بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-061-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الثانية : مرتبة الانشاء وهي التي يعبر عنها بمرتبة جعل القانون وهي المرتبة التي يكون الحكم قد انشأ ووجد بوجود انشائي وجعل من الامور المدونة ، والحكم في هذه المرتبة له وجود ، بخلافه في المرتبة الاولى فانه بذاته لا وجود له وانما الموجود مقتضيه ومصلحته ، والحكم في هذه المرتبة وان كان له وجود بإنشائه إلّا ان مجرد انشاء المعنى باللفظ ما لم يكن باعثا ومحركا لا يكون طلبا بالحمل الشائع ، والحكم في هذه المرتبة ليس باعثا ولا زاجرا بحيث لو اطلع العبد على الحكم في هذه المرتبة لا يلزمه العقل بالحركة على طبقه ، لعدم استحقاق العقاب على مخالفته في هذه المرتبة ، لانها مرتبة حدها كون الحكم منشأ ومدونا ولم يقصد بعد به البعث والتحريك وان يكون داعيا بالفعل للعبد للاتيان بمتعلقة ، فلم يقصد مشرع هذا الحكم ومنشؤه ان يحرك العبد به بالفعل ، فلا يحكم العقل باستحقاق العقاب مخالفة الحكم وهو في هذه المرتبة وهذا الحد.

الثالث : مرتبة الفعلية وهي مرتبة كون الحكم باعثا وزاجرا ومحركا للعبد لإتيان متعلقه ، وهذه هي المرتبة التي يكون الحكم فيها طلبا بالحمل الشائع وبعثا جديا كذلك ، وعليه ترتب جميع ما للحكم من الآثار ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وخصصنا بالفعلي لاختصاصها بما اذا كان متعلقا به : أي ان القطع بالحكم بهذه المرتبة تترتب عليه جميع احكام القطع الآتية التي هي من آثار الحكم في هذه المرتبة.

الرابعة : مرتبة التنجز وهذه المرتبة ليست مرتبة يترقى الحكم اليها ، كما ترقى من مرتبة الاقتضاء الى مرتبة الانشاء ، ومن مرتبة الانشاء الى مرتبة الفعلية ، لان مرتبة التنجز هي عبارة عن كون العقل حيث يبلغ الحكم الى مرتبة الفعلية ينتزع منه انه منجز وانه يستحق العبد العقاب على مخالفته ، فنسبة مرتبة الفعلية الى مرتبة التنجز نسبة منشأ الانتزاع الى ما ينتزع منه ، فليست هذه المرتبة من مراتب ترقي الحكم ، فان المولى اذا بلغ حكمه الى كونه قد توجه الى العبد محركا له للاتيان ينتزع العقل منه كونه منجزا وكونه يستحق العقاب على مخالفته.

٢١

المثوبة (١) ، وذلك لان الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته عن عمد بعصيان ، بل كان مما سكت الله عنه (٢) ،

______________________________________________________

ولم يشر المصنف هنا الى المرتبتين الاوليين ولكنه اشار الى المرتبتين الاخيرتين بقوله : «ان التكليف ما لم يكر يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا» لان هذه المرتبة هي المرتبة التي يكون الحكم فيها فعليا «وما لم يصر فعليا لم يكر يبلغ مرتبة التنجز واستحقاق العقوبة على المخالفة».

(١) توضيحه : ان استحقاق المثوبة بما هي اطاعة للامر الموجه الى العبد هي كاستحقاق العقاب على المخالفة انما تنتزع من الحكم البالغ مرتبة الفعلية ، ولكن حيث كان الحكم في مرتبة الانشاء بل وفي مرتبة الاقتضاء واجدا للمصلحة ، وما فيه المصلحة لا بد وان يكون محبوبا فهو واجد للمحبوبية ايضا ، واتيان ما أحبه المولى قيام من العبد بمراسم العبودية ووظائف الرقية ، ولذا كان يوجب موافقته استحقاق المثوبة ، بخلاف استحقاق العقاب فانه مما يترتب على الطغيان وهتك حرمة المولى ، واتيان ما فيه المفسدة ما لم يزجر عنه المولى لا يكون اتيانه من العبد هتكا وطغيانا.

وتعبيره بربما لعله لان عدم بلوغ الحكم الى مرتبة الفعلية انما هو لمانع يمنع عن ذلك ، وربما كان مما يترتب عليه مفسدة فلا يكون اتيان ما فيه المصلحة محبوبا. نعم فيما كان المانع عن الفعلية هو التسهيل وامثاله كان اتيان ما فيه المصلحة محبوبا.

(٢) حاصله : ما عرفت من ان الحكم في غير مرتبة الفعلية ليس طلبا بالحمل الشائع ، وانما يكون طلبا بالحمل الشائع حيث يكون باعثا وزاجرا بالفعل ، وهو مراده من قوله : «ما لم يبلغ تلك المرتبة» أي مرتبة الفعلية «لم يكن حقيقة بامر ولا نهي» فان كونه حكما حقيقة هو كونه حكما وطلبا بالحمل الشائع المنوط كونه كذلك بكونه امرا باعثا ونهيا زاجرا «و» هو في غير هذه المرتبة «لا» تكون «مخالفته عن عمد بعصيان» لعدم كون مخالفته هتكا للمولى ولا طغيانا عليه «بل» الحكم في مرتبة الانشاء فضلا عن مرتبة الاقتضاء «كان مما سكت الله عنه».

٢٢

كما في الخبر (١) ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين ، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ، مع ما هو التحقيق في دفعه ، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري ، فانتظر (٢).

______________________________________________________

(١) وهو المروي عن أمير المؤمنين عليه افضل الصلاة والسلام قال عليه‌السلام : (ان الله تعالى حدد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها ، وسكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم) (١).

(٢) حاصله : انه بعد ان كان الحكم ذو الآثار هو البالغ مرتبة الفعلية ، فمورد الوظائف المقررة للجاهل بالحكم هو مورد الشك بالحكم الفعلي كالبراءة الشرعية وهي رفع ما لا يعملون مثلا ، ومن الواضح ان لازم الشك بالحكم الفعلي احتمال وجوده ، ففي مورد احتمال وجود الحكم الفعلي اللازم قد ورد الترخيص من الشارع ، ولازم هذا احتمال اجتماع الحكم الفعلي اللازم مع الترخيص الفعلي فيه وهما متنافيان ، ولا ريب في ان احتمال اجتماع المتنافيين محال كالعلم باجتماعها للزوم كون المحال معلوم العدم ، وهذا هو الاشكال المعروف بلزوم اجتماع الحكم الواقعي والظاهري في موارد الاصول بناء على جعل الحكم الظاهري في مواردها ، ويلزم منه اجتماع المثلين فيما كان الحكم الظاهري موافقا للحكم الواقعي ، واجتماع الضدين فيما كانا متخالفين. واما بناء على عدم جعل الحكم الظاهري في مورد الاصول ، فالاشكال فيه : اما من ناحية منافاة اجتماع الحكم الفعلي اللزومي مع الترخيص فيه. او من جهة منافاة الترخيص فيه بما هو مشكوك فيه لحكم الاباحة فيه بما انها حكم واقعي له ، وسيأتي الكلام في ذلك تفصيلا اشكالا وجوابا في مبحث

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكم ١٠٢.

٢٣

الأمر الثاني : قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة في صورة الاصابة (١) ، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته ، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته ، أو لا يوجب شيئا (٢)؟

______________________________________________________

الامارات ان شاء الله تعالى. وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «نعم في كونه» أي في كون الحكم «بهذه المرتبة» وهي الرتبة الفعلية «موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل» كرفع ما لا يعملون مثلا «اشكال» من حيث «لزوم» احتمال «اجتماع الضدين» فيما كان الحكم الفعلي لزوميا «او المثلين» فيما كان الحكم الفعلي الواقعي اباحة مثلا «على ما يأتي تفصيله ان شاء الله تعالى الى آخر الجملة».

(١) لا يخفى ان القطع قد يصيب الواقع وقد يخطئه ، فمع اصابة القطع للواقع لا اشكال في استحقاق العقاب مع مخالفة العبد لامر المولى ، وفي استحقاق المثوبة في موافقته له وامتثاله لما امر به.

وانما الكلام في استحقاق العقاب في حال الخطأ بان يقطع العبد بأمر المولى فيخالفه ويكون قد اخطأ في قطعه ، كما لو قطع بان هذا المائع المخصوص خمر مع علمه بحرمة شرب الخمر فشربه فكان ماء وتبين خطأه في قطعه ، فهل يستحق العقاب ام لا؟ وكذا فيما لو قطع بأمر المولى ووافقه فانكشف خطأه ولم يكن للمولى امر فهل يستحق الثواب ام لا؟

(٢) لا يخفى ان التجري لغة هي الجرأة على مخالفة المولى وهتك حرمته والطغيان عليه سواء اصاب في قطعه ام أخطأ ، وكذلك الانقياد لغة هو التزام العبد بمراسم العبودية وشئون الرقية في موافقته لأمر المولى سواء اصاب في قطعه ام أخطأ.

ولكن الاصطلاح استقر على اطلاق التجري على خصوص من خالف المولى وقد كان مخطئا في قطعه ، وعلى اطلاق الانقياد على خصوص من وافق امر المولى وقد كان مخطئا في قطعه ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فهل يوجب استحقاقها» أي

٢٤

الحق أنه يوجبه ، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ، وذمه على تجريه ، وهتك حرمته لمولاه وخروجه عن رسوم عبوديته (١) ، وكونه

______________________________________________________

استحقاق العقوبة «في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته» بحسب قطعه لا واقعا «و» هل يوجب «استحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته» ايضا بحسب قطعه لا واقعا «أو لا يوجب شيئا» أي لا يوجب التجري استحقاق العقاب ولا الانقياد استحقاق الثواب.

(١) استدل على استحقاق العقوبة على التجري واستحقاق المثوبة على الانقياد بالوجدان ، وتوضيحه : انه يتحصّل من كلام القوم اطلاق الوجدان على معنيين :

الاول : كون المطلق عليه الوجدان من مصاديق القضايا الوجدانية او الفطرية التي هي احدى الضروريات الست ، فان الضروريات عندهم ست :

الاولى : البديهيات الاوليّة ككون الكل اعظم من الجزء ، وكون السلب والايجاب لا يجتمعان ولا يرتفعان.

الثانية : المشاهدات وتسمى الحسيات وهي المحسوسات بالحسّ الظاهري ، ككون هذا الجسم اسود وذاك ابيض ، وهذا مرّ وهذا حلو أو حامض وهذا صوت مشتمل على الحروف الهجائية وهذا صوت لم يشتمل عليها.

او بالحس الباطني كالوجدانيات وهي ككون ان لنا علما بكذا وجهلا بكذا ، ولنا شوق الى شيء وليس لنا شوق الى شيء آخر.

الثالثة : الفطريات كانقسام الزوج الى متساويين ، وهي المعبّر عنها بالقضايا التي قياساتها معها.

الرابعة : التجريبيات ككون هذا العقار نافعا ، وذاك العقار مسهلا وآخر سمّا ، فانها ضرورة تحصل من التجربة.

الخامسة : المتواترات كحكمنا بوجود امريكا.

٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

السادسة : الحدسيات ككون القمر نوره مستفاد من غيره ، وهي ضرورة سببها اختلاف القمر في تشكيلاته الشهرية ابتداء وانتهاء ، ولا اشكال ان مثل طريقية القطع وكاشفيّته من الامور الضروريّة الوجدانيّة.

وربما يظهر من بعض الكلاميين ان الحسن والقبح العقليين من الضروريات الوجدانية لانفعال النفس بالظلم والعدوان وانبساطها بالعدل والاحسان.

وقد ظهر من بعضهم انها من الفطريات ومن القضايا التي قياساتها معها ، الّا ان الانصاف انهما أي قاعدتي الحسن والقبح ليستا من الوجدانيات ، اذ لا يختلف الناس في الوجدانيات فلا ينكر احد ان لنا علما وشوقا ، ولا ينكر ايضا احد كاشفية القطع مع انه قد وقع الخلاف في القاعدتين.

ومما ذكرنا يتضح ايضا انهما ليستا من الفطريات ، لما ذكرنا من عدم الاختلاف في الامور التي قياساتها معها كانقسام الزوج.

ودعوى انفعال النفس بالظلم وانبساطها بالعدل ففيها اولا : ان الظالم لا تنفعل نفسه بالظلم بل تنبسط به.

وثانيا : ان هذا الانفعال والانبساط انما هو لأثر القاعدتين عند العقلاء.

الثاني : اطلاق الوجدان على الامور التي بنى عليها العقلاء حفظا للنظام وابقاء للنوع ، وهي من المشهورات لا من الضروريات.

والمصرّح به في كلام جماعة من المحققين ان حسن العدل وقبح الظلم من القضايا المشهورة التي بنى عليها العقلاء ، فان بناء العقلاء قد تم على مدح فاعل العدل وذم فاعل الظلم حفظا للنظام وابقاء للنوع ، وليست هي من الضروريات ، وانما هي من المشهورات.

وعلى كل فالوجدان شاهد بان التجري والانقياد من مصاديق قاعدة الحسن والقبح العقلي ، لوضوح كون التجري على المولى هتكا لحرمته وطغيانا عليه وخروج من العبد عن رسوم العبودية ومراسيم الرقيّة لمولاه ، والانقياد محافظة على حرمة

٢٦

بصدد الطغيان ، وعزمه على العصيان ، وصحة مثوبته ، ومدحه على إقامته بما هو قضية عبوديته ، من العزم على موافقته والبناء على إطاعته (١) ، وإن قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة ، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سريرته أو حسنها ، وإن كان مستحقا للوم أو المدح بما يستتبعانه ، كسائر الصفات والاخلاق الذميمة أو الحسنة.

______________________________________________________

المولى وخضوع له وقيام من العبد برسم العبودية ومراسيم الرقية لمولاه ، فالتجري من الظلم الذي يستحق فاعله الذم والعقاب ، والانقياد من العدل الذي يستحق فاعله المدح والثواب.

ولا فرق بالوجدان بين المتجري المخطئ في قطعه وبين المخالف المصيب في قطعه في كون كل منهما واجدا لتمام ما يحصل به الهتك للمولى من قبل العبد ، وكل منهما هاتك لحرمة مولاه وطاغ عليه من غير فرق ، وكلاهما قد فعل ما يستحق مرتكبه للذم والعقاب من دون أي فرق بينهما ، ومثله عدم الفرق بين المنقاد والمطيع وكلاهما قد فعل ما يستحق فاعله للمدح والثواب.

(١) المراد من الطغيان الذي كان المتجري بصدده ومن العصيان الذي عزم المتجري عليه ، هو الطغيان بخصوص المخالفة في حال اصابة القطع ، والعزم على العصيان المتحقق ايضا بخصوص المخالفة في مورد الاصابة ، فان المتجري قد اتى بكل ما يمكن ان يتحقق منه فيما لو كان قطعه مصيبا للواقع ، لوضوح كون اصابة الواقع وعدم اصابته ليست من افعال القاطع ، فانه قد فعل مطابق ما يراه انه هو الواقع ، فان كون ما فعله من الواقع أو ليس من الواقع ليس من افعال القاطع الآتي بما يراه انه من الواقع ، ففي صدق عنوان الهتك والظلم لا فرق بينهما اصلا.

واتضح مما ذكرنا ان العزم الذي يتساوى فيه المتجري والعاصي هو العزم البالغ مرتبة التحريك للعضلات ، دون العزم الذي لم يبلغ هذه المرتبة ، واليه يشير المصنف في كلامه الآتي.

٢٧

وبالجملة : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما ، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما ، إذا صار بصدد الجري على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم ، وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك ، وحسنها معه ، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الاطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه : هو ان المرتكب لما قطع بانه لا يرضى به مولاه انما نشأ ارتكابه له من ترجيحه باختياره لان يرجح ويفعل ما يوافق شهواته وملائمات نفسه على تركه لرضا مولاه ، ويكشف هذا الترجيح ان طبعه وسريرته تدعوه لان يرجح ما يرضى به نفسه على ما يرضى به مولاه.

ولا اشكال ان من له مثل هذا له طبع شرير وسريرة سيئة ، ومن الواضح ايضا ان نفس الطبع الشرير والسريرة السيئة ليس من مصاديق الظلم للمولى والطغيان عليه والهتك لحرمته ، وقد عرفت ان الوجدان الحاكم باستحقاق الذم والعقاب انما يحكم على ما به هتك وظلم للمولى ، وانما يتحقق ذلك من العبد حيث يجري باختياره مرجحا لما يوافق طبعه على ما يوافق رضا مولاه ، بأن يتحرك ويفعل غير مبال بان يكون هاتكا وظالما.

وبعبارة اخرى : ان هنا ثلاث مراتب :

الاولى : ان يكون له طبع الشر وسوء السريرة من دون ان يكون له شوق ورغبة في الارتكاب ، كمثل الذي لم ير الخمر ولم يسمع بها ولكنه كان بحيث لو رآها وعرفها وقدر عليها لشربها مع علمه بعدم رضا المولى بشربه لها.

الثانية : من يحصل له الشوق والرغبة في الارتكاب ، ولا يمنعه عدم رضا المولى بذلك وانما تمنعه موانع آخر كمثل ان لا يكون له مال يشتريها به.

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وهاتان المرتبتان ليستا من مصاديق الظلم والهتك ، لوضوح عدم كونه متحركا بالفعل للظلم والهتك ، وان كان له طبع شرير وسريرة سيئة وشوق ورغبة ولكنه لم يصدر عنهما التحريك بالفعل.

وهاتان المرتبتان متحققتان ايضا لمن له طبع خير وسريرة طيبة.

فانه ربما لا يكون له شوق الى الاطاعة لعدم أمر مولاه له أو لعدم علمه بأمره قصورا لا تقصيرا وكان بحيث لو علم لامتثل ، وربما يكون له شوق ورغبة ولكن يمنعه مثلا عدم دخوله تحت عنوان التكليف كغير المستطيع للحج وهو مشتاق وراغب في اتيانه.

ومن الواضح : ان العبد الذي له طبع شرير ورغبة في ارتكاب ما لا يرضى به مولاه متصف بما يلام ويعاتب عليه وان كان لا يستحق الذم والعقاب ، والعبد الذي له طبع طيب ورغبة في الامتثال متصف بما يمدح ويثنى عليه ، ولكنه لم يحصل منه ما يستحق به المثوبة على فعل بحيث يكون له بحسب وجدان العقل حق بالفعل عند مولاه.

الثالثة : مرتبة الجري والعمل على طبق العزم المحرك ، وفي هذه المرتبة يستحق المتجري الذم والعقاب والمنقاد المدح والثواب ، واتضح مما ذكرنا انه هناك لوم من دون استحقاق العقاب ، وذم مع استحقاق العقاب ، ومدح من دون استحقاق الثواب ، ومدح مع الاستحقاق. وقد اشار الى المرتبتين الاوليين بقوله : «وان قلنا بانه لا يستحق مؤاخذة او مثوبة ما لم يعزم على المخالفة او الموافقة بمجرد سوء سريرته» من له طبع شرير ورغبة في المخالفة ولم يتحرك اليها ولم يخالف لا يستحق عقابا «او حسنها» أي من له حسن السريرة والطبع الطيب والرغبة للامتثال ولم يفعل ولا يكون له موافقة فعلا فانه ايضا لا يكون له عند مولاه حق الثواب مستحقا له «وان كان الاول مستحقا للوم او» الثاني يستحق «المدح بما يستتبعانه كسائر الصفات والاخلاق الذميمة او الحسنة» أي ان المتصف بمحض الطبع الشرير وسوء

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

السريرة والمتصف بالطبع الطيب وحسن السريرة قد اتصف اولهما بالخلق الذميم والثاني بالخلق الحسن ، كمثل من له طبع البخل وطبع الكرم وطبع الجبن والشجاعة وساير الاخلاق والملكات المستحسنة والمذمومة فانهما له واقع متحقق لهما اقتضاء الشر المستتبع للذم واقتضاء الخير المستتبع للمدح ، فانه من الواضح المشاهد أن لنفس الصفات والملكات مرتبة من المدح والذم بما هي صفات وملكات من دون ان يصدر منهما ما يشاكلها من فعل الخير وفعل الشر ، ولكنه محض المدح الذي لا استحقاق فيه للثواب ومحض الذم الذي لا استحقاق فيه للعقاب ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وبالجملة ما دامت فيه صفة كامنة» لم يتحرك معها الى الفعل «لا يستحق بها الا مدحا او لوما» من دون استحقاق للجزاء بالثواب او العقاب واشار الى المرتبة الثالثة بقوله : «وانما يستحق الجزاء بالمثوبة او العقوبة مضافا الى احدهما» أي مضافا الى استحقاق المدح او اللوم «اذا صار العبد بصدد الجري على طبقها» أي بصدد الجري على طبق تلك الصفة الكامنة «والعمل على وفقها و» لم يكن عمله عن غفلة ولا شعور بل كان عن «جزم وعزم وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك» أي من دون ان يجري على طبقها ويعمل على وفقها وان حدث من سوء سريرته شوق الى الارتكاب ولكنه لم يرتكب «وحسنها معه» أي وحسن المؤاخذة مع الجري على طبقها والعمل على وفقها «كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال الى آخر الجملة» ، فان الوجدان هو الحاكم المستقل في باب الاطاعة والعصيان سواء كان مستنده الفطرة او غيرها من الضروريات ، او كان مستنده بناء العقلاء الذي هو من المشهورات.

وعلى كل فالوجدان هو الحاكم بالاستقلال في هذا الباب من دون مشاركة للشرع معه في الحكم ، لوضوح ان حكم الشارع بما هو رئيس العقلاء ليس حكما منه بما هو شارع ، وحكمه بما هو شارع مرجعه الى امره بذلك ، ونفس امره يحتاج الى

٣٠

ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهة أصلا (١) ، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون

______________________________________________________

حكم يلزم باطاعته وليس هو الشارع ايضا لتسلسل الاحكام حينئذ فيتمحض الحكم للوجدان والعقل بذلك.

(١) لا يخفى ان القائلين باستحقاق العقاب على التجري لانه هتك وطغيان على المولى اختلفوا في كون معنونه هل هو الفعل المتجرى به ، او انه نفس القصد والارادة البالغة لتحريك العضلات والجري والعمل على وفق ما قطع به دون مقدماتها من الجزم والعزم وبقية المقدمات التي سيأتي الاشارة اليها ان شاء الله.

ولا يخفى انه بناء على ان المعنون هو الفعل المتجرى به لا بد من الالتزام بعدم بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه من عنوانه الواقعي ، فلو كان واقعا واجبا قطع العبد بحرمته وتجرأ على ارتكابه بما هو حرام عنده ، فلا بد وان يكون الفعل الذي يستحق المتجري العقاب عليه لانه صار معنونا بعنوان الهتك لا يكون باقيا على ما هو عليه من كونه واجبا واقعا ، لعدم معقولية العقاب على ما هو الواجب.

نعم يمكن الالتزام بكونه باقيا على عنوانه الواقعي غير المؤثر فعلا ، وانما المؤثر فعلا هو العنوان الثانوي الطارئ عليه وهو عنوان التجري والهتك للمولى المنطبق عليه فعلا.

والمصنف (قدس‌سره) اختار الثاني وهو كون المعنون بعنوان التجري المستحق للعقاب عليه هو القصد والارادة المحركة للعضلات والجري على وفق ما قطع بحرمته مثلا ، وعلى هذا فلا داعي لتغير الفعل عما هو عليه لعدم انطباق عنوان عليه موجب لتغيره ، فهو باق على ما هو عليه من عنوانه الحسن او القبيح الواقعيين وعلى ما هو عليه من الوجوب او الحرمة واقعا ، فما قطع بكونه قبيحا وكان حسنا في الواقع باق

٣١

من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا ، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى ، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له.

فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ، ولو اعتقد العبد بأنه عدوه ، وكذا قتل عدوه ، مع القطع بأنه ابنه ، لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا (١).

______________________________________________________

على حسنه ولا يكون قبيحا ، وما قطع بكونه حراما وكان واجبا باق على وجوبه ولا يصير قبيحا ولا حراما عقلا بسبب كونه فعلا قد تجرأ به العبد على مولاه ، لان العبد انما يستحق العقاب على ارادته وقصده اليه المحرك لعضلاته نحو الفعل والقصد هو المعنون بعنوان الهتك والطغيان ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ولكن ذلك» أي شهادة الوجدان الحاكم بصحة مؤاخذة المتجري لا يستلزم تغيير الفعل المتجرى به عن عنوانه الواقعي ، لعدم صيرورة الفعل نفسه بواسطة التجري عنوانا للهتك ، بل نلتزم بصحة المؤاخذة على العزم والارادة والمثوبة عليهما ايضا «مع بقاء الفعل المتجرى به او المنقاد به على ما هو عليه من الحسن او القبح والوجوب او الحرمة واقعا بلا حدوث تفاوت فيه» أي من دون تفاوت في نفس الفعل «بسبب تعلق القطع» به «ب» عنوان هو «غير ما هو عليه من» العنوان الذي له واقعا ، ولا فرق بين ان يكون متعلق القطع «الحكم» كما لو قطع بوجوب الجمعة وكانت محرمة واقعا فتركها «و» بين ان يكون متعلق القطع «الصفة» كما لو قطع بخمرية مائع فشربه «ولا يغير جهة حسنه او قبحه بجهة اصلا» أي لا يغير القطع بحسنه قبحه الواقعي ولا يغير القطع بقبح الفعل حسنه الواقعي ، فما للفعل من الجهة الواقعية باقية على ما هي عليها لا تتغير بسبب تعلق القطع بخلافها.

(١) هذا شروع في الاستدلال على كون الفعل المتجرى به ليس هو معنون عنوان الهتك والظلم للمولى ، فلا بد وان يكون معنون عنوان الهتك هو الارادة ، لوضوح

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

دورانه بينهما لان ما قبل الارادة ليس بهتك ولا طغيان كما مر ، واذا ثبت انه ليس هو الفعل المتجرى به يثبت انه الارادة.

وقد استدل عليه بدليلين :

الاول : ما اشار اليه بقوله : «ضرورة ان القطع بالحسن الى آخره».

وحاصله : ان تغير الفعل عما له من العنوان الواقعي لا يعقل ان يكون الا لاجل انطباق عنوان ثانوي عليه ، وليس للفعل عنوان ثانوي منطبق عليه سوى كونه متعلقا للقطع وكونه مقطوعا به ، فالفعل الحسن واقعا المقطوع بقبحه فعلا لم يطرأ عليه الا عنوان كونه مقطوعا بقبحه بالفعل ، فلا بد من ان يكون هذا العنوان الطارئ هو الموجب لتغيره عن عنوانه الواقعي.

ومن الواضح : ان تغير الشيء عما هو عليه لا يكون إلّا بنحوين : اما لكونه بسبب العنوان الثانوي يكون مصداقا من مصاديق العدل او الظلم.

او لكونه يكون بواسطة العنوان الطارئ ذا مفسدة او مصلحة بالفعل ، ومن البين ان القطع بقبح ما هو حسن واقعا لا يغير حسنه واقعا ويصيره قبيحا فعلا ، فما هو عدل في الواقع لا يكون من الظلم بسبب القطع بكونه منه ، لوضوح عدم صيرورته بواسطة القطع مما يوجب خللا في النظام بعد ان كان مما يستقيم به النظام واقعا.

ومن الواضح ايضا ان القطع بمفسدة ما فيه المصلحة واقعا لا يجعله ذا مفسدة بالفعل ليوجب تغيره عما هو عليه من المحبوبية واقعا الى المبغوضية فعلا ، لبداهة ان المصالح والمفاسد مما تترتب على ذوات الافعال من دون دخل للقطع بها في وجودها وعدمها.

فاذا عرفت انه ليس للفعل المتجرى به عنوان ثانوي في المقام غير عنوان القطع به على خلاف ما هو عليه ، وقد تبين ايضا ان هذا العنوان لا يوجب تغير الا في عنوان العدل والظلم الواقعيين ولا في المصلحة والمفسدة الواقعيتين ايضا ـ فلا مناص عن

٣٣

هذا مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به ، بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا ، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي ، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية (١).

______________________________________________________

الالتزام ببقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه من عنوانه الواقعي وما له من مصلحة او مفسدة كذلك ، ولا يتغير بسبب التجري به عما هو عليه مما له واقعا.

وقد اشار الى النحو الاول بقوله : «ضرورة ان القطع بالحسن او القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا» لما عرفت من كون ما ليس بمخل بالنظام واقعا لا يكون مخلا به فعلا بواسطة القطع بكونه مخلا به خطأ.

وقد اشار الى النحو الثاني بقوله : «ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوبا» وهو مبغوض للمولى واقعا «او» بسبب قطع العبد بكونه «مبغوضا له» أي للمولى وهو محبوب له واقعا ، ثم ايضاحا لذلك مثل مثالا لبقاء الفعل على ما هو عليه واقعا سواء في الانقياد او التجري ، وانه لا يتغير واقعا عما هو عليه بسبب القطع بخلاف ما له من عنوانه الواقعي وهو قوله «فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ولو اعتقد العبد بانه عدوه» فقتله انقيادا له «وكذا قتل عدوه مع القطع بانه ابنه» فقتله العبد متجريا عليه «لا يخرج عن كونه محبوبا» للمولى لانه عدوه واقعا.

(١) هذا هو الدليل الثاني الذي اقامه على بقاء الفعل المتجرى به او المنقاد به على ما هو عليه مما له من العنوان الواقعي.

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصله : ان العناوين التي تكون موضوعا لاستحقاق العقاب والثواب هي العناوين المنظورة بالاستقلال ، دون العناوين التي كانت منظورة بما هي آلة للغير ولحاظها لحاظ آلي ، لوضوح ان المنظور بالنظر الآلي غير مقصود بالذات وانما هو محض طريق الى غيره ، وكثيرا ما لا يكون ملتفتا اليه ، ولا بد ان يكون ما هو الموضوع في استحقاق الثواب والعقاب ملتفتا اليه دائما ، لوضوح ان العقاب والثواب على الافعال انما هو على الاختياري منها ، والاختيار منوط بالالتفات لوضوح ان الفعل المغفول عنه ليس من الافعال الاختيارية للفاعل المختار وانما هو من افعال الغافل دون المختار.

ومن الواضح ايضا : ان من يحصل له القطع بشيء يكون نفس ذلك الشيء بما هو وبذاته حاضرا عنده لا بما هو مقطوع به ، وكثيرا ما يغفل القاطع بشيء عن الالتفات الى ذلك الشيء بما هو مقطوع به وبما هو متعنون بهذا العنوان ، وانما الملتفت اليه دائما عند القاطع هو نفس ذلك الشيء بذاته وبعنوانه الخاص به دون عنوان كونه مقطوعا به.

والقائل بان معنون عنوان التجري والانقياد هو الفعل المتجرى به والمنقاد به لا يلتزم بالتفصيل بين حال الالتفات وعدمه ، وقد عرفت ايضا انه ليس في المقام عنوان للفعل غير عنوان ذاته من العناوين الثانوية الموجبة لكونه من مصاديق التجري او الانقياد الا عنوان كونه مقطوعا به ، وهذا العنوان الثانوي لا يصح ان يكون من مصاديق التجري والانقياد دائما ، بل ربما يلتفت اليه وربما لا يلتفت ، بل الغالب ان يكون مما لا يلتفت اليه ، وقد عرفت ان عنوان الموضوع الموجب لاستحقاق الثواب والعقاب لا بد وان يكون ملتفتا اليه دائما لا طورا وطورا ، لما عرفت من انه حال كونه مغفولا عنه لا يكون الفعل من الافعال الاختيارية ، وما لم يكن الفعل اختياريا لا يوجب استحقاق ثواب او عقاب والى هذا اشار بقوله : «هذا مع ان الفعل المتجرى به او المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة والوجوب لا يكون اختياريا» وانما

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

اختياريته بعنوانه الخاص بذاته ، مثلا شرب الخمر بما هو شرب خمر له حكم الحرمة يقع بالاختيار من الشارب لانه ملتفت اليه بهذا العنوان الخاص به ، واما شرب الخمر الحرام بما هو مقطوع بحرمته لا يكون دائما من الافعال الاختيارية بهذا العنوان الثانوي وهو كونه مقطوعا بحرمته ، لعدم الالتفات اليه غالبا بما هو مقطوع بحرمته ، بل الملتفت اليه هو كونه شرب خمر حرام لا شرب حرام بعنوان كونه مقطوعا بحرمته «فان» من الواضح ان «القاطع لا يقصده إلّا بما قطع انه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي» وهو عنوان كونه شرب خمر حرام مثلا «لا بعنوانه الطارئ الآلي» وهو كون هذا الشراب مقطوعا بحرمته بعنوان كونه مقطوعا بها «بل لا يكون غالبا بهذا العنوان» الطارئ الآلي «مما يلتفت اليه».

ثم اشار الى انه ما لم يكن عنوان الموضوع ملتفتا اليه لا يكون معنونا بالعنوان الحسن او القبح عقلا ولا يكون واجبا او حراما شرعا بقوله : «فكيف يكون من جهات الحسن او القبح عقلا ومن مناطات الوجوب او الحرمة شرعا» ، ثم اشار الى المناط لكون الفعل المغفول عن عنوانه لا يكون حسنا ولا قبيحا ولا واجبا ولا حراما بقوله : «ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا اذا كانت اختيارية» والفعل المغفول عن عنوانه بما هو مغفول عنه ليس من الافعال الماتي بها بعنوانها الاختياري.

وبعبارة اخرى : ان الماء المقطوع بكونه خمرا قد شربه المتجرى بعنوان كونه خمرا ، وبهذا العنوان لم يكن ، اذ ليس هو خمرا واقعا ، بل هو ماء ـ مثلا ـ فبهذا العنوان لم يصدر منه فعل اختياري ، اذ لم يكن خمرا وبعنوان كونه ماء لم يكن مقصودا اتيانه بهذا العنوان ، وما لم يكن العنوان مقصودا لا يكون حصول العنوان في الخارج امرا اختياريا للفاعل ، فبالنسبة الى الخمرية والمائية لم يحصل منه فعل اختياري لعدم الخمرية وعدم قصد المائية ، وبالنسبة الى عنوان كونه مقطوعا به قد عرفت انه مغفول عنه غالبا ، فلم يصدر من المتجري فعل اختياري اصلا كما صرح بذلك المصنف في حاشيته على الرسائل ، وسيأتي التعرض له في المقام ايضا.

٣٦

إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار (١)؟

قلت : العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : ان المتجري وهو القاطع المخطئ في قطعه من الواضح انه لم يشرب خمرا ليكون فاعلا لما هو الحرام واقعا ومخالفا للمولى بارتكابه للمنهي عنه واقعا ، وانما شرب ماء لا خمرا ، وشرب الماء بما هو مقطوع بكونه خمرا لا عقاب عليه لكونه غير اختياري بهذا العنوان غالبا كما مر ، ولم يفعل المتجري الا فعلا واحدا وهو ليس بشرب للخمر واقعا ولا يستحق العقاب عليه بما هو مقطوع الخمرية ، فلم يصدر من المتجري فعل يستحق عليه العقاب اصلا لعدم شربه الخمر ، ولكون العقاب على شرب ما قطع بكونه خمرا عقابا على ما لا بالاختيار فلا وجه للقول باستحقاق المتجري للعقاب ، وحيث ان المتجري هو المخطئ في قطعه فلا يكون ما شربه القاطع خمرا واقعا ، ولوضوح هذا لم يشر اليه وانما اشار الى عدم عقابه على مخالفة القطع بما هو مخالفة القطع بقوله : «اذا لم يكن الفعل كذلك» أي اذا لم يكن الفعل معاقبا عليه بما هو مقطوع به «فلا وجه لاستحقاق المتجري العقوبة على مخالفة القطع» لكون مخالفة القطع بما هي مخالفة القطع غير اختيارية ، ولذا قال : «وهل كان العقاب عليها الا عقابا على ما ليس بالاختيار».

(٢) حاصله : ان العقاب ليس على الفعل حتى يرد هذا الاشكال من كون الفعل المتجرى به ليس بخمر واقعا وبعنوان كونه مقطوعا به ليس باختياري غالبا فلا وجه للعقاب ، فان العقاب انما هو على قصد العصيان والعزم على الطغيان لا على الفعل المتجرى به حتى يرد الاشكال المذكور.

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى ان مراد المصنف من العزم ليس هو العزم بحسب الاصطلاح في مقدمات الفعل الاختياري ، بل مراده منه هو كونه بمعنى القصد والارادة ، فهو عطف تفسير على القصد ، واما العزم بحسب الاصطلاح فهو من مقدمات القصد والارادة كما اشار اليه المصنف في حاشيته على الرسائل.

وحاصله : ان الفعل الاختياري مسبوق بمقدمات ست : تصوره ، والتصديق بفائدته ، والجزم وهو عقد القلب على انه ينبغي صدوره ورفع موانع عدمه ، والعزم وهو الشوق اليه غير البالغ حد الارادة ، والارادة وهي الشوق البالغ حد التحريك للعضلات ، وتحريك العضلات اليه.

وبعضهم يعدها سبعا لانه يجعل بين تصوره والتصديق بفائدته ميل ما اليه وهيجان رغبة له ليدعوه الى النظر في فائدته والتصديق بها.

وعلى كل فالعزم بحسب الاصطلاح من مقدمات الارادة ، لان كل مقدمة سابقة من هذه المقدمات هي كعلة للاحقها فهي كسلسلة علل ومعلولات الى ان تنتهي الى الفعل الاختياري.

وعلى كل فالعزم بحسب الاصطلاح ليس هو الارادة ، ولكن مراد المصنف من قوله والعزم على الطغيان المعطوف على قصد العصيان هو العزم بمعنى القصد والارادة.

وحاصل الجواب : ان العقاب على ارادة الفعل المتجرى به دون نفس الفعل ، فلا يرد الاشكال ولذا قال : «العقاب انما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان لا على الفعل الصادر بهذا العنوان» أي بعنوان كونه مقطوعا به ، فان الفعل بهذا العنوان الآلي يكون صدوره «بلا اختيار» ولا عقاب على الفعل حيث يكون صدوره بلا اختيار.

٣٨

إن قلت : إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختيارية ، وإلا لتسلسل (١).

قلت : مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلا أن بعض مبادئه غالبا يكون وجوده بالاختيار ، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : ان العقاب اذا كان على ما يصدر بالاختيار فكيف يمكن الالتزام بالعقاب على نفس ارادة الفعل المتجرى به ، فان الارادة من مبادئ الفعل الاختياري وهي نفس الاختيار التي بها يكون الفعل اختياريا ، واما نفس الاختيار فلا يعقل ان يكون اختياريا وإلّا لزم التسلسل ، لوضوح ان اختيارية نفس الاختيار اذا كانت موقوفة على الاختيار فننقل الكلام الى ذلك الاختيار التي صار نفس الاختيار الآخر به اختياريا ، فانه لا فرق بين اختيار واختيار ، فاذا كان الاختيار الآخر محتاجا في اختياريته الى الاختيار فالاختيار السابق عليه مثله وهلم جرا فيلزم التسلسل ، فلا يعقل ان يكون اختيارية الاختيار موقوفة على الاختيار ، لان حكم الامثال واحد ، ولذا قال : «ان قلت ان القصد والعزم انما يكون من مبادئ الاختيار» أي ان العزم والقصد من مبادئ الفعل الاختياري «وهي» أي مبادئ الفعل الاختياري نفسها «ليست باختيارية» أي لا يعقل ان تكون هي ايضا اختياريتها موقوفة على الاختيار «وإلّا لتسلسل» كما عرفت.

والحاصل : ان الالتزام بالعقاب على نفس الارادة التي هي نفس الاختيار التزام بالعقاب على ما ليس بالاختيار ، فلا يعقل ان يكون معنون الهتك والطغيان نفس الارادة والقصد ، لبداهة لزوم كون معنون الحسن والقبح أو الواجب والحرام أمرا اختياريا.

(٢) اجاب (قدس‌سره) عن الاشكال بجوابين : الاول : ما اشار اليه بقوله : مضافا ، الثاني ما اشار اليه بقوله : يمكن ان يقال.

٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل الجواب الاول : ان الارادة وان لم تكن بالاختيار للزوم التسلسل ، إلّا انه يكفي في صحة العقاب على الامر غير الاختياري كون بعض مبادئه اختيارية وبعض مبادي الارادة اختياري غالبا بل دائما وهو التصديق بالفائدة ، والجزم الذي هو عقد القلب على دفع الموانع وسد ثغور العدم ، فان العبد يمكنه ان يتأمل ولا يصدق بفائدة المحرم المنحصرة تلك الفائدة في ملائمتها لشهوته فقط ، فانه اذا تأمل وعرف ما يترتب عليه من المضار والمفاسد والهتك لمولاه والطغيان عليه ، وما يستلزم ذلك من تبعات العقوبة واللوم والذم ـ لا يحصل له التصديق بفائدة ليس فيها سوى الملاءمة لشهوته فقط ، ويمكنه ان يتأمل ايضا فلا يجزم بلزوم سد ثغور عدم هذا الشيء الذي يترتب على وجوده مفاسد وهتك لمن لا ينبغي هتكه والجرأة عليه ، بل ينبغي اطاعته والقيام بمراسم العبودية ، لانه بهتكه له يستحق العقاب من مولاه واللوم والذم من العقلاء.

وبالجملة : انه ليس كل ما لا بالاختيار لا يقتضي استحقاق العقوبة ، بل اللااختيار الذي بعض مقدماته اختيارية مما يستحق فاعله العقاب عليه ، واللااختيار الذي لا يستحق فاعله العقاب هو اللااختيار الذي ليس له مقدمة اختيارية سواء لم تكن له مقدمة كنفس تصور الشيء او تكون له مقدمة ولكنها غير اختيارية كالميل الجزئي المتعقب للتصور ، والى هذا اشار بقوله : «مضافا الى ان الاختيار وان لم يكن بالاختيار» وإلّا لتسلسل فنفس الاختيار ليس اختياريا «إلّا ان بعض مبادئه غالبا» بل دائما مثل التصديق والجزم «يكون وجوده» أي وجود بعض مبادئه مثل التصديق والجزم «بالاختيار للتمكن من عدمه» أي للتمكن من عدم التصديق والجزم «بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه» وما بنى على ارتكابه «من» المفاسد ك «تبعة العقوبة واللوم والمذمة» فيستطيع ان لا يصدق ولا يجزم بارتكاب ما يترتب عليه تلك التبعات. هذا حاصل الجواب الاول ولا بد من التأمل فيه جدا ،

٤٠