بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-061-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٨

وإن ذهب بعض الاصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب (١) ، إما بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به (٢).

______________________________________________________

(١) هذا هو المقام الرابع ، وهو دعوى بعض اصحابنا الاخباريين باختصاص حجية ظواهر الكتاب الكريم بخصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الطاهرين ، ولا حجيّة لظواهر الكتاب بالنسبة الى غيره ، فلا يصح من غيرهم التمسك بظواهره.

(٢) لا يخفى ان المنقول عنهم في مقام الاستدلال على عدم حجية ظواهر الكتاب لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة عليهم‌السلام اكثر مما ذكره في الكتاب ، الّا ان المهم منها هذه الوجوه الخمسة :

اولها : دعوى اختصاص فهم القرآن. لا يخفى ان هذا يمكن ان يرجع الى منع اصل الظهورات الكتابية ، وانه ليس للكتاب ظواهر بدعوى : ان بناء العقلاء انما هو في حجية الظهور لمن خوطب به ، اما غير المخاطب به فليس للعقلاء بناء على حجيّته.

ومن الواضح ان المخاطب بالقرآن هم عليهم الصلاة والسلام ، وهذه الدعوى تشبه ما ذهب اليه المحقق القمي في اختصاص الظهور بالمقصود بالافهام.

ويرد عليها ، اولا : انه لا وجه لاختصاص هذا بالكتاب ، بل لا بد ان يعمّ الاحاديث ، بل وكل الظهورات.

وثانيا : ما اورد على المحقق القمي بمنع اختصاص بناء العقلاء في حجية الظهور بمن خوطب به فراجع.

ويمكن ان يكون المراد منه ان ظواهر الكتاب بالخصوص مختصة بهم عليهم الصلاة والسلام ، لانه لم يرد منها ما هو ظاهرها ، ويكون المراد من قولهم لا يفهم القرآن الّا من خوطب به هو ان المراد بالقرآن معان غير ما هو ظاهرها ، ولا يفهم

٢٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

تلك المعاني الّا هم عليهم الصلاة والسلام ، وليس غرضه اختصاص بناء العقلاء في الظواهر مطلقا بالمخاطب بها.

وهذه الدعوى حيث انها دعوى بلا بيّنه ، اذ لا وجه لخروج ظواهر الكتاب عن بناء العقلاء بعد ان تمّ بناؤهم على العمل بالظاهر مطلقا سواء من خوطب به ومن لم يخاطب ، فما الوجه في خروج ظواهر الكتاب عن بناء العقلاء؟ لذلك استدل لهم المصنف بالخبرين كدليل لهذه الدعوى ، وأحد الخبرين وارد في مقام ردع ابي حنيفة ، والثاني في مقام ردع قتادة ، قال عليه‌السلام في ردع الاول : (ويلك ما جعل الله ذلك الا عند اهل الكتاب) (١) ولا ريب ان اهل الكتاب هم عليه‌السلام ، فيدل هذا الخبر انه لا يصح لغير اهل الكتاب التمسك بالكتاب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام ردع قتادة : (ويحك يا قتادة انما يعرف القرآن من خوطب به) (٢) ويدل هذا الخبر على اختصاص الكتاب بهم لانهم هم المخاطبون به.

وحيث عرفت انها لا ترجع الى دعوى اختصاص بناء في الظواهر بخصوص المخاطبين ، فلا بد وان يكون اختصاص خصوص الكتاب بمن خوطب به يرجع : اما الى دعوى كون الفاظ الكتاب قد وضعها الله تعالى الى معان خاصة غير ما هو الموضوع لها عند العرب ، او ترجع الى انها قد استعملت مجازا في معان خاصة ، ولا يفهم قرائن تلك المجازات الّا هم المخاطبون بالكتاب.

والحاصل : انه قد استعملت الفاظ الكتاب في معان غير ما يتراءى منها عند العرف العربي ، وقد صرّح بهذا السيد الصدر شارح الوافية حيث قال : «ان القرآن نزل على اصطلاح خاص الى آخر كلامه» والى هذا الوجه اشار بقوله : «اما بدعوى اختصاص فهم القرآن الى آخر الجملة».

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، ص ٢٩ / ٢٧ ، باب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، ص ١٣٦ / ٢٥ ، باب ١٣ من ابواب صفات القاضي.

٢٢٢

أو بدعوى أنه لاجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية ، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الانظار غير الراسخين العالمين بتأويله ، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الاوائل إلا الاوحدي من الافاضل ، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شيء (١).

أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله (٢).

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني وهو يرجع الى مثل الاول : من ان الظهور المتراءى في الكتاب ليس هو المراد منه ، وحاصله : انه لا اشكال في كون القرآن يحتوي على مضامين عالية يدق على الافهام الوصول اليها ، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الذي فيه تبيان كل شيء ، ومن الواضح ان كثيرا من الاشياء بل وكثيرا من العلوم لا يرى الناس للقرآن دلالة عليها ، ولا ريب في تضمنه لها ودلالته عليها ، واهل الكتاب يفهمون منه كل شيء كما لا يخفى ذلك على كل من راجع كلامهم في مقام احتجاجهم بالكتاب العزيز ، وانه بعد بيانهم له يكون له دلالة بيّنة عليه ، ولا يفهم احد تلك الدلالة قبل بيانهم عليه‌السلام ، وكيف يكون كلام الله مما يفهمه الناس ، والحال ان كلام بعض العلماء المتبحرين لا يفهمه الا الاوحدي من العلماء الافاضل المتعمقين ، والى هذا الوجه اشار بقوله : «بدعوى انه لاجل احتوائه».

(٢) هذا هو الوجه الثالث وحاصله : انه لا ريب في نهي الكتاب العزيز في الاخذ بالمتشابه ، لقوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ)(١).

ويتضمن الكتاب انحاء ثلاثة من الدلالة :

النص : الذي لا يحتمل فيه دلالة غير ما يفهم منه ويدل عليه ، كقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ)(٢) الآية.

__________________

(١) آل عمران : الآية ٧.

(٢) الفتح : الآية ٢٩.

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والظاهر : وهو ما كان له ظهور في معنى ولكن يحتمل فيه دلالة اخرى ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ)(١) الآية ، فان لها ظهورا في حلية ما امسكه الكلب المعلم ، ويحتمل دلالته على طهارة موضع عضة الكلب ايضا.

والمجمل : وهو الذي ليس له دلالة ظاهرة على شيء ك (حم) و (كهيعص) وامثالهما.

ولا يخفى ان نصوص الكتاب قليلة جدا ، وأكثره من الظاهر ولا سيما آيات الاحكام.

ولا ريب في عدم جواز الاخذ بالمجمل لانه لا ظهور له ، اولا.

وثانيا : لانه من المتشابه قطعا.

واما الظاهر فالمستدل يدعي ، تارة : ان المتشابه يشمل ما احتمل دلالته على معنى وان كان له ظهور في معنى آخر ، فلا يصح التمسك به للنهي عن اتباعه والاخذ به ، فتكون الآية رادعة عن بناء العقلاء في الاخذ بالظاهر في خصوص ظواهر الكتاب ، والى هذا اشار بقوله : «بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر» ، وقوله للظاهر هو متعلق بالمتشابه : أي بدعوى شمول المتشابه للظاهر الممنوع عن اتباعه ، فتكون ردعا لبناء العقلاء في خصوص ظواهر الكتاب.

واخرى : ان لفظ المتشابه نفسه هو من الالفاظ المجملة المتشابهة ، لاحتمال اختصاصه بالمجمل فقط واحتمال شموله ايضا للظاهر ، فتكون الآية محتملة لان تكون رادعة عن بناء العقلاء ، وقد عرفت ان بناء العقلاء لا بد فيه من القطع بالامضاء وبعدم الردع ، واحتمال الردع كاف في المنع عن الاخذ ببناء العقلاء ، والى هذا اشار بقوله : «لا اقل من احتمال شموله» للظاهر «لتشابه» لفظ «المتشابه

__________________

(١) المائدة : الآية ٤.

٢٢٤

أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا ، إلا أنه صار منه عرضا ، للعلم الاجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره ، كما هو الظاهر (١).

______________________________________________________

واجماله» وهو كاف في المنع عن تمامية بناء العقلاء في الاخذ بخصوص ظواهر الكتاب.

(١) هذا هو الوجه الرابع ، وحاصله : ان بناء العقلاء على الاخذ بالظهور انما هو في غير الظواهر التي تعلم اجمالا بطروء التقييد أو التخصيص أو التجوز عليها.

واما في الظواهر الواقعة في معرض احد هذه الثلاثة فلا بناء منهم على الاخذ بها والتمسك بظاهرها ، ومما لا اشكال فيه ان ظهورات الكتاب العزيز واقعة في معرض هذه الثلاثة كلها.

وبعبارة اخرى : ان المجمل على نحوين : الاول : ما لا يكون له ظهور في شيء.

والثاني : ما كان له ظهور ولكن العلم الاجمالي بوقوعه في معرض هذه الثلاثة يجعله من المجمل بالعرض : أي بان يعامل معه معاملة المجمل في عدم صحة التمسك بما هو ظاهر فيه. فالاول مجمل بالذات ، والثاني مجمل بالعرض ، وظهورات الكتاب من الثاني وهو المجمل بالعرض ، والى هذا اشار بقوله : «وان لم يكن منه ذاتا» أي وان لم يكن ظاهر الكتاب من المجمل بالذات «إلّا انه صار منه» أي من المجمل نتيجة و «عرضا للعلم الاجمالي بطروء التخصيص والتقييد» اللاحقين لعموماته واطلاقاته «و» طروء «التجوز في غير واحد من ظواهره» وليس للعقلاء بناء على التمسك بمثل هذه الظواهر «كما هو الظاهر» من راجع بناء العقلاء وراجع ما ورد من التخصيص والتقييد والتجوز في الكتاب العزيز.

٢٢٥

أو بدعوى شمول الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى (١).

ولا يخفى أن النزاع يختلف صغرويا وكبرويا بحسب الوجوه ، فبحسب غير الوجه الاخير والثالث يكون صغرويا ، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي ، ويكون المنع عن الظاهر ، إما لانه من المتشابه قطعا أو احتمالا ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي (٢) ، وكل هذه

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الخامس ، وحاصله : انه قد تواترت الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، والتفسير هو بيان معنى اللفظ وانه هو المراد باللفظ ، وهذا مما يشمل حمل الظاهر على ظاهره لانه تفسير للفظ بان ظاهره هو المراد منه ، فهذه الاخبار رادعة عن بناء العقلاء في الاخذ بظواهر الكتاب ، وقد عرفت انه لا بد في ما بنى عليه العقلاء من القطع بعدم الردع عنه ، واحتمال الردع كاف في عدم الاخذ به فضلا عما دل على الردع عنه.

وبعد ان كان حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي فهذه الاخبار صريحة في الردع ، فلا يصح الاخذ بظواهر الكتاب لشمول التفسير بالرأي له ، والى هذا اشار بقوله : «بدعوى شمول الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنى على ارادة هذا المعنى» أي ان النهي عن التفسير بالرأي يشمل حمل الكلام على ظاهره ، فتكون هذه الاخبار رادعة عن بناء العقلاء.

(٢) حاصله : ان هذه الوجوه الخمسة مختلفة في مؤداها ، فان بعضها يرجع الى المنع عن الكبرى وبعضها يرجع الى المنع عن الصغرى ، لان الوجه الاول والثاني والرابع يرجع الامر فيها الى المنع عن الصغرى ، وانه ليس للكتاب ظهور حتى يتمسك به ، لان حاصل الاول هو ان القرآن قد اريد به إما معان خاصة وضعا غير ما يظهر منه ، او انه اريد به معان خاصة تجوزا غير المعاني الظاهرة منه ، والمعاني المرادة منه بحسب

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الوضع او التجوز لا يفهمها الّا من خوطب بالكتاب وهم النبي واهل بيته ، وهذا ظاهر في المنع عن الصغرى وانه ليس للقرآن ظاهر حتى يؤخذ به.

ومثله الوجه الثاني ، فان حاصله : انه قد اريد بالقرآن معان عميقة غامضة غير ما هو ظاهر فيه لا يفهمها الّا هم ايضا ، وهذا ايضا يرجع الى منع الصغرى وانه لا ظهور للكتاب.

ومثلهما الوجه الرابع ، فان حاصله : ان ظواهر الكتاب من المجمل بالعرض ، وبناء العقلاء يختص بغير المجمل بالعرض فلا ظهور فيها فيما قام بناء العقلاء على الاخذ به ، والى هذا اشار بقوله : «فبحسب غير الوجه الوجه الاخير والثالث يكون صغرويا» وغير الوجه الاخير والثالث هو الوجه الاول والثاني والرابع.

واما الوجه الثالث والاخير ، فان المتحصل منهما : ان للكتاب ظواهر ولكن قد وقع الردع عن الاخذ بها ، وهذان يرجعان الى منع الكبرى ، وهو انا نسلم أن للقرآن ظواهر ، ونسلم ايضا ان بناء العقلاء قد قام على الاخذ بالظاهر ، الّا انه انما يكون هذا البناء حجة فيما اذا لم يردع عنه ، فمرجع هذا الى انا لا نسلم ان كلّ ما بنى عليه العقلاء يصح الاخذ به ، بل هو فيما اذا لم يردع عنه ، او لا يكون محتملا لان يكون قد ردع عنه ، والى هذا اشار بقوله : «واما بحسبهما» أي بحسب الوجه الاخير والوجه الثالث «فالظاهر انه» أي النزاع فيهما «كبروي» وانه ليس كل ظاهر حجة ، بل الحجة هو الظاهر الذي قطع بعدم الردع عنه ، فما ورد الردع عنه أو ورد ما يحتمل كونه رادعا عنه فلا يكون حجة.

وما ورد من النهي عن المتشابه اما شامل قطعا للظاهر الكتابي ، او محتمل الشمول «و» حينئذ «يكون المنع عن الظاهر» الكتابي «اما لانه من المتشابه قطعا او احتمالا» وهذا هو الوجه الثالث. ومثله الوجه الخامس فانه كبروي ايضا «لكون حمل الظاهر على ظاهره» مما ردع عنه لانه من التفسير بالرأي ، وظاهره

٢٢٧

الدعاوى فاسدة : أما الاولى ، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته ، بداهة أن فيه ما لا يختص به ، كما لا يخفى.

وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما هو لاجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله ، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه ، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به ، كيف؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات الارجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد عن آياته (١).

______________________________________________________

تسليم الظاهر الكتابي وتسليم البناء على الاخذ بالظاهر ، ولكنه غير الظاهر الذي ردع عنه ، وظواهر الكتاب حيث انها من التفسير بالرأي فقد ردع عنها.

(١) اجاب (قدس‌سره) عن الوجه الاول بثلاثة اجوبة :

الاول : ان المراد من اختصاص فهم الكتاب بهم عليه‌السلام هو فهمه بجميع ما فيه :

من نص ، وظاهر ، ومجمل ، ولا اشكال في اختصاص ذلك بهم عليهم‌السلام ، ويدل على هذا ان الخصم يعرف بان النص لا يختص فهمه بهم ، فالمراد من قوله عليه‌السلام ـ في مقام ردع قتادة ـ : انما يعرف القرآن من خوطب به هو معرفته بكلّه ، والى هذا اشار بقوله : «بداهة ان فيه» أي في الكتاب «ما لا يختص به» أي لا يختص بمن خوطب به.

الثاني : ان نقول ان ردع ابي حنيفة وقتادة عن الاخذ بالكتاب مما يشمل الاخذ بظاهره ، ولكن ردعهم انما هو عن فتواهم بالقرآن ، ومن الواضح ان الفتوى بعمومات الكتاب واطلاقاته لا تصح الا بعد المراجعة والفحص عما هو مخصص او مقيد لها مما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المخصص او المقيد وما ورد عنهم عليهم‌السلام مخصصا او مقيدا.

٢٢٨

وأما الثانية ، فلان احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للاحكام وحجيتها ، كما هو محل الكلام (١).

______________________________________________________

ولا اشكال ان أبا حنيفة وقتادة كانا يفتيان بالعمومات والاطلاقات بنحو الاستقلال من دون مراجعة ما ورد عنهم عليه‌السلام من المخصص والمقيد ، فلا يكون هذا الردع مما له ربط بما نقول به من حجية الظواهر الكتابية بعد الفحص والبأس عمّا ورد لها عنهم عليهم‌السلام من المخصص او المقيد او البيان الدال على انه اريد بها غير ظاهرها مجازا ، والى هذا اشار بقوله : «وردع ابي حنفية وقتادة عن الفتوى به انما هو لاجل الاستقلال» منهما «في الفتوى بالرجوع اليه» أي الى الكتاب «من دون مراجعة اهله» مما ورد عنهم من مخصص او مقيد او ببيان «للمجاز» و «لا» دلالة لهذا الردع «عن الاستدلال بظاهره» أي بظاهر الكتاب «مطلقا ولو مع الرجوع الى رواياتهم عليهم‌السلام و» بعد «الفحص عما ينافيه» أي عما ينافي عموم الظاهر او اطلاقه «و» انما تصح «الفتوى به» عندنا «مع الياس عن الظفر به» أي عن الظفر بما ينافيه من مخصص او مقيد او بيان لتجوز.

الثالث : انه مما يدل على عدم اختصاص ظواهر الكتاب بهم عليه‌السلام بعد الفحص واليأس هو أمرهم عليه‌السلام بالرجوع الى ظواهر الكتاب في جملة من الروايات ، كقوله عليه‌السلام : (ان هذا وشبهه يعرف من كتاب الله) (١) في مقام دلالة الباء في آية الوضوء على التبعيض ، ولا ريب في ان دلالة الباء على التبعيض من الظواهر.

ولا اشكال ان قوله عليه‌السلام : (ان هذا وامثاله يعرف من كتاب الله) مما يدل على ان تلك المعرفة لا تختص بهم عليهم‌السلام ، والى هذا اشار بقوله : «كيف وقد وقع في غير واحد من الروايات الارجاع الى الكتاب ... الى آخر الجملة».

(١) هذا هو الجواب عن الوجه الثاني ، وهو كون القرآن عميق المعنى بعيد المغزى لا يفهمه الّا اهله.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ، ص ٤٣٥.

٢٢٩

وأما الثالثة ، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه ، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس بمتشابه ومجمل (١).

______________________________________________________

وحاصله : إنا لا ننكر ان القرآن محتو على ذلك ، ولكن تلك المعاني العميقة والمغازي الجليلة المتضمنة لتبيان كل شيء انما هي في متشابهات الكتاب لا في ظواهره ، او تقول بانها في ظواهره ولكن في بطون تلك الظواهر لا في معانيها الظاهرة منها ، ولا ينافي كون الكتاب حجة فيما هو ظاهر فيه ان له بطونا لا يعرفها إلّا اهله ، فانه لا مانع من ان يدل اللفظ على ما هو ظاهر فيه ، وتكون له دلالات اخرى ولو بنحو اللزوم غير البين على معان كثيرة ومغاز عميقة جليلة تتضمن تبيان كل شيء.

وكون اللفظ في الكتاب العزيز له دلالات ومدلولات متعددة منها ما له ظهور فيها بحيث يفهمها كل احد ومنها غامضة لا يفهمها إلّا اهله ـ لا يوجب عدم حجيته في ما هو ظاهر فيه من الاحكام بعد كونها من الظواهر المفهومة لكل واحد ، والى هذا اشار بقوله : «فلأن احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للاحكام و» لا يمنع عن «حجيتها» لان تلك المضامين العالية اما ان تكون مرادة من المتشابه او من الظواهر بحسب تعدد الدلالة.

(١) هذا هو الجواب عن الوجه الثالث الذي كان محصله عدم حجية ظواهر الكتاب لانها من المتشابه ، وقد ورد الردع في الكتاب الكريم عن اتباع المتشابه.

وتوضيح الجواب عنه : ان الاستدلال بظاهر الكتاب ممن لا يقول بحجية ظواهره لا يصح إلّا جدلا ، لوضوح انه بعد كونه ممن لا يقول بحجيته كيف يستدل بما لا يراه حجة؟ نعم يصح على نحو الجدل ، وهو الزام الخصم بما يراه حجة وان كان المستدل لا يرى حجته.

وبعد تصحيح هذا الاستدلال على نحو الجدل نقول انه باطل حتى على نحو الجدل ..

٢٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

اولا : بان نقول ان المراد من المتشابه هو المجمل دون الظاهر فهو خارج موضوعا عما نقول بحجيته وهي الظواهر الكتابية دون مجملاتها ، ومن الواضح ان الظاهر ليس هو من المجمل ، فليس هو من المتشابه الذي ورد النهي عن اتباعه ، والى هذا اشار بقوله : «فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه فان الظاهر كون» لفظ «المتشابه» ليس من المتشابه بل هو من الظاهر ، والمراد به «هو خصوص المجمل وليس» لفظ المتشابه «بمتشابه ومجمل».

وثانيا : ان من يقول بحجية ظواهر الكتاب لا يقول بحجية ظاهر الكتاب المانع عن التمسك بظواهره ، لان مثل هذا الظاهر يلزم من حجيته عدم حجيته ، وما يلزم من وجوده عدمه لا يكون حجة ، لان الظاهر المانع عن التمسك بالظاهر مما يشمل نفسه اما بحسب الدلالة او بحسب الملاك.

وتوضيح ذلك : ان شمول المتشابه للظاهر ، تارة : يكون المراد منه النهي عن كل ظاهر حتى نفسه حيث يكون من الظاهر ، ولا يعقل ان يكون مثل هذا الظاهر بحجة ، ولما كان شمول المتشابه انما هو لظهوره في الشمول فهو بنفسه ظاهر من الظواهر ، ومن المحال الواضح حجية مثل هذا الظاهر في المنع عن العمل بالظواهر.

واخرى : يقال ان المتشابه لا يشمل نفسه ، لانه في مقام المنع بحسب ما يحكى فلا بد وان تكون الحكاية عن غير نفسه ، وعلى هذا نقول ايضا انه ليس بحجة ايضا لعدم بناء العقلاء على الاخذ بظاهر يمنع عن غيره بملاك يشمله ، ولما كان المتشابه نفسه من الظواهر فالملاك يشمله.

وعلى كل فلازمه عدم حجية نفسه ، لان المفروض انه بنفسه من الظاهر ، وقد منع عن الاخذ بالظاهر ، فهو يمنع عن الاخذ بنفسه اما دلالة او ملاكا.

وثالثا : ان قولهم احتمال الردع كاف لتوقف حجية الظواهر على القطع بعدم الردع ليس بصحيح ، فان المراد من القطع بعدم الردع هو القطع بعدم قيام حجة على الردع ، والمجمل من المقطوع بعدم حجيته ، لوضوح ان لا حجية الا لما صح

٢٣١

وأما الرابعة ، فلان العلم إجمالا بطروء إرادة خلاف الظاهر ، إنما يوجب الاجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال (١) مع أن دعوى اختصاص

______________________________________________________

الاحتجاج به ، ولا يصح الاحتجاج بالمجملات ، بل لا بد في المجمل من الاقتصار فيه على القدر المتيقن ، فمع كون لفظ المتشابه مجملا من حيث شموله للظواهر أو اختصاصه بخصوص المجمل لا بد من الاقتصار فيه على خصوص المجمل فلا يصلح للردع عن الاخذ بالظواهر.

(١) هذا هو الجواب عن الوجه الرابع الذي كان ملخصه : ان الظواهر الكتابية قد علم اجمالا بطروء التخصيص لعموماتها والتقييد لاطلاقاتها او التجوز ، ولا بناء للعقلاء على الاخذ بظواهر علم اجمالا بطروء تخصيص او تقييد عليها او اريد بها معان أخر على نحو المجاز.

وتفصيل الجواب عنه : ان العلم الاجمالي المؤثر هو العلم الاجمالي غير المنحل وهو هنا منحل اما حقيقة او حكما او قهرا.

وتوضيحه : ان العلم الاجمالي ، تارة : ينحل الى علمين تفصيليين ، واخرى : الى علم تفصيلي وشك بدوي.

والاول : كما اذا علم اجمالا بنجاسة اناء زيد المشتبه بين اناءين احدهما لزيد والآخر لعمرو ، ثم علمنا بالتفصيل بان هذا بخصوصه اناء زيد والآخر اناء عمرو.

والثاني : كما اذا علمنا بان نجاسة وقعت واصابت اناء زيد قطعا ونحتمل انها اصابت اناء عمرو ، ثم علمنا باناء زيد واناء عمرو تفصيلا ، فان العلم الاجمالي هنا منحل الى معلوم بالتفصيل وهو اناء زيد النجس قطعا ، والى شك بدوي وهو نجاسة اناء عمرو ، وتنفى بالاصل.

واخرى يكون العلم الاجمالي منحلا حكما ، وهو كما في الموردين المذكورين ولكن بان تقوم البينة بان هذا الاناء بالخصوص هو اناء زيد ، فان العلم الاجمالي

٢٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وان لم ينحل الى المعلوم بالتفصيل حقيقة لان المفروض قيام البينة عليه ويحتمل فيها الخطأ ، ولكنه قد انحل الى ما هو بحكم المعلوم بالتفصيل ، وحال العلم الاجمالي في قيام البينة في عدم التأثير بالنسبة الى اناء عمرو حال العلم الاجمالي المنحل الى معلوم بالتفصيل حقيقة ، ويجري الاصل في نفي النجاسة بالنسبة الى اناء عمرو.

ولا يخفى ان الانحلال الحقيقي والحكمي المعلوم بالاجمالي في كليها معلوم الانطباق على المعلوم بالتفصيل اما حقيقة او حكما ، لان العلم التفصيلي كان مشيرا الى العلم الاجمالي ومبينا له إما حقيقة او حكما.

وثالثا : يكون الانحلال قهريا وذلك بان لا يكون المعلوم بالتفصيل مبينا ولا مشيرا الى المعلوم بالاجمال ، ولكن احتمال انطباقه عليه موجب للانحلال قهرا ، كما لو علمنا اجمالا بحرمة عشرة شياه في قطيع غنم بعضه سود وبعضه بيض ، ثم علمنا تفصيلا بحرمة عشرة شياه بيض مثلا.

فتارة يكون العلم التفصيلي بحرمة العشرة البيض لسبب حادث غير سبب العلم الاجمالي ، كما لو كان العلم الاجمالي بحرمة العشرة لانها مغصوبة قد غصبها زيد ، والعلم التفصيلي بحرمة العشرة كان لغصب بعده آخر قد فعله عمرو ، وفي مثل هذا العلم التفصيلي الحادث لا يكون انحلال بالنسبة الى المعلوم بالاجمال ، فانا وان احتملنا ان غصب عمرو كان قد ورد على نفس غصب زيد ، إلّا ان غصب زيد لما كان سابقا ومنجزا بالنسبة الى القطيع فلا ينحل بالعلم التفصيلي بما غصبه عمرو.

واخرى : لا يكون السبب المعلوم بالتفصيل حادثا ، بل كانا مما يحتمل ان يكون هو السبب الاول ، كما لو علمنا اجمالا بحرمة عشرة شياه في القطيع للغصب ، ثم علمنا تفصيلا بحرمة عشرة شياه بيض في هذا القطيع للغصب ، ونحتمل ان يكون الغصب الثاني المعلوم بالتفصيل هو الغصب الاول المعلوم بالاجمال ، وفي مثل هذا ينحل العلم الاجمالي لاحتمال الانطباق قهرا.

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ووجهه : انا نعلم تفصيلا بان العلم الاجمالي لا تاثير له بالنسبة الى هذه العشرة المعلومة بالتفصيل بما هو علم اجمالي ، لان هذه العشرة اما ان تكون هي متعلق العلم الاجمالي وقد انقلب الى التفصيل فلا تأثير بما هو علم اجمالي ، واما ان تكون هذه العشرة غير متعلق العلم الاجمالي ، ولكن بعد ان كانت معلومة الحرمة بالتفصيل فالمؤثر في حرمتها فعلا هو العلم التفصيلي دون العلم الاجمالي ، ولا يكون للعلم الاجمالي تأثير بالنسبة الى الباقي لانه غير منجز على كل تقدير لاحتمال كونه هو المعلوم بالتفصيل.

ومن البين انه لا بد في العلم الاجمالي المنجز ان يكون منجزا على كل تقدير ، فبعد حصول هذا العلم التفصيلي واحتمال ان يكون هو العلم الاجمالي لا يكون لنا علم اجمالي قد توجه لنا من طرفه حكم بوجوب الاجتناب القطعي غير وجوب الاجتناب المعلوم بالتفصيل بالنسبة الى هذه العشرة.

وبعبارة اخرى : لا بد وان يكون العلم الاجمالي ـ بما هو علم اجمالي ـ منجزا قطعا على كل تقدير بالنسبة الى جميع الاطراف ، وقد عرفت انه بالنسبة الى هذا الطرف المعلوم بالتفصيل لا تنجيز له بما هو علم اجمالي ، فاحتمال انطباق العلم الاجمالي على العلم التفصيلي مما يوجب انحلاله قهرا ، والى هذا اشار بقوله : «فلان العلم اجمالا بطروء ارادة خلاف الظاهر» في الظواهر الكتابية للعلم الاجمالي بطروء تخصيص وتقييد أو تجوز فيها «انما يوجب الاجمال» الموجب لعدم التمسك بها «فيما اذا لم ينحل» هذا العلم الاجمالي انحلالا قهريا وذلك «بالظفر في الروايات بموارد» توجب تخصيصا وتقييدا او تجوزا في الظواهر الكتابية بحيث نحتمل انطباق المعلوم بالاجمال على هذه الموارد التي قد علمنا تفصيلا «ارادة خلاف الظاهر» فيها وقد كانت هذه الموارد التي ظفرنا بها «بمقدار المعلوم بالاجمال» وفي مثل هذا الانطباق المحتمل ينحل الاجمالي انحلالا قهريا.

٢٣٤

أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به ، غير بعيدة ، فتأمل جيدا (١).

وأما الخامسة ، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير ، فإنه كشف القناع ولا قناع للظاهر ، ولو سلم ، فليس من التفسير بالرأي ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الانحلال القهري انما هو حيث لا يكون للعلم الاجمالي عنوان منطبق على المعلوم بالتفصيل.

اما بان لا يكون له عنوان ، او كان له عنوان ولكنه كان محتمل الانطباق لا معلوم الانطباق.

اما اذا كان للعلم الاجمالي عنوان معلوم الانطباق على المعلوم بالتفصيل فالانحلال حقيقي لا قهري.

وقد كان الجواب السابق مبنيا على كون المعلوم بالاجمال لا عنوان له ، وهو مجرد العلم الاجمالي بطروء تخصيص او تقييد او تجوز للظواهر الكتابية ، ثم تفحصنا فوجدنا موارد فيها تخصيص وتقييد وبيان للتجوز ، فيحتمل ان يكون ما ظفرنا به هو متعلق الاجمالي ، ويحتمل ان يكون غيره موارد آخرهن غير ما وجدناه وظفرنا به ، فلذا كان الانحلال قهريا.

اما اذا قلنا بان المعلوم بالاجمال هو طروء التخصيص والتقييد والتجوز الذي لو فحصنا عنه لظفرنا به ، وعلى هذا فبعد الظفر بالمخصصات والمقيدات والمجازات في الظواهر الكتابية يكون الانحلال انحلالا حقيقيا لا قهريا ، لغرض ان معلومنا الاجمالي هو ما اذا فحصنا عنه لوجدناه ، والمفروض انا فحصنا ووجدنا ، فانطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل انطباق حقيقي لا قهري ، والى هذا اشار بقوله : «مع ان دعوى اختصاص اطرافه» أي اطراف المعلوم بالاجمال «بما اذا تفحص عما يخالفه لظفر به غير بعيدة» ومعنى هذا كون المعلوم بالاجمال هو المقيد بما اذا فحصنا عنه لوجدناه ، وبعد ان وجدناه تفصيلا فلا بد من انطباق المعلوم بالاجمال عليه.

٢٣٥

إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به ، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، لرجحانه بنظره ، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدة ذاك الاعتبار عليه ، من دون السؤال عن الاوصياء (١) ، وفي بعض الاخبار إنما هلك الناس في المتشابه ، لانهم

______________________________________________________

(١) هذا الجواب عن الوجه الخامس ، الذي حاصله : ان الظهورات الكتابية قد منع عن العمل بها والاخذ بما هي ظاهرة فيه ، لان الاخذ بها من التفسير بالرأي. وقد أجاب عنه بأجوبة ثلاثة :

الاول : ان حمل الظاهر على ظاهره ليس من التفسير ، فهذه الاخبار الناهية لا تشمل الظواهر.

وتوضيحه : ان التفسير هو الايضاح وكشف القناع الحاجب بين اللفظ وما اريد من المعنى به ، ولازمه ان يكون هناك غطاء وقناع بين اللفظ والمعنى يزول بتفسيره وايضاحه ، ولا بد من اختصاص التفسير بغير الظاهر في معناه ، لان ما له ظهور في معناه ليس بينه وبين معناه حجاب وقناع يكشفه التفسير. ويؤيد هذا ان التفسير انما يكون بالظواهر لقلة النصوص التي لا يتطرقها الاحتمال ، والتفسير لا بد وان يكون بالاجلى ، فلو كان الظاهر مما يحتاج الى التفسير لما امكن التفسير الا بالنص ، وهو بعيد جدا لقلة النصوص ، والى هذا اشار بقوله : «فانه كشف القناع ولا قناع للظاهر».

الجواب الثاني : انه لو سلمنا ان التفسير مما يشمل حمل الظاهر على ظاهره ، لكن المنهي عنه في الاخبار ليس مطلق التفسير ، بل هو التفسير بالرأي ، والمراد منه هو التفسير الذي يحتاج الى إعمال رأي في تأويل الكلام المفسر ، وحمل الظاهر على ظاهره لا يحتاج الى إعمال رأي في حمل اللفظ على معناه ، فلا بد وان يختص التفسير بالرأي في تفسير المجمل أو في تفسير الظاهر بحمله على غير ظاهره ، فان ذلك مما يحتاج الى اعمال الرأي بالاحتمالات الظنية والاعتبارات التي يتوهمها المفسر للكلام

٢٣٦

لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم (١).

______________________________________________________

برأيه واعمال نظره من دون مراجعة في ذلك الى اهله ، لبداهة ان التفسير بمراجعتهم ليس من تفسير المفسر برأيه ، بل هو تفسير بمراجعة اهل الكتاب النازل في حجورهم وبيوتهم عليهم‌السلام ، والى هذا اشار بقوله : «وانما كان منه» أي وانما كان من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه هو غير حمل الظاهر على ظاهره بل هو «حمل اللفظ» اما «على خلاف ظاهره لرجحانه بنظره» أي لرجحان ما هو غير الظاهر على الظاهر بنظر المفسر برأيه «او حمل» اللفظ «المجمل على محتمله» الذي لا ظهور له فيه «بمجرد مساعدة ذاك الاعتبار» الظني «عليه» في رأي المفسر له «من دون السؤال عن» ما اريد بذلك المجمل من «الاوصياء» الذين هم اهل الذكر واهل الكتاب.

(١) هذا بيان لكون المراد من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه هو تفسير المتشابه الذي هو المجمل ، لا حمل الظاهر على ظاهره ، وحاصله : ان النهي عن التفسير بالرأي انما هو لاجل ان التفسير بالرأي مما يهلك فيه الناس ، ومما يتسبب منه المفاسد العظيمة لاعتمادهم على الظنون والاعتبارات ونسبته اليه تبارك وتعالى ، وانه هو مراده من كلامه جل وعلا وان الظن لا يغني عن الحق شيئا ، وهذه الاخبار تدل على حصر الهلاك في تفسير المتشابه بالرأي من دون مراجعة من عندهم تأويله كما ان عندهم تنزيله ، ولازم كون الهلاك في التفسير بالرأي وحصر الهلاك في تفسير المتشابه هو كون المراد من التفسير بالرأي هو التفسير المتشابه دون حمل الظاهر على ظاهره.

وبعبارة اوضح : ان هذه الاخبار بمنطوقها تدل على حصر الهلاك في تفسير المتشابه ، وبمفهومها تدل على انه لا هلاك في غير المتشابه ، والظاهر ليس من المتشابه فلا هلاك فيه ، لان المتشابه اما هو المجمل ، أو ما يشمل حمل الظاهر على غير ظاهره.

٢٣٧

هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره ، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها وبين ما دل على جواز التمسك بالقرآن ، مثل خبر الثقلين ، وما دل على التمسك به ، والعمل بما فيه ، وعرض الاخبار المتعارضة عليه ، ورد شروط المخالفة له ، وغير ذلك ، مما لا محيص عن إرادة الارجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه (١) ، ضرورة أن الآيات

______________________________________________________

اما الاخذ بالظاهر على ظاهره فليس من المتشابه فلا هلاك فيه ، فهذه الرواية مبينة للمراد من النهي عن التفسير مطلقا أو التفسير بالرأي.

(١) هذا هو الجواب الثالث ، وحاصله : انه لو سلمنا ان حمل الظاهر على ظاهره من التفسير ومن التفسير بالرأي ايضا ، إلّا انه لا اشكال في كونه عاما يشمل حمل الظاهر على ظاهره وحمل الظاهر على غير معناه وحمل المجمل على احد محتملاته من دون ظهور له فيه ، وهناك اخبار اخص منه تدل على صحة التمسك بالظاهر ، وهي مثل خبر الثقلين ـ الدال على التمسك بالقرآن ـ وغير خبر الثقلين ، مما يدل على صحة التمسك بالقرآن ، ولا اشكال في ان المراد من التمسك بالقرآن هو التمسك بظواهره ، لان اللازم الذي رتبه على التمسك به وهو عدم ضلالة من تمسك به انما هو مما يختص بالاخذ بظاهره ، لا الاخذ بمتشابهه او بحمل ظاهره على خلاف ما هو ظاهر فيه ، لان التمسك بهما مما يوجب الضلالة لا عدم الضلالة.

ولا يقال : انه لا يشمل الظاهر ايضا بل يختص بالنصوص.

فانه يقال ، اولا : انه ليس هناك نصوص بحيث لا يتطرقها الاحتمال ، ولو كان بمنتهى البعد. وثانيا : ان نصوصه لو كانت فهي قليلة نادرة جدا لا تكفي لان تكون ضامنة لعدم الضلال.

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومثل الاخبار الآمرة بعرض الاخبار المتعارضة على كتاب الله ، ومثل الاخبار الآمرة برد الاخبار المخالفة للكتاب ، فان المراد بالعرض هو العرض على ظواهر الكتاب ، وكذلك المخالف فانه المخالف لظواهره.

ومثل هذه الاخبار الدالة على صحة الاخذ بالظواهر كقوله عليه‌السلام : (ان هذا وامثاله يعرف من كتاب الله) مشيرا الى دلالة الباء في آية الوضوء على التبعيض في المسح ، ولا اشكال انه من الاخذ بالظاهر.

والحاصل : ان هذه الاخبار التي كلها قد دلت على صحة الاخذ بالظاهر فهي اخص من الاخبار الناهية عن التفسير بالرأي ، والتوفيق العرفي بين العام والخاص هو تخصيص العام بالخاص وخروج الخاص عن حكم العام ، فالاخذ بالظاهر يخرج عن الاخبار الناهية لانه اخص. وانما قلنا انها اخص لان دلالة الباء على التبعيض من الظاهر ، فهي اخص من الاخبار الناهية عن التفسير الشاملة للظاهر.

واما اخبار العرض على الكتاب والرد لما خالف الكتاب ، فهي : اما ان تكون اخص ايضا لعدم النص في آيات الاحكام التي هي المرجع في العرض والرد.

واما ان نسلم ان هناك نصا ، فالنسبة بينها وبين الاخبار الناهية عن التفسير وان كانت على هذا هي العموم من وجه ، لاختصاص الاخبار الناهية بالمجمل ، واختصاص هذه الاخبار بالنص ، واجتماعهما في الظاهر ، إلّا ان ندرة النص تأبى سقوط هذه الاخبار في مورد الاجتماع وإلّا لكانت كمعدوم الفائدة ، وعليه فلا بد من حمل اخبار النهي عن التفسير على المجمل وحمل الظاهر على غير ظاهره ، والى هذا اشار بقوله : «انه قضية التوفيق بينها» أي بين الاخبار الناهية عن التفسير بالرأي «وبين ما دل على جواز التمسك بالقرآن» والأخبار الأخر التي اشرنا اليها مما عرفت ان المراد بها ظواهر الكتاب والتوفيق بينهما يقتضي تخصيص الاخبار الناهية بهذه الاخبار.

٢٣٩

التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط ، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ، ليست إلا ظاهرة في معانيها ، وليس فيها ما كان نصا ، كما لا يخفى (١).

ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو : إما بإسقاط ، أو بتصحيف وإن كانت غير بعيدة (٢) ، كما يشهد بعض الاخبار ويساعده

______________________________________________________

(١) قد عرفت انه ليس المراد بهذه الاخبار كلها الآمرة بالرجوع الى الكتاب هو نصوص الكتاب لا ظواهره ، اما لانه لعدم النص ، او لعدم النص في خصوص ما امرنا بالرجوع اليه ، كمورد التعارض والمخالفة للكتاب ومثل دلالة الباء على التبعيض ، فانها كلها من الظواهر لا من النصوص.

(٢) لا يخفى انه يصلح ان تكون هذه الدعوى وجها سادسا لسقوط الظواهر الكتابية عن الحجية وعدم صحة التمسك بها.

وحاصله : انا نعلم اجمالا بوقوع التحريف في الكتاب ، اما باسقاط بعضه او بتصحيف في بعض الفاظه.

ويشهد لهذه الدعوى عدم المناسبة الواضحة بين بعض جملة مع الجمل الاخرى كقوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) فان المناسبة بين الشرط والجزاء في هذه الآية المباركة غير واضحة ومما يأباها الكتاب العزيز البالغ في بلاغته ما فوق مقدور البشر.

ولا يخفى ان احتمال الزيادة فيه وان كان مما قام الاجماع على عدمها ، إلّا ان العلم الاجمالي بالاسقاط أو بالتصحيف مما يوجب سقوط ظواهر الكتاب عن الحجية ، اذ مع العلم بعروض الاسقاط أو التصحيف فيه الذي من اطراف هذه العلم ظواهره فان لازم ذلك سقوط ظواهره عن الحجية ، لعدم بناء العقلاء على الاخذ

__________________

(١) النساء : الآية ٣.

٢٤٠