بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-061-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٨

ثم إنه أشكل أيضا ، بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر ، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الاخبار بما تحمله ، لا التخويف والانذار ، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد (١).

______________________________________________________

(١) هذا اشكال ذكره الشيخ (قدس‌سره) في الرسائل على الوجوه الثلاثة في الآية وبيانه : ان الوجوه الثلاثة مبنية على وجوب الحذر عقيب الانذار الواجب ، ولا يتم دلالتها على حجية الخبر الا بكون انذار المنذرين انما هو بالرواية منهم والحكاية لما سمعوه ، أما لو كان انذار المنذرين الذي يجب الحذر بعده كان مبنيا على رأي المنذر واعمال اجتهاده فتكون الآية دالة على حجية رأي المجتهد في حق المقلد ولا تكون مربوطة بحجية رواية الراوي وخبره.

واما كون انذار المنذر هو المبتني على رأيه لا على روايته فلان الانذار المشتمل على التخويف هو الذي يقتضي ان يتعقبه الخوف من المنذر ـ بالفتح ـ ومن الواضح ان شأن الراوي بما هو راو نقل ما سمع من الاحكام والمعارف ، ومدلول الحكم الذي ينقله الراوي لا يشتمل على تخويف وتهديد ، وانما مدلوله الطلب اما لفعل الشيء او تركه ، وانما يكون المنذر مخوفا ومهددا بانذاره حيث يعمل رأيه ويقول ـ مثلا ـ هذه الاحكام واجبة او محرمة والوجوب والتحريم تركهما يستلزم سخط الله وعقابه.

والحاصل : ان الذي تفقه بالمعارف والاحكام اذا عمل رأيه كان منذرا ومخوفا ، وكان ما يبلغه انذارا وتخويفا ، واما اذا اقتصر على النقل المحض فلا يكون ما يبلغه انذارا وتخويفا.

وبعبارة اخرى : ان الانذار هو انشاء التخويف من المنذر لا نقله للحكم بما هو نقل محض ، وانشاء المنذر بما هو انشاء منه هو شان المجتهد المرشد لا شان الراوي الناقل ، فان انشاءه مستند الى رأيه واجتهاده ونقله مستند الى روايته وسماعه ، والى

٣٨١

قلت : لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الاول في نقل ما تحملوا من النبي صلى الله عليه وعلى أهل بيته الكرام أو الامام عليه‌السلام من الاحكام إلى الانام ، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام.

ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الابلاغ والانذار والتحذير بالبلاغ ، فكذا من الرواة ، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف ، كان نقله حجة بدونه أيضا ، لعدم الفصل بينهما جزما ، فافهم (١).

______________________________________________________

هذا اشار بقوله : «بان الآية لو سلم على وجوب الحذر مطلقا» سواء كان بالاحكام الواقعية او غيرها : اي سواء افاد العلم او لم يفد ، ولكنها انما تدل على حجية رأي المجتهد ولا ربط بحجة رواية الراوي بما هو راوي «فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر حيث» ان الخوف الواجب هو المتعقب للانذار و «انه» أي الانذار «ليس شان الراوي» بما هو راو فان شان الراوي ليس «إلّا الاخبار بما تحمله» من الاحكام «لا التخويف والانذار وانما هو» أي التخويف والانذار «شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة الى المسترشد او المقلد».

(١) توضيح الجواب ان الشيخ (قدس‌سره) ان كان مراده ان الراوي بما هو راو ليس شانه ان يخوف وانما هو شان المجتهد والمرشد ـ فالجواب ما اشار اليه المصنف وهو ان الآية حيث دلت على وجوب الحذر عند انذار المنذر مطلقا سواء نقل الحكم غير المشتمل على انشاء التخويف او نقله وأنشأ التخويف ايضا ، والاجماع قائم على عدم الفصل بين نقله للحكم غير المجامع للتخويف وبين نقله للحكم مع انشاء التخويف ايضا معه ، والرواة في الصدر الاول كانوا يجمعون بين الرواية والارشاد ، وهم في حال كونهم رواة مرشدون ايضا ، فالآية اذا دلت على حجية نقل المنذر اذا انضم اليه منه التخويف والانذار كان نقله حجة ايضا فيما اذا لم ينضم اليه منه الانذار والتخويف.

٣٨٢

ومنها : آية الكتمان ، إن الذين يكتمون ما أنزلنا ... الآية.

______________________________________________________

وان كان مراد الشيخ (قدس‌سره) ان الآية انما تدل على خصوص حجية المنذر بما هو منذر ومنشئ للتخويف ، وان للراوي حيثيتين : حيثية كونه راويا وناقلا وهو من هذه الحيثية ليس بمنذر ، وحيثية كونه منذرا ومنشئا للانذار وان حقيقة الانذار داخل في قوامها انشاء التخويف.

فالجواب عنه يكون بغير النحو الذي اشار اليه المصنف ، وذلك بان نقول ان الانذار هو الكلام المشتمل على التخويف ، وهو يكون تارة بانشاء المنذر واعمال رأيه واجتهاده فيما فهمه من الكلام الذي سمعه.

واخرى يكون بنقله لنفس كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشتمل على التخويف ، والنبي كما يذكر للطائفة النافرة الاحكام كذلك يذكر لها الكلام المشتمل على الوعظ والتخويف ، فالراوي كما يكون راويا للحكم الذي سمعه كذلك يكون راويا للإنذار الذي سمعه ، وكما يصدق الانذار منه على التخويف الذي ينشئه كذلك يصدق الانذار منه على الكلام الذي سمعه المشتمل على التخويف والتهديد ، ولا يختص صدق الانذار بخصوص انشائه ، بل يشمله ويشمل نقله له ايضا ، واذا كان نقل الراوي حجة في نقله لما سمعه من النبي المشتمل على التخويف كان نقله حجة ايضا في الحكم ايضا ، لوضوح انه لا فرق بينهما من حيث الحجية لروايته بما هي رواية سواء كانت روايته حكما او كانت روايته كلاما يدل على التخويف ، هذا كله اذا لم نقل بان الراوي الناقل للحكم المحض هو منذر ايضا لان الانذار هو التخويف سواء كان بمدلول الكلام المطابقي او كان بما يستلزمه اقتضاء ، فان الحكم من الوجوب والحرمة يقتضي التخويف والتهديد ، لان الوجوب هو طلب الفعل الذي يستحق تاركه العقاب ، والحرمة هي طلب الترك الذي يستحق فاعله العقاب ، فنقل الحكم المحض يدل ضمنا أو اقتضاء على التخويف والتهديد ، ولعل المصنف اشار الى هذا الاحتمال في كلام الشيخ والجواب عنه بقوله : «فافهم».

٣٨٣

وتقريب الاستدلال بها : إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا ، للزوم لغويته بدونه (١) ، ولا يخفى أنه لو سلمت هذه الملازمة

______________________________________________________

(١) هذه الآية الثالثة التي استدل بها لحجية خبر الواحد ، وهي قوله تعالى في سورة البقرة مؤنبا لعلماء اهل الكتاب : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١).

وتقريب الاستدلال بها ان الآية قد دلت على حرمة كتمان البينات والهدى ، ولا شك في شمول البينات والهدي للاصول والفروع ، وكما ان علامات النبوة التي وردت في التوراة دالة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرم كتمانها ، كذلك احكام الله التي جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرم كتمانها ايضا ، وان لحرمة الكتمان اطلاقا يشمل ما افاد العلم وما لم يفد العلم ، فيحرم كتمان الحكم على كل من عرفه سواء افاد اظهاره له العلم كما اذا اقترن اظهاره باظهار غيره ، او لم يقترن اظهاره باظهار غيره فلا يكون مفيدا للعلم ، واذا حرم الكتمان ووجوب الاظهار مطلقا سواء افاد العلم او لم يفده كانت الغاية لحرمة الكتمان ووجوب الاظهار هو القبول ، فان العقل لا يرى فائدة لحرمة الكتمان حتى لو لم يفد الاظهار العلم الا القبول ، فانه لو لم يكن الغاية لوجوب الاظهار الذي لا يفيد العلم هو القبول لكان وجوب الاظهار وحرمة الكتمان حينئذ لغوا واللغوية محال عليه تعالى في احكامه ، ومن الواضح ان لازم وجوب القبول هو حجية الخبر الذي لا يفيد العلم ، لعدم امكان ان يجب قبوله ولا يكون حجة.

وقد تبين : ان الاستدلال بهذه الآية على نحو الاستدلال بآية النفر المتقدمة ، فانه كان الاطلاق فيها لوجوب الانذار ولو لم يفد العلم مستلزما الوجوب القبول المستلزم لحجية خبر المنذر وان الغاية لهذا الاطلاق هو القبول.

__________________

(١) البقرة : الآية ١٥٩.

٣٨٤

لا مجال للايراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر ، من دعوى الاهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم ، فإنها تنافيهما ، كما لا يخفى (١) ، لكنها ممنوعة ، فإن اللغوية غير لازمة ، لعدم انحصار الفائدة

______________________________________________________

والحاصل : ان مبنى الاستدلال بهذه الآية هو الاطلاق في حرمة الكتمان ووجوب الاظهار مطلقا ، لان العقل يرى الملازمة بين الاطلاق الشامل لما لم يفد العلم وبين وجوب القبول المستلزم للحجية ، وإلّا كانت حرمة الكتمان على وجه الاطلاق لغوا والى هذا اشار بقوله : «ان حرمة الكتمان الى آخر الجملة».

(١) هذا تعريض بما اورده الشيخ (قدس‌سره) في رسائله على الاستدلال بهذه الآية ، فان الشيخ (قدس‌سره) اورد على آية النفر بايرادين : حاصل الاول : دعوى الاهمال في الآية وعدم دلالتها على اطلاق وجوب القبول من كل فرد ولو لم يفد انذاره العلم ، لعدم اطلاق في الآية من جهة وجوب القبول عند انذار كل منذر لأنها لا اطلاق فيها من ناحية وجوب الحذر عند انذار كل منذر.

ويمكن ان يكون المراد من قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) لعله يحصل لهم العلم من الانذار فيحذرون ، واذا لم يتم الاطلاق في وجوب الحذر عند كل انذار فلا تكون دالة على وجوب قبول كل انذار لتكون دالة على حجية الخبر.

وحاصل الايراد الثاني دعوى الاستظهار من آية النفر : ان الانذار الواجب هو الانذار المفيد للعلم ، لأن وجوب الانذار انما هو بما عرفه المتفقهون من الاحكام الواقعية ، وحيث ان انذار المنذر الواحد اذا لم ينذر غيره لا يكون موجبا للتخويف من مخالفة الحكم الواقعي لعدم حصول العلم بمجرد انذاره بالحكم الواقعي ، فلا يكون الانذار الواجب الا الموجب للتخويف من مخالفة الحكم الواقعي ، فيختص بصورة ما اذا افاد الانذار العلم وهو الانذار الحاصل من كل الطائفة.

ثم قال الشيخ في آية الكتمان بما حاصله : انه يرد عليها ما اورد على آية النفر من دعوى الاهمال وانه لا اطلاق في آية الكتمان يشمل وجوب القبول حتى لو كان

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاظهار غير مفيد للعلم ، بل اختصاص آية الكتمان بوجوب الاظهار وحرمة الكتمان حيث يكون الاظهار موجبا للعلم.

لانه قال (قدس‌سره) ويرد عليها ما ذكرناه من الايرادين الاولين في آية النفر : من سكوتها وعدم التعرض فيها لوجوب القبول وان لم يحصل العلم عقيب الاظهار ، وهذا هو الايراد الاول.

ثم اشار الى الايراد الثاني بقوله : «او اختصاص وجوب القبول الى آخر ما ذكره».

وحاصله : ان حرمة الكتمان انما هي حرمة كتمان الحق والواقع الذي هو الاحكام الواقعية ، واذا كان المراد بها وجوب اظهار الاحكام الحقة الواقعية وحرمة كتمانها فلا تكون الآية دالة على وجوب قبول الاظهار وان لم يكن اظهار المظهر موجبا لوصول الحق والواقع ، فهي انما تدل على وجوب قبول الاظهار الموجب للعلم بالواقع ، وعلى هذا فالآية اجنبية عن الدلالة على حجية الخبر الواحد ، لان اظهار المخبر الواحد به لا يوجب العلم فلا يكون اظهاره وصولا للحق الذي يريد الله من الناس العمل به. هذا حاصل ما اورده الشيخ (قدس‌سره) على آية الكتمان.

وحاصل ما اراده المصنف بقوله : «ولا يخفى انه لو سلمت الى آخره» ان تسليم الملازمة وهي كون الغاية لحرمة الكتمان هو القبول ينافي الايراد عليها بالاهمال وبالاختصاص بما يفيد العلم.

وتوضيحه : ان معنى الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول هو كون العلة لوجوب القبول هي حرمة الكتمان ، لان وجوب القبول هي الغاية لها ، ومن الواضح علية ذي الغاية لغايته ، ومن الجلي ايضا ان حرمة الكتمان هي بنحو الاستغراق وانه يجب على كل من علم بالبينات والهدى ان يظهر ذلك ويحرم عليه كتمانه ، والاطلاق والاستغراق في العلة يوجب الاطلاق في معلولها ، فمع تسليم كون وجوب القبول هي الغاية الملازمة لحرمة الكتمان وان حرمة الكتمان بنحو

٣٨٦

بالقبول تعبدا ، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لاجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبينه ، لئلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له عليهم الحجة البالغة (١).

______________________________________________________

الاستغراق ، لا وجه لدعوى الاهمال في وجوب القبول بعد الاعتراف بكونه هو الغاية لحرمة الكتمان ، فانه يرجع الى التفكيك بين العلة ومعلولها ، كما انه لو تم الاطلاق في وجوب الحذر سواء افاد الانذار العلم ام لا لا بد من الاعتراف بوجوب القبول عند انذار كل منذر ، ولازمه الدلالة على حجية الخبر.

كما ان الاعتراف بما ذكرناه من الاطلاق في حرمة الكتمان وان الغاية له وجوب القبول ينافي ايضا الايراد عليه بان الآية تدل على وجوب قبول خصوص ما افاد العلم ، لان الذي يريد الله العمل به هو العمل بالحق دون العمل مطلقا سواء كان الاظهار مفيدا للعلم به او لم يكن ، لان لازم ذلك هو عدم الاطلاق في حرمة الكتمان ، وانه لا يحرم على كل احد كتمان ما عرف من الحق اذا كان اظهاره لا يكون ايصالا للحق ، والى هذا اشار بقوله : «فانها» أي تسليم الملازمة وان وجوب القبول هو الغاية لحرمة الكتمان «تنافيهما» أي تنافي الايراد على الآية بالايرادين : من دعوى الاهمال ، ودعوى الاختصاص بخصوص الاظهار المفيد للعلم.

(١) حاصله : ان الاولى في الايراد على دلالة الآية على حجية الخبر انه تمنع الملازمة وان الغاية لحرمة الكتمان الشاملة لكل من عرف البينات والهدى ليس وجوب القبول ، ولا تنحصر الغاية عقلا لحرمة الكتمان المطلقة بذلك ، بحيث يكون وجوب القبول غاية لكل اظهار ، وان كنا نعترف بان الغاية لمجموع الاظهارات هو وجوب القبول لحصول العلم ، ولا يستلزم ذلك كون وجوب القبول غاية لكل اظهار من هذه الاظهارات.

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : ان وجوب الاظهار وجوب مقدمي لان يحصل من المجموع العلم بالهدى والبينات ، وهذا الوجوب المقدمي مع كونه استغراقيا لا يلزم ان يكون لكل فرد منه وجوب القبول ، لوضوح انه لا يشترط في وجوب المقدمة ايصالها الى ذي المقدمة ، وحيث كان كل واحد من هذه الاظهارات هو جزء ما يترتب عليه ذو المقدمة وهو العلم بالهدى لذا وجب على كل من عرف اظهار ما عرف لئلا يحصل منهم التواكل ولان يترتب على المجموع وصول الهدى والعلم به ، والى هذا اشار بقوله : «فان اللغوية غير لازمة لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبدا» اذا لم يكن وجوب القبول تعبدا غاية لكل اظهار لا يلزم لغوية وجوب الاظهار وحرمة الكتمان ، والسبب في عدم الانحصار هو «امكان ان تكون حرمة الكتمان» المطلقة الشاملة لكل من عرف الحق هو الوجوب المقدمي «لاجل» ان يترتب على مجموع الاظهارات «وضوح الحق بسبب كثرة من افشاه وبينه الى آخر كلامه» نعم لو سلمنا ان الغاية لكل اظهار ـ منفردا ـ وجوب القبول تعبدا وان لم يفد العلم لكان ذلك مستلزما لحجية خبر الواحد.

ومما يدل على ان الآية لا ربط لها بحجية الخبران الآية واردة في مورد الذم واللعنة لعلماء اليهود الذين عرفوا علامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتموها ، ولا يعقل ان يشمل دليل الحجية خبر اليهودي ، بل في نفس الآية دلالة على كونها اجنبية عن حجية الخبر ، لان الذي يستلزم حجية الخبر ما يكون هو المقتضي لايصال الهدى ، دون الكتمان الذي يكون مانعا عن ان يصل الهدى ، بحيث لو لا الكتمان لوصل لوجود البيان له الذي له اقتضاء الوصول لو لا كتمانه.

وبعبارة اوضح : ان حرمة الكتمان ووجوب الاظهار : تارة يكون هو الذي به يصل الهدى. واخرى يكون الهدى قد بين ولبيانه شأنية الوصول ، ولكن الكتمان يمنع عن وصوله.

٣٨٨

ومنها : آية السؤال عن أهل الذكر فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان (١).

______________________________________________________

فان كانت حرمة الكتمان في الآية هي من النحو الاول الذي يكون به الوصول كان مجال لان يقال : ان الغرض لهذه الحرمة هو وجوب القبول ، فيستلزم حجية الخبر كما مر بيانه.

واما اذا كانت حرمة الكتمان من النحو الثاني ، وان الكتمان انما حرم لكونه مانعا عن وصول الهدى الذي له شأنية الوصول فلا تكون هذه الحرمة مما تدل على وجوب القبول وتستلزمه ، وفي الآية دلالة على كونها من النحو الثاني ، لان ذيل الآية وهو قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) يدل على ان الهدى قد بينه الله للناس ، ولكن علماء اليهود كتموه ومنعوا عن وصوله وظهوره ، ولو لا كتمانهم لوصل ، لان الله قد بينه وأوضحه للناس.

هذا كله ، مضافا الى ان مورد الآية هو اصول الدين لان موردها هو كتمان علماء اهل الكتاب لعلامات النبوة المذكورة في التوراة ، ولا حجية لخبر الواحد في اصول الدين ، وكونها مخصصة بغير ذلك وان كان عمومها يشمل اصول الدين بعيدة جدا ، اذ ليس من المستحسن ان يخصص العموم باخراج مورده عنه.

(١) هذه الآية الرابعة التي استدل بها لحجية الخبر ، وقد وردت هذه الآية وهي قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) في ضمن آيتين في سورتين في سورة النحل وهي قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) الى آخر الآية ، وفي سورة الانبياء وهي قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢).

__________________

(١) النحل : الآية ٤٣.

(٢) الانبياء : الآية ٧.

٣٨٩

وفيه : إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم ، لا للتعبد بالجواب (١).

______________________________________________________

وتقريب الاستدلال بها بنحو ما مر في آية الكتمان ، مع ضم ضميمة اليها في المقام.

وبيانه : ان الآية قد دلت على وجوب السؤال عن البينات من اهل الذكر عند عدم العلم بالبينات ، ومن البين ان البينات والذكر يشملان الفروع والاصول.

وان وجوب السؤال مطلق يعم ما اذا افاد الجواب العلم او لم يفده.

وانه لا خصوصية لحجية قول المسئول بما هو مسئول بل يعم المبتدئ ببيان البينات وان لم يكن مسئولا بان كان مبتدأ بالبينات.

وان الغاية لوجوب السؤال تنحصر في وجوب القبول.

وان اهل الذكر الذي اوجب السؤال منهم هم مطلق من عرف الذكر سواء كانت معرفته له بالسماع مثلا او كانت معرفته مستندة بالتفكر والروية واعمال المقدمات المنتجة لذلك.

وبعد تمامية هذه المقدمات .. يتضح دلالتها على حجية الخبر ، لان لانحصار الغاية من وجوب السؤال في وجوب قبول الجواب ممن افاد قوله العلم او لم يفد ، مع عموم اهل الذكر لمن عرف بالسماع او بمثله من الحواس الظاهرة ، مع عدم اختصاص ذلك بالاصول ـ لازمه حجية خبر المسئول وان لم يفد قوله العلم ، ولما كان ما في آية الكتمان من جملة مقدمات الاستدلال بهذه الآية قال (قدس‌سره) : «وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان».

(١) وحاصله : منع المقدمة الثانية ، وهي ليس في وجوب السؤال اطلاق يعم ما افاد الجواب العلم وعدمه ، بل في الآية قرينة على ان وجوب السؤال انما هو لتحصيل العلم ، لوضوح ان قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يدل على ان الداعي لوجوب السؤال هو عدم العلم ، واذا كان ذلك فلا بد وان يكون السؤال لاجل رفع

٣٩٠

وقد أورد عليها : بأنه لو سلم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر ، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي ، فإنه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر والعلم ، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية (١).

______________________________________________________

عدم العلم ، ومن الواضح ان رفع عدم العلم انما يكون بالعلم ، فيكون مدلول الآية انه يجب السؤال عليكم عما لا تعلمون حتى تعلموا ، واذا كانت هذه دلالتها تكون اجنبية عن الدلالة على التعبد بقبول جواب المسئول وان لم يفد العلم.

ومنه يظهر منع المقدمة الرابعة : وهي كون الغاية لوجوب السؤال هو وجوب القبول مطلقا بل وجوب القبول لما افاد العلم ، ويمكن ايضا منع المقدمة الاخيرة ، فان المراد باهل الذكر اما خصوص علماء اليهود ولا اشكال ان خبرهم عن الفروع ليس بحجة ، او خصوص الأئمة الاطهار كما ورد بذلك اخبار كثيرة فيها الصحيح والموثوق ، ومن الواضح ان قولهم مما يفيد وخبرهم خارج بالتخصص عن حجية خبر الواحد.

(١) لا يخفى ان الشيخ (قدس‌سره) في رسائله من جملة ما اورده على دلالة الآية : هو ان مفادها لو تم لكان خصوص حجية رأي المجتهد والعالم في حق المقلد الجاهل وحاصله : ان اهل الذكر لا يصدق على من عرف البينات بالسماع او مثله ، فان الجاهل الذي يروي عن الامام ما سمعه منه لا يصدق عليه انه من اهل الذكر ، وكذا لا يصدق على الراوي الذي شاهد الامام بفعل فيرويه فانه لا يصدق عليه انه من اهل الذكر ، والمراد باهل الذكر هم العلماء الذين كانت معرفتهم مستندة الى الفكر والرواية لا الى الرواية.

فالمتحصل من كلامه (طاب مرقده) انه لو سلمنا ان الآية تدل على وجوب القبول تعبدا لما اجاب به المسئول وهم اهل الذكر وان لم يفد قولهم العلم ، إلّا انها مختصة

٣٩١

وفيه : إن كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الامام عليه‌السلام كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما ، ويصدق على السؤال عنهم أنه السؤال عن أهل الذكر والعلم ، ولو كان السائل من أضرابهم ، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية ، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقا ، لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق بالسؤال ، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل الذكر ، وإنما يروي ما سمعه أو رآه (١)

______________________________________________________

بخصوص جوابهم بما هم علماء قد اجابوا عن فكر وروية لا عن رواية مستندها ما سمعوه او ما شاهدوه باحد الحواس الظاهرة.

وبالجملة : ان الآية لو تمت دلالتها لدلت على حجية الفتوى دون الرواية ، وعبارة المتن واضحة.

(١) وحاصل ما اورده عليه انه لا إشكال انه في ضمن الرواة من هم من اهل العلم والروية ، واذا وجب قبول خبر هؤلاء لانهم من أهل الذكر يجب قبول قول كل راو وان لم يكن من اهل العلم ، لقيام الاجماع او القول بعدم الفصل بينهما.

والحاصل : انه كما قد قام الاجماع على قبول قول اهل الذكر وهم العلماء كزرارة وابن مسلم وامثالهم من العلماء الرواة سواء كانوا مسئولين او كانوا مبتدءين بالقول من دون سؤال ، كذلك قد قام الاجماع على عدم الفصل بينهم وبين غيرهم من الرواة العدول الذين هم ليسوا علماء ، بل كانوا عدولا فقط ورواة ، وعبارة المتن واضحة ايضا.

٣٩٢

فافهم (١).

ومنها : آية الاذن ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين ، وقرنه بتصديقه تعالى (٢). وفيه :

______________________________________________________

(١) يمكن ان يكون اشارة الى عدم ورود الايراد على الشيخ (قدس‌سره) لان نظره (قدس‌سره) الى ان الآية مختصة بوجوب قبول الفتوى من حيث انها انما تدل على قبول جواب المسئول لان جوابه مستند الى فكره ورويته ، فالعالم الذي هو مصداق اهل الذكر اذا كان راويا كان له حيثيتان : الجواب المستند الى سماعه وروايته والجواب المستند الى فكرة ورويته ، والآية انما تدل على خصوص قبول جوابه المستند الى رويته وفكره ، ولا تعرض فيها ولا دلالة على قبول جوابه المستند الى سماعه وروايته ، فيكون الاشكال عليه بان اهل الذكر يكون راويا ايضا ، ولا فصل بينه وبين غيره من الرواة في غير محله.

ولا بد في الاشكال عليه بان يقال : انا نمنع اختصاص اهل الذكر بخصوص العالم الذي يكون جوابه عن فكر وروية لا عن رواية ، بل المراد من اهل الذكر هم اهل المعرفة بالواقع ، والحق وكما تكون المعرفة للحق والواقع عن فكر وروية كذلك تكون بالسماع ممن لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى ، فان الناقل كلامه والراوي له راو للحق والواقع ، بل هو اولى بان يكون من اهل الذكر لقلة خطأ النقل للكلام من الناقل ، واما فكر العالم ورويته حيث انه لا عصمة لغير من عصمه الله فالخطأ فيه اكثر ، فالآية لو تمت دلالتها على وجوب قبول الجواب من المسئول سواء افاد العلم ام لا لكانت دالة على حجية خبر العادل.

(٢) هذه هي الآية الخامسة التي استدل بها لحجية الخبر وهي قوله تعالى في سورة براءة (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ

٣٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(١).

وتقريب الاستدلال بهذه الآية ان الله تعالى مدح نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانه يسمع من المؤمنين ويؤمن لهم فيما يخبرونه به ، والمدح من الله على شيء يدل على حسنه وصحة ارتكابه.

توضيح هذا التقريب : ان المراد من سماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين هو سماعه من كل مؤمن لا من مجموع المؤمنين ، والمقصود من سماعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ترتيب الاثر على خبر المؤمن لا السماع الطبيعي للصوت ، فان سياق الآية بقرينة قوله اذن خير لكم انه اذن خير لكل مؤمن ، وانه انما يكون اذن خير للمؤمن حيث انه يرتب الاثر على كلامه لا لانه يسمع صوته ، مضافا الى انه قرن تصديقه للمؤمن بتصديقه بالله تعالى نفسه عزوجل ، ومن البين ان تصديقه بالله تصديق بالواقع الذي يترتب عليه جميع الآثار ، وفي كون تصديقه للمؤمنين مقترنا بالله دلالة قوية على مدح هذا التصديق وان هذا التصديق التعبدي هو بمنزلة التصديق الحقيقي.

ومنه ظهر ان لازم هذا المدح هو حجية الخبر ، لانه :

اولا : ان كون الشيء حسنا عند الله هو صحة ارتكابه في ترتيب آثاره عليه ، لبداهة انه لو لم يترتب الاثر عليه ما كان ذلك سماعا لخبر المؤمن وصحة ترتيب الآثار ، وحسن ذلك عند الله يدل بوضوح على حجيته تعبدا ، وإلّا لكان ترتيب الآثار عليه غير صحيح ولا حسن.

وثانيا : ان جعل تصديقه للمؤمنين مقرونا بتصديقه به تعالى الذي هو محض التصديق بالواقع يدل ـ أيضا ـ على ان ترتيب الاثر على خبر المؤمنين هو بمنزلة التصديق بالله في كونه تصديقا بالواقع وبترتيب آثاره ، والى ما ذكرنا اشار بقوله :

__________________

(١) التوبة : الآية ٦١.

٣٩٤

أولا : إنه إنما مدحه بأنه أذن ، وهو سريع القطع ، لا الاخذ بقول الغير تعبدا.

وثانيا : إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين ، هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضر غيرهم ، لا التصديق بترتيب جميع الآثار ، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر (١) ، ويظهر ذلك من تصديقه للنمام بأنه ما

______________________________________________________

«مدح نبيه بانه يصدق المؤمنين» بقوله تعالى (هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) ، وأكد ذلك حيث «قرنه بتصديقه تعالى» وهو كما انه دليل على المدح ودليل ايضا على حجية الخبر.

(١) توضيح الايراد الاول على الاستدلال بالآية لحجية الخبر : ان الآية انما تدل على حسن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي اجنبية عن الدلالة على حجية الخبر ، لان المراد بالتصديق للمؤمنين في الآية هو حصول القطع للنبي بمجرد قول المؤمنين لحسن ظنه بهم ، فالمراد من انه اذن هو سرعة القطع له من اخبار المؤمنين ، فهو يقطع من اخبارهم كما يقطع من اخبار الله ، وعلى هذا فالآية تكون اجنبية عن الدلالة على الاخذ بقول المؤمنين تعبدا ، لان اخذه بقولهم لقطعه من قولهم لا للجعل التعبدي ، لكن هذه الصفة مما لا ينبغي ان تكون من صفاته فضلا عن ان يمدح عليها ، لانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنتهى الفطنة والدقة وهي من صفات السذج.

وعلى كل فقد اشار الى هذا بقوله : «انه اذن وهو سريع القطع».

والاستدلال الثاني ما اشار اليه بقوله : «وثانيا» وحاصله : ان المراد من التصديق للمؤمنين الذي مدح الله نبيه عليه ليس التصديق الخياني وهو القطع بالواقع ، لان اخبار المؤمن لا يوجب القطع غالبا ، مضافا الى ان التصديق الذي مدح الله النبي عليه كان تصديقا للنمام الذي اخبر الله نبيه بانه نم عليه.

ومنه يظهر انه ليس المراد منه هو التصديق بترتيب الآثار تعبدا على الخبر ، لوضوح بعد ان اخبر الله نبيه بكذب هذا النمام وانه قد نم واقعا عليه ، فقول هذا الكذاب لما احضره النبي وسأله عن نميمته اني لم افعل وتصديق النبي له انكاره يدل

٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بوضوح انه ليس تصديقا بترتيب جميع الآثار تعبدا ، وكيف يعقل ان يكون ذلك مع اخبار الله بكذبه؟ بل المراد من هذا التصديق هو ترتيب بعض الآثار وهي الآثار التي تنفعهم ولا تضر غيرهم ، ولو كان المراد ترتيب جميع الآثار لما كان تصديقه للمؤمنين نافعا لجميع المؤمنين بل كان نافعا لبعض وضررا على البعض الآخر ، فانه لو قال احد المؤمنين للنبي ان فلانا سرق او شرب الخمر فرتب النبي عليه جميع الآثار بان حد المشهود عليه ، فانه وان كان خيرا ونفعا للشاهد لتقديره له واعتباره ، إلّا انه ضرر على الآخر وهو المشهود عليه.

وظاهر الآية انه اذن خير لجميع المؤمنين ، ولا يكون اذن خير لجميع المؤمنين إلّا ان يكون المراد من التصديق الذي هو اذن خير للجميع ومدح الله عليه هو ترتيب بعض الآثار ، وهو اظهار التصديق منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن اخبره ، وهذا الاظهار خير للمخبر وعدم ترتيب الاثر على هذا الاخبار بالنسبة للمخبر عنه هو خير له ايضا ، واذا كان المراد من التصديق هذا المعنى تكون الآية اجنبية الدلالة عن حجية الخبر تعبدا ، وانما تكون من الآيات الدالة على عظيم خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاحسان الى جميع المؤمنين ، والى هذا اشار بقوله : «انما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم» وهي اظهار التصديق منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم «و» ان «لا تضر غيرهم» وإلّا لما كان اذن خير لجميع المؤمنين «لا» ان المراد من تصديقه للمؤمنين هو «التصديق بترتيب جميع الآثار» وإلّا لم يكن خيرا لهم جميعا ، بل كان خيرا لبعض وضررا للبعض الآخر ، ولو كان المراد من التصديق هو ترتيب جميع الآثار تعبدا «كما هو المطلوب في باب حجية الخبر» لما كان تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين خيرا لجميع المؤمنين.

وقد ظهر مما ذكرنا : ان التصديق يطلق ويراد منه معان اربعة : التصديق الجناني ، وسرعة القطع ، وترتيب جميع الآثار تعبدا ، وترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضر غيرهم.

٣٩٦

نمه ، وتصديقه لله تعالى بأنه نمه (١) ، كما هو المراد من التصديق في قوله عليه‌السلام فصدقه وكذبهم ، حيث قال ـ على ما في الخبر ـ يا أبا محمد كذب

______________________________________________________

والمراد من الآية هو الاخير لوضوح عدم ارادة الاول والثاني لعدم حصول القطع من اخبار المؤمن غالبا ، ولان سرعة القطع ليست من الصفات الممدوحة فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعدم ارادة الثالث وإلّا لما كان اذن خير للجميع ، فيتعين ان يكون المراد من التصديق في الآية هو المعنى الرابع ، وقد عرفت انه عليه تكون الآية اجنبية عن الدلالة على حجية الخبر تعبدا.

(١) قد عرفت ان استظهار كون المراد من التصديق في الآية هو المعنى الرابع مستند الى قرينة فيها تدل على ذلك وهي قوله تعالى : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)

وهناك قرينة اخرى تدل على انه ليس المراد من التصديق فيها هو ترتيب جميع الآثار هي ما اشار اليها بقوله : «ويظهر ذلك من تصديقه للنمام» وهو مورد نزول الآية ، فان المفسرين ذكروا وجهين لسبب نزولها :

الاول : انها نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يلمزون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا ينبغي فنهاهم احدهم عن ذلك خشية ان يطلع النبي على ذلك منهم فيعاقبهم ، فقالوا له انه اذن اذا اطلع علينا ثانية فنقول له ما قلنا ونحلف له فيصدقنا ، وهذا الوجه يناسب الجواب الاول وقد عرفت عدم صحته ، فلا بد وان يكون المراد ايضا في مدحه بالتصديق هو اظهار التصديق منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم الذي هو خير لهم ، فانه بعد كونهم من المنافقين فلا يعقل ان يكونوا مشمولين لحجية الخبر التي يراد بها ترتيب جميع الآثار ، والالتزام بدلالتها على حجية الخبر مع عدم انطباقها على مورد النزول بعيد جدا.

الوجه الثاني : وهو المشار اليه في المتن ان مورد نزولها هو النمام المنافق نبتل بن أوس ، فانه كان يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع كلامه في المنافقين وينم به اليهم ، فاخبر الله نبيه بنميمته فاحضره النبي وسأله فانكر وحلف انه لا ينم عليه فاظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٩٧

سمعك وبصرك عن أخيك : فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا ، وقال : لم أقله ، فصدقه وكذبهم فيكون مراده تصديقه بما ينفعه

______________________________________________________

صدقة ، فخرج منه وجعل يلمزه ويقول هو اذن يصدق من كل احد ، فانزل الله فيه هذه الآية.

ومن الواضح : ان التصديق الذي مدح الله عليه نبيه ليس هو التصديق الجناني ، ولا التصديق بمعنى سرعة القطع ، ولا التصديق بمعنى ترتيب جميع الآثار ، فان هذه المعاني الثلاثة تنافي اطلاع النبي على كذبه باخبار الله له بانه نمام ، فانه مع اخبار الله له يكون تصديقه الجناني بكذبه لا بصدقه ، ولا يعقل ان يحصل للنبي القطع بصدقه مع اخبار الله له بكذبه ، ولا يعقل ايضا ان يكون خبر النمام المعلوم الكذب مما يشمله دليل الحجية للخبر فيتعين المعنى الرابع وهو اظهار التصديق له من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا كان اذن خير له وللمؤمنين جميعا.

ومن الواضح ان هذا المعنى الرابع هو الذي يجتمع مع تصديق النبي اليه ، فان التصديق الحقيقي بقول الله تعالى واظهار التصديق للنمام مما يجتمعان ، اما التصديق للنمام بأحد المعاني الثلاثة المتقدمة فلا يعقل ان يجتمع مع التصديق بالله في اخباره بكذب هذا النمام ، فمورد النزول من اتم القرائن على ان المراد من التصديق في الآية هو اظهار الصدق لا ترتيب جميع الآثار ، والى هذا اشار بقوله : «ويظهر ذلك» أي كون المراد من التصديق في الآية هو اظهار الصدق فقط يظهر واضحا «من تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنمام بانه ما نمه وتصديقه لله تعالى بانه نمه» فان التصديق بمعنى اظهار الصدق دون معانيه الثلاثة هو الذي يمكن ان يجتمع مع تصديق الله تعالى.

٣٩٨

ولا يضرهم ، وتكذيبهم فيما يضره ولا ينفعهم ، وإلا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين (١)؟ وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان غرض المصنف الاستشهاد على ان التصديق يطلق ويراد منه اظهار الصدق دون ترتيب جميع الآثار ، وقد اشار الى مورد قد اطلق التصديق فيه واريد به اظهار الصدق فقط ، وهو ما ورد في هذا الخبر وهو الامر بتكذيب السمع والبصر الممكنى به عن العلم بالواقع : أي الامر بتكذيب ما علم انه هو الواقع والامر بتكذيب القسامة ـ بالفتح ـ وهي الأيمان التي تقسم على اولياء الدم ، والمراد منها في الخبر اليمين من المخبر على خبره ، ومن الواضح ان شهادة خمسين مع حلفهم على خبرهم مما يوجب القطع ، فالامر بتكذيبهم امر بتكذيب ما حصل القطع به للقاطع في حال قطعه ، فالامر بالتكذيب في حالتي العلم والقطع لا بد وان يكون المراد منه اظهار الصدق دون التصديق بمعانيه الثلاثة ، لعدم ارادة المعنى الاول والثاني ، لعدم امكان حصول التصديق الجناني والقطع بشيء مع حصول العلم بنقيضه من السمع والبصر او من شهادة خمسين قسامة ، ولا يعقل ان يكون المراد هو المعنى الثالث وهو ترتيب جميع الآثار اذ لا معنى لترتيب الآثار مع العلم بالخلاف ، ولا معنى ايضا لتقديم قول واحد على قول خمسين وقد حلفوا عليه ايضا ـ فيتعين ان يكون المراد من الامر بالتكذيب ومن الامر بالتصديق في قوله فصدقه وكذبهم هو المعنى الرابع وهو اظهار الصدق.

لا يقال : ان المعنى الرابع من التصديق في الآية ليس هو مجرد اظهار الصدق ، بل هو مع كونه خيرا للطرفين ، وهذه الرواية ليست شاهدا على اظهار الصدق بما هو للطرفين ، فان اظهار الصدق وان كان خيرا للمشهود عليه إلّا ان التكذيب ليس خيرا للشاهدين بل هو ضرر عليهم مع انهم خمسون قسامة.

فانه يقال : المراد من الخير للطرف الثاني هو عدم الضرر عليه لا نفعه ، وايضا ليس المراد من التكذيب لهم مواجهتهم بانكم كاذبون ، بل المراد في مقام الاخلاق

٣٩٩

قصة إسماعيل ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

والجمع بين الشهادة على شخص بما يضره وتكذيبه لما شهدوا به عليه هو اظهار صدقه وهو ينفعه ، وعدم ترتيب الاثر على الشهادة لا رميهم بالكذب وهذا لا يضر الشاهدين ، فالمراد من تكذيبهم عدم ترتيب الاثر على قولهم لا رد قولهم وشهادتهم بانكم تكذبون حتى يكون ضررا عليهم ، والى هذا اشار بقوله : «فيكون مراده تصديقه بما ينفعهم ولا يضرهم الى آخر الجملة» كما انه اشار الى هذا المعنى بقوله السابق في الآية : «هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضر غيرهم» واشار الى انه لا يعقل ان يكون المراد من التصديق في هذه الرواية هو المعنى الثالث بقوله : «وإلّا فكيف يحكم بتصديق الواحد الى آخر الجملة» أي مع كون الشاهدين قد بلغ عددهم خمسين قسامة وهذا مما يفيد القطع غالبا والمنكر واحد ، ولا يعقل ان يكون المراد من التصديق هو ترتيب جميع الآثار.

(١) لا يخفى ان المصنف انما اشار الى قصة اسماعيل لان الشيخ ذكرها كدليل لان يكون المراد من التصديق في الآية هو ترتيب جميع الآثار ، فانه قال (قدس‌سره) بعد ان قرب الاستدلال بالآية ، ويزيد في تقريب الاستدلال وضوحا ما رواه في فروع الكافي في الحسن بابراهيم بن هاشم انه كان لإسماعيل بن ابي عبد الله عليه‌السلام دنانير واراد رجل من قريش ان يخرج الى اليمن ، ويظهر ان الصادق علم ان ولده اسماعيل يريد ان يعطي الدنانير لهذا الرجل ليشتري له بها ، فقال له ابو عبد الله عليه‌السلام : يا بني اما بلغك انه يشرب الخمر ، قال سمعت الناس يقولون ، فقال يا بني ان الله عزوجل يقول يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، يقول يصدق الله ويصدق للمؤمنين ، فاذا شهد عندك المسلمون فصدقهم.

فان ظاهرها كما يدعيه الشيخ من كون المراد بالتصديق في الآية هو ترتيب جميع الآثار ، لانه امر اسماعيل بتصديق المؤمنين في ان الرجل يشرب الخمر ، فهو غير مامون لان الفاسق لا يؤتمن ونهاه عن اعطائه له الدنانير ، فان قوله عليه‌السلام أما بلغك

٤٠٠