيء من هذا الوجه ، وسيأتي في آخر الإسراء.

(١) انظر «الدر المنثور» ٤ / ١١٧ ـ ١١٨ عند هذه الآية.

(٢) في المطبوع «الآخرون».

(٣) في المطبوع و ـ ط «لم».

٢٣

وداهية تقرعهم من أنواع البلاء أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل والأسر.

وقال ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعثهم إليهم ، (أَوْ تَحُلُ) ، يعني : السرية أو القارعة ، (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ).

وقيل : أو تحل أي تنزل أنت يا محمد بنفسك قريبا من ديارهم ، (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) ، قيل : يوم القيامة. وقيل : الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، وكان الكفار يسألون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنزل الله تسلية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، كما استهزءوا (١) بك ، (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، أمهلتهم وأطلت لهم المدة ، ومنه الملوان : وهما الليل والنهار ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) عاقبتهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار ، (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) ، أي : عقابي لهم.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ، أي : حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما عملت ، وجوابه محذوف تقديره : كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه ، (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) بيّنوا أسماءهم. وقيل : صفوهم ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد؟ (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) أي : تخبرون الله (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) ، فإنه لا يعلم لنفسه شريكا ولا في الأرض إلها غيره ، (أَمْ بِظاهِرٍ) [يعني : أم تتعلقون بظاهر](٢) ، (مِنَ الْقَوْلِ) ، مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له. وقيل : بزائل (٣) من القول قال الشاعر :

وعيرني الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي : زائل ، (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) ، كيدهم. وقال مجاهد : شركهم وكذبهم على الله ، (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) ، أي : صرفوا عن الدين.

قرأ أهل الكوفة ويعقوب (وَصُدُّوا) وفي حم المؤمن (وَصُدُّوا) بضم الصاد فيهما وقرأ الآخرون بالفتح لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الحج : ٢٥] ، وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [النحل : ٨٨]. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ، بخذلانه إيّاه ، (فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، بالقتل والأسر ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أشد ، (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [أي](٤) مانع يمنعهم من العذاب.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى

__________________

(١) في المخطوط «استهزئ».

(٢) سقط من المخطوط.

(٣) في المخطوط «بباطل».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٢٤

الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦))

قوله عزوجل : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي : صفة الجنة ، كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] أي : الصفة العليا ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، أي : صفة الجنة التي وعد المتقون أن الأنهار تجري من تحتها.

وقيل : مثل صلة مجازها الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار. (أُكُلُها دائِمٌ) أي : لا ينقطع ثمرها ونعيمها ، (وَظِلُّها) ، أي : ظلها ظليل لا يزول وهو ردّ على الجهمية حيث قالوا إن نعيم الجنة يفنى. (تِلْكَ عُقْبَى) أي : عاقبة (الَّذِينَ اتَّقَوْا) يعني : الجنة ، (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني : القرآن وهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن ، (وَمِنَ الْأَحْزابِ) يعني : الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم اليهود والنصارى ، (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) ، هذا قول مجاهد وقتادة.

وقال الآخرون : كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثر ذكره في التوراة ، فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) ، يعني : مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم ، قالوا : ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسليمة الكذاب ، فأنزل الله عزوجل : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) [الأنبياء : ٣٦] (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠](١) وإنما قال (بَعْضَهُ) لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرحمن. (قُلْ) ، يا محمد ، (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) ، أي : مرجعي.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩))

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) ، يقول كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا إليك الحكم والدين عربيا ، نسب إلى العرب لأنه نزل بلغتهم فكذب به الأحزاب.

وقيل : نظم الآية كما أنزلت الكتب على الرسل بلغاتهم (٢) كذلك (٣) أنزلنا عليك الكتاب حكما عربيا. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ، في الملة. وقيل : في القبلة ، (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ، يعني : من ناصر ولا حافظ.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) ، روي أن اليهود.

__________________

(١) تقدم الخبر برقم ١٢٠٨.

(٢) في المخطوط «بلغتهم».

(٣) في المطبوع و ـ ط «فكذلك».

٢٥

وقيل : إن المشركين قالوا إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) ، وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، هذا جواب عبد الله بن أبي أمية.

ثم قال : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ، يقول : لكل أمر قضاه الله كتاب قد كتبه فيه [ووقت يقع فيه وقيل لكل أجل أجله الله كتاب أثبت فيه](١). وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره أي : لكل كتاب أجل ومدة أي : الكتب المنزلة لكل واحد منها وقت ينزل فيه.

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ، قرأ ابن كثير وأبو عمر وعاصم ويعقوب ويثبت بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتشديد. واختلفوا في معنى الآية فقال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه.

وقال ابن عباس يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة.

[١٢١١] وروينا عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة ، فيقول : يا رب أشقي أم (٢) سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي ربّ أذكر أم أنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص». وعن عمر وابن مسعود (٣) أنهما قالا : يمحو السعادة والشقاوة أيضا ، ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء.

روي عن عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها وإن كنت كتبتني على الشقاوة فامحني ، وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. ومثله عن ابن مسعود.

وفي بعض الآثار : إن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فترد إلى ثلاثة أيام ، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد (٤) إلى ثلاثين سنة.

[١٢١٢] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](٥) المليحي أنا أبو منصور السمعاني ثنا أبو جعفر الرياني ثنا حميد بن زنجويه ثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث بن سعد حدثني زيادة بن محمد الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل الله عزوجل في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الساعة الأولى منهن في أم الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت».

وقيل : معنى الآية إن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب. مثل قوله : أكلت شربت دخلت خرجت ونحوها من كلام هو صادق فيه

__________________

[١٢١١] ـ تقدم في تفسير سورة آل عمران عند آية ٦.

[١٢١٢] ـ إسناده ضعيف لضعف زيادة بن محمد ، والمتن منكر.

ـ وأخرجه الطبري ٢٠٥٠٢ والبزار ٣٢٥٣ «كشف» من طريق الليث به.

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ١٥٤ وقال : وفيه زيادة بن محمد الأنصاري ، وهو منكر الحديث.

ـ قلت : وساقه الذهبي في ترجمة زيادة بأتم منه وقال : فهذه ألفاظ منكرة ، لم يأت بها غير زيادة. انظر «الميزان» ٢ / ٩٨.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «أو».

(٣) في المخطوط «ابن عمر وابن عباس» وليس بشيء ، والوارد عن ابن عباس خلافه ، انظر «الدر المنثور» ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٤) في المطبوع و ـ ط «فتمد».

(٥) زيادة عن المخطوط.

٢٦

ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، هذا قول الضحاك والكلبي. وقال الكلبي : يكتب القول كله حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب.

وقال عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله عزوجل ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو والذي يثبت الرجل يعمل بطاعة الله فيموت وهو في طاعة الله عزوجل فهو الذي يثبت.

وقال الحسن : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) أي من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجئ أجله إلى يوم أجله.

وعن سعيد بن جبير قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها.

وقال عكرمة : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) من الذنوب بالتوبة ويثبت بدل الذنوب حسنات ، كما قال الله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠]. وقال السدي : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) يعني القمر (وَيُثْبِتُ) يعني الشمس بيانه قوله تعالى : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله عند النوم فمن أراد موته محاه فأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه ، بيانه قوله عزوجل : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] الآية. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ، أي : أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير.

وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : هما كتابان : كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء.

وعن عطاء عن ابن عباس قال : إن لله تعالى لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت لله في كل يوم فيه ثلاثمائة وستون لحظة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩).

وسأل ابن عباس كعبا عن أم الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ، من العذاب قبل وفاتك ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) ، قبل ذلك ، (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ، ليس عليك إلا ذلك ، (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ، الجزاء يوم القيامة.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعني : أهل مكة الذين يسألون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآيات ، (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) ، أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار (١) الشرك ، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك ، يقول : «أولم يروا أنا نأتي الأرض [نقصدها](٢) ننقصها من أطرافها» فنفتحها لمحمد أرضا

__________________

(١) هذه الكلمة تكررت في المخطوط «دار».

(٢) سقط من المطبوع.

٢٧

بعد أرض حوالي أرضهم [وبلادهم](١) ، أفلا يعتبرون؟ هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة.

وقال قوم : هو خراب الأرض معناه أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ونهلك أهلها أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك؟

وقال مجاهد : هو خراب الأرض وقبض (٢) أهلها.

وعن عكرمة قال : قبض الناس. وعن الشعبي مثله.

وقال عطاء وجماعة : نقصانها موت العلماء ، وذهاب الفقهاء.

[١٢١٣] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثنا مالك عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم يقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».

وقال الحسن : قال عبد الله بن مسعود : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله.

وقال علي رضي الله عنه : إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد. وقال سليمان : لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر ، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس.

وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس؟ قال : هلاك علمائهم. (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ، لا راد لقضائه ولا ناقض لحكمه ، (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، يعني : من قبل مشركي مكة ، والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر ، (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) ، أي : عند الله جزاء مكرهم.

وقيل : إن الله خالق مكرهم جميعا بيده الخير والشر وإليه النفع والضر ، [فلا يضر أحد أحدا إلا بإذنه](٣) ، (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ).

قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو «الكافر» على التوحيد وقرأ الآخرون «الكافر» على الجمع. (لِمَنْ عُقْبَى

__________________

[١٢١٣] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم ، أبو أويس هو عبد الله بن عبد الله ، هشام بن عروة بن الزبير.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٤٧ بهذا الإسناد.

ـ رواه المصنف من طريق البخاري ، وهو في «صحيحه» ١٠٠ عن إسماعيل بن أبي أويس به.

ـ وأخرجه مسلم ٢٦٧٣ والترمذي ٢٦٥٢ وابن ماجه ٥٢ وأحمد ٢ / ١٦٢ و ١٩٠ وابن حبان ٤٥٧١ من طرق عن هشام بن عروة به.

ـ وأخرجه البخاري ٧٣٠٧ ومسلم ٢٦٧٣ والطيالسي ٢٢٩٢ وأحمد ٢ / ٢٠٣ من طرق عن عروة به.

ـ وأخرجه مسلم ٢٦٧٣ ح ١٣ من طريق عمر بن الحكم عن عبد الله بن عمرو به.

تنبيه : صحة الحديث لا يعني صحة ما ذهب إليه المصنف من تفسير الآية ، فإن الآية وسياقها لا يساعد ما ذهب إليه المصنف ، فإن الآية تخاطب كفار قريش آنذاك ، وأين العلماء حينئذ؟!!.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المخطوط «بنقص».

(٣) العبارة في المخطوط «فلا يضر مكر أحد إلّا بإذن الله».

٢٨

الدَّارِ) أي : عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار ويدخل المؤمنون الجنة.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) [أي لست رسولا إلينا](١) (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، إني رسوله إليكم (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ، يريد مؤمني أهل الكتاب يشهدون أيضا على ذلك.

قال قتادة : هو عبد الله بن سلام. وأنكر الشعبي هذا وقال : السورة مكية ، وعبد الله بن سلام [أسلم](٢) بالمدينة.

وقال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أهو عبد الله بن سلام؟ فقال : وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية؟ وقال الحسن ومجاهد : ومن عنده علم الكتاب هو الله عزوجل يدل عليه قراءة عبد الله بن عباس ، (وَمَنْ عِنْدَهُ) بكسر الميم والدال [أي : من عند الله عزوجل.

وقرأ الحسن وسعيد بن جبير (مَنْ عِنْدَهُ) بكسر الميم والدال](٣) علم الكتاب على الفعل المجهول ، دليل هذه القراءة : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] وقوله : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)) [الرحمن : ٢].

تفسير سورة إبراهيم

مكية وهي إحدى وخمسون آية إلا آيتين من قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] إلى قوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠]

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢))

(الر كِتابٌ) أي : هذا كتاب (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) ، يا محمد يعني القرآن ، (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي : لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان ، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، بأمر ربهم. وقيل : بعلم ربهم ، (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي : إلى دينه ، والعزيز هو الغالب والحميد هو المستحق للحمد (٤).

(اللهِ) قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر «الله» بالرفع على الاستئناف وخبره فيما بعد.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) سقط من المخطوط.

(٣) سقط من المخطوط.

(٤) في المخطوط «الحمد».

٢٩

وقرأ الآخرون بالخفض نعتا للعزيز الحميد ، وكان يعقوب إذا وصل خفض وقال أبو عمرو :

الخفض على التقديم والتأخير تقديره (١) إلى صراط الله العزيز الحميد ، (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ).

(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦))

(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) ، يختارون ، (الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [أي](٢) يطلبونها زيغا وميلا ، يريد يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد.

وقيل : الهاء راجعة إلى الدنيا ، ومعناه يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : بجهة الحرام. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ).

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ، بلغتهم ليفهموا عنه [ما يلقيه إليهم](٣) فإن قيل : كيف هذا وقد بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كافة الخلق؟ قيل : بعث من (٤) العرب بلسانهم والناس تبع لهم ثم بث (٥) الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عزوجل ويترجمون لهم بألسنتهم ، (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي : من الكفر إلى الإيمان بالدعوة ، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) ، قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة : بنعم الله.

وقال مقاتل : بوقائع الله [كما](٦) في الأمم السالفة. يقال فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم ، وإنما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ، الصبار : الكثير الصبر ، والشكور : الكثير الشكر ، وأراد لكل مؤمن لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) ، قال الفراء : العلة (٧) الجالبة لهذه (٨) الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع العذاب غير التذبيح ، وبالتذبيح ، وحيث طرح الواو في يذبحون ويقتلون أراد تفسير

__________________

(١) في المخطوط «مجازه».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المخطوط «إلى».

(٥) في المخطوط «بعث».

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المطبوع «لعله».

(٨) في المطبوع «لهذا».

٣٠

العذاب الذي كانوا يسومونهم ، (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ، يتركوهن أحياء (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠))

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) ، أي : أعلم ، يقال : أذن وتأذن بمعنى واحد ، مثل أوعد وتوعد ، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمتي فآمنتم وأطعتم (لَأَزِيدَنَّكُمْ) في النعمة.

وقيل : الشكر قيد الموجود وصيد المفقود.

وقيل : لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ، نعمتي فجحدتموها ولم تشكروها ، (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)) ، أي : غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله لأنه فيها متفضل و (١) عادل.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ) ، خبر الذين ، (مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) ، يعني : من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.

روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه [قرأ هذه الآية ثم قال](٢) : كذب النسابون.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله تعالى.

وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أبا أبا إلى آدم ، وكذلك في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلّا الله عزوجل. (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالدلالات الواضحات ، (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) ، قال ابن مسعود : عضوا على أيديهم غيظا كما قال : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩]. قال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. قال مجاهد وقتادة : كذبوا الرسل وردوا ما جاءوا به ، يقال : رددت قول فلان في فيه أي كذبته. وقال الكلبي : يعني أن الأمم ردوا أيديهم (٣) في أفواه أنفسهم أي وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أن اسكتوا. وقال مقاتل : فردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك. وقيل : إن الأيدي بمعنى النعم معناه : ردوا ما لو قبلوا كانت أيادي ونعما في أفواههم أي : بأفواههم يعني بألسنتهم. (وَقالُوا) يعني الأمم للرسل ، (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ، موجب للريبة موقع للتهمة.

__________________

(١) في المخطوط «أو».

(٢) العبارة في المطبوع وحده «قال بعد ما قرأ هذه الآية».

(٣) زيد في المطبوع «في أفواههم أي».

٣١

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) ، هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه ، (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، خالقهما ، (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ، أي : ذنوبكم و (مِنْ) صلة ، (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب ، (قالُوا) ، للرسل ، (إِنْ أَنْتُمْ) ، ما أنتم ، (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) ، في الصورة والجسم ولستم ملائكة وإنما ، (تُرِيدُونَ) ، بقولكم ، (أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، حجة بينة على صحة دعواكم.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣))

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، بالنبوة والحكمة (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) وقد عرفنا أن لا ينالنا شيء (١) إلا بقضائه وقدره ، (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) ، بين لنا الرشد وبصّرنا طريق النجاة. (وَلَنَصْبِرَنَ) ، اللام لام القسم مجازه (٢) : والله لنصبرن ، (عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ، يعنون إلا أن ترجعوا أو حتى ترجعوا إلى ديننا ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ).

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : [من](٣) بعد هلاكهم ، (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي : خاف قيامه بين يدي كما قال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٦٤) [الرحمن : ٤٦] ، فأضاف قيام العبد إلى نفسه.

كما تقول : ندمت على ضربك أي على ضربي إياك ، (وَخافَ وَعِيدِ) أي عقابي.

قوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) أي : استنصروا.

قال ابن عباس ومقاتل : يعني الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ، نظيره قوله تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢].

__________________

(١) في المطبوع و ـ ط «لا ننال شيئا».

(٢) في المطبوع «مجازا».

(٣) زيادة عن المخطوط.

٣٢

وقال مجاهد وقتادة : واستفتحوا يعني الرسل وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب ، كما قال نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] وقال موسى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) [يونس : ٨٨] ، الآية. (وَخابَ) ، وخسر. وقيل : هلك ، (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) والجبار : الذي لا يرى فوقه أحدا. والجبرية : طلب العلو بما لا غاية وراءه. وهذا الوصف لا يكون إلا لله عزوجل.

وقيل : الجبار : الذي يجبر الخلق على مراده ، والعنيد : المعاند للحق ومجانبه. قال مجاهد ، وعن ابن عباس : هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل : هو المتكبر.

وقال قتادة : العنيد : الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله.

(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي : أمامه (١) كقوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف : ٧٩] أي أمامهم. قال أبو عبيدة : هو من الأضداد.

وقال الأخفش : هو كما يقال هذا الأمر من ورائك يريد أنه سيأتيك ، وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه.

وقال مقاتل : من ورائه جهنم أي بعده ، (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي : من ماء هو صديد وهو ما يسيل من أبدان الكفار من القيح والدم. وقال محمد بن كعب : ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر.

(يَتَجَرَّعُهُ) أي : يتحساه ويشربه لا بمرة واحدة بل جرعة جرعة لمرارته وحرارته ، (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ، ويكاد صلة أي لا يسيغه ، كقوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] أي : لم يرها ، قال ابن عباس : لا يجيزه. وقيل : معناه يكاد لا يسيغه ويسيغه فيغلي في جوفه.

[١٢١٤] أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن عبيد (٢) الله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ) ، قال :

__________________

[١٢١٤] ـ لا بأس به بشواهده. إسناده ضعيف لجهالة عبيد الله بن بسر لكن لم ينفرد به.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٣٠١ بهذا الإسناد.

ـ رواه المصنف من طريق ابن المبارك ، وهو في «الزهد» ٣١٤٠ «زيادات» عن صفوان بن عمرو به.

ـ وأخرجه الترمذي ٢٥٨٣ والنسائي في «التفسير» ٢٨٣ من طريق سويد بن نصر به.

ـ وأخرجه أحمد ٥ / ٢٦٥ والحاكم ١ / ٣٥١ والطبري ٢٠٦٣٢ والبيهقي في «البعث» ٦٠٢ من طرق عن ابن المبارك به وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي؟! وقال الترمذي هذا حديث غريب ، وهكذا قال البخاري عن عبيد الله بن بسر ، ولا نعرف عبيد الله بن بسر إلّا في هذا الحديث.

ـ وله شاهد من حديث أبي سعيد ، أخرجه أحمد ٣ / ٧٠ وابن حبان ٧٤٧٣ وإسناده ضعيف ، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم.

ـ وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه البيهقي في «البعث» ٥٧٩.

ـ وفيه دراج لكن رواه عن غير أبي الهيثم ، فالإسناد لا بأس به.

ـ الخلاصة : هذا الحديث بشواهده يصير حسنا أو قريبا من الحسن والآية تشهد لبعضه ، وهناك آيات تشهد لبعضه الآخر ، والحديث في الترهيب ، ومذهب ابن المبارك وأحمد وغيرهما التساهل في هذا الباب ، والله أعلم.

(١) زيد في المخطوط «جهنم».

(٢) في المطبوع «عبد».

٣٣

«يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره» ، يقول الله عزوجل : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [طه : ٧٤] ، ويقول : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف : ٢٩].

(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ، يعني : يجدهم (١) الموت وألمه من كل مكان من أعضائه.

قال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة من جسده.

وقيل : يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله ، (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) ، فيستريح ، قال ابن جريج تعلق نفسه عند حنجرته ولا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة ، نظيره (٢) (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [محمد : ١٥] ، (وَمِنْ وَرائِهِ) ، أمامه ، (عَذابٌ غَلِيظٌ) ، شديد.

وقيل : العذاب الغليظ الخلود في النار. (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ) يعني : مثل أعمال الذين كفروا بربهم ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] ، أي : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة ، (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) ، وصف اليوم بالعصوف ، والعصوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيه (٣) ، كما يقال : يوم حار ويوم بارد لأن الحر والبرد فيه. وقيل : معناه في يوم عاصف الريح فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل ، وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يريد أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذرته الريح لا ينتفع به ، فذلك قوله تعالى : (لا يَقْدِرُونَ) ، يعني : الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) ، في الدنيا ، (عَلى شَيْءٍ) ، في الآخرة ، (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، قرأ حمزة والكسائي خالق السماوات والأرض وفي سورة النور «خالق كل دابة» مضافا ، وقرأ الآخرون (خَلَقَ) على الماضي (وَالْأَرْضَ) كل بالنصب ، و (بِالْحَقِ) أي : لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهم لأمر عظيم ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) ، سواكم أطوع لله منكم.

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠) ، منيع شديد ، يعني أن الأشياء تسهل في القدرة [و](٤) لا يصعب على الله شيء وإن جلّ وعظم.

__________________

(١) في المطبوع «بنفسه».

(٢) في المطبوع «ونظيرها».

(٣) في المخطوط «يكون فيها».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٣٤

قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي : خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا ، (فَقالَ الضُّعَفاءُ) ، يعني الأتباع ، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ، أي : تكبروا على الناس وهم القادة والرؤساء ، (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) جمع تابع مثل حرس وحارس ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) ، دافعون ، (عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا) ، يعني القادة للمتبوعين ، (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) ، أي : لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى ، فلما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) ، مهرب ولا منجاة (١).

قال مقاتل : يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع ، ثم يقولون : تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا بنفعهم الصبر ، فحينئذ يقولون (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ).

قال محمد بن كعب القرظي : بلغني أن أهل النار استغاثوا (٢) بالخزنة ، كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) (٤٩) [غافر : ٤٩] ، فردت الخزنة عليهم : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى) [غافر : ٥٠] ، فردت الخزنة عليهم [قالوا](٣) : (فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر : ٥٠] ، فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون ، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧] ، فلما أيسوا مما قبله قال بعضهم لبعض إنه قد نزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم ، فأجمعوا على الصبر فطال صبرهم ثم جزعوا فطال جزعهم فنادوا (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي : من منجاة. قال فقام إبليس عند ذلك فخطبهم.

وذلك قوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) الآية ، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودوا لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، قال فنادوا الثانية (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢] فرد عليهم : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] الآيات ، فنادوا الثالثة : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) [إبراهيم : ٤٤] ، فرد عليهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤] الآيات ، ثم نادوا الرابعة : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] فرد عليهم : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر : ٣٧] ، الآية قال : ثم مكث عنهم (٤) ما شاء الله ، ثم ناداهم : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) [المؤمنون : ١٠٥] ، فلما سمعوا ذلك قالوا : الآن يرحمنا ، فقالوا عند ذلك : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧) [المؤمنون : ١٠٦ ـ ١٠٧] ، قال [لهم](٥) عند ذلك : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨] فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم ، فأقبل بعضهم على بعض ينفخ بعضهم في وجوه بعض وأطبقت عليهم النار.

قوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ) ، يعني : إبليس ، (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) ، أي : فرغ منه فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، قال مقاتل : يوضع له منبر في النار فيرقاه فيجتمع عليه الكفار بالأئمة فيقول لهم ،

__________________

(١) في المطبوع «ولا منجى».

(٢) في المطبوع «يستغيثون».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «فمكث عليهم».

(٥) زيادة عن المخطوط.

٣٥

(إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) ، فوفى لكم به ، (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ).

وقيل : يقول لهم قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار. (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) ، ولاية.

وقيل : لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه ، (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) ، هذا استثناء منقطع معناه : ولكن (دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ، بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان ، (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) ، بمغيثكم ، (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) ، بمغيثي.

قرأ الأعمش وحمزة (بِمُصْرِخِيَ) بكسر الياء ، و [قرأ](١) الآخرون بالنصب لأجل التضعيف ، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر لأن الياء أخت الكسرة ، وأهل النحو لم يرضوه ، وقيل : إنه لغة بني يربوع. والأصل «بمصرخيني» فذهبت النون لأجل الإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي : كفرت بجعلكم إياي شريكا في عبادته وتبرأت من ذلك ، (إِنَّ الظَّالِمِينَ) ، الكافرين ، (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

[١٢١٥] أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا محمد بن أحمد الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود ثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين (٢) بن سعد أخبرني عبد الرحمن بن زياد عن دخين (٣) الحجري عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة ذكر الحديث ثم قال : «يقول عيسى عليه‌السلام ذلكم النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي [من](٤) أطيب ريح شمّها أحد حتى آتي ربي عزوجل فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظهر قدمي ، ثم يقول الكفار : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم [فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون له قد وجد المؤمنون من يشفع لهم](٥) فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ، ثم تعظم جهنم ويقول عند ذلك : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) الآية».

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

__________________

[١٢١٥] ـ ضعيف ، إسناده ضعيف جدا ، فيه رشدين بن سعد ، وهو ضعيف منكر الحديث ، وشيخه عبد الرحمن ضعيف ، دخين هو ابن عامر.

ـ رواه المصنف من طريق ابن المبارك ، وهو في «الزهد» ٣٧٤ «زيادات» عن رشدين بن سعد بهذا الإسناد. وقد توبع رشدين فانحصرت العلة في ابن أنعم ، فقد أخرجه الطبري ٢٠٦٤٦ من طريق سويد عن ابن المبارك به.

ـ وأخرجه الطبراني في «الكبير» ٧ / ٣٢٠ ـ ٣٢١ من طريق عبد الرحمن بن زياد عن دخين به.

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٣٧٦ وقال : وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، وهو ضعيف.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) تصحف في المطبوع «رشيد».

(٣) تصحف في المخطوط «دجين».

(٤) وقع لفظ «من» في المطبوع قبل لفظ «مجلسي».

(٥) سقط من المطبوع.

٣٦

قوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢٣) ، يسلم بعضهم على بعض وتسلم الملائكة عليهم. وقيل : المحيي بالسلام هو الله عزوجل.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، ألم تعلم ، والمثل قول سائر لتشبيه شيء بشيء. (كَلِمَةً طَيِّبَةً) ، هي قول : لا إله إلا الله ، (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) ، وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمرة.

وقال أبو ظبيان عن ابن عباس : هي شجرة في الجنة ، (أَصْلُها ثابِتٌ) ، في الأرض ، (وَفَرْعُها) ، أعلاها ، (فِي السَّماءِ) ، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق فإذا تكلم بها عرجت فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عزوجل. قال الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

(تُؤْتِي أُكُلَها) ، تعطي (١) ثمرها ، (كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ، والحين في اللغة هو الوقت ، وقد اختلفوا في معناه هاهنا فقال مجاهد وعكرمة : الحين هاهنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر كل سنة.

وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن : ستة أشهر من وقت اطلاعها إلى صرامها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل : أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.

وقال سعيد بن المسيب : شهران من حين تؤكل إلى الصرام.

وقال الربيع بن أنس : كل حين أي كل غدوة وعشية لأن ثمر النخل (٢) يؤكل أبدا ليلا ونهارا وصيفا وشتاء ، إما تمرا أو رطبا أو بسرا ، كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار وآخره وبركة إيمانه لا تنقطع أبدا بل تصل إليه في كل وقت. والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة هي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ وأصل قائم وفرع عال كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأبدان.

[١٢١٦] أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أنبأنا عبد الله بن عمرو الجوهري أنا أحمد بن علي الكشمهيني ثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي»؟ قال عبد الله فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ، ثم

__________________

[١٢١٦] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وللحديث طرق.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٤٣ بهذا الإسناد.

ـ وخرجه مسلم ٢٨١١ من طريق علي بن حجر به.

ـ وأخرجه البخاري ٦١ ومسلم ٢٨١١ وابن حبان ٢٤٦ من طرق عن إسماعيل بن جعفر به.

ـ وأخرجه البخاري ١٣١ والترمذي ٢٨٦٧ وأحمد ٢ / ٦١ و ١٥٧ وابن حبان ٢٤٣ من طرق عن ابن دينار به.

ـ وأخرجه البخاري ٤٦٩٨ و ٦١٤٤ ومسلم ٢٨١١ من طريق عبد الله عن نافع عن ابن عمر به.

ـ وأخرجه البخاري ٦١٢٢ وأحمد ٢ / ٣١ وابن مندة في «الإيمان» ١٩٠ من طريق شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر به.

ـ وأخرجه البخاري ٧٢ و ٢٢٠٩ ومسلم ٢٨١١ وأحمد ٢ / ١٢ و ١١٥ والحميدي ٦٧٦ وابن حبان ٢٤٤ من طرق عن مجاهد عن ابن عمر به.

(١) في المطبوع «تغطي».

(٢) في المخطوط «النخلة».

٣٧

قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال : «هي النخلة» قال عبد الله فذكرت ذلك لعمر فقال : لأن تكون قلت هي النخلة كان أحب إلي من كذا وكذا.

وقيل الحكمة في تشبيهها بالنخلة من بين سائر الأشجار أن النخلة [من دون سائر الأشجار](١) أشبه الأشجار بالإنسان من حيث أنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار تتشعب من جوانبها بعد قطع رءوسها ولأنها تشبه الإنسان في أنها لا تحمل إلا بالتلقيح ولأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه‌السلام.

[١٢١٧] ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا عمتكم» قيل : ومن عمتنا؟ [يا رسول الله](٢) قال : «النخلة» (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ). وهي الشرك ، (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) ، وهي الحنظل. وقيل : هي الثوم. وقيل : [هي](٣) الكشوث وهي العشقة ، (اجْتُثَّتْ) ، يعني اقتلعت ، (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) ، ثبات ، معناه وليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح.

قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ، كلمة التوحيد وهي قول لا إله إلا الله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، يعني قبل الموت ، (وَفِي الْآخِرَةِ) ، يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين وقيل : في الحياة الدنيا عند السؤال في القبر ، وفي الآخرة عند البعث. والأول أصح.

[١٢١٨] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو الوليد ثنا شعبة أخبرني علقمة بن مرثد قال : سمعت سعد (٤) بن عبيدة عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ، فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

[١٢١٩] أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا

__________________

[١٢١٧] ـ ضعيف جدا. أخرجه أبو يعلى ٤٥٥ وأبو نعيم في «الحلية» ٦ / ١٢٣ وابن حبان في «المجروحين» ٣ / ٤٤ وابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ١٨٤ من حديث علي بلفظ «أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم ...».

ـ قال ابن الجوزي : لا يصح. مسرور بن سعيد منكر الحديث.

[١٢١٨] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري. أبو الوليد هو هشام بن عبد الملك ، شعبة هو ابن الحجاج.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٥١٤ بهذا الإسناد.

ـ رواه المصنف من طريق البخاري ، وهو في «صحيحه» ٤٦٩٩ عن أبي الوليد به.

ـ وأخرجه البخاري ١٣٦٩ ومسلم ٢٨٧١ وأبو داود ٤٧٥٠ والترمذي ٣٢١٠ من طرق عن شعبة به.

وانظر الحديث الآتي.

[١٢١٩] ـ إسناده صحيح. مسلم هو صاحب الصحيح ، قد توبع هو ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ رواه المصنف من طريق مسلم وهو في «صحيحه» ٢٨٧١ عن محمد بن بشار به.

ـ وأخرجه النسائي في «التفسير» ٢٨٤ وابن ماجه ٤٢٦٩ من طريق محمد بن بشار به.

وانظر الحديث المتقدم.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) تصحف في المطبوع «سعيد».

٣٨

إبراهيم بن محمد بن سفيان أنبأنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) قال : نزلت في عذاب القبر يقال له : من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد ، فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الآية.

[١٢٢٠] وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عياش بن الوليد ثنا عبد الأعلى ثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أنه حدثهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع (١) قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان [له] ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا». قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره ـ ثم رجع إلى حديث أنس قال : «وأما المنافق أو الكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين».

[١٢٢١] أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ثنا عبد الله بن سعيد ثنا أسد بن موسى ثنا عنبسة بن سعيد (٢) بن كثير حدثني جدي عن أبي هريرة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الميت يسمع [حسّ](٣) النعال إذا ولى عنه الناس مدبرين ، ثم يجلس ويوضع كفنه في عنقه ثم يسأل».

[١٢٢٢] وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان

__________________

[١٢٢٠] ـ إسناده على شرط البخاري ، عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى ، سعيد هو ابن أبي عروبة ، قتادة هو ابن دعامة.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٥١٦ بهذا الإسناد.

ـ رواه المصنف من طريق البخاري ، وهو في «صحيحه» ١٣٧٤ عن عياش بن الوليد بهذا الإسناد.

ـ أخرجه البخاري ١٣٣٨ ومسلم ٢٨٧٠ وأبو داود ٤٧٥١ والنسائي ٤ / ٩٧ ـ ٩٨ وأحمد ٣ / ١٢٦ وابن حبان ٣١٢٠ و ٢٣٣ والبيهقي ٤ / ٨٠ من طرق عن سعيد بن أبي عروبة به.

ـ وأخرجه مسلم ٢٨٧٠ ح ٧٠ والنسائي ٤ / ٩٧ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ١٦ و ١٧ من طريق شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة به.

[١٢٢١] ـ إسناده ضعيف ، كثير هو ابن عبيد القرشي مجهول.

ـ وهو في «شرح السنة» ١١٥ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أحمد ٢ / ٤٤٥ وابن حبان ٣١١٨ من وجه آخر عن وكيع عن سفيان الثوري عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة دون عجزه «ثم يجلس ويوضع .....».

وإسناده ضعيف ، لجهالة عبد الرحمن بن أبي كريمة وهو أبو إسماعيل السدي ، ولأصل هذا الحديث شواهد.

[١٢٢٢] ـ أخرجه الترمذي ١٠٧١ من طريق بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وقال : حديث حسن غريب.

ـ وأخرجه ابن حبان ٣١١٧ وابن أبي عاصم في «السنة» ٨٦٤ والآجري في «الشريعة» ٨٧٢ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ٥٦ وإسناده على شرط مسلم ، وفي عبد الرحمن بن إسحاق كلام ينحط حديثه إلى درجة الحسن.

(١) في المطبوع «يسمع».

(٢) تصحف في المطبوع «سعد».

(٣) زيادة عن المخطوط و ـ ط و «شرح السنة» وقد زيد في المخطوط «قرع» قبل لفظ «حسّ» وزيد في المطبوع «خفق» والمثبت عن ط و «شرح السنة».

٣٩

أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير ، فيقولان [له](١) ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم [فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان نم](٢) كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ، وإن كان منافقا أو كافرا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله لا أدري (٣) ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك».

[١٢٢٣] وروي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال : «فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فينتهرانه ويقولان له الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن (٤) فيثبته الله عزوجل ، فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ، قال : فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)».

[١٢٢٤] أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ثنا إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق ثنا هشام بن يوسف ثنا عبد الله بن بحير (٥) عن هانئ مولى عثمان [عن عثمان](٦) قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : «استغفروا لأخيكم وسلوا (٧) له التثبيت ، فإنه الآن يسأل».

وقال عمرو بن العاص في سياق الموت وهو يبكي : فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه حتى أستأنس بكم وانظر ما ذا أراجع به رسل ربي.

__________________

[١٢٢٣] ـ جيد. أخرجه أبو داود ٤٧٥٣ و ٤٧٥٤ وعبد الرزاق ٦٧٣٧ وابن أبي شيبة ٣ / ٣٨٠ ـ ٣٨٢ وأحمد ٤ / ٢٨٧ و ٢٨٨ و ٢٩٥ و ٢٩٦ والطيالسي ٧٥٣ والطبري ٢٠٧٧١ والآجري في «الشريعة» ٨٧٨ والحاكم ١ / ٣٧ ـ ٤٠ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ٢٠ و ٢١ من طرق عن زاذان عن البراء به وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

ـ وقد أعله ابن حبان في صحيحه بإثر حديث ٣١١٧ بالانقطاع بين زاذان والبراء لكن فيه نظر ، فقد صرح زاذان في رواية الحاكم بالسماع من البراء ، فالحديث قوي ، وصححه الحافظ ابن القيم في «تهذيب السنن» ٤ / ٣٣٧.

[١٢٢٤] ـ إسناده حسن ، رجاله ثقات.

ـ وهو في «شرح السنة» بإثر ١٥١٧ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أبو داود ٣٢٢١ عن إبراهيم بن موسى به.

ـ وأخرجه أحمد في «الزهد» ٦٨٤ والحاكم ١ / ٣٧٠ والبيهقي ٤ / ٥٦ وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ٥٨٥ من طرق عن هشام بن يوسف به ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيد في المطبوع و ـ ط و «سنن الترمذي».

(٣) زيد في المطبوع و ـ ط و «سنن الترمذي».

(٤) في المطبوع «المؤمنين».

(٥) تصحف في المطبوع «يحيى».

(٦) زيادة عن «شرح السنة» وكتب التخريج.

(٧) في المطبوع وحده «واسألوا الله».

٤٠