تفسير البغوي - ج ٣

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٣

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

فيه الشخوص يرى فيه الصغير كبيرا والقصير طويلا ، والرقراق يكون بالعشايا وهو ما ترقرق من السراب ، أي جاء وذهب. والقيعة : جمع القاع وهو المنبسط الواسع من الأرض ، وفيه يكون السراب ، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) ، أي يتوهمه العطشان ، (ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي : جاء ما قدر أنه ماء. وقيل : جاء موضع السراب ، (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ، على ما قدره وحسبه ، كذلك الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا أتاه ملك الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولا نفعه. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) ، أي عند عمله ، أي وجد الله بالمرصاد. وقيل : قدم على الله ، (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) ، أي جزاء عمله ، (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

(أَوْ كَظُلُماتٍ) ، وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول مثل أعمالهم من فسادهم وجهالتهم [وضلالهم](١) فيها كظلمات ، (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) ، وهو العميق الكثير الماء ، ولجة البحر معظمه ، (يَغْشاهُ) ، يعلوه ، (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) ، متراكم ، (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) ، قرأ ابن كثير برواية القواس «سحاب» بالرفع والتنوين ، «ظلمات» ، بالجر على البدل من قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ).

وروى أبو الحسن البزي (٢) عنه : (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بالإضافة ، وقرأ الآخرون «سحاب ظلمات» كلاهما بالرفع والتنوين ، فيكون تمام الكلام عند قوله (سَحابٌ) ثم ابتدأ فقال (ظُلُماتٌ) ، (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ، ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر بعضها فوق بعض ، أي : ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج فوق الموج ، وظلمة السحاب على ظلمة الموج ، أراد بالظلمات أعمال الكافر وبالبحر اللجي قلبه ، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه.

وقال أبيّ بن كعب : في هذه الآية الكافر ينقلب في خمس (٣) من الظلم : فكلامه ظلمة : وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار. (إِذا أَخْرَجَ) ، يعني الناظر ، (يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) ، يعني لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمة. وقال الفراء «يكد» صلة أي لم يرها ، قال المبرد : يعني لم يرها إلّا بعد الجهد ، كما يقول القائل : ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ، ولكن بعد بأس وشدة. وقيل : معناه قرب من رؤيتها ولم يرها ، كما يقال : كاد النعام يطير. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ، قال ابن عباس : من لم يجعل الله له دينا وإيمانا فلا دين له. وقيل : من لم يهد الله فلا إيمان له ولا يهديه أحد. وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر. والأكثرون على أنه عام في جميع الكفار.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) ، باسطات أجنحتهن في الهواء. قيل خص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) تصحف في المطبوع «البري».

(٣) في المطبوع «خمسة».

٤٢١

من في السماء والأرض ، (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ، قال مجاهد : الصلاة لبني آدم ، والتسبيح لسائر الخلق. وقيل إن ضرب الأجنحة صلاة الطير وصوته تسبيحه. قوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ) أي : كل مصل ومسبح علم الله صلاته وتسبيحه. وقيل : معناه كل مصل ومسبح منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي) ، يعني يسوق بأمره ، (سَحاباً) ، إلى حيث يريد ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) ، يعني يجمع (١) بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) ، متراكما بعضه فوق بعض ، (فَتَرَى الْوَدْقَ) ، يعني المطر ، (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ، وسطه وهو جمع الخلل ، كالجبال جمع الجبل. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) ، يعني : ينزل البرد ، و «من» صلة ، وقيل : معناه وينزل من السماء من جبال أي مقدار جبال في الكثرة من البرد ، و «من» في قوله (مِنْ جِبالٍ) صلة أي : ينزل من السماء جبالا من برد. وقيل : معناه وينزل من جبال في (٢) السماء تلك الجبال من برد. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أخبر الله عزوجل أن في السماء جبالا من برد ، ومفعول الإنزال محذوف تقديره : وينزل من السماء من جبال فيها بردا (٣) ، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه. قال أهل النحو ذكر الله تعالى «من» ثلاث مرات في هذه الآية فقوله (مِنَ السَّماءِ) لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء ، وقوله تعالى : (مِنْ جِبالٍ) للتبعيض لأن ما ينزله الله تعالى بعض تلك الجبال التي في السماء ، وقوله تعالى : (مِنْ بَرَدٍ) للجنس (٤) لأن تلك الجبال من جنس البرد. (فَيُصِيبُ بِهِ) ، يعني بالبرد (مَنْ يَشاءُ) ، [فيهلك زروعه وأمواله ، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ)](٥) ، فلا يضره ، (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) ، يعني ضوء برق السحاب ، (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ، من شدة ضوئه وبريقه ، وقرأ أبو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما يأتي بالليل ويذهب بالنهار [ويأتي بالنهار](٦) ويذهب بالليل.

[١٥٤٠] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا

__________________

[١٥٤٠] ـ إسناد صحيح على شرط البخاري لتفرده عن الحميدي.

ـ الحميدي هو عبد الله بن الزبير ، سفيان بن عيينة ، الزهري محمد بن مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٢٨٢ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٨٢٦ عن الحميدي بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٧٤٩١ ومسلم ٢٢٤٦ ح ٢ وأبو داود ٥٢٧٤ وأحمد ٢ / ٢٣٨ والحميدي ١٠٩٦ وابن حبان ٥٧١٥ والبيهقي ٣ / ٣٦٥ من طريق عن سفيان به.

ـ وأخرجه مسلم ٢٢٤٦ وأحمد ٢ / ٢٧٥ من طريق عن الزهري به.

(١) في المطبوع «بجمع».

(٢) في المطبوع «من».

(٣) تصحف في المطبوع «برد».

(٤) في المطبوع «للتجنيس».

(٥) سقط من المخطوط.

(٦) سقط من المطبوع.

٤٢٢

محمد بن إسماعيل أنا الحميدي أنا سفيان أنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تعالى : «يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار».

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) ، يعني في ذلك الذي ذكرت من هذه الأشياء ، (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ، يعني دلالة لذوي العقول والبصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) ، قرأ حمزة والكسائي «خالق كل» بالإضافة ، وقرأ الآخرون «خلق كل» على الفعل ، (مِنْ ماءٍ) ، يعني من نطفة وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل فيه الملائكة ولا الجن ، لأنا لا نشاهدهم. وقيل : أصل جميع الخلق من الماء ، وذلك أن الله تعالى خلق ماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة ، وبعضه نارا فخلق منها الجن ، وبعضها طينا فخلق منها آدم ، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) ، كالحيات والحيتان والديدان ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) ، مثل بني آدم والطير ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) ، كالبهائم والسباع ، ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع مثل حشرات الأرض لأنها في الصورة كالتي يمشي على الأربع ، وإنما قال : (مَنْ يَمْشِي) ، و «من» إنما تستعمل فيمن يعقل دون من لا يعقل من الحيات والبهائم ، لأنه ذكر كل دابة ، فدخل فيه الناس وغيرهم ، وإذا جمع اللفظ من يعقل ومن لا يعقل تجعل الغلبة لمن يعقل. (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

(لَقَدْ أَنْزَلْنا) ، إليك ، (آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا). يعني المنافقين. يقولونه ، (ثُمَّ يَتَوَلَّى) ، يعرض عن طاعة الله ورسوله ، (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أي من بعد قولهم آمنا ، ويدعو إلى غير حكم الله. قال الله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).

[١٥٤١] نزلت هذه الآية في بشر المنافق كان (١) بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمدا يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) ، الرسول يحكم (٢) بحكم الله ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ، يعني عن الحكم. وقيل : عن الإجابة.

__________________

[١٥٤١] ـ ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٥ بدون إسناد ، وتقدم في سورة النساء ، عند نحو هذه الآية ، فانظره.

(١) في المطبوع «كانت».

(٢) زيد في المطبوع «بحكم».

٤٢٣

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (٤٩) ، مطيعين منقادين لحكمه ، يعني إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم (١) بأنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا بالحق.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا) ، يعني شكوا ، هذا استفهام ذم وتوبيخ ، يعني هم كذلك ، (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) ، يعني [أي يظلمهم](٢) ، (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بإعراضهم عن الحق.

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) ، إلى كتاب الله ورسوله ، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) ، هذا ليس على طريق الخبر ولكنه تعليم أدب الشرع على معنى أن المؤمنين كذا ينبغي أن يكونوا ، ونصب القول على الخبر واسمه في قوله تعالى : (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، يعني سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : فيما ساءه وسره ويخشى الله على ما عمل من الذنوب. (وَيَتَّقْهِ) ، فيما بعده ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) ، الناجون قرأ أبو عمرو وأبو بكر «يتقه» ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر وقالون ويعقوب ، كما في نظائرها ويشبعها الباقون كسرا ، وقرأ حفص «يتقه» بسكون القاف واختلاس الهاء ، وهذه اللغة (٣) إذا سقطت الياء للجزم يسكنون ما قبلها يقولون لم أشتر طعاما بسكون الراء.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وجهد اليمين أن يحلف بالله ولا حلف فوق الحلف بالله ، (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا وإن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ، فقال تعالى : (قُلْ) ، لهم ، (لا تُقْسِمُوا) ، لا تحلفوا ، وقد تم الكلام ، ثم قال : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) ، يعني هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة يعني أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، هذا معنى قول مجاهد رضي الله عنه. وقيل : معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل. وقال مقاتل بن سليمان لكن منكم طاعة معروفة. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) ، يعني تولوا عن طاعة الله ورسوله ، (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) ، يعني على الرسول ما كلّف وأمر به من تبليغ الرسالة ، (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) ، من الإجابة والطاعة ،(وَإِنْ

__________________

(١) في المطبوع «لثقتهم».

(٢) في المطبوع «يعني بظلم».

(٣) في المخطوط «لغة».

٤٢٤

تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، أي التبليغ البين.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ).

[١٥٤٢] قال أبو العالية : في هذه الآية مكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، وكانوا يصبحون ويمسون خائفين ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه فقال رجل منهم : أما يأتي علينا يوم نؤمن فيه ونضع السلاح ، فأنزل الله هذه الآية.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني والله ليستخلفنّهم أي ليورثنّهم أرض الكفار من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها ، (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، قرأ أبو بكر عن عاصم «كما استخلف» بضم التاء وكسر اللام على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الآخرون بفتح التاء واللام لقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ) قال قتادة : «كما استخلف» داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء. وقيل : كما استخلف الذين من قبلهم أي بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم ، (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) ، أي اختار ، قال ابن عباس : يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان ، (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) ، قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف من الإبدال ، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبديل ، وهما لغتان ، وقال بعضهم : التبديل تغير حال إلى حال ، والإبدال رفع الشيء وجعل غيره مكانه ، (مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي) ، آمنين ، (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) ، فأنجز الله وعده وأظهر دينه ونصر أولياءه وأبدلهم بعد الخوف أمنا وبسطا في الأرض.

[١٥٤٣] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن الحكم أنا النضر أنا إسرائيل أنا سعد الطائي (١) أنا محل (٢) بن خليفة عن

__________________

[١٥٤٢] ـ أخرجه الطبري ٢٦٧٩ عن أبي العالية مرسلا بأتم منه.

ووصله الحاكم ٢ / ٤٠١ والواحدي ٦٤٧ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٦ ـ ٧ عن أبي بن كعب به ، وإسناده لا بأس به.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٨٣ باختصار شديد ، وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» ورجاله ثقات ا ه.

ـ وانظر «الكشاف» ٧٦٤ و «أحكام القرآن» ١٦١٠ بتخريجي.

[١٥٤٣] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري.

ـ النضر هو ابن شميل ، إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، سعد الطائي هو أبو مجاهد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤١٣٣ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٣٥٩٥ عن محمد بن الحكم بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أحمد ٤ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ وابن حبان ٦٦٧٩ والبيهقي في «الدلائل» ٥ / ٣٤٢ من طريق حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد عن أبي عبيدة بن حذيفة عن عدي بن حاتم بنحوه.

ـ وأخرجه أحمد ٤ / ٢٥٧ والبيهقي ٥ / ٣٤٣ من طريق محمد بن سيرين عن أبي عبيدة عن رجل عن عدي بنحوه.

(١) تصحف في المطبوع «سعيد الطاهري».

(٢) تصحف في المطبوع «محمد».

٤٢٥

عدي بن حاتم قال : بينا أنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل ، فقال : «يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها ، قال : فإن طالت بك حياة فلترينّ الظعينة ترحل (١) من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله ، قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد ، ولئن طالت بك حياة لتفتحنّ كنوز كسرى ، قلت : كسرى بن هرمز؟ قال : كسرى بن هرمز ، لئن طالت بك حياة لترينّ الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه ، وليقينّ الله أحدكم يوم [القيامة](٢) وليس بينه وبينه ترجمان يترجم ، فليقولنّ له ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول : بلى ، فيقول ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول : بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنّم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم» ، قال عدي : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» ، قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج [الرجل](٣) ملء كفه.

وفي الآية دلالة على خلافة الصديق وإمامة الخلفاء الراشدين.

[١٥٤٤] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](٤) المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم

__________________

[١٥٤٤] ـ إسناده على شرط الصحيح.

ـ سفينة هو مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يكنى أبا عبد الرحمن يقال كان اسمه مهران ، لقب سفينة لكونه حمل شيئا كثيرا في السفر.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٧٥٨ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «مسند علي بن الجعد» ٣٤٤٦ عن حماد بن سلمة به.

ـ وأخرجه ابن حبان ٦٩٤٣ من طريق أبي يعلى عن علي بن الجعد به.

ـ وأخرجه أحمد ٥ / ٢٢٠ و ٢٢١ والحاكم ٣ / ٧١ وابن أبي عاصم في «السنة» ١١٨١ والطبراني في «الكبير» ١٣ و ١٣٦ و ٦٤٤٢ والطحاوي في «المشكل» ٣٣٤٩ من طرق عن حماد بن سلمة به.

ـ وأخرجه أبو داود ٤٦٤٦ والحاكم ٣ / ١٤٥ وابن حبان ٦٦٥٧ والطبراني ٦٤٤ والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٣٤١ من طريقين عن عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن جمهان به.

ـ وأخرجه الترمذي ٢٢٢٦ وأحمد ٥ / ٢٢١ والطيالسي ١١٠٧ والطبراني في «الكبير» ٦٤٤٢ والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٣٤٢ من طريق حشرج بن نباتة عن سعيد بن جمهان به.

ـ وأخرجه أبي داود ٤٦٤٧ والنسائي في «الكبرى» ٨١٥٥ والطبراني ١٣٦ و ٦٤٤٣ من طريق العوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان به.

ـ قال الترمذي : وهذا حديث حسن ، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ، ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان.

ـ وللحديث شاهد.

من حديث أبي بكرة «خلافة نبوة ثلاثون عاما ثم يؤتي الله الملك من يشاء» أخرجه أبو داود ٤٦٣٥ وأحمد ٥ / ٤٤ و ٥٠ وابن أبي شيبة ١٢ / ١٨ وابن أبي عاصم ١٣٣٥ والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٣٤٢ و ٣٤٨.

وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف.

ـ ومن حديث أبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل «إنه بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة ثم كائن».

(١) في المطبوع «ترتحل».

(٢) في المخطوط «تلقاه».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

٤٢٦

البغوي أنا علي بن الجعد أخبرني حماد هو ابن سلمة بن دينار عن سعيد (١) [بن](٢) جمهان عن سفينة قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا». ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشرا و [خلافة](٣) عثمان اثنتي عشرة ، و [خلافة](٤) علي ستا قال علي : قلت لحماد سفينة القائل لسعيد أمسك؟ قال : نعم.

قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ، أراد به كفران النعمة ، ولم يرد الكفر بالله ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، العاصون لله ، قال أهل التفسير : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه ، فلما قتلوه غيّر الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا.

[١٥٤٥] أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد النعيمي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن [أبي](٥) نصر أنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن (٦) حيدرة المعروف بالطرابلسي أنا إسحاق بن إبراهيم بن (٧) عباد عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى اليوم ، فو الله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبدا ، فو الله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم يزل مغمودا عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسلله الله ثم لا يغمده عنكم ، إما قال أبدا وإما قال إلى يوم القيامة ، فما قتل نبي قط إلّا قتل به سبعون ألفا ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨))

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) ، أي افعلوها على رجاء الرحمة. (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، قرأ [ابن](٨) عامر وحمزة «لا يحسبن» بالياء أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) ، وقرأ الآخرون بالتاء يقول لا تحسبن يا محمد الذين كفروا معجزين

__________________

[١٥٤٥] ـ إسناده ضعيف ، إسحاق بن إبراهيم قد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم إلا أنه منقطع بين حميد وابن سلام فهذه علة الحديث.

ـ ورواه المصنف من طريق عبد الرزاق ، وهو في «مصنفه» ٢٠٩٦٣ عن معمر بهذا الإسناد.

(١) تصحف في المطبوع «سيد».

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) في المخطوط «عن».

(٧) في المخطوط «عن».

(٨) سقط من المطبوع.

٤٢٧

فائتين عنا ، (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، الآية.

[١٥٤٦] قال ابن عباس رضي الله عنهما وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة [كره عمر](١) رؤيته ذلك فأنزل الله هذه الآية.

[١٥٤٧] وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت [أبي](٢) مرثد كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ).

اللام لام الأمر (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني العبيد والإماء ، (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) ، من الأحرار وليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ، ولكن لم يبلغوا. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، أي ليستأذنوا في ثلاث أوقات ، (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) ، يريد المقبل ، (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) ، وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد ، من العبيد والصبيان [فأمرهم](٣) بالاستئذان في هذه الأوقات ، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) ، قرأ حمزة والكسائي [وأبو بكر](٤) «ثلاث» بنصب التاء بدلا من قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، وقرأ الآخرون بالرفع ، أي هذه الأوقات ثلاث عورات لكم ، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته ، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) ، جناح ، (وَلا عَلَيْهِمْ) ، يعني (٥) العبيد والخدم والصبيان ، (جُناحٌ) ، في الدخول عليكم من غير استئذان ، (بَعْدَهُنَ) ، أي بعد هذه الأوقات الثلاثة ، (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ، أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالكم (٦) بغير إذن ، (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي يطوف (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : [هو](٧) منسوخ.

قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، فكان الولائد والخدم يدخلون فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، فقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان ، وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة.

__________________

[١٥٤٦] ـ لم أقف له على إسناد.

ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٨ عن ابن عباس بدون إسناد.

ـ وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٣ / ٢٥٣ : هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما بغير سند.

قلت : فهو لا شيء ، لخلوه عن الإسناد.

[١٥٤٧] ـ كذا ذكره الواحدي في «الأسباب» ٦٤٩ عن مقاتل معلقا ، وإسناده إليه أول الكتاب.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) سقط من المطبوع.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) في المطبوع «على».

(٦) في المطبوع وحده «أشغالهم».

(٧) زيادة عن المخطوط.

٤٢٨

روى سفيان عن موسى بن [أبي](١) عائشة قال (٢) : سألت الشعبي عن هذه الآية (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أمنسوخة هي؟ قال : لا والله ، قلت : إن الناس لا يعملون بها ، قال : الله المستعان.

وقال سعيد بن جبير في هذه الآية : إن ناسا يقولون نسخت ، والله ما نسخت ، ولكنها مما تهاون به الناس.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي : الاحتلام يريد الأحرار الذين بلغوا ، (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) ، أي يستأذنوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم ، (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، من الأحرار والكبار. وقيل : يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى ، (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) ، دلالاته. وقيل : أحكامه ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) ، بأمور خلقه ، (حَكِيمٌ) ، بما دبّر لهم. قال سعيد بن المسيب : يستأذن الرجل على أمه فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك. وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته؟ قال : نعم وإن لم يفعل رأى منها ما تكره.

قوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) ، يعني اللاتي قعدن عن الولد والحيض (٣) من الكبر فلا يلدن ولا يحضن ، واحدتها قاعد بلا هاء. وقيل : قعدن عن الأزواج ، وهذا معنى قوله : (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) ، أي لا يردن الرجال لكبرهن.

قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعدة إذا كبرت لأنها تكثر القعود. وقال ربيعة الرأي : هنّ العجّز اللواتي إذا رأوهن الرجال استقذروهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في هذه الآية ، (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) ، عند الرجال ، يعني يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب ، والقناع ، الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه.

وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأبيّ بن كعب «أن يضعن من ثيابهن» ، (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) ، أي من غير أن يردن بوضع الجلباب ، والرداء إظهار زينتهن ، والتبرج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره (٤) ، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) ، فلا يلقين الجلباب والرداء ، (خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) تصحف في المطبوع «قالت».

(٣) في المخطوط «المحيض».

(٤) في المطبوع «تتنزه عنه».

٤٢٩

تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) الآية ، اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أنزل الله عزوجل قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] تحرّج المسلمون على مؤاكلة المرضى والزّمنى والعمي [والعرج](١) ، وقالوا الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل. والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب. والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية ، وعلى هذا التأويل يكون «على» بمعنى في أي ليس في الأعمى يعني ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض [حرج](٢). وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج ربما أخذ مكان الاثنين ، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد نزلت الآية ترخيصا (٣) لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله في هذه الآية ، كان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون اذهب بنا إلى بيت غيره؟ فأنزل الله هذه الآية.

وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمانهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم.

قال الحسن : نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد. قال تم الكلام عند قوله : (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) ، وقوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) كلام منقطع عمّا قبله. وقيل : لما نزل قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، قالوا لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ، أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم. قيل : أراد من أموال عيالكم وأزواجكم ، وبيت المرأة كبيت الزوج. وقال ابن قتيبة : أراد من بيوت أولادكم نسب [بيوت](٤) الأولاد إلى الآباء.

[١٥٤٨] كما جاء في الحديث : «أنت ومالك لأبيك» ، (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

__________________

[١٥٤٨] ـ صحيح. أخرجه أبو داود ، ٣٥٣٠ وابن ماجه ٢٢٩٢ وأحمد ٢ / ١٧٩ وابن الجارود ٩٩٥ والطحاوي في «المعاني» ٤ / ١٥٨ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وإسناده حسن.

وللحديث شواهد منها :

ـ حديث جابر أخرجه ابن ماجه ٢٢٩١ والطحاوي في «المشكل» ١٥٩٨ وفي «المعاني» ٤ / ١٥٨ وقال البوصيري في

(١) سقط من المطبوع.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) في المطبوع «ترخصا».

(٤) زيادة من المخطوط و «الوسيط» ٣ / ٣٢٩.

٤٣٠

إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : عني بذلك وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته ، ولا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر.

وقال الضحاك : يعني من (١) بيوت عبيدكم ومماليككم ، وذلك أن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح الخزائن ، لقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] ويجوز أن يكون الذي يفتح به وقال عكرمة : إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير.

وقال السدي : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه. وقال قوم أو ما ملكتم مفاتحه ما خزنتموه عندكم. قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم (٢) وملكتم ، (أَوْ صَدِيقِكُمْ) ، الصديق الذي صدقك في المودة.

[١٥٤٩] قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو رضي الله عنه خرج غازيا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلف مالك بن زيد على أهله. فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل طعامك بغير إذنك فأنزل الله هذه الآية.

وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم (٣) بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية ، والمعنى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) ، من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ، من غير أن تتزودوا وتحملوا. قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً).

نزلت في بني ليث بن عمرو ، وهم حي من بني كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج.

وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية.

وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزلت بهم ضيف إلا مع

__________________

ـ «الزوائد» إسناده صحيح على شرط البخاري.

ـ وحديث عائشة أخرجه ابن حبان ٤١٠ وإسناده حسن في الشواهد وانظر «أحكام القرآن» ١١٦٢ لابن العربي بتخريجي.

[١٥٤٩] ـ ذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٨٠٧ وقال : أخرجه الثعلبي في «تفسيره» عن ابن عباس.

(١) في المطبوع «في».

(٢) في المخطوط «ادخرتم».

(٣) كذا في النسخ والمخطوط و «الوسيط» ٣ / ٣٣٠ وفي نسخة للوسيط «والمحترم» وفي «القاموس» : الحريم :

الشريك ..... ومن الدار : ما أضيف إلينا من حقوقها ، والحرمة : ما لا يحل انتهاكه ... ا ه. وكأن المراد والله أعلم هذا الأخير والله أعلم.

٤٣١

ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا «جميعا» [مجتمعين](١) «أو أشتاتا» متفرقين ، (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، أي ليسلم بعضكم على بعض ، هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته ، وهو قول جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار ، قال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهو أحق من سلمت عليه ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. حدّثنا أن الملائكة ترد عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لم يكن في البيت أحد فليقل السلام علينا [من ربنا السلام علينا](٢) وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله.

وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) قال : إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ). نصب على المصدر أي تحيون [أنفسكم](٣) تحية ، (مُبارَكَةً طَيِّبَةً) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حسنة جميلة. وقيل : ذكر البركة والطيبة هاهنا لما فيه من الثواب والأجر. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) ، أي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) ، يجمعهم من حرب حضرت أو صلاة أو جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل ، (لَمْ يَذْهَبُوا) ، لم يتفرقوا عنه [و](٤) لم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر ، (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).

[١٥٥٠] قال المفسرون : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم.

قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده. قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ، وإذ استأذن فالإمام [بالخيار](٥) إن شاء أذن له

__________________

[١٥٥٠] ـ ذكره الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٣١ نقلا عن المفسرين ولم أقف على إسناده ، فهو مما لا أصل له ، والمراد في ذلك الجهاد ، ويدخل في ذلك كل أمر جامع ، لكن سياق الآيات يشير إلى الجهاد.

ـ وانظر تفسير الطبري ٢٦٢٥٧ و ٢٦٢٥٨ و ٢٦٢٥٩.

(١) سقط من المطبوع.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

٤٣٢

وإن شاء لم يأذن ، وهذا إذا لم يكن له سبب يمنعه من المقام ، فإذا حدث سبب يمنعه من المقام بأن يكون في المسجد فتحيض منهم امرأة أو يجنب رجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ، أي أمرهم ، (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، في الانصراف ، معناه إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يقول احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب [لنزول البلاء بكم](١) ليس كدعاء غيره. وقال مجاهد وقتادة : لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا [ابن](٢) عبد الله ولكن فخموه وشرّفوه ، فقولوا : يا نبي الله يا رسول الله في لين وتواضع ، (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) ، أي : يخرجون (مِنْكُمْ لِواذاً) ، [يستتر بعضكم ببعض ويزوغ خفية](٣) ، فيذهب ، واللواذ مصدر لاوذ يلاوذ ملاوذة ، ولواذا ، وقيل : كان هذا في حفر الخندق فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختفين.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لواذا أي يلوذ بعضهم ببعض ، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار ، ومعنى قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) للتهديد بالمجازاة ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ، أي أمره ، و «عن» صلة. وقيل : معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه. (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي لئلا تصيبهم فتنة ، قال مجاهد : بلاء في الدنيا ، (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، وجيع في الآخرة. وقيل : عذاب أليم عاجل في الدنيا. ثم عظّم نفسه :

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

فقال : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ملكا وعبيدا ، (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، من الإيمان والنفاق أي يعلم ، و «قد» صلة (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) ، يعني يوم البعث ، (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) ، من الخير والشر ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

[١٥٥١] أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه (٤) حدثنا

__________________

[١٥٥١] ـ موضوع ، إسناده ساقط ، فيه محمد بن إبراهيم الشامي ، قال عنه الذهبي في «الميزان» ٣ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦ قال الدار قطني : كذاب ، وقال ابن حبان : يضع الحديث ، ثم ذكر الذهبي أحاديث ومنها حديث الباب هذا ، وقال صدق الدار قطني.

ـ وأخرجه الخطيب ١٣ / ٢٢٤ وابن الجوزي في «الموضوعات» ٢ / ٢٦٩ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٠٢ من طريقين عن محمد بن إبراهيم الشامي بهذا الإسناد.

(١) زيد في المطبوع.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) العبارة في المطبوع «أي يستر بعضكم بعضا ويروغ في خيفة».

(٤) تصحف في المخطوط «نجويه».

٤٣٣

عبيد (١) الله بن محمد بن [أبي](٢) شيبة حدثنا محمد بن أحمد (٣) الكرابيسي حدثنا سليمان بن توبة (٤) أبو داود الأنصاري أنا محمد بن إبراهيم الشامي ثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة [رضي الله عنها](٥) قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهنّ الكتابة وعلموهنّ الغزل ، وسورة النور».

تفسير سورة الفرقان

مكية [وهي سبع وسبعون آية](٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢))

(تَبارَكَ) ، تفاعل ، من البركة ، وعن ابن عباس : معناه جاء بكل بركة ، دليله قول الحسن : مجيء البركة من قبله ، وقال الضحاك : تعظم ، (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) ، أي القرآن ، (عَلى عَبْدِهِ) ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ، أي : للجن والإنس. قيل : النذير هو القرآن. وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ، مما يطلق عليه صفة المخلوق ، (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ، فسوّاه وهيأه لما يصلح له لا خلل فيه ولا تفاوت ، وقيل : قدر لكل شيء تقديرا من الأجل والرزق ، فجرت المقادير على ما خلق. قوله عزوجل :

__________________

ـ وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٩٦ والبيهقي في «الشعب» ٢٤٥٣ من طريق عبد الوهاب بن الضحاك عن شعيب بن إسحاق ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.

ـ وصححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي بقوله : بل موضوع ، وآفته عبد الوهّاب بن الضحاك قال أبو حاتم : كذاب.

ـ وورد من حديث ابن عباس أخرجه ابن عدي ٢ / ١٥٣ ومن طريقه ابن الجوزي ٢ / ٢٦٨ وفيه جعفر بن نصر أعله ابن عدي به ، وقال : حدّث عن الثقات بالبواطيل ، وله أحاديث موضوعات عليهم.

(١) في المطبوع «عبد».

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) تصحف في المطبوع «إبراهيم».

(٤) زيد في المطبوع «حدثنا».

(٥) زيادة عن المخطوط.

(٦) زيد في المطبوع وحده ، ويشبه أن يكون من عمل النساخ أو بعض من علق على الكتاب قديما ، والله أعلم.

٤٣٤

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨))

(وَاتَّخَذُوا) ، يعني عبدة الأوثان ، (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ، يعني : الأصنام ، (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، أي دفع ضر ولا جلب نفع ، (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً) ، أي إماتة وإحياء ، (وَلا نُشُوراً) ، أي بعثا بعد الموت.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، يعني النضر بن الحارث وأصحابه ، (إِنْ هَذا) ، ما هذا القرآن ، (إِلَّا إِفْكٌ) ، كذب ، (افْتَراهُ) ، اختلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ، قال مجاهد : يعني اليهود. وقال الحسن : هو عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن. وقيل : جبر ويسار وعداس بن عبيد ، كانوا بمكة من أهل الكتاب فزعم المشركون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ منهم ، قال الله تعالى : (فَقَدْ جاؤُ) ، يعني قائلي هذه المقالة ، (ظُلْماً وَزُوراً) ، أي بظلم وزور. فلما حذف الباء انتصب ، يعني جاءوا شركا وكذبا بنسبتهم كلام الله تعالى إلى الإفك والافتراء.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) ، يعني النضر بن الحارث كان يقول : إنّ هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون مثل حديث رستم وإسفنديار ، اكتتبها انتسخها محمد من جبر ويسار وعداس ، ومعنى اكتتب يعني طلب أن يكتب له لأنه كان لا يكتب ، (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) ، يعني تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها ، (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، غدوة وعشيا. قال الله عزوجل ردا عليهم :

(قُلْ أَنْزَلَهُ) ، يعني القرآن ، (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) ، يعني الغيب (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) ، يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (يَأْكُلُ الطَّعامَ) ، كما نأكل نحن ، (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، يلتمس المعاش كما نمشي فلا يجوز أن يمتاز عنّا بالنبوة ، وكانوا يقولون له لست أنت بملك [ولا يملك](١) ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل. وما قالوه فاسد لأن أكله الطعام لكونه آدميا ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له وشيء من ذلك لا ينافي النبوة. (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) ، فيصدقه ، (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) ، داعيا.

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) ، أي : ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى التردد والتصرف في طلب المعاش ، (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) [أي](٢) بستان ، (يَأْكُلُ مِنْها) ، قرأ حمزة والكسائي «نأكل» بالنون أي نأكل نحن منها ، (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) ، مخدوعا. وقيل : مصروفا عن الحق.

__________________

(١) سقط من المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

٤٣٥

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))

(انْظُرْ) ، يا محمد ، (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) ، يعني الأشباه ، فقالوا : مسحور محتاج وغيره ، (فَضَلُّوا) ، عن الحق ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) ، إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) ، الذي قالوا أو أفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش ، ثم بيّن ذلك الخير فقال : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) ، بيوتا مشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيّد قصرا ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر ، ويجعل برفع اللام ، وقرأ الآخرون بجزمها على محل الجزاء في قوله : إن شاء الله جعل لك.

[١٥٥٢] أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني أنا أبو طاهر محمد بن [أحمد](١) بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن أيوب حدثني عبيد (٢) الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ، ـ أو قال ثلاثا ـ أو نحو هذا ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك».

[١٥٥٣] حدثنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي أنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أنا

__________________

[١٥٥٢] ـ إسناده ضعيف جدا. عبيد الله بن زحر وثقه قوم وضعفه آخرون ، وعلي بن يزيد متروك الحديث ، القاسم بن عبد الرحمن ضعفه أحمد وغيره ، وقد ورد بهذا الإسناد أحاديث كثيرة واهية.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٩٣٩ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الزهد ابن المبارك» بإثر ١٩٦ «زيادات نعيم بن حماد» عن يحيى بن أيوب بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه الترمذي ٢٣٤٧ وابن سعد ١ / ٢٨٩ وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ٨٣٧ من طرق عن ابن المبارك به.

ـ وأخرجه أبو الشيخ ٨٣٦ من طريق مطرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر به.

[١٥٥٣] ـ صدره إلى «الكعبة» دون «جاءني مالك» ضعيف ، وباقي الحديث له شواهد يصح بها إن شاء الله.

ـ إسناده ضعيف لضعف أبي معشر ، واسمه نجيح السندي ، وبخاصة في المقبري ، وقال أبو حاتم الرازي لم يسمع سعيد من عائشة. سعيد المقبري هو ابن أبي سعيد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٥٧٧ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «مسند أبي يعلى» ٤٩٢٠ عن محمد بن بكار بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أبو الشيخ ٦١٠ عن أبي يعلى بهذا الإسناد.

ـ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٩ / ١٩ وقال : رواه أبو يعلى وإسناده حسن.

(١) زيادة من المخطوط.

(٢) زيادة من المخطوط.

٤٣٦

أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ أنا أبو يعلى ثنا محمد بن بكار ثنا أبو معشر عن سعيد يعني المقبري عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك أن حجزته لتساوي الكعبة ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول إن شئت نبيا عبدا ، وإن شئت نبيا ملكا فنظرت إلى جبريل فأشار إليّ أن ضع نفسك ، [وفي رواية ابن عباس : فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جبريل كالمستشير له فأشار جبريل بيده أن تواضع](١) ، فقلت : نبيا عبدا» قالت (٢) : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول : «آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد».

قوله عزوجل : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) ، بالقيامة ، (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) ، نارا مستعرة.

(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، قال الكلبيّ والسدي : من مسيرة عام. وقيل : من مسيرة مائة سنة. وقيل : خمسمائة سنة.

[١٥٥٤] روي (٣) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنّم مقعدا».

قالوا : وهل لها من عينين؟ قال : «نعم ألم تسمعوا قول الله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)».

وقيل : إذا رأتهم زبانيتها. (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) ، غليانا كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب. (وَزَفِيراً) صوتا فإن قيل : كيف يستمع التغيظ؟ قيل : معناه رأوا وعلموا أن لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا ، كما قال الشاعر :

__________________

ـ كذا قال رحمه‌الله والصواب أن إسناده ضعيف. قال الذهبي في «الميزان» ٤ / ٢٤٦ قال ابن معين : ليس بقوي ، وضعفه علي المديني ، وقال : كان يحدث عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب بأحاديث صالحة ، وكان يحدث عن المقبري ونافع بأحاديث منكرة ، وضعفه النسائي والدار قطني ، وقال البخاري وغيره : منكر الحديث.

[١٥٥٤] ـ ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٦٢٨٧ عن خالد بن دريك عن رجل من الصحابة ، وإسناده ضعيف فيه أصبغ بن زيد ضعفه ابن سعد ، ووثقه ابن معين ، وله علة ثانية : خالد بن دريك روايته عن الصحابة ، مرسلة ، فالخبر واه ، وتواتر لفظ «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». والوهن في تمام الحديث مع لفظ «عينيّ جهنم».

(١) تنبيه : ما بين المعقوفتين أي رواية ابن عباس هي عند المصنف في «شرح السنة» ٣٥٧٨ وأبي الشيخ في «أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ٦١١ وإسناده لين من أجل محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، فإنه مقبول ، لكن يصلح حديثه في الشواهد.

ـ وأخرجه النسائي في «الكبرى» ٣٥٧٨ من طريق محمد بن عبد الله بن عباس عن أبيه.

ـ وللحديث شواهد منها :

ـ وحديث أبي أمامة وهو الحديث المتقدم ، إلا أنه شديد الضعف ، فلا فائدة منه.

ـ وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد ٢ / ٢٣١ وأبو يعلى ٦١٠٥ والبزار ٦٤٦٢ وابن حبان ٦٣٦٥ وإسناده صحيح وذكره الهيثمي في «المجمع» ٩ / ١٨ وقال : ورجاله رجال الصحيح.

ـ وحديث ابن عمر أخرجه الطبراني ١٣٣٠٩ وإسناده ضعيف ، لضعف يحيى بن عبد الله البابلتي كما في «المجمع» ٨ / ٣٣٢ لكن يصلح شاهدا.

ـ ومرسل الزهري أخرجه ابن سعد ١ / ٢٨٨.

ـ ومرسل محمد بن عمير أخرجه المصنف في «شرح السنة» ٣٥٧٥.

ـ الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده دون صدره إلى قوله «لتساوي الكعبة».

(٢) في المطبوع «قال».

(٣) في المطبوع «ثبت».

٤٣٧

ورأيت زوجك في الوغى

متقلدا سيفا ورمحا

أي وحاملا رمحا. وقيل : سمعوا لها تغيظا أي : صوت التغيظ من التلهب والتوقد. قال عبيد بن عمير : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) ، قال ابن عباس : يضيق عليهم الزج في الرمح ، (مُقَرَّنِينَ) ، مصفّدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل : مقرنين مع الشياطين في السلاسل ، (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) ، قال ابن عباس : ويلا. وقال الضحاك : هلاكا.

[١٥٥٥] وفي الحديث : «إنّ أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول : يا ثبوراه ، وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي (١) يا ثبوراه وينادون (٢) يا ثبورهم ، فيقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) ، قيل : أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة.

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧))

قوله عزوجل : (قُلْ أَذلِكَ) ، يعني الذي ذكرته من صفة النار وأهلها ، (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً) ، ثوابا ، (وَمَصِيراً) ، مرجعا.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦) ، مطلوبا ، ذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، يقول : كان أعطى الله المؤمنين جنة خلد وعدا وعدهم على طاعتهم إيّاه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي : الطلب من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر : ٨].

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) ، قرأ ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب وحفص «يحشرهم» بالياء وقرأ الباقون بالنون ، (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، قال مجاهد : من الملائكة والجن والإنس وعيسى وعزير. وقال

__________________

[١٥٥٥] ـ ضعيف ، أخرجه أحمد ٣ / ١٥٢ و ١٥٤ و ٢٤٩ وابن أبي شيبة ١٣ / ١٦٨ والبزار ٣٤٩٥ «الكشف» والطبري ٢٦٢٩٤ والخطيب ١١ / ٢٥٣ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٣٦ وأبو نعيم ٦ / ٢٥٦ من حديث أنس.

وإسناده ضعيف ، لضعف علي بن زيد ، وقد تفرد به.

وصححه السيوطي في «الدر» ٥ / ١١٧ فلم يصب.

وقال الهيثمي في «المجمع» ١٨٦١١ رجاله رجال الصحيح ، غير علي بن زيد ، وقد وثق.

وفيما قاله نظر ، إذ كان عليه أن يضعف علي بن زيد وقد ضعفه الجمهور ، وهو الذي استقر عليه ابن حجر في «التقريب» حيث قال : ضعيف ، وعبارة الهيثمي توهم أنه لم يضعف ، وقد وثقه بعضهم.

(١) في المطبوع «فينادون».

(٢) في المطبوع «وينادي».

٤٣٨

عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام ثم يخاطبهم (١) ، (فَيَقُولُ) ، قرأ ابن عامر بالنون والآخرون بالياء ، (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) ، أخطئوا الطريق.

(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

(قالُوا سُبْحانَكَ) ، نزهوا الله من أن يكون معه آلهة ، (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) ، يعني ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل أنت ولينا من دونهم. وقيل : ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك. وقرأ أبو جعفر «أن نتخذ» بضم النون وفتح الخاء فتكون «من» الثاني صلة ، (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) ، في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة ، (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) ، تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن. وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه ، (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) ، يعني هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان ، رجل يقال له بائر ، وقوم بور ، وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ، ومنه بوار السلعة وهو كسادها. وقيل هو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) ، هذا خطاب مع المشركين ، أي : كذبكم المعبودون ، (بِما تَقُولُونَ) ، إنهم آلهة ، (فَما تَسْتَطِيعُونَ) ، قرأ حفص بالتاء يعني العابدين ، وقرأ الآخرون بالياء يعني : الآلهة. (صَرْفاً) يعني صرف العذاب عن أنفسهم ، (وَلا نَصْراً) يعني ولا نصر أنفسهم. وقيل : ولا نصركم أيها العابدون من عذاب الله بدفع العذاب عنكم وقيل الصرف الحيلة ، ومنه قول العرب : إنه ليصرف أي يحتال ، (وَمَنْ يَظْلِمْ) ، يشرك ، (مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً).

قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، يا محمد ، (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ).

[١٥٥٦] روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما عيّر المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، أنزل الله عزوجل هذه الآية.

يعني ما أنا إلا رسول وما كنت بدعا من الرسل ، وهم كانوا بشرا يأكلون الطعام ، (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ). وقيل : معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر : ما يقال لك إلّا ما قد قيل للرسل من قبلك ، (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) ، أي بلية فالغني فتنة للفقير ، يقول الفقير ما لي لم أكن مثله ، والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع. وقال ابن عباس : أي جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم (٢) ، وتتبعوا الهدى.

__________________

[١٥٥٦] ـ ضعيف جدا. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦٥٥ من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مطوّلا.

وجويبر متروك ، والضحاك لم يلق ابن عباس.

(١) في المخطوط «يخاطبها».

(٢) في المخطوط «أخلاقكم».

٤٣٩

وقيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع ، وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال أسلم بعده فيكون له عليّ السابقة والفضل ، فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام ، فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وهذا قول الكلبي.

وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحارث. وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة وذويهم قالوا نسلم فنكون مثل هؤلاء (١).

وقال مقاتل : نزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش ، كانوا يقولون انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا ، فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين : (أَتَصْبِرُونَ) يعني على هذه الحال من الفقر والشدة والأذى ، (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) ، بمن صبر وبمن جزع.

[١٥٥٧] أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن [الحيري](٢) أنا أبو العباس الأصم ثنا زكريا بن يحيى المروزي ثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من [هو](٣) دونه في المال والجسم».

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣))

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ، أي لا يخافون البعث ، قال الفراء : الرجاء بمعنى الخوف لغة تهامة ، ومنه قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) [نوح : ١٣] أي : لا تخافون لله عظمة. (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) ، فيخبرونا (٤) أن محمدا صادق ، (أَوْ نَرى رَبَّنا) ، فيخبرنا بذلك ، (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) ، أي تعظموا. (فِي أَنْفُسِهِمْ) ، بهذه المقالة ، (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً). قال مجاهد : عتوا طغوا [قال مقاتل : عتوا غلوا](٥) في القول والعتو أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به.

__________________

[١٥٥٧] ـ صحيح ، إسناده حسن ، زكريا بن يحيى صدوق حسن الحديث ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم ، أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٩٩٥ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه أحمد ٢ / ٢٤٣ وابن حبان ٧١٤ من طريق سفيان بن عيينة بنحوه.

ـ وأخرجه البخاري ٦٤٩٠ ومسلم ٢٩٦٣ ج ٨ يقين عن أبي الزناد به.

ـ وأخرجه مسلم ٢٩٦٣ وعبد الرزاق ٧١٤ وأحمد ٢ / ٣١٤ وابن حبان ٧١٢ من طريق معمر عن همام عن أبي هريرة بلفظ : «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق ، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضّل عليه».

وانظر الحديث المتقدم في سورة الحجر عند آية : ٨٨.

(١) عزاه المصنف لمقاتل ، وإسناده إليه أول الكتاب ، وهو معضل ، ومقاتل إن كان ابن حبان ففيه ضعف ، وإن كان ابن سليمان فهو كذاب ، وبكل حال الخبر غير حجة.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «فتخبرنا».

(٥) زيادة عن المخطوط.

٤٤٠