بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-061-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٨

اللهم إلّا أن يقال : إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ الذي صار مؤدى لها ـ هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء (١) ، لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن للاحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلا ، وإلا لم تكن لتلك الدلالة مجال ، كما لا يخفى (٢).

______________________________________________________

ويمكن ان يكون اشارة الى ان ما التزمه المصنف (قدس‌سره) من الفعلية التعليقيّة لا يتأتى فيه ما ذكرناه في قولنا : فانه يقال ، لان الفعلية التعليقيّة وان كانت مقيدة بأداء الامارة لتكون حتمية ، إلّا ان هذا القيد فيها ليس شرعيا بل هو عقلي ، لان اداء الامارة وصول عند العقل كما ان العلم وصول ، فليس القيد شرعيا حتى يكون الموضوع للفعلية الحتمية هو الحكم الواقعي المقيد شرعا بأداء الامارة ليرد عليها ما اوردناه على الشيخ (قدس‌سره) ، والله العالم.

(١) وحاصله : انه يمكن ان يقال ان المقام من باب احراز كلا جزأي الموضوع بالتنزيل ، وان هناك تنزيلين : تنزيل للحكم الذي هو مؤدى الامارة منزلة الحكم الواقعي ، وتنزيل ليس مدلولا للامارة ، بل الدال عليه دلالة الاقتضاء ولزوم صون كلام الحكيم عن اللغوية ، لانه اذا كان الموضوع مركبا فتنزيل شيء منزلة احد جزأي الموضوع لا فائدة فيه ما لم يكن الجزء الآخر محرزا بالوجدان او بتنزيل آخر ، وحيث لا وجدان ولا علم فلا بد وان يكون هناك تنزيل آخر يتضمن تنزيل هذه الامارة منزلة الاداء الذي هو القيد للحكم الواقعي ، والى هذا اشار بقوله : «إلّا ان يقال ان الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي صار مؤدى لها» تنزيلا وتعبدا «هو دليل الحجيّة بدلالة الاقتضاء» لا بنفسه على ان هناك تنزيلا آخر يتضمن احراز الجزء الآخر تعبدا او تنزيلا ايضا للزوم صون تنزيل الحكيم عن اللغوية ، بعد ان لم يكن لتنزيل احد جزأي الموضوع فائدة من دون تنزيل للجزء الآخر.

(٢) وحاصله : ان صون كلام الحكيم عن اللغوية المستلزم اقتضاء لتنزيل الجزء الآخر انما يتم فيما اذا لم يكن لاحراز الحكم الانشائي بما هو انشائي فائدة واثر

٢٠١

وأخرى بأنه كيف يكون التوفيق بذلك؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والاصول العملية المتكفّلة لاحكام فعلية ، ضرورة أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين ، كذلك لا يمكن احتماله. فلا يصح التوفيق بين الحكمين ، بالتزام كون الحكم الواقعي ـ الذي يكون مورد الطرق ـ إنشائيا غير فعلي (١) ، كما لا يصح بأن الحكمين ليسا في

______________________________________________________

اصلا ، عدا كونه واصلا الى درجة الفعليّة ، واما اذا كان له اثر بما هو حكم انشائي فلا نضطر الى دلالة الاقتضاء صونا لكلامه عن اللغوية ، لعدم لزوم اللغوية في هذا التنزيل المتضمن لتنزيل المؤدى منزلة الحكم الواقعي الانشائي ، والى هذا اشار بقوله : «لا يكاد يتم الى آخر الجملة».

إلّا ان يقال : ان الاثر للحكم الانشائي اذا لم يكن هو بلوغه الى درجة الفعلية ليترتب عليه الامتثال لا يكون اثر له الا فيما اذا تعلق النذر باحرازه بما هو حكم انشائي ، فتكون هذه الاهمية في جعل الامارة لا ثمرة لها الا في مقام تعلق النذر وشبهه ، وهو بعيد جدا بل مقطوع بعدمه فلا مناص عن دلالة الاقتضاء.

(١) وحاصله : ان الالتزام بان هناك احكاما انشائية مقيدة باداء الامارة اليها لا يمنع عن احتمال ان يكون هناك احكام فعليّة واقعية ، واذا احتملنا وجود احكام فعليّة واقعية في مورد الاصول والامارات مع جعل الحكم النفسي الفعلي على طبق مؤداهما يكون لازمه احتمال اجتماع الحكمين الفعليين ، ومن الواضح ان احتمال اجتماع الحكمين الفعليين من احتمال المحال ، والمحال لا بد وان يكون مقطوعا بعدمه ، فاحتماله كالقطع به محال.

والحاصل : ان الذي يلتزم بالحكم الانشائي في مقام الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي انما هو للفرار عن اجتماع الحكمين المتنافيين اما من حيث التماثل او التضاد ، ولا يمكنه ان يتخلص من هذا المحذور إلّا بالالتزام بانه لا يحتمل في مورد جعل الحكم الظاهري حكم فعليا واقعيا اصلا ، لان احتمال وجود الحكم الفعلي

٢٠٢

مرتبة واحدة بل في مرتبتين ، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين ، وذلك لا يكاد يجدي ، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلا أنه يكون في مرتبته أيضا. وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة (١) ، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق ، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.

______________________________________________________

احتمال اجتماع المتنافيين ، والمتنافيان لا بد وان يكون مقطوعا بعدهما ، بخلاف ما التزمناه من الجمع بالفعلي التعليقي والحتمي ، والى هذا اشار بقوله : «ضرورة انه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين كذلك لا يمكن احتماله».

(١) هذا وجه آخر للجميع بين الحكمين ، ويظهر من القائل به انه يدفع التنافي بين الحكمين الواقعي والظاهري النفسي مع الالتزام بفعليتهما معا.

وتقريبه : ان الحكم الواقعي موضوعه نفس عنوان الشيء من دون تقيّده بعلم او جهل ، ولا اطلاق له ناظر اليهما ، اذ لا يعقل ان يكون الحكم الواقعي ناظرا الى الجهل به والعلم به لانهما يتاخران عنه ، لوضوح ان الجهل بالحكم لا تحقق له الا حيث يكون هناك حكم ثم يجهل به ، ومثله العلم به ، فالحكم الواقعي لا نظر له الى الجهل به ولا الى العلم به ، وإلّا لزم الخلف لان العلم طريق محض اليه ، ولو كان الحكم مقيدا بالعلم لكان قبل العلم به لا حكم ، وهو خلاف فرض كون هناك حكم اصابه العلم ام أخطأه كما مرّ بيان ذلك في مباحث القطع. ولا بد ايضا ان تكون المصلحة الداعية له كذلك لا تمنع عن المصلحة المقيدة بالجهل به ، لكون الحكم لا بد وان يكون على طبق المصلحة الداعية له ، فاذا كان الحكم الواقعي لا يعقل ان يكون ناظرا الى الجهل به فلا بد وان تكون مصلحته كذلك.

واما الحكم الظاهري فهو متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين لتاخر الحكم عن موضوعه وقد اخذ في موضوع الحكم الظاهري الجهل بالحكم الواقعي ، فهو متأخر عن الجهل بالحكم الواقعي ، والجهل بالحكم الواقعي متاخر عن الحكم الواقعي كما

٢٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عرفت ، فالحكم الظاهري متاخر عن الجهل المتأخر عن الحكم الواقعي فهو متاخر عنه بمرتبتين.

ومن الواضح ايضا انه لا مانع من ان يكون للموضوع الذي له حكم واقعي مصلحة اخرى مقيدة بالجهل به ، تقتضي هذه المصلحة المقيدة بالجهل بالحكم الواقعي حكما آخر على خلاف الحكم الواقعي ، ولا تمانع بينهما اصلا لا بين الحكمين ولا بين المصلحتين.

اما عدم مانعية الحكم الواقعي عن الحكم الظاهري فلانه غير ناظر اليه ، واما عدم مانعية مصلحة الحكم الواقعي فلما عرفت من ان الحكم الواقعي لا بد وان يكون على طبق مصلحته ، ولما لم يكن هو مانعا فلا بد وان تكون مصلحته ايضا غير مانعة.

واما عدم مانعية الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي فواضح ، لتاخره عنه بمرتبتين ولا يعقل ان يكون المتأخر مانعا عن المتقدم عليه ، ومصلحته كذلك لما مرّ من كونها مقيدة بالجهل ايضا فلا تكون مانعة عن المصلحة غير المقيدة بالجهل ، والى هذا اشار بقوله : «بان الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين» كما مرّ تقريبه موضحا.

والجواب عنه : ان الحكم الظاهري وان كان متاخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين وليس في مرتبته حتى يكون مانعا عنه ، الّا ان الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري فيكون مانعا عنه ، ولا فرق بين ان يكون التمانع من طرف واحد او من طرفين ، فالحكم الظاهري لا يمنع الحكم الواقعي ولكن الحكم الواقعي يمنعه ، واذا كان الحكم مانعا عن الحكم الظاهري فلا يعقل فعليتهما معا.

اما مانعية الحكم الواقعي عن الحكم الظاهري المتأخر عنه ، فلوضوح ان تقدم الحكم الواقعي تقدّم طبعيّ ، والمتقدم بالطبع على شيء لا مانع من اجتماعه مع المتأخر عنه بالطبع ، فان الواحد متقدم بالطبع على الاثنين ولا مانع من اجتماعه معه ، بل ربما في مقام الوجود يقترنان زمانا ، ومع ذلك فالواحد متقدم بالطبع وان الاثنين

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

متأخر بالطبع ، لان ملاك التقدم الطبعي موجود في الواحد وهو انه يمكن ان يوجد الواحد ولا اثنان ، وملاك التأخر متحقق في الاثنين لعدم امكان ان يوجد الاثنان ولا وجود للواحد ، فالمتقدم بالطبع يكون موجودا مع المتأخر عنه.

واما كون الحكم الواقعي غير ناظر اليه ففيه اولا : ان التمانع مربوط باجتماعهما في الوجود لا في النظر والاطلاق.

وثانيا : ان الحكم الواقعي وان كان ليس له اطلاق نظري بالنسبة الى الحكم : أي في مرحلة التصور والنظر ، ولكنه له اطلاق طبعي بمعنى انه حيث لم يكن الحكم الواقعي مقيدا بالجهل ولا بالعلم فهو في حال الجهل موجود كوجوده في حال العلم ، كما ان المفروض في هذا الجمع كون الحكم الواقعي فعليا ، فهو حكم فعلي موجود في حال وجود الحكم الظاهري ، ووجوده وفعليته تلازم كونه مانعا عن فعلية الظاهري.

واما كون الشيء يمكن ان تكون له مصلحة مقيدة بالجهل بالحكم الواقعي مقتضية لجعل حكم على خلافه ، فان كان مراده انه تكون له مصلحة مقيدة بالجهل بالحكم الواقعي غير الفعلي فلا مانع عن ذلك لكنه خلاف الفرض ، وان اراد ان له مصلحة مقيدة بالجهل بالحكم الواقعي الفعلي فأصل ثبوت مصلحة كذلك لا مانع عنها ايضا ، إلّا انها لا يعقل ان تكون موجبة للحكم الظاهري ، لوضوح ان ايجابها لذلك ايجاب لما له المانع ، وما له المانع لا يعقل أن يوجبه شيء ، والى هذا اشار بقوله : «وذلك لا يكاد يجدي» أي تأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي بمرتبتين غير مجد في رفع مانعية فعلية الحكم الواقعي عن الاجتماع مع فرض فعلية الحكم الظاهري ايضا «فان الحكم الظاهري وان لم يكن في تمام مراتب» الحكم «الواقعي» لفرض تقيده بالجهل المتأخر رتبة عن الحكم الواقعي «إلّا انه يكون» الحكم الواقعي «في مرتبته» أي في مرتبة الحكم الظاهري «ايضا» لوضوح فرض وجود الحكم الواقعي

٢٠٥

ثالثها : إن الاصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبّد به واقعا ، عدم حجيته جزما ، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا ، فإنه لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا ، ولا يكاد يكون الاتصاف بها ، إلا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا ، ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته ، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون مخالفته تجريا ، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا ، وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه (١) ، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة

______________________________________________________

وفعليته في حال وجود الحكم الظاهري وفعليته «وعلى تقدير المنافاة» بين الحكمين الفعليين الموجودين «لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة».

(١) لا يخفى ان الظاهر من قوله : «الاصل فيما لا يعلم اعتباره» عدم حجيّته هو كون عدم الحجية للمشكوك في حجيته انما هي ببركة الاصل وهو استصحاب عدم حجيته ، ولكن المتحصّل من ذيل عبارته وهو قوله : «فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته» هو كون الشك في الحجية كافيا في القطع بعدم ترتب آثارها ولا حاجة الى استصحاب عدم الحجية لعدم ترتيب آثارها.

وتوضيحه : انه قد مرّ ان الحجيّة مما يمكن اعتبارها بالخصوص ، وآثارها هي آثار القطع التنجيز عند الاصابة والعذر عند الخطأ ، وان موافقتها بما هي موافقة لها انقياد ومخالفتها بما هي مخالفة لها تجر ، ومن الواضح ايضا ان هذه الآثار الاربعة انما هي للحجية الواصلة ، اما الحجية غير الواصلة فلا يترتب عليها شيء من هذه الآثار اصلا ، فالحجية المنشأة ما لم تحرز اما بالعلم او بقيام الطريق المقطوع اعتباره عليها لا تكون واصلة فليس لها اثر اصلا.

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان الحكم المجعول أو آثاره اللاحقة له بواسطة الجعل اما ان تكون لاحقة لذاته كالحكم الواقعي اللاحق للموضوع باعتبار مصلحته او مفسدته.

او تكون لا حقة لخصوص العلم به أو احرازه كالرخصة في التصرف في اموال الغير المنوطة كما يستفاد من ادلتها ، كما يقال بانها مشروطة بالعلم بالرضا ومع الشك في الرضا لا يجوز التصرف قطعا في مال الغير ، فحال الشك في الرضا حال العلم بعدم الرضا في عدم جواز التصرف بمال الغير واقعا ، والآثار الاربعة للحجية هي من قبيل الثاني ، فانها آثار للحجيّة المحرزة اما بالعلم او بالطريق المقطوع الاعتبار فهي آثار للحجية الواصلة ، ومن الواضح انه لا وصول مع الشك في الحجية ، فمع الشك فيها يقطع بعدم ترتب آثارها ولا حاجة الى التعبد باستصحاب عدم الحجية لنفي ترتب آثارها ، لان الموضوع لها هي الحجية الفعلية لا الحجية الانشائية ، فالموضوع للحجية الفعلية مركب من جعل الحجية والوصول ، ومن البديهي ان المركب ينتفي بانتفاء احد اجزائه ، وقد عرفت انه مع الشك في الحجية لا وصول لها ، فأحد اجزاء هذا المركب منتف فلا مورد لترتب الآثار التي كان الموضوع فيها مركبا وقد انتفى احد اجزائه ، وقد اشار الى ان هذه مرتبة على الحجية الواصلة دون الحجية المنشأة غير الواصلة بقوله : «فانها لا تكاد تترتب الا على ما اتصف بالحجية فعلا» ولا تكون الحجية حجية بالفعل إلّا اذا كانت واصلة ، ولذا قال : «ولا يكاد يكون الاتصاف بها إلّا اذا احرز التعبد به» اما بالعلم او بالطريق المقطوع الاعتبار فانه وصول واحراز تعبدي كالاحراز العلمي ، وقد اشار الى ان الآثار الاربعة للحجية بقوله : ف «انه بدونه لا تصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد اصابته» وهذا هو التنجيز عند الاصابة ، وبقوله : «ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها» وهذا هو الاثر الثاني وهو العذر لو اخطأ الطريق الذي قد وصلت حجيته ، وبقوله : «ولا تكون مخالفته تجريا» الى الاثر الثالث وهو كون مخالفته بما هي مخالفة تجريا

٢٠٧

برهان (١).

______________________________________________________

وظلما وهتكا لحرمته ، وبقوله : «ولا» تكون «موافقته بما هي موافقة انقيادا» الى الاثر الرابع وهي كون موافقته بما هي موافقة له انقيادا والتزاما برسوم العبودية.

وقوله : «وان كانت الى آخر الجملة» اشارة الى ما مرّ منه في كون موافقة المحتملات والاتيان بالشيء برجاء الواقع من افضل مراتب الطاعة لكنها ليست موافقة للتكليف بما هي موافقة منبعثة عن امره بنفسه ، بل هي منبعثة عن احتماله لا عن نفسه.

وقد اشار الى عدم الحاجة الى الاستصحاب لنفي هذه الآثار وان الشك بنفسه موجب للقطع بعدمها وان الشك في الحجية كالقطع بعدم الحجيّة بقوله : «فمع الشك في التعبد به» أي في التعبد بالطريق المشكوك حجيته «يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار» الاربعة «عليه» وقد اشار الى ان السبب في ذلك هو كون موضوع هذه الآثار هو المركب من الجعل للحجية مع الوصول ، وانه مع الشك في الحجية لا وصول فينتفي المركب بانتفاء احد اجزائه بقوله : «للقطع بانتفاء الموضوع معه» أي مع عدم الاحراز.

(١) لا يخفى وضوح ما ذكره بناء على ان المجعول هي الحجيّة ، واما بناء على ان المجعول هو الحكم الطريقي او الحكم النفسي فاحتياج نفيه الى استصحاب العدم لازم لانه كسائر الاحكام المشكوك فيها ، ولو كان الشك فيها كافيا في عدمها من دون حاجة الى اصل من الاصول كالبراءة الشرعية او استصحاب العدم للزم ان لا مجرى لهما في كافة الاحكام المشكوكة في الشبهة الحكمية ، وهو مما لا يمكن الالتزام به ، مضافا الى امكان جعل الاحتياط في موردها ، وما كان مجال لجعل الاحتياط فيه كان امر وضعه ورفعه بيد الشارع فلا مانع من الرجوع الى الاصول الدالة على رفعه ، فتامل.

٢٠٨

وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الاحكام ، وصحة نسبته إليه تعالى (١) ، فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلا ـ على تقرير

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان مسلك المصنف في تأسيس الاصل ما مرّ : من ان الحجية لها آثار اربعة ، وهي مرتبة على الحجية المحرزة بنحو من انحاء الاحراز لا على نفس الحجيّة ، ففي مقام الشك في الحجيّة يقطع بعدم ترتب الآثار ، ومع القطع بعدم ترتبها في حالة الشك لا وجه لاستصحاب عدم الحجيّة ، اذ لا بد من اثر ليكون الاستصحاب جاريا بلحاظه ، وحيث كان في حال الشك في الحجيّة يكون عدم الاثر مقطوعا به ، فلا يكون أثر لاستصحاب عدم الحجية حتى يكون جاريا بلحاظه.

وللشيخ الاعظم طريق غير هذا في نفي الآثار عند الشك.

وحاصله : ان معنى حجية التعبد بالظن والطرق غير العلمية ووجوب العمل بها ليس هو إلّا وجوب الالتزام بمؤداها والاستناد اليه قلبا ، وصحة اسناد مؤداها الى الشارع بما انه حكمه وتشريعه فللحجيّة اثران : الاستناد الى المؤدى قلبا ، واسناده الى الشارع قولا ، وهذان الأثران يترتبان على الظن الذي قام الدليل على حجيته ، اذ ليس معنى حجيته الّا هذين الامرين.

واما الظن الذي لم يقم الدليل على حجيّته فيحرم الالتزام بمؤداه والاستناد اليه ، ويحرم اسناده اليه بالادلة الاربعة كتابا وسنة واجماعا وعقلا.

اما الكتاب فقوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) والاستدلال بها هو ان المراد من الاذن هو بيانه الواصل ، ومع عدم الوصول تكون النسبة اليه تبارك وتعالى افتراء ، والاستفهام الانكاري دال على حرمة الافتراء وهو نسبة ما لم يصل اليه تعالى ، فهذه الآية قد دلت على حرمة الاسناد لما لم يصل ، وانه من الافتراء وهو محرم ، وبحكم الملازمة بين حرمة الاسناد اليه وحرمة الاستناد والالتزام

__________________

(١) يونس الآية : ٥٩.

٢٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

به بما انه حكمه تعالى تدل على حرمة الاستناد قلبا ، فهي دالة بالمطابقة على حرمة الاسناد قولا ، وبالملازمة على حرمة الاستناد قلبا.

واما السنة فقوله عليه‌السلام : (ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم) (١) في مقام تعداد قضاة الباطل ، فانه ظاهر في حرمة الالتزام بالحق غير الواصل وان كان حقا في الواقع ، بقرينة قوله وهو لا يعلم وان القضاء به من القضاء الباطل المحرم ، وبالملازمة بين حرمة الالتزام وحرمة الاسناد اليه حرمة يثبت حرمة الاسناد اليه ايضا ، فهو دال بالمطابقة على حرمة الالتزام وبالملازمة على حرمة الاسناد.

واما الاجماع فقد ادعي في كلمات جماعة على حرمة الالتزام والاسناد معا. واما العقل فلحكم العقل بقبح الالتزام وهو عقد القلب على ما لا يعلم انه حكم الله بانه حكم الله ، لانه تصرف في سلطانه ، لان لازم الالتزام به هو البناء على تحققه ، والبناء على تحقق ما يرجع اليه تعالى من دون علم به تصرف فيما يختص به عزوجل ، وهو ظلم له فهو قبيح.

ولا يختص التشريع بخصوص الاتيان للشيء بعنوان انه حكم الله ، بل يعم نفس البناء وعقد القلب عليه ايضا ، وبعد ثبوت قبحه عند العقل يكون محرما شرعا بالملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع ، واذا ثبتت حرمة الالتزام تثبت حرمة الاسناد اليه تعالى بالملازمة ، مضافا الى ان نفس الاسناد افتراء وهو محرم كالكذب.

واذا تم هذا من كون وجوب الالتزام وصحة الاسناد من آثار الحجية الواصلة ، بل هو نفس الحجية بناء على مسلك الشيخ من انكار الحكم الوضعي وانه عبارة عن الحكم التكليفي ـ فمعنى الحجية هو وجوب الالتزام وصحة الاسناد للحكم الواصل ، فما لا يعلم به ليس بواصل فيحرم الالتزام به واسناده ، فلا بد وان لا يكون حجة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ، ص ١١ / ٦ ، باب ٤ من أبواب صفات القاضي.

٢١٠

الحكومة في حال الانسداد ـ لا توجب صحتهما ، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به لما كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها ، ومعه لما كان يضر عدم صحتهما أصلا ، كما أشرنا إليه آنفا. فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد ، وعدم جواز الإسناد إليه تعالى غير مرتبط بالمقام ، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم ، كما أتعب به شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ نفسه الزكية ، بما أطنب من النقض والابرام ، فراجعه بما علقناه عليه ، وتأمل.

وقد انقدح ـ بما ذكرنا ـ أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الاصل ، فتدبر جيدا (١).

______________________________________________________

بالفعل فتنتفي الحجية بالفعل بثبوت آثار عدمها ، وهذا معنى كون الاصل فيما شك في حجيته هو عدم حجيته.

(١) والجواب عنه : ان صحة الالتزام والاسناد ليسا من آثار الحجية ، وانما آثارها هي الامور الاربعة المذكورة : من التنجيز والتعذير والانقياد والتجري كما تقدم بيانها ، واذا لم يكن الالتزام والاسناد من آثار الحجية فلا وجه لاثبات عدم الحجية بنفي وجوب الالتزام وبعدم صحة الاسناد ، اذ لا يثبت عدم الشيء الا بنفي ما كان من آثار وجوده دون غيرها.

وتوضيح كون الالتزام والاسناد ليسا من آثار الحجية ان نقول : بناء على كون الحجية المجعولة نفس الحكم الوضعي ، وهي اعطاء وصف الحجية للامارة بحيث تكون مما يحتج به ، فان معنى هذا هو اعتبارها بحيث يترتب عليها الآثار الاربعة : من التنجيز والمعذرية والانقياد والتجري ، وهذا وان لم يقل به الشيخ (قدس‌سره) لكنه بناء عليه لا يكون هناك حكم حتى يجب الالتزام به ويصح اسناده.

وبناء على كون الحجية هي جعل الحكم سواء كان هو الحكم الطريقي او النفسي فلا يجب الالتزام ولا يصح الاسناد ايضا ، لان الواصل حقيقة هو الحكم

٢١١

.................................................................................................

______________________________________________________

الذي أدت اليه الامارة سواء كان طريقيا او نفسيا ، واما الحكم الواقعي فليس بواصل بنفسه.

نعم الحكم الذي أدت اليه الامارة وصل بعنوان انه هو الحكم الواقعي ، فما يصح الالتزام به واسناده هو هذا الحكم الذي أدت اليه بعنوان انه هو الواقع ، وهذا في الحقيقة التزام واسناد للحكم الظاهري. واما الحكم الواقعي بما هو واقعي فلا يصح الالتزام به ولا اسناده لعدم وصوله ، والغرض مما ذكره واستدل على حرمة الالتزام به واسناده ما يرجع الى الحكم الواقعي ، والحكم الواقعي سواء ثبتت الحجية ام لم تثبت لا يجوز الالتزام به ولا يصح اسناده ، واذا كان مع ثبوت الحجية لا يترتب جواز الاسناد ولا وجوب الالتزام بالنسبة الى الحكم الواقعي ، فلا معنى لاستكشاف عدم الحجية بعدهما ، مضافا الى ان صحة الاسناد اليه انما هو من آثار العلم بالحكم دون الحكم لانه صدق ، وعدم صحة الاسناد في حال العلم بعدم الحكم من آثار العلم بالعدم لانه كذب ، وعدم صحة الاسناد في حال الشك لانه افتراء وهو خصوص نسبة الشيء الى من لا يعلم انه منه ، وكون الاثر من آثار العلم بالشيء والعلم بعدمه والشك فيه غير كونه من آثار نفس الشيء ، بخلاف ما مر من الآثار فان التنجيز والتحريك لنفس الحكم غايته ان الشرط في كونه محركا وباعثا هو العلم ، واما الصدق والكذب والافتراء فهي من آثار نفس العلم والعلم بالعدم والشك.

هذا كله مضافا الى ما اشار اليه المصنف من كون صحة الالتزام والاسناد ليستا من آثار الحجية أولا : بان الحجية تتحقق ولا يصح الالتزام والاسناد كما في حجية الظن الانسدادي على الحكومة ، فانه بناء على الحكومة يكون حال الظن حال القطع من دون وجود حكم في البين ، لان نتيجة الانسداد بناء على الحكومة هو حكم العقل بان للظن ـ بعد تمامية مقدمات الانسداد ـ ما للقطع من الآثار ، والعقل ليس بمشرع للاحكام الشرعية فليس في البين حكم شرعي لا واقعي ولا ظاهري.

٢١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

واذا كانت الحجية موجودة ولا يصح الالتزام بحكم ولا اسناد حكم اليه تعالى ـ تبين ان صحة الالتزام والاسناد ليسا من آثار الحجية فلا وجه لاستكشاف عدمها بنفيها ، والى هذا اشار بقوله : «ضرورة أن حجية الظن عقلا على تقرير الحكومة في حال الانسداد» لازمها كون الظن كالقطع في هذا الحال ، وليس هناك حكم اصلا لا واقعا لفرض عدم العلم به ، ولا ظاهرا لعدم الجعل الشرعي على الحكومة ، فعلى الحكومة لا حكم حتى يصح اسناده والاستناد اليه ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لا توجب صحتهما» أي حجية الظن على الحكومة لا توجب صحة الاسناد ولا صحة الاستناد ، وهذا كاشف عن ان الاسناد والاستناد ليسا من آثار الحجية.

ثانيا : ما اشار اليه بقوله : «فلو فرض الى آخره» ، وحاصله : انه لو فرضنا قيام دليل شرعي على وجوب الالتزام بحكم الله الواقعي وصحة اسناده اليه في مورد الامارة فقط من دون دلالة لذلك الدليل على ثبوت الآثار الاربعة من التنجيز وبقية الثلاثة لما كانت الامارة حجة يجب العمل على طبقها ، ولو فرضنا ثبوت ملازمة عرفية بين وجوب الالتزام وصحة الاسناد ، وبين ثبوت تلك الآثار فالحجية انما تثبت لتحقق الدليل على آثارها المستلزمة لها ، وهذا غير كون نفس وجوب الالتزام وصحة الاسناد من آثارها ، ولذا لو فرضنا عدم الملازمة عرفا لما كان ثبوت وجوب الالتزام وصحة الاسناد مما يقتضي حجية الامارة أي وجوب العمل على طبقها.

ولا ينبغي ان يخفى ان فرض قيام الدليل على وجوب الالتزام بحكم الله الواقعي وصحة اسناده اليه انما يكون بتوسعة الصدق الجائز شرعا الى ما يشمل مشكوك الصدق والكذب ، وبتخصيص التشريع القبيح عقلا وشرعا بخصوص ما علم انه ليس من الدين ، ولا يشمل المشكوك كونه من الدين.

واما ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) : من الاستدلال بالآية فمن الواضح انها تدل على حرمة الافتراء لا على حرمة الالتزام.

٢١٣

إذا عرفت ذلك ، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الاصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.

فصل

لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة ، لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات ، مع القطع بعدم الردع عنها ، لوضوح عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الافادة لمرامه من كلامه ، كما هو واضح (١).

______________________________________________________

ومثلها قوله عليه‌السلام : (رجل قضى بالحق وهو لا يعلم) فانها تدل على حرمة ذلك لانها افتراء.

واما الاجماع فهو مع انه من المنقول محتمل المدرك ، ولا حجية للاجماع المنقول لو قلنا بحجيته مع احتمال كون مدركه احد الادلة التي ذكرت.

واما العقل فغايته هو حكمه بقبح الالتزام لانه تصرف في سلطان المولى ، ولا يكون محرما شرعا إلّا بالقول بالملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ، وهي محل اشكال بل منع ، لإمكان ان يكون هناك مصلحة لا يدركها العقل تكون غالبة على القبح الذي ادركه ، ومن الواضح عدم احاطة العقل بجميع جهات الشيء ، هذا كله مضافا الى ما مر من عدم وجوب الموافقة الالتزامية. واما حرمة الاسناد فيما لا يعلم انه حكم الله فقد عرفت انها لكونها افتراء لا لانه من آثار الحجية.

فاتضح ان مسلك المصنف هو الصواب في تقرير الاصل ، والله العالم.

(١) توضيحه : ان العقلاء تارة يكون لهم بناء على قضايا كلية كبنائهم على حسن العدل وقبح الظلم ، وفي مثل هذا لا حاجة في التمسك بها الى ثبوت عدم الردع عنها لانها قضايا بنى عليها العقلاء حفظا للنظام وابقاء للنوع ، والشارع رئيس العقلاء. نعم للشارع بما هو شارع ومطلع على حقايق الاشياء في مقام تطبيق هذه الكلية على

٢١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المصاديق الخارجيّة حق الرفع والوضع الكاشف عن وجود مصالح ومفاسد يخفى ادراكها على العقلاء ، فلا يكون حكمه بخلافها ظاهرا تخصيصا لها ، بل يكون من قبيل التخصّص بحيث لو اطلع العقلاء لعرفوا ان الموارد الخارجة قد زوحمت القاعدة فيها بما يخرجها عن كونها مصداقا لها ، كحكمه بقطع يد السارق إزاء سرقته لمقدار لا يدرك العقلاء المصلحة الموجبة للقطع فيه.

واخرى : يكون للعقلاء بناء على الاخذ بشيء لحاجتهم اليها في مقام ترتيب عملهم عليه كمثل اخذهم بظواهر الالفاظ ، وفي مثل هذا لا بد من إمضاء للشارع لهذه الطريقة العقلائية ، وانما كانت هذه محتاجة الى الامضاء دون الاولى لوضوح ان بناءهم على الاخذ بالظاهر ليس من باب ابقاء النوع وحفظ النظام ، وليس لقيام برهان عقلي عندهم يلزم بالاخذ بها ، فللشارع ان يخترع طريقة اخرى ، فلذا كانت محتاجة إلى إمضاء من الشارع لهذه الطريقة ، وانه ليس له طريقة غير طريقة العقلاء في هذا البناء.

ولإحراز امضاء الشارع بما هو شارع طريقان :

ـ الاول : ان ينصّ على الامضاء.

ـ الثاني : ان تكون طريقتهم بمرأى منه ومسمع فلم يردع عنها ، واستكشاف عدم ردعه في المقام بوجهين :

الاول : ان للشارع كلاما له ظاهر يتضمن احكاما وغيرها ، فلو كان له طريق في إرادة خلاف ما هو ظاهر كلامه للزمه البيان لطريقته الخاصة التي بها تفهم احكامه وغيرها من قصص وحكايات ، ومن الواضح انه ليس للشارع طريقة يختص بها في افهام كلامه المتضمن للاحكام وغيرها ، فهذا دليل واضح كاشف عن ان طريقته هي طريقة العقلاء في الاخذ بالظاهر.

٢١٥

والظاهر أن سيرتهم على اتباعها ، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا (١) ، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا ، ضرورة أنه لا مجال

______________________________________________________

الثاني : انه لو تحقق منه ردع لنقل الينا بالتواتر ، اذ الاخذ بظواهر الالفاظ اعظم مورد للابتلاء ، فلو كان للشارع طريقة غير الاخذ بالظاهر لنقل بالتواتر ، وحيث لم يكن لنقل الردع عين ولا اثر كان ذلك كاشفا قطعيا عن امضائه للطريقة العقلائية.

وقد اشار هنا الى الوجه الاول بقوله : «لوضوح عدم اختراع طريقة اخرى في مقام الافادة لمرامه» ، وستأتي الاشارة منه الى الوجه الثاني في طي هذا الجزء ايضا.

قوله (قدس‌سره) : «بالجملة الخ» انما قال في الجملة لان الغرض اثبات ان للعقلاء بناء على الاخذ بالظاهر ، اما انه هل هو مقيد عندهم بافادته للظن ، او مقيد بعدم الظن على الخلاف ، او انه مخصوص بمن قصد افهامه ، او دعوى اختصاص خصوص ظواهر الكتاب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة عليهم‌السلام فسيأتي التعرض لها واحدا واحدا وانه غير مقيد بشيء منها.

(١) بعد ما عرفت من تحقق بناء العقلاء على العمل بالظواهر وثبوت الامضاء له ، وقع الكلام في مقامات :

الاول : ما اشار اليه بقوله : «الظاهر ان سيرتهم على اتباعها» أي اتباع الظهورات «من غير تقييد بافادتها للظن فعلا» المراد من الظن الفعلي هو الظن الشخصي ، لوضوح كون الظواهر مما تفيد الظن النوعي ، مضافا الى كون الظن النوعي لا يلزم ان يكون ظنا فعليّا ، فلا بد وان يكون المقيد بالفعلية هو الظن الشخصي.

والظاهر من سيرة العقلاء في الاخذ بالظواهر هو عدم تقيدها بافادة الظن الشخصي ، ولذا لا يقبل اعتذار العبد في عدم الاخذ بما له ظهور في انه لم يحصل له منه الظن.

٢١٦

عندهم للاعتذار عن مخالفتها ، بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف (١).

______________________________________________________

ولعل السبب في بنائهم على عدم تقييد الظواهر بافادتها للظن الشخصي ان الظن مما لا سبيل اليه الا من قبل نفس مدّعيه ، فيبطل الغرض الداعي لبنائهم على الاخذ بالظهور الذي عليه يقوم نظام الاجتماع.

وما يقال : من انه لا اشكال في كون الظهور ليس للعقلاء بناء عليه في مقام العلم ، سواء كان العلم على وفاق الظهور او على خلافه ، وهو ايضا مما لا سبيل اليه فلا يكون الداعي لعدم تقييدهم لها بالظن هو كونه مما لا سبيل اليه الّا من قبل مدّعيه.

فانه يقال : فرق بين العلم والظن بالوفاق ، فان الظهور لا قابلية نوعية فيه لافادة العلم لاحتمال الغفلة او الخطأ ، بخلاف الظن بالوفاق فان الظهور كثيرا ما يفيد الظن الشخصي لوهن احتمال الغفلة او الخطأ ، ولا قابلية نوعية للظهور لافادة العلم ، فالعلم دائما يكون حاصلا من الخارج لا من نفس الظهور ، فكان مجال لاحتمال تقيد الظهورات به بخلاف العلم.

(١) هذا هو المقام الثاني وهو انه هل ان بناء العقلاء على الاخذ بالظهور مقيد بعدم قيام الظن الشخصي على خلافه ، او انه غير مقيد بذلك وان بناءهم على الاخذ بالظهور وان كان ظن شخصي على خلافه؟

وقد استدل المصنف على عدم تقيد بنائهم بذلك بنفس الدليل السابق على عدم تقيده بالظن بالوفاق : وهو ان الظاهر من سيرتهم الاخذ به وان كان هناك ظن شخصي على خلافه ، ولذا لا يصح الاعتذار عن الاخذ بالظهور بحصول الظن على الخلاف ، وقد اشار الى عدم تقيد الظهور عند العقلاء لا بالظن بالوفاق ولا بعدم الظن على الخلاف جامعا بينهما بهذا الدليل الدال على عدم تقيده بهما بقوله : «ضرورة انه لا مجال عندهم للاعتذار الى آخر الجملة» وقد ذكر غير المصنف

٢١٧

كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه ، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى ، من تكليف يعمه أو يخصه ، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به صحة الشهادة بالاقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه ، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه (١) ، ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والائمة الطاهرين.

______________________________________________________

دليلا آخر على عدم تقييد بنائهم بعدم الظن على الخلاف ، وملخصه : ان عدم الظن بالخلاف لا يعقل ان يكون جزء المقتضي ولا يعقل ان يكون شرطا من باب كون عدم المانع من شرائط تأثير المقتضي.

اما معقولية كونه جزء المقتضي فلانه عدمي ، والعدم لا يعقل ان يكون مؤثرا ولا شريكا في التأثير ، اذ لا يعقل ان يترشح الوجود من العدم لا بنحو الاستقلال ولا بنحو أن يكون جزءا من المؤثر.

واما عدم معقولية كونه شرطا من باب عدم المانع ، لوضوح ان المانع عن تاثير الحجة لا بد وان يكون حجة ، فلا بد من فرض حجية الظن بالخلاف حتى يكون الظن بالخلاف حجة مزاحمة فيكون عدمه شرطا ، لبداهة اشتراط الحجة بعدم قيام حجة على خلافها ، وهذا خلف لان المدعي يدعي كون عدم الظن بالخلاف شرطا مع فرض عدم حجية الظن القائم على خلاف الظهور ، فتامل.

(١) هذا هو المقام الثالث وهو انه هل يختص حجية الظهور بمن قصد افهامه ام لا؟

وقد ذهب المحقق القمي (قدس‌سره) الى اختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه.

ومختار المصنف وفاقا للاكثر هو الثاني.

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب اختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه دون غيره : ان استعمال المتكلم اللفظ في المعنى انما هو لاجل كون المتكلم يريد افهام المعنى به ، فاذا كان مخاطبا لشخص فيكون قصده إفهامه للمعنى باللفظ ، فعليه ان يكون كلامه الملقى الى من قصد افهامه وافيا بغرضه ، واذا لم يكن وافيا بذلك كان ناقضا لغرضه ، فلو نصب قرينة خاصة يفهمها خصوص من قصد افهامه دون غيره لا يكون ناقضا لغرضه ، فاذا احتملنا ان يكون هناك قرينة حالية او مقالية ولكنها قد سقطت من الكلام بعد ان فهم منها المقصود بالافهام المعنى المراد بها لا يكون ذلك الكلام حجة لغير المقصود بالافهام ، لعدم لزوم نقض الغرض من المتكلم بالنسبة اليه ، لانه غير مقصود بالافهام.

والجواب عنه ، اولا : بان للمتكلم ثلاث ارادات : ارادة استعمالية وهي افناء اللفظ في المعنى الذي كان اللفظ قالبا له ووجودا تنزيليا بالنسبة اليه.

وارادة تفهيمية : وهي قصد افهامه المعنى باللفظ.

وارادة جدية : وهي كون المتكلم مريدا جدا لهذا المعنى الذي كان اللفظ قالبا له واريد افهامه باللفظ.

وقد قام بناء العقلاء على ان اللفظ الذي هو قالب لمعناه ووجود تنزيلي له هو المراد بالارادة الاستعمالية وهو المراد ايضا بالارادة التفهيمية وبالارادة الجدية ، وهذا البناء منهم مرجعه اللفظ والمعنى وغير مربوط بالمقصود بالافهام وغيره ، اما في الارادة الاستعمالية والارادة الجدية فواضح ، واما في الارادة التفهيمية فلان المراد منها افهام المعنى باللفظ من دون تقييد لذلك بخصوص من قصد بالكلام والقي اليه ، ولذا لا نرى العقلاء يفرقون في بنائهم على كون المتكلم اراد افهام المعنى باللفظ بين من القي اليه الكلام وبين غيره.

والحاصل : ان قبح نقض الغرض عند العقل انما هو بالنسبة الى هذه الارادات الثلاث كلها ، فانه لو استعمل اللفظ في غير ما هو قالب له كان ناقضا لغرضه ، وكذا

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لو لم يرد افهام المعنى باللفظ كان ناقضا لغرضه ، ولو كان غير مريد جدا كان ناقضا لغرضه ايضا ، فمورد نقض الغرض عند العقل غير المقامات الثلاثة التي قام بناء العقلاء على ارادتها للمتكلم.

ويدل على انه لا يختص حجية الظهور بمن القي اليه الكلام انه كثيرا ما يكون المقصود بالافهام غير من القي اليه الكلام وهو إياك اعني واسمعي يا جارة.

إلّا ان يقال ان مراد من خصص حجية الظهور بالمقصود بالافهام ليس هو خصوص من القي اليه الكلام ، بل من اريد افهامه سواء كان هو أو غيره ، ففي مثل : اياك اعني واسمعي يا جارة لا بد من نصب قرينة يعرفها غير من القي اليه ، وهو من يسمع الكلام لا من يخاطب به ويلقى اليه.

وبعبارة اخرى : ان مبنى المتكلمين اذا كان غرضهم على افهام خصوص الملقى اليه الكلام دون غيره ان يتكلموا بكلام ليس له ظهور بين في المعنى بحيث يفهمه كل من سمعه ، ولذا يؤخذون باعترافاتهم الدالة على معانيها ، وان القوا كلامهم الى شخص خاص بحيث منعوا ان يسمع كلامهم غيره ولكنه سمعه غيره من باب الصدفة ، وليس لهم ان يعتذروا بان السامع غير مقصود بالافهام ، وهذا يدل على ان الارادة التفهيمية مرجعها افهام المعنى باللفظ من دون تقييد لها بالملقى اليه الكلام ، والى هذا اشار بقوله : «الظاهر هو عدم اختصاص ذلك بمن قصد افهامه الى آخر كلامه».

وثانيا : ان الكلام في حجية الظواهر في علم الاصول الذي كان الغرض منه هو الاستنباط للاحكام انما هو في الكلام الصادر من الشارع المتضمن لاحكام لا تخص الملقى اليه الكلام بل تعمه وغيره ، فليس للشارع ان يخص الملقى اليه الكلام بقرينة لا يفهمها الا هو ، مع كون الغرض شمول الحكم المتضمن له الكلام له ولغيره ، واذا كان في الكلام مثل تلك القرينة لغرض يدعو اليها كالتقية مثلا ، فعلى المبلغ لكلامه ان يذكرها لغيره لفرض دخوله معه في ذاك الحكم ، وإلّا كان خيانة منه ، وفرض غفلته عن ذلك خروج عن محل الكلام ، بل هو في باب احتمال القرينة.

٢٢٠