تفسير البغوي - ج ٣

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٣

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

[١٤٢٤] قال أبو رافع : نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال لي : «قل له إن رسول الله يقول لك بعني كذا وكذا من الدقيق وأسلفني إلى هلال رجب» فأتيته فقلت له ذلك فقال والله لا أبيعه ولا أسلفه إلّا برهن ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : «والله لئن باعني وأسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إليه» فنزلت هذه الآية.

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ، لا تنظر ، (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) ، أعطينا ، (أَزْواجاً) ، أصنافا ، (مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، أي زينتها وبهجتها ، وقرأ يعقوب زهرة بفتح الهاء وقرأ العامة بجزمها ، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ، أي لنجعل ذلك فتنة لهم بأن أزيد لهم النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا (وَرِزْقُ رَبِّكَ) ، في المعاد يعني في الجنة ، (خَيْرٌ وَأَبْقى) ، قال أبي بن كعب : من لم يعتز بعز الله تقطعت نفسه حسرات ، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس طال حزنه ، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قلّ علمه وحضر عذابه.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) ، أي قومك. وقيل : من كان على دينك. كقوله تعالى : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ) [مريم : ٥٥] ، (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) ، أي اصبر على الصلاة ، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

(لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) ، لا نكلفك أن ترزق أحدا من خلقنا ، ولا أن ترزق نفسك وإنما نكلفك عملا ، (نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ) ، الخاتمة الجميلة المحمودة ، (لِلتَّقْوى) ، أي لأهل التقوى. قال ابن عباس : يعني الذين صدّقوك واتبعوك واتقوني.

[١٤٢٥] وفي بعض المسانيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان إذا أصاب أهله ضرّ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية».

قوله تعالى : (وَقالُوا) ، يعني المشركين ، (لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ، أي الآية المقترحة فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة ، (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ) ، قرأ أهل المدينة والبصرة وحفص عن عاصم : (تأتهم) [بالتاء] لتأنيث البينة ، وقرأ الآخرون بالياء لتقديم الفعل ، ولأن البينة هي البيان فردّ إلى المعنى ، بينة (ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) ، أي بيان ما فيها ، وهو القرآن أقوى دلالة وأوضح آية : وقيل : أولم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى التوراة والإنجيل وغيرهما من أنباء الأمم أنهم اقترحوا الآيات ، فلما أتتهم ولم يؤمنوا بها ، كيف عجّلنا لهم العذاب والهلاك ، فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك.

__________________

[١٤٢٤] ـ إسناده ضعيف ، والمتن منكر. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٥ من طريق روح عن موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد عن عبد الله بن قسيط عن أبي رافع به.

ـ وفيه موسى بن عبيدة الربذي ، ضعيف ليس بشيء.

ـ وأخرجه الطبري ٢٤٤٥٥ من طريق موسى بن عبيدة بالإسناد السابق مختصرا.

ـ وأخرجه الطبري ٢٤٤٥٦ من وجه آخر من حديث أبي رافع ، وفيه الحسين بن داود ، وهو ضعيف.

ـ ثم إن السورة مكية كما تقدم في مطلعها ، وأما الخبر فمدني.

ـ وانظر «فتح القدير» ١٦١٦ و «الكشاف» ٦٨٨ بتخريجي.

[١٤٢٥] ـ ضعيف. أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٨٩٠ والبيهقي في «الشعب» ٩٧٠٥ وأبو نعيم في «الحلية» ٨ / ١٧٦ من حديث عبد الله بن سلام.

وصححه السيوطي في «الدر» ٤ / ٥٦١.

وقال الهيثمي في «المجمع» ١١١٧٣ : رجال الطبراني ثقات ا ه.

قلت : هو عند أبي نعيم والطبراني «عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام» وهذا منقطع ، وهو عند البيهقي عن يوسف بن عبد الله بن سلام به وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني ، وهو متروك ، فالخبر ضعيف.

ـ وانظر «فتح القدير» ١٦٢٠ بتخريجي.

٢٨١

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ، يعني من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن ، (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا) ، هلّا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) ، يدعونا ، إلى لقاء يوم القيامة ، (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) ، بالعذاب والذل والهوان والخزي والافتضاح.

(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) ، منتظر دوائر الزمان ، وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد حوادث الدهر ، فإذا مات تخلصنا ، قال الله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا) ، فانتظروا ، (فَسَتَعْلَمُونَ) ، إذا جاء أمر الله وقامت القيامة ، (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) ، المستقيم ، (وَمَنِ اهْتَدى) ، من الضلالة نحن أم أنتم؟

تفسير سورة الأنبياء

مكية وهي مائة واثنتا عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥))

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ) ، قيل : اللام بمعنى من ، يعني اقترب من الناس حسابهم ، أي وقت محاسبة الله إيّاهم على أعمالهم ، يعني يوم القيامة ، نزلت في منكري البعث ، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ، عن التأهب له.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) ، يعني ما يحدث الله من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به. قال مقاتل : يحدث الله الأمر بعد الأمر. وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيّنه من السنن والمواعظ سوى [ما في](١) القرآن ، وإضافته (٢) إلى الربّ عزوجل لأنه قال بأمر الرب ، (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ، يعني استمعوه لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون.

__________________

(١) سقط من المطبوع ، وفي ـ ط «ما».

(٢) في المطبوع و ـ ط «وأضافه».

٢٨٢

(لاهِيَةً) ، ساهية غافلة ، (قُلُوبُهُمْ) ، معرضة عن ذكر الله ، وقوله : (لاهِيَةً) نعت تقدم الاسم ، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب ، وإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان فصل ووصل ، فحالته في الفصل النصب كقوله تعالى : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) [القمر : ٧] ، (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) [الإنسان : ١٤] ، و (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ، وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله ، (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) [النساء : ٧٥]. (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، يعني أشركوا ، قوله : (وَأَسَرُّوا) فعل تقدم (١) الجمع وكان حقه وأسر ، قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، أراد : الذين ظلموا أسروا النجوى. وقيل : محل (٢) الذين رفع على الابتداء ، معناه : وأسروا النجوى ، ثم قال : وهم الذين ظلموا. وقيل : رفع على البدل من الضمير في أسروا. قال المبرد : هذا كقولك إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله ، على البدل مما في انطلقوا ثم بيّن سرهم الذي تناجوا به فقال : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة ، (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) ، يعني أتحضرون السحر وتقبلونه ، (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ، تعلمون أنه سحر.

(قالَ) ، لهم محمد ، (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، قرأ حمزة والكسائي وحفص : «قال ربي» ، على الخبر عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي لا يخفى عليه شيء ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) ، لأقوالهم ، (الْعَلِيمُ) ، بأفعالهم.

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، أباطيلها (٣) وأهاويلها رآها في النوم ، (بَلِ افْتَراهُ) ، [أي](٤) اختلقه ، (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) ، يعني أن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله : فقال بعضهم : أضغاث أحلام. وقال بعضهم : بل هو فرية. وقال بعضهم : بل محمد شاعر وما جاءكم به شعر. (فَلْيَأْتِنا) محمد ، (بِآيَةٍ) ، إن كان صادقا (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) ، من الرسل بالآيات.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

قال الله تعالى مجيبا لهم : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ) ، أي قبل مشركي مكة ، (مِنْ قَرْيَةٍ) ، أي من أهل قرية أتتهم الآيات ، (أَهْلَكْناها) ، أهلكناهم بالتكذيب ، (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) ، إن جاءتهم آية ، معناه : [إن](٥) أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، هذا جواب لقولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣] يعني إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالا نوحي إليهم ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ،

__________________

(١) في المخطوط «تقدمه».

(٢) في المطبوع «حمل».

(٣) في المطبوع زيادة «وأقاويلها».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

٢٨٣

يعني أهل التوراة والإنجيل يريد علماء أهل الكتاب فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا ، وإن أنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر المشركين بمساءلتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن به. وقال ابن زيد : أراد بالذكر القرآن [أراد](١) فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن ، (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

(وَما جَعَلْناهُمْ) ، أي الرسل ، (جَسَداً) ، ولم يقل أجسادا لأنه اسم الجنس ، (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) ، هذا ردّ لقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] ، يقول لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام ، (وَما كانُوا خالِدِينَ) ، في الدنيا.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) ، الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم ، (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) ، يعني أنجينا المؤمنين الذين صدّقوهم ، (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ، يعني المشركين المكذبين ، وكل مشرك مسرف على نفسه.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) ، يا معشر قريش ، (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) ، يعني شرفكم ، كما قال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ، وهو شرف لمن آمن به ، وقال مجاهد : فيه حديثكم. وقال الحسن : فيه ذكركم أي ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

(وَكَمْ قَصَمْنا) ، أهلكنا ، والقصم الكسر ، (مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) ، أي كافرة ، يعني أهلها ، (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) ، يعني : أحدثنا بعد هلاك أهلها ، (قَوْماً آخَرِينَ).

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) ، يعني رأوا عذابنا بحاسة البصر (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) ، يعني يسرعون هاربين.

(لا تَرْكُضُوا) ، يعني قيل لهم لا تركضوا لا تهربوا لا تذهبوا ، (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) ، يعني نعمتم به ، (وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) ، قال ابن عباس : عن قتل نبيكم. وقيل (٢) : من دنياكم شيئا ، نزلت الآية في أهل حضوراء (٣) ، وهي قرية باليمن وكان أهلها من العرب ، فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر ، حتى قتلهم وسباهم ، فلما استحر (٤) فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا ، فقالت الملائكة لهم استهزاء لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون ، قال قتادة : لعلكم تسألون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم ، فإنكم أهل ثروة ونعمة ، يقولون ذلك استهزاء بهم ، فاتبعتهم [عسكر](٥) بختنصر وأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من جو السماء يا ثارات الأنبياء ، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المخطوط «وقال قتادة يسألون».

(٣) في المطبوع «حضرموت» وفي ـ ط «حصور» وفي «الدر المنثور» ٤ / ٥٦٤ «حضور» وهو يوافق المخطوط.

(٤) في المطبوع «استمر».

(٥) زيادة عن المخطوط.

٢٨٤

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) ، أي تلك الكلمة وهي قولهم يا ويلنا ، دعاؤهم يدعون بها ويرددونها ، (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) ، بالسيوف كما يحصد الزرع ، (خامِدِينَ) ، ميتين.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١٦) ، أي عبثا وباطلا.

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ، اختلفوا في اللهو ، قال ابن عباس في رواية عطاء : اللهو هاهنا المرأة ، وهو قول الحسن وقتادة ، وقال في رواية الكلبي : اللهو الولد ، وهو قول السدي ، وهو في المرأة أظهر لأن الوطء يسمى لهوا في اللغة ، والمرأة محل الوطء. (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) ، يعني من عندنا من حور العين لا من عندكم من أهل الأرض. وقيل : معناه لو كان جائزا ذلك في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم بل يستر ذلك حتى لا يطلعوا عليه ، وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا ردّ الله عليهم بهذا وقال : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده ، لا عند غيره ، (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ، قال قتادة ومقاتل وابن جريج : «إن» للنفي ، معناه : ما كنا فاعلين. وقيل : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) للشرط أي [إن](١) كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا ، ولكنا لم نفعله لأنه لا يليق بالربوبية.

(بَلْ) ، يعني دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، (نَقْذِفُ) ، نرمي ونسلط ، (بِالْحَقِ) ، بالإيمان ، (عَلَى الْباطِلِ) ، على الكفر ، وقيل : الحق قول الله ، فإنه لا ولد له ، والباطل قولهم اتخذ الله ولدا ، (فَيَدْمَغُهُ) ، يعني يهلكه ، وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ، (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ، ذاهب ، والمعنى : أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ويذهب ، ثم أوعدهم على كذبهم فقال : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) ، يا معشر الكفار. (مِمَّا تَصِفُونَ) ، الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد. وقال مجاهد : مما تكذبون.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣))

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، عبيدا وملكا ، (وَمَنْ عِنْدَهُ) ، يعني الملائكة ، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) ، لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها ، (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) ، لا يعيون ، يقال : حسر واستحسر إذا تعب وأعيا. وقال السدي : لا ينقطعون عن العبادة.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) ، لا يضعفون [ولا يسأمون](٢) ، قال كعب الأحبار : التسبيح لهم كالنّفس لبني آدم.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) استفهام بمعنى الجحد أي لم يتخذوا ، (مِنَ الْأَرْضِ) ، يعني الأصنام من الخشب والحجارة وهما من الأرض ، (هُمْ يُنْشِرُونَ) ، يحيون الأموات ، ولا يستحق الإلهية إلّا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم.

(لَوْ كانَ فِيهِما) ، يعني في السماء والأرض ، (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) ، يعني غير الله ، (لَفَسَدَتا) ، لخربتا وهلك من فيهما بوجود التمانع بين (٣) الآلهة لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام ، ثم نزّه

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المخطوط «من».

٢٨٥

نفسه فقال : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، يعني عما يصفه به المشركون من الشريك والولد.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) ، ويحكم في (١) خلقه لأنه الربّ (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [أي الخلق يسألون](٢) ، عن أفعالهم وأعمالهم لأنهم عبيد.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨))

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ، استفهام إنكار وتوبيخ ، (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) ، يعني حجتكم على ذلك ، ثم قال مستأنفا ، (هذا) ، يعني القرآن. (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) ، فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني (٣) إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. (وَذِكْرُ) ، خبر ، (مَنْ قَبْلِي) ، من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة. وعن ابن عباس في رواية عطاء : ذكر من معي : القرآن ، وذكر من قبلي : التوراة والإنجيل ، ومعناه : راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب هل تجدون فيها أنّ الله اتخذ ولدا ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) ، قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «نوحي» بالنون وكسر الحاء على التعظيم ، لقوله : (وَما أَرْسَلْنا) [الإسراء : ٥٤] ، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول ، (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، وحّدون.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ، نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله ، (سُبْحانَهُ) ، نزّه نفسه عمّا قالوا ، (بَلْ عِبادٌ) ، أي هم عباد ، يعني الملائكة ، (مُكْرَمُونَ).

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) ، لا يتقدمونه بالقول ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ، (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، معناه أنهم لا يخالفونه قولا وفعلا (٤).

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ، [أي ما عملوا وما هم عاملون. وقيل : ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم](٥) ، (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، قال ابن عباس : لمن قال لا إله إلا الله ، وقال مجاهد : إلا لمن رضي [الله](٦) عنه ، (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ، [أي] خائفون لا يأمنون مكره.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) ، قال قتادة (٧) : عنى به إبليس حين دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه ، فإن أحدا من الملائكة لم يقل إنّي إله من دون الله ، (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ، الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.

__________________

(١) في المطبوع «على».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «تبعني».

(٤) في المطبوع «ولا عملا».

(٥) سقط من المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المطبوع «مقاتل».

٢٨٦

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، قرأ العامة بالواو وقرأ ابن كثير ا لم ير بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، معناه : أو لم (١) يعلم الذين كفروا ، (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وعطاء وقتادة : كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ، (فَفَتَقْناهُما) ، فصلنا بينهما بالهواء والرتق في اللغة السدّ ، والفتق الشق ، قال كعب [الأحبار](٢) : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ، ثم خلق ريحا فوسطها ففتحهما بها. قال مجاهد والسدي : كانت السماوات مرتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبع أرضين. قال عكرمة وعطية : كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. وإنما قال : (رَتْقاً) على التوحيد وهو من نعت السماوات والأرض لأنه مصدر وضع موضع الاسم ، مثل الزور والصوم ونحوهما ، (وَجَعَلْنا) ، وخلقنا ، (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) ، أي أحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء حي أي من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر ، يعني أنه سبب لحياة كل شيء. والمفسرون يقولون : يعني أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء. لقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [النور : ٤٥] ، قال أبو العالية : يعني النطفة ، فإن قيل : قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء؟ قيل : هذا على وجه التكثير (٣) ، يعني أن أكثر الأحياء في الأرض مخلوق من الماء أو بقاؤه بالماء ، (أَفَلا يُؤْمِنُونَ).

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ، أي جبالا ثوابت ، (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) ، لئلا تميد بهم ، (وَجَعَلْنا فِيها) ، في الرواسي ، (فِجاجاً) ، طرقا ومسالك ، والفج الطريق الواسع (٤) بين الجبلين ، أي جعلنا بين الجبال طرقا [ومسالك](٥) كي يهتدوا [بها](٦) إلى مقاصدهم ، (سُبُلاً) ، تفسير للفجاج ، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) ، من أن تسقط ، دليله قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج : ٦٥] ، وقيل : محفوظا من الشياطين بالشهب ، دليله قوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧) [الحجر : ١٧] ، (وَهُمْ) ، يعني الكفار ، (عَنْ آياتِها) ، أي عن ما خلق الله فيها من الشمس والقمر والنجوم وغيرها ، (مُعْرِضُونَ) ، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣) ، يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ، وإنما قال : (يَسْبَحُونَ) ، ولم يقل تسبح على ما يقال لما لا يعقل لأنه ذكر عنها (٧) فعل العقلاء من الجري والسبح ، فذكر على ما يعقل ، والفلك مدار النجوم الذي يضمها ، والفلك في كلام العرب كل شيء مستدير وجمعه أفلاك ، ومنه فلكة المغزل.

__________________

(١) في المطبوع (ألم)

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «التفكير».

(٤) في المخطوط «السالك».

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المخطوط «عنهما».

٢٨٧

وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل ، يريد أن الذي يجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة (١). [قال الضحاك : فلكها مجراها وسرعة سيرها. قال مجاهد : كهيئة حديد الرحى](٢). وقال بعضهم : الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب ، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه ، وهو معنى قول قتادة.

وقال الكلبي : الفلك استدارة السماء.

وقال آخرون : الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩))

قوله عزوجل : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) ، دوام البقاء في الدنيا ، (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) ، أي أفهم الخالدون إن مت ، قيل : نزلت هذه الآية حين قال [مشركو مكة](٣) نتربص بمحمد ريب المنون.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ) ، نختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) ، بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر ، وقيل : بما تحبون وما تكرهون ، (فِتْنَةً) ، ابتلاء لننظر كيف شكركم (٤) فيما تحبون ، وصبركم فيما تكرهون ، (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) ، ما يتخذونك ، (إِلَّا هُزُواً) ، سخريا ، قال السدي : نزلت في أبي جهل مرّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك ، وقال : هذا نبيّ بني عبد مناف ، (أَهذَا الَّذِي) ، أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي ، (يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) ، أي يعيبها ، يقال : فلان يذكر فلانا أي يعيبه ، وفلان يذكر الله أي يعظّمه ويبجّله ، (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) ، وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة [الكذاب](٥) ، و «هم» الثانية صلة.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ، اختلفوا فيه ، فقال قوم : معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع ، كما قال الله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] قال سعيد بن جبير والسدي : لما دخلت الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قائما قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فوقع ، فقيل : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ، والمراد بالإنسان آدم ، وأورث أولاده العجلة ، والعرب تقول للذي يكثر من (٦) الشيء : خلقت منه ، كما يقول : خلقت من لعب (٧)

__________________

(١) في المطبوع «الطاحون».

(٢) زيد في المطبوع.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «شكرتم».

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المطبوع «منه».

(٧) في المطبوع «تعب».

٢٨٨

وخلقت من غضب ، تريد المبالغة في وصفه بذلك ، يدل على هذا قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] ، وقال قوم : معناه خلق الإنسان يعني آدم من تعجيل في خلق الله إيّاه ، لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة ، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس. وقال مجاهد : فلما أحيا الروح رأسه [قال](١) يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقيل : بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة وغيرها. وقال قوم : من عجل أي من طين ، قال الشاعر :

والنبع في الصخرة الصماء منتبه (٢)

والنخل ينبت بين الماء والعجل

(سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ، [هذا خطاب للمشركين](٣) ، نزل هذا في المشركين كانوا يستعجلون العذاب ، ويقولون أمطر علينا حجارة من السماء ، وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ، فقال تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي مواعيد [عذابي](٤) فلا تستعجلون ، أي فلا تطلبوا العذاب من [قبل](٥) وقته ، فأراهم يوم بدر ، وقيل : كانوا يستعجلون القيامة.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) ، فقال تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ) ، لا يدفعون (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) ، قيل : ولا عن ظهورهم السياط ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، يمنعون من العذاب ، وجواب لو في قوله : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ) محذوف معناه : لو علموا لما أقاموا على كفرهم ، ولما استعجلوا [العذاب](٦) ، ولا قالوا متى هذا الوعد.

(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣))

(بَلْ تَأْتِيهِمْ) ، يعني الساعة (بَغْتَةً) ، فجأة ، (فَتَبْهَتُهُمْ) ، أي تحيرهم ، يقال فلان مبهوت أي متحير ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ، يمهلون.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ) ، نزل ، (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، أي جزاء استهزائهم.

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) ، يحفظكم ، (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) ، إن أنزل بكم عذابه ، وقال ابن عباس : من يمنعكم من عذاب الرحمن ، (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ) ، عن القرآن ومواعظ الله ، (مُعْرِضُونَ).

(أَمْ لَهُمْ) ، أي : صلة فيه ، وفي أمثاله (آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ، فيه تقديم وتأخير ، تقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم ، ثم وصف الآلهة بالضعف ، فقال تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) ، منع أنفسهم ، فكيف ينصرون عابديهم ، (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) ، قال ابن عباس : يمنعون. وقال عطية عنه :

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) في المطبوع «منبتة».

(٣) زيد في المطبوع.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

٢٨٩

يجارون ، تقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان ، أي مجير منه. وقال مجاهد : ينصرون ويحفظون. وقال قتادة : لا يصحبون (١) من الله بخير.

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩))

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ) ، الكفار ، (وَآباءَهُمْ) ، في الدنيا أي أمهلناهم. وقيل : أعطيناهم النعمة ، (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، أي امتدّ بهم الزمان فاغتروا ، (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) ، أي ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين ، يريد ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتحه ديار الشرك أرضا فأرضا ، (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) ، أم نحن.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) ، أي أخوفكم بالقرآن ، (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) ، قرأ ابن عامر (٢) [تسمع](٣) بالتاء وضمها وكسر الميم ، (الصُّمُ) نصب ، على (٤) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها وفتح الميم ، (الصُّمُ) رفع ، (إِذا ما يُنْذَرُونَ) ، يخوّفون.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ) ، أصابتهم (نَفْحَةٌ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : طرف. وقيل : قليل. وقال ابن جريج : نصيب ، من قولهم نفح فلان لفلان من ماله أي أعطاه حظا ونصيبا منه. وقيل : ضربة من قولهم نفحت الدابة برجلها إذا ضربت بها ، (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ، أي بإهلاكنا إنّا كنّا مشركين ، دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا بالشرك.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) ، أي ذوات القسط والقسط العدل ، (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ، أي : لا ينقص من ثواب حسناتها ولا يزاد على سيئاتها ، وفي الأخبار : إن الميزان له لسان وكفتان (٥). روي أن داود عليه‌السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة [قدر](٦) ما بين المشرق والمغرب ، فغشي عليه ، فلما أفاق قال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ قال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة (٧) ، (وَإِنْ كانَ) ، الشيء ، (مِثْقالَ حَبَّةٍ) ، أي زنة مثقال حبة ، (مِنْ خَرْدَلٍ) ، قرأ أهل المدينة (مثقال) برفع اللام هاهنا وفي سورة لقمان [١٦] ، يعني وإن وقع مثقال حبة من خردل ، ونصبها الآخرون على معنى وإن كان ذلك الشيء مثقال حبة [أي زنة مثقال حبة](٨) من خردل ، (أَتَيْنا بِها)

__________________

(١) في المطبوع «يصبحون».

(٢) في المطبوع «ابن عباس رضي الله عنهما» وهو خطأ من صنع النساخ.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «نصبا ، جعل».

(٥) لا أصل له في المرفوع ، وإنما ورد عن الحسن قوله ، وسيأتي.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المخطوط وحده «بثمرة».

(٨) زيادة عن المخطوط.

٢٩٠

أحضرناها لنجازي بها.

(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) ، قال السدي : محصين ، والحسب معناه : العدل ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : عالمين حافظين ، لأن من حسب شيئا علمه وحفظه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) ، يعني الكتاب المفرّق بين الحق والباطل ، وهو التوراة. وقال ابن زيد : الفرقان النصر (١) على الأعداء ، كما قال الله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] ، يعني يوم بدر لأنه قال (وَضِياءً) ، أدخل الواو فيه أي آتينا موسى النصر والضياء ، وهو التوراة. ومن قال : المراد بالفرقان التوراة ، قال : الواو في قوله : (وَضِياءً) ، زائدة مقحمة ، معناه : آتيناه التوراة ضياء ، وقيل : هو صفة أخرى للتوراة ، (وَذِكْراً) ، تذكيرا ، (لِلْمُتَّقِينَ).

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ، أي يخافونه ولم يروه ، (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) ، خائفون.

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧))

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) ، يعني القرآن وهو ذكر لمن تذكر به مبارك لمن يتبرك به ويطلب منه الخير ، (أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ) ، يا أهل مكة ، (لَهُ مُنْكِرُونَ) ، جاحدون ، وهذا استفهام توبيخ وتعيير.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) ، قال القرطبي : أي صلاحه ، (مِنْ قَبْلُ) ، يعني من قبل موسى وهارون ، وقال المفسرون : رشده من قبل ، أي هداه من قبل البلوغ ، وهو حين خرج من السرب وهو صغير ، يريد هديناه صغيرا كما قال تعالى ليحيى عليه‌السلام : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] ، (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) ، أنه أهل للهداية والنبوة.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ) ، أي الصور ، يعني الأصنام (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) ، يعني على عبادتها مقيمون.

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) (٥٣) ، فاقتدينا بهم.

قال ، إبراهيم ، (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، خطأ بيّن بعبادتكم إيّاها.

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) (٥٥) ، يعنون أصادق (٢) أنت فيما تقول أم لاعب؟

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) ، خلقهن ، (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، يعني على أنه الإله الذي لا يستحق العبادة غيره. وقيل : من الشاهدين على أنه خالق السموات والأرض.

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) ، لأمكرنّ بها ، (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) ، يعني بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم. قال مجاهد وقتادة : إنما قال إبراهيم هذا سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلّا رجل واحد فأفشاه عليه ، وقال : إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.

قال السدي : كان لهم في كل سنة مجمع وعيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام

__________________

(١) في المخطوط «الناصر».

(٢) في المطبوع «أجاد».

٢٩١

فسجدوا لها ، ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك (١) ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه ، وقال إني سقيم ، يقول اشتكى رجله فلما مضوا نادى إبراهيم في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس ، (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهنّ في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه صنم أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدي الآلهة ، وقالوا : إذا رجعنا وقد برّكت الآلهة في طعامنا أكلنا [منه](٢) ، فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام ، قال لهم على طريق الاستهزاء ألا تأكلون ، فلما لم تجبه قال ما لكم لا تنطقون ، فراغ عليهم ضربا باليمين ، وجعل يكسرهم بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلّا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج ، فذلك قوله عزوجل :

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤))

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) ، قرأ الكسائي جذاذا بكسر الجيم أي كسرا وقطعا جمع جذيذ ، وهو الهشيم (٣) مثل خفيف وخفاف ، وقرأ الآخرون بضمها ، مثل الحطام والرفات ، (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ، فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه ، وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من رصاص وشبة وخشب وحجر ، وكان الصنم الكبير من الذهب مكلّلا بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان. قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ، قيل : معناه لعلّهم يرجعون إلى دينه وإلى ما يدعوهم إليه إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها ، وقيل : لعلّهم إليه يرجعون فيسألونه ، فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا الأصنام جذاذا :

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ، يعني من المجرمين.

(قالُوا) يعني [الضعفاء](٤) الذين سمعوا قول إبراهيم وتالله لأكيدن أصنامكم ، (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) ، يعيبهم ويسبهم ، (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) ، هو الذي نظن أنه صنع هذا ، فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) ، قاله نمرود يقول جيئوا به ظاهرا بمرأى من الناس ، (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) ، عليه أنه الذي فعله ، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة ، قاله الحسن وقتادة والسدي ، وقال محمد بن إسحاق (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي يحضرون عقابه وما يصنع به فلما أتوا به.

(قالُوا) ، له (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ).

__________________

(١) في المطبوع «أعجبك».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «الهشم».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٢٩٢

(قالَ) ، إبراهيم ، (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرهنّ ، وأراد بذلك إبراهيم إقامة الحجة عليهم ، فذلك قوله : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، حتى يخبروا بمن (١) فعل ذلك بهم. قال القتيبي : معناه بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون على سبيل الشرط فجعل النطق شرطا للفعل أي إن قدروا على النطق قدروا على الفعل ، فأراهم عجزهم عن النطق ، وفي ضميره أنا فعلت ، وروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله : (بَلْ فَعَلَهُ) ويقول معناه فعله من فعله ، والأول أصح.

[١٤٢٦] لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات ، اثنتان منهن في ذات الله ، قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، وقوله على سارة (٢) «هذه أختي».

وقيل في قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] أي سأسقم ، وقيل : سقيم القلب أي مغتم بضلالتكم ، وقوله على سارة (٣) : هذه أختي أي في الدين ، وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم ، والأول هو الأولى للحديث فيه ، ويجوز أن يكون الله عزوجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم ، كما أذن ليوسف حتى أمر مناديه [أن ينادي](٤) فقال لإخوته : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧]. ولم يكونوا سرقوا.

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) ، أي : فتفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم ، (فَقالُوا) ، ما نراه إلا كما قال ، (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ، يعني بعبادتكم من لا يتكلم [ولم تشعر بمن آذاها](٥). وقيل : أنتم الظالمون لهذا الرجل [في](٦) سؤالكم إيّاه وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها.

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨))

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) ، قال أهل التفسير : أجرى الله الحق على لسانهم في القول الأول ثم أدركتهم الشقاوة ، فهو معنى قوله : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم ، يقال نكس المريض إذا رجع إلى حالته (٧) الأولى ، وقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ، فكيف نسألهم؟ فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليه‌السلام. (قالَ) ، لهم ، (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا

__________________

[١٤٢٦] ـ صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٥٧ و ٣٣٥٨ و ٥٠٨٤ ومسلم ٢٣٧١ وأبو داود ٢٢١٢ وأحمد ٢ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤ والترمذي ٣١٦٦ وابن حبان ٥٧٣٧ والبيهقي ٧ / ٣٦٦ من حديث أبي هريرة مطوّلا.

(١) في المطبوع «من».

(٢) في المطبوع «لسارة».

(٣) في المطبوع «لسارة».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المطبوع «حاله».

٢٩٣

يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) ، إن عبدتموه ، (وَلا يَضُرُّكُمْ) ، إن تركتم عبادته.

(أُفٍّ لَكُمْ) ، يعني تبا وقذرا لكم ، (وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، يعني أليس لكم عقل تعرفون به هذا ، فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب :

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٦٨) ، يعني إن كنتم ناصرين لها ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن الذي قال هذا رجل من الأكراد. وقيل : إن اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، قيل : قاله (١) نمرود ، فلما أجمع نمرود وقومه على إحراق إبراهيم عليه‌السلام حبسوه في بيت وبنوا له بنيانا كالحظيرة. وقيل : بنوا أتونا بقرية يقال لها كوثى ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة حتى كان الرجل يمرض فيقول لئن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم ، وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبن في نار إبراهيم ، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيها وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها ، فتلقيه فيه احتسابا [في دينها](٢). قال ابن إسحاق : كانوا يجمعون الحطب شهرا فلما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب النار فاشتعلت النار [فيه](٣) واشتدت حتى إن كان الطير ليمرّ بها [فتخطفه](٤) فيحترق من شدة وهجها ، فأوقدوا عليها سبعة أيام.

روي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها فجاء إبليس فعلمهم عمل المنجنيق [ليتوصلوا إلى إلقائه فيها](٥) فعملوه ثم عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيّدوه ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة [وضجت ضجة عظيمة](٦) ، أي ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته ، فقال الله عزوجل : إنه خليلي ليس لي غيره خليل ، وأنا إلهه وليس له إله غيري ، فإن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه ، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال [له](٧) إن أردت أخمدت النار ، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل.

وروي عن أبيّ بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار ، فاستقبله جبريل فقال يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال : [إبراهيم](٨) أمّا إليك فلا ، فقال جبريل فسل ربك ، فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي.

__________________

(١) في المطبوع «له».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) زيادة عن المخطوط.

(٨) زيادة عن المخطوط.

٢٩٤

قال كعب الأحبار : جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار.

[١٤٢٧] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](١) المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبيد (٢) الله بن موسى أو ابن سلام عنه (٣) أنا ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل الوزغ ، وقال : «كان ينفخ النار على إبراهيم».

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١))

قال الله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩) ، قال ابن عباس لو لم يقل سلاما لمات إبراهيم من بردها ، ومن المعروف في الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت ، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم ، ولو لم يقل على إبراهيم بقيت ذات برد أبدا. قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس.

قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه ، قالوا : وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام.

قال المنهال بن عمرو : قال إبراهيم ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار.

قال ابن يسار : وبعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، قال (٤) وبعث الله جبريل إليه بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه ، وقال جبريل : يا إبراهيم إن ربك يقول لك أما علمت أن النار لا تضر أحبائي ، ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب ، فناداه يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته ، أن (٥) حال (٦) بينك وبين ما أرى ، يا إبراهيم هل

__________________

[١٤٢٧] ـ إسناده على شرط البخاري.

ـ ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز ، وابن سلام هو محمد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣١٦٠ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٣٣٥٩ عن عبيد الله بن موسى به.

ـ وأخرجه مسلم ٢٢٣٧ ح ١٤٣ وأحمد ٦ / ٤٢١ والدارمي ٢ / ٨٩ وابن حبان ٥٦٣٤ والبيهقي ٥ / ٢١١ و ٩ / ٣١٦ من طرق عن ابن جريج به.

ـ وأخرجه البخاري ٣٣٠٧ ومسلم ٢٢٣٧ ح ١٤٢ والنسائي ٥ / ٢٠٩ وابن ماجه ٢٢٨ ، واحمد ٦ / ٤٦٢ وعبد الرزاق ٨٣٩٥ والحميدي ٣٥٠ وابن أبي شيبة ٥ / ٤٠١ والبيهقي ٥ / ٢١١ من طرق عن سفيان بن عيينة عن عبد الحميد به.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «عبد».

(٣) قال الحافظ في «الفتح» ٦ / ٣٩٤ : كأن البخاري شكّ في سماعه له من عبيد الله بن موسى ـ وهو من أكبر مشايخه ـ وتحقق أنه سمعه من محمد بن سلام عنه ، فأورده هكذا ، وقد وقع له نظير هذا في أماكن عديدة.

(٤) في المطبوع «قالوا».

(٥) في المطبوع «أي».

(٦) في المخطوط «حالت».

٢٩٥

تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم ، قال : هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال : لا ، قال : فقم فاخرج منها ، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها ، فلما خرج إليه قال له : يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في مثل صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله إليّ ربّي ليؤنسني فيها ، فقال نمرود يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حيث أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال له إبراهيم : إذا لا يقبلها منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني ، فقال : لا أستطيع ترك ملتي وملكي ولكن سوف أذبحها ، فذبحها له نمرود ثم كف عن إبراهيم ، ومنعه الله منه.

قال شعيب الجبائي : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة.

قوله : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (٧٠) ، قيل : معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم ، وقيل : معناه إن الله عزوجل أرسل على نمرود وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته.

قوله : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) ، من نمرود وقومه من أرض العراق ، (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) ، يعني الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار ، ومنها بعث أكثر الأنبياء. وقال أبي بن كعب : سماها [الله](١) مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي هي ببيت المقدس.

[١٤٢٨] أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي (٢) أنا عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فبها مهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبره ، فقال كعب : إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين إن الشام كنز الله من أرضه ، وبها كنزه من عباده.

[١٤٢٩] أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الظاهري أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز أنا محمد بن زكريا العذافري أنا إسحاق الدبري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ، فخيار الناس إليّ مهاجر إبراهيم».

__________________

[١٤٢٨] ـ موقوف على كعب. وهو ضعيف لانقطاعه بين قتادة وعمر.

ـ عبد الرزاق بن حمام معمر بن راشد ، قتادة بن دعامة ، كعب بن ماتع الحميري.

ـ رواه المصنف من طريق عبد الرزاق ، وهو في «مصنفه» ١١ / ٢٠٤٥٩ عن معمر بهذا الإسناد.

[١٤٢٩] ـ حديث حسن. إسحاق صدوق ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى شهر بن حوشب ، وهو حسن الحديث إن صرح بالتحديث ، وقد صرح في رواية عبد الرزاق وأحمد ، وللحديث شاهد ضعيف.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٩٠٣ بهذا الإسناد مطوّلا.

ـ وهو في «مصنف عبد الرزاق» ١١ / ٢٠٧٩٠ عن معمر به مطوّلا.

ـ وأخرجه أحمد ٢ / ١٩٨ و ١٩٩ من طريق عبد الرزاق به.

ـ وأخرجه أحمد ٢ / ٢٠٩ والطيالسي ٢٢٩٢ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٧٠ من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة به.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المخطوط «الزيادي».

٢٩٦

وقال محمد بن إسحاق : استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به من جعل النار عليه بردا وسلاما على خوف من نمرود وملئه وأمن به لوط ، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارخ ، وهاران هو أخو إبراهيم وكان لهما أخ ثالث يقال له تاخور بن تارخ ، وآمنت به أيضا سارة وهي بنت عمه وهي سارة بنت هاران الأكبر ، عم إبراهيم فخرج من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربه ، ومعه لوط وسارة ، كما قال الله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت : ٢٦] ، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه ، حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله ، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، فنزل السبع من أرض فلسطين ، وهي برية (١) الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة ، أو أقرب ، فبعثه الله نبيا فذلك قوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٧١).

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦))

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) ، قال مجاهد وعطاء : معنى النافلة العطية وهما جميعا من عطاء الله نافلة يعني عطاء. وقال الحسن والضحاك : فضلا. وعن ابن عباس وأبيّ بن كعب وابن زيد وقتادة رضي الله عنهم : النافلة هو يعقوب لأن الله عزوجل أعطاه إسحاق بدعائه حيث قال : (هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] ، وزاده (٢) يعقوب وهو ولد الولد ، والنافلة الزيادة ، (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) ، يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، يقتدى بهم في الخير (٣) يهدون بأمرنا يدعون الناس إلى ديننا ، (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ، يعني العمل بالشرائع ، (وَإِقامَ الصَّلاةِ) ، يعني المحافظة عليها ، (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) ، إعطاءها ، (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) ، موحدين.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ) ، يعني وآتينا لوطا ، وقيل : واذكر لوطا آتيناه ، (حُكْماً) ، يعني الفصل بين الخصوم بالحق ، (وَعِلْماً) ، (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) ، يعني سدوما و [هي القرية

__________________

ـ وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٧١ من حديث ابن عمر ، وفي إسناده راو لم يسم ، ومع ذلك هو شاهد لما قبله.

ـ وأخرجه أحمد ٣ / ٨٤ من طريق أبي جناب عن شهر بن حوشب قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...

وأبو جناب ضعيف.

ـ الخلاصة : هو حديث حسن بطرقه وشاهده ، والله أعلم.

(١) في المخطوط «وهو يريد».

(٢) في المطبوع «وزاد».

(٣) في المطبوع «الخيرات».

٢٩٧

التي](١) كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أخر ، كانوا يعملونها من المنكرات ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ).

(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥).

(وَنُوحاً إِذْ نادى) ، دعا ، (مِنْ قَبْلُ) ، يعني من قبل إبراهيم ولوط ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) ، قال ابن عباس : من الغرق وتكذيب قومه. وقيل : لأنه كان أطول الأنبياء عمرا وأشدهم بلاء والكرب أشد الغم.

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

(وَنَصَرْناهُ) ، منعناه ، (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، أن يصلوا إليه بسوء. وقال أبو عبيدة : يعني على القوم ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ).

قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) ، اختلفوا في الحرث ، قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وأكثر المفسرين : كان الحرث كرما قد تدلّت عناقيده. وقال قتادة : كان زرعا ، (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) ، يعني رعته ليلا فأفسدته ، والنفش الرعي بالليل والهمل بالنهار وهما الرعي بلا راع ، (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) ، يعني كان ذلك بعلمنا وبمرأى منّا لا يخفى علينا علمه. قال الفراء [هو](٢) جمع اثنين ، فقال لحكمهم وهو يريد داود وسليمان لأن الاثنين جمع وهو مثل قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) [النساء : ١١] ، وهو يريد أخوين.

قال ابن عباس وقتادة والزهري : وذلك أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث (٣) والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع إن هذا انفلتت غنمه ليلا ووقعت في حرثي فأفسدته فلم يبق منه شيء فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث ، فخرجا فمرا على سليمان فقال : كيف قضى بينكما فأخبراه ، فقال سليمان لو وليت أمركما (٤) لقضيت [بينكما](٥) بغير هذا.

وروي أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود فدعاه فقال كيف تقضي؟ ويروى أنه قال [له](٦) بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ، قال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه ، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه ، فقال داود القضاء ما قضيت وحكم بذلك. وقيل : إن سليمان يوم حكم بذلك كان ابن إحدى عشرة سنة ، وأما حكم الإسلام في هذه المسألة أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها ، وما أفسدته بالليل ضمنه ربها (٧) لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار ، والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «زرع».

(٤) في المطبوع «أمرهما».

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) في المطبوع «ضمنته بها».

٢٩٨

[١٤٣٠] أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت (١) المواشي بالليل ضامن (٢) على أهلها».

وذهب أصحاب الرأي إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما أتلفت ماشيته ليلا كان أو نهارا.

قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ، أي علمناه القضية وألهمناها سليمان ، (وَكُلًّا) ، يعني داود وسليمان ، (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، قال الحسن : لو لا هذه الآية لرأيت الحكام قد أهلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده. واختلف العلماء في أن حكم داود كان بالاجتهاد أو بالنص ، وكذلك حكم سليمان ، فقال بعضهم : فعلا بالاجتهاد. وقالوا يجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين ، إلّا أن داود أخطأ وأصاب سليمان. وقالوا : يجوز الخطأ على الأنبياء إلّا أنهم لا يقرون عليه ، فأما العلماء فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب ولا سنة ، فإذا أخطئوا فلا إثم عليهم ، فإنه موضوع عنهم ، لما :

[١٤٣١] أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا

__________________

[١٤٣٠] ـ صحيح ، رجاله رجال البخاري ومسلم غير حرام بن سعد ، وهو ثقة ، إلّا أنه لم يدرك البراء ، لكن للحديث طرق ، وسيأتي موصولا.

أبو مصعب ، أحمد بن أبي بكر ، مالك بن أنس ، ابن شهاب محمد بن مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢١٦٢ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الموطأ» ٢ / ٧٤٧ ـ ٧٤٨ عن ابن شهاب به.

ـ ومن طريق مالك أخرجه الشافعي ٣ / ١٠٧ والطحاوي في «المشكل» ٦١٥٩ وفي «المعاني» ٣ / ٢٠٣ والدار قطني ٣ / ١٥٦ والبيهقي ٨ / ٣٤١.

ـ وأخرجه الطحاوي في «المشكل» ٦١٦٠ والبيهقي ٨ / ٣٤٢ من طريق سفيان عن الزهري به.

ـ وأخرجه النسائي في «الكبرى» ٥٧٨٧ وأحمد ٥ / ٤٣٦ عن سعيد بن المسيب مرسلا.

ـ وأخرجه أبو داود ٣٥٦٩ وأحمد ٥ / ٤٣٦ والدار قطني ٣ / ١٥٤ ـ ١٥٥ وابن حبان ٦٠٠٨ والبيهقي ٨ / ٣٤٢ من طريق عبد الرزاق معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء .... وهو في «المصنّف» برقم ١٨٤٣٧.

ـ وأخرجه النسائي في «الكبرى» ٥٧٨٤ من طريق الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه محيصة بن مسعود ، أن ناقة للبراء .....

ـ وأخرجه الدار قطني ٣ / ١٥٥ من طريق الزهري عن حرام عن أبيه عن البراء.

ـ وانظر «أحكام القرآن» ١٤٩٧ بتخريجي.

[١٤٣١] ـ إسناده صحيح ، الشافعي ثقة إمام ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى عبد العزيز بن محمد ، وهو الدراوردي ، فإنه من رجال مسلم ، روى له البخاري مقرونا.

الشافعي محمد بن إدريس ، أبو قيس عبد الرحمن بن ثابت.

ـ وهو في «شرح السنة» ٢٥٠٣ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «مسند الشافعي» ٢ / ١٧٦ عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد. ـ

(١) في المطبوع «فأفسدته».

(٢) في المطبوع «ضمان» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة».

٢٩٩

الربيع بن سليمان أنا الشافعي أنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر».

وقال قوم : إن داود وسليمان حكما بالوحي ، فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ، وهذا القائل يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عن الاجتهاد بالوحي ، وقالوا لا يجوز الخطأ على الأنبياء ، واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر الآية وبالخبر حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ ، وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيبا بل إذا اختلف اجتهاد مجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه ، ولو كان كل واحد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى.

وقوله عليه‌السلام : «وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (١) ، لم يرد به أنه يؤجر على [الخطأ بل يؤجر على](٢) اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة ، والإثم في الخطأ عنه موضوع (٣) إذا لم يأل جهده.

[١٤٣٢] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب (٤) أنا أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها (٥) إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان وأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى».

قوله تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ، أي وسخرنا الجبال والطير يسبحن مع داود إذا سبح ، قال ابن عباس : كان [داود](٦) يفهم تسبيح الحجر والشجر. وقال وهب : كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير. وقال قتادة : يسبحن أي يصلين معه إذا صلى. وقيل : كان داود إذا فتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) [يعني](٧) ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير.

__________________

ـ وأخرجه مسلم ١٧١٦ وأبو داود ٣٥٧٤ وابن حبان ٥٠٦١ وابن ماجه ٢٣١٤ والدار قطني ٤ / ٢١٠ و ٢١١ من طرق عن عبد العزيز به.

ـ وأخرجه البخاري ٧٣٥٢ ومسلم ١٧١٦ وأحمد ٤ / ١٩٨ و ٢٠٤ والدار قطني ٤ / ٢١١ والبيهقي ١٠ / ١١٨ و ١١٩ وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» ٢ / ٧١ من طرق عن يزيد بن الهاد به.

[١٤٣٢] ـ إسناده على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو اليمان هو الحكم بن نافع ، شعيب هو ابن أبي حمزة ، أبو الزناد عبد الله بن ذكوان الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٣٤٢٧ و ٦٧٦٩ عن أبي اليمان بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ١٧٢٠ والنسائي ٨ / ٢٣٤ و ٢٣٥ و ٢٣٦ وأحمد ٢ / ٣٢٢ و ٣٤٠ وابن حبان ٥٠٦٦ والبيهقي ١٠ / ٢٦٨ من طرق عن أبي الزناد به.

(١) هو الحديث المتقدم.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) في المخطوط «موضع».

(٤) زيد في المطبوع «عن الزهري».

(٥) تصحف في المطبوع «فقال صاحبتهما».

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) زيادة عن المخطوط.

٣٠٠