بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-061-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٨

فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا ، أو لا يقتضي؟ فلا يستحق العقوبة عليه ، بل إنما يستحقها على المخالفة العملية. الحق هو الثاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة والعصيان بذلك ، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لامر سيده إلا المثوبة دون العقوبة ، ولو لم يكن متسلما وملتزما به ومعتقدا ومنقادا له (١) ، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده ،

______________________________________________________

(١) توضيح الحال في هذا الامر يقتضي التكلم في جهات :

الاولى : في حقيقة الموافقة الالتزامية.

الثانية : في انها هل هي باقتضاء من نفس ادلة التكاليف او لقيام دليل خارجي عليها كمثل وجوب التصديق بجميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

الثالثة : في انه لو كانت واجبة اما لدلالة نفس ادلة التكاليف عليها او الدليل الخارجي لوجب الالتزام بها فتجب الموافقة الالتزامية اجمالا في مورد لم يعلم الحكم فيه تفصيلا ، بان يكون الالتزام اجمالا كافيا في امتثالها كما يجب الالتزام التفصيلي.

الرابعة : في مانعيتها عن اجراء الاصول في اطراف المعلوم بالاجمال وعدم مانعيتها عنه ، وسيأتي الكلام في الجهة الثالثة والرابعة عند تعرّض المصنف لهما في هذا الامر.

واما الجهة الاولى فقد اشار اليها المصنف اشارة اجمالية بقوله كما هو اللازم في الاصول الدينية والامور الاعتقادية.

وتوضيح ذلك : ان الموافقة الالتزامية التي ادعي وجوبها مضافا الى الموافقة العملية ليست هي نفس العلم بالشيء ، فانه ربما يحصل العلم بالشيء ولا يكون هناك التزام ولا تسليم من العالم بالشيء ، كما حكى الله ذلك عن الكفار برسالة النبي

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله عزوجل : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١) فلو كان نفس العلم بالشيء هي الموافقة الالتزامية لما كان من ايقن بصحة رسالة الرسول بكافر ، مع انه عزوجل سمّاهم بالكفار.

فيتضح ان الموافقة الالتزامية هي فعل من افعال النفس وهو عقد القلب والبناء على الالتزام بما علم صحته ، فالموافقة الالتزامية التي ادعي وجوبها في الاحكام هي نفس الواجبة في الاصول الدينية كالاعتقاد بوجود الواجب جلّ وعلا ووحدانيّته والاعتقاد بالاسلام وبصحة الرسالة ، ومن الواضح انه لا ملازمة بين العلم بالشيء وبين عقد القلب عليه والتسليم له ، ولذا كان من علم بصحة رسالة الرسول مستيقنا بها ولكنه لم يعقد قلبه عليها ولا سلّم لها من الكفار ، فمحل الكلام وهو انه هل يجب على المكلف عقد قلبه والتسليم للاحكام الفرعية التي وصلت اليه اما بالعلم او بقيام الحجة عليها مضافا الى وجوب موافقتها عملا كما يجب عليه ذلك في الاصول الاعتقادية ام لا يجب عليه ذلك؟

ومما ذكرنا في توضيح الموافقة الالتزامية ـ يتضح ان الموافقة الالتزامية التي هي عقد القلب او التسليم ليست هي الاتيان بقصد امتثال الامر ، والّا للزم عدم صحة تقسيم الاحكام الى تعبدية وتوصلية ، ولكانت الاحكام كلها تعبديّة وهو واضح الفساد ، لان المدعي وجوب الموافقة الالتزامية يدعي وجوبها في جميع الاحكام التوصلية والتعبديّة.

واما الجهة الثانية وهي البحث عن الدليل الدال على وجوب هذه الموافقة فخلاصة الكلام فيه ان الدليل عليها امّا نفس ادلة التكاليف او دليل خارجي كوجوب تصديق النبي.

__________________

(١) النمل : الآية : ١٤.

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد اشار المصنف الى الاول دون الثاني ، وحاصله : انه لا دلالة لنفس الدليل المتعلق بالافعال على وجوب هذه الموافقة ، لان الدليل اما هو الامر وجوبا باتيان فعل من الافعال او النهي عن ارتكابه لزوما ، وكل منهما له هيئة ومادة ، ومن الواضح ان المادة هي نفس الفعل المتعلق به الامر او النهي ، والهيئة هي ما دل على طلب الفعل او طلب الترك ، ومن البيّن عدم دلالة المادة ولا الهيئة على الموافقة الالتزامية التي هي عقد القلب ، اما عدم دلالة المادة على ذلك فواضح جدا لان المستفاد منها هو نفس الفعل المتعلق للامر او للنهي ولا ربط لنفس الفعل بعقد القلب عليه ، واما الهيئة فالمستفاد منها هو طلب اتيان الفعل خارجا او تركه خارجا ولا دلالة لها على اكثر من الطلب للاتيان الخارجي او لتركه كذلك ، والاتيان خارجا وعدمه من افعال الجوارح ، وعقد القلب من افعال الجوانح ، فاذا كان المستفاد من الهيئة هو العمل المتعلق بالجوارح فعدم تعلق الهيئة بالعمل الجانحي واضح ايضا.

فدعوى نفس الدليل على وجوب الموافقة لا تخلو عن جزاف لانها ترجع الى دعوى دلالة من غير دال.

هذا مضافا الى ما اشار اليه المصنف في عبارة المتن من انه لو كان لنفس الدليل دلالة على وجوب الموافقة الالتزامية لكان لكل حكم من الاحكام التي تعلق بها الامر والنهي امتثالان ومعصيتان ، احدهما يتعلق بوجوب عقد القلب عليه ، والثانية باتيانه ، فمن فعل ما امر به غير عاقد قلبه عليه كان مطيعا من ناحية وعاصيا من ناحية اخرى ، والوجدان احق شاهد على كذب هذه الدعوى ، فان المولى اذا امر عبده بشيء ففعله من غير عقد قلبه عليه لا يكون مستحقا للعقاب ، ولو كان كل تكليف منحلا الى تكليفين جانحي وخارجي لكان مثل هذا العبد ممن يستحق العقاب.

١٠٣

لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان المدار في صحة عقوبة العبد هو كونه طاغيا على مولاه وظالما له ، والعبد الذي يفعل ما امره به مولاه وان لم يكن قد عقد قلبه عليه لا يكون طاغيا على مولاه ومتحديا مراسم العبودية.

فاتضح ان دعوى دلالة نفس ادلة التكاليف على وجوب الموافقة الالتزامية لا تخلو عن مجازفة لانها دعوى من غير بيّنة على ذلك ، ولعدم دلالة من نفس ادلة التكاليف على ذلك ولعدم مساعدة الوجدان عليها. والى شهادة الوجدان بعدم وجوب الموافقة الالتزامية الذي هو المرجع في باب الاطاعة والعصيان اشار بقوله : «الحق هو الثاني» وهو عدم اقتضاء ادلة التكاليف للزوم الموافقة الالتزامية «لشهادة الوجدان الى آخر عبارته».

(١) لا يخفى ان هنا أمرين : مرحلة تمام الاخلاص للمولى ، والالتزام بأكمل مراسم العبودية ، ولا اشكال في ان الالتزام باحكامه والتسليم لاوامره ونهيه من درجات تمام الاخلاص ، وليس هذا هو محل البحث في المقام ، بل الكلام في مرحلة وجوب هذا الالتزام وان مخالفته كالمخالفة العملية مما يستحق المكلف عليها العقاب ، وقد عرفت انه لا يساعد هذه الدعوى نفس دليل الاحكام ولا الوجدان ، واما كونها داخلة في العبودية الكاملة والاخلاص التام فليس ذلك من محل البحث.

واما دلالة الدليل الخارجي على وجوب هذه الموافقة ، وهو مثل ما دل على وجوب تصديق النبي بكل ما جاء به فلا دلالة لمثل هذا على وجوب هذه الموافقة الالتزامية ، بعد ما عرفت من ان المراد من الموافقة الالتزامية هو عقد القلب ، فان الظاهر من هذا هو لزوم الاعتقاد بكون النبي صادقا فيما جاء به من الاحكام ، وانه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وهذا امر يعتقده كل من صدق

١٠٤

ثم لا يذهب عليك ، إنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية ، لو كان المكلف متمكنا منها تجب ، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا ، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما ، كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته ، للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا ، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت ، وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة (١).

______________________________________________________

بالرسالة ، لان عدم التصديق بذلك يرجع الى عدم الاعتقاد بصحة الرسالة ، وهذا غير وجوب عقد القلب الذي ربما يكون عدمه متحققا مع اليقين بالصحة ، كما عرفت في الكفار المستيقنين بصحة الرسالة غير العاقدين قلوبهم عليها والمنكرين لها بألسنتهم ، فاتضح انه لم يتم ايضا دليل من الخارج يدل على وجوب هذه الموافقة الالتزامية.

(١) هذه هي الجهة الثالثة التي اشرنا اليها سابقا ، وحاصلها : انه لو قلنا بلزوم الموافقة الالتزامية اما لدلالة نفس ادلة التكاليف عليها او لدلالة دليل خارجي عليها ، فهل تجب فيما لا تجب الموافقة العملية كما في مقام دوران الامر بين المحذورين؟ فان الموافقة العملية القطعية غير ممكنة لعدم تبيّن الحكم الواقعي وعدم امكان الاحتياط فيه لفرض دوران الفعل بين كونه واجبا او حراما ، فالموافقة العملية لا تجب لعدم امكانها.

واما الموافقة الالتزامية فحيث انه لا يمكن الالتزام بالحكم بعينه تجب موافقته بنحو الاشارة اليه لتعذر الموافقة التفصيلية وامكان الموافقة الاجمالية ، فيجب الالتزام بالحكم الواقعي بما له من عنوانه الواقعي بنحو الاشارة اليه اجمالا لعدم العلم به تفصيلا ، والى هذا اشار بقوله : «تجب» أي تجب الموافقة الالتزامية على القول بوجوبها «ولو فيما لا يجب عليه» أي على المكلف «الموافقة القطعيّة عملا» لعدم امكانها كما في دوران الامر بين المحذورين ، وفيه كما لا تجب الموافقة القطعية «لا

١٠٥

وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه ، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة ، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا ، فإن محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة ، مع ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا ، لا الالتزام به أو بضده تخييرا (١).

______________________________________________________

يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك ايضا» حيث نقول بالتخيير الاستمراري فيه ، فانه عليه لا مانع من المخالفة القطعية ايضا ، فانه مع التخيير الاستمراري بين الفعل او الترك يقطع بالمخالفة القطعية ، ومع استمرار التخيير كما يمتنع وجوب الموافقة يمتنع ايضا حرمة المخالفة ، واليه اشار بقوله : «لامتناعها» وذلك «كما اذا علم اجمالا بوجوب شيء او حرمته» ففي مثله تجب الموافقة الالتزامية بناء عليها وان لم تجب الموافقة العملية ولا تحرم المخالفة العملية ايضا «للتمكن من» الامتثال فيها دون العملية وذلك ب «الالتزام» بما هو الثابت واقعا من الحكم بما له من عنوانه الواقعي بالاشارة اجمالا اليه ، فيمكن الالتزام به والانقياد له والاعتقاد به «بما» انه «هو الواقع والثابت وان لم يعلم انه» هو «الوجوب» بخصوصه «او الحرمة» بخصوصها.

(١) حاصله : انه ان لم نقل بوجوب الالتزام بنحو الاجمال فلازمه عدم وجوب الالتزام ، لان وجوب الالتزام بالحكم بخصوص ما له من العنوان في مقام دوران الامر بين المحذورين غير ممكن ، فاذا قلنا بلزوم الالتزام بالحكم بعنوانه في المقام فلا بد من سقوط التكليف به لعدم امكانه.

ولا يمكن ان يدعى انه اذا لم يمكن الالتزام به بخصوصه يمكن ان يلتزم باحدهما على وجه التخيير.

فانها دعوى واضحة البطلان ، اولا : لوضوح انه لا يمكن ان تستلزم اطاعة الشيء العصيان من وجه آخر ، فان الالتزام بما ليس بحكم واقعا انه هو الحكم واقعا

١٠٦

ومن هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاصول الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم (١) لو كانت جارية ، مع

______________________________________________________

تشريع محرم ، فلا يعقل ان تجب الموافقة الالتزامية باحدهما تخييرا لاستلزامه التشريع ، والى هذا اشار بقوله : «فان محذور الالتزام بضد» الواجب «ليس باقل من محذور عدم الالتزام به بداهة» لبداهة الحرمة التشريعية فلا يعقل ان تجب الموافقة الالتزامية حيث تستلزم الحرمة التشريعية.

وثانيا : ان وجوب الموافقة القطعية بناء على انها مستفادة من ادلة التكاليف ، فمن الواضح ان التكليف انما يدعو الى وجوب الالتزام به بعنوانه الخاص به ، ولا يعقل ان يقتضي وجوب الالتزام به او بضدّه ، فان الامر بوجوب الالتزام بالحكم الذي تعلق الامر او النهي به انما يدعو الى الالتزام بذلك العنوان الذي وقع متعلقا للامر أو النهي ، ومتعلق الامر أو النهي هو ذلك العنوان الخاص لا هو او ضده ، والى هذا اشار بقوله : «مع ضرورة ان التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام الى آخر الجملة».

وان قلنا ان الموافقة الالتزامية مستفادة من دليل خارجي فانه ايضا لا يكون دالا على لزوم تعيين احدهما ، لان المستفاد منه هو لزوم الموافقة التزاما للحكم الواقعي ، فحيث يتعذر معرفته تفصيلا يجب الالتزام به اجمالا ، والالتزام باحدهما على التعيين لازمه الالتزام بغير الحكم الواقعي احيانا وبما لا يعلم انه الحكم الواقعي دائما ، وهو تشريع محرم.

(١) هذه هي الجهة الرابعة من الكلام في هذا الامر ، وتوضيحه يتوقف على بيان امر : وهو انه قد توهم أنه لو قلنا بوجوب الالتزام بالحكم لكان ذلك مانعا عن اجراء الاصول العملية في اطراف العلم الاجمالي ، بدعوى ان لازم جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي الترخيص في المخالفة الالتزامية للحكم الواقعي وهو قبيح ، فلا يعقل ان تجري الاصول فيما لزم من جريانها قبحا عقليا على الشارع ، فتكون

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ادلتها مخصصة عقلا في غير ذلك المورد ، اما لزوم ذلك من جريانها فلان لازم جريانها في مورد العلم الاجمالي هو كونه موردا لجعل الحكم الظاهري وهو الاباحة في المقام ، فان الاصول الجارية في مقام الدوران بين المحذورين هو عدم الوجوب وعدم الحرمة ، فكون الحكم الظاهري في المورد هو الاباحة ينافي الحكم بوجوب الالتزام بالحكم الذي يدور امره بين الوجوب والحرمة ، فان مرجع ذلك الى الامر بالمتنافيين ، لان وجوب الموافقة الالتزامية تقضي بوجوب الالتزام بالحكم الذي يدور امره بين الوجوب والحرمة ، وجريان الاصول في الاطراف يقضي بكون الحكم الفعلي هو الاباحة ، ولازمه هو وجوب الالتزام ايضا بكون الحكم هو الاباحة ، فلازم ذلك هو الاذن من الشارع في المخالفة العملية للتكليف بالالتزام ، لان لازم كون الحكم الفعلي هو الاباحة ان ليس هناك الزام بالحكم بان هنا يجب الالتزام بان هنا حكما الزاميا فلا مانع من مخالفة التكليف بلزوم الالتزام بان هنا يجب الالتزام بان هنا حكما الزاميا.

وايضا حيث انه يلزم الالتزام بالحكم الفعلي وهو الاباحة ، ولما كان يجب الالتزام بالحكم الواقعي وهو الالزام بين الوجوب والحرمة فلازم ذلك حكم الشارع بلزوم الالتزام بحكمين متنافيين.

والجواب عنه اولا : انه لو قلنا بجواز اجتماع الحكم الواقعي والظاهري ، وانه لا تنافي بينهما كما سيأتي تحقيقه في الامارات ، فان التنافي انما يكون بين الحكمين الفعليين الحتميين ، وليس الحكم الواقعي بفعلي حتمي في المقام ، وفي كل مقام كان موردا للحكم الظاهري ، بل هو اما انشائي او فعلي تعليقي لا حتمي.

وثانيا : انه لا تجب الموافقة الالتزامية في المقام : أي لا تجب الموافقة الالتزامية لانه لا يقتضيها نفس الادلة للتكاليف ولا الدليل الخارجي ، فلا يجب الالتزام بالتكليف على نحو الاجمال ولا باحدهما ، لما عرفت من استلزامها التشريع وعدم معقولية ان يدعو الشيء الى التزام بنفسه وبضده تخييرا ، فلا موافقة التزامية في المقام حتى تجب ،

١٠٨

قطع النظر عنه (١) ، كما لا يدفع هنا محذور عدم الالتزام به ، بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذ أيضا الّا على وجه دائر ، لأن جريانها موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام من جريانها ، وهو موقوف على جريانها بحسب الفرض (٢).

______________________________________________________

والى هذا الجواب الثاني اشار بقوله : «ومن هنا قد انقدح الى آخر الجملة» فانه بعد عدم وجوب الموافقة الالتزامية لا يكون بمانع عن جريان الاصول في اطراف المعلوم بالاجمال ، فلا يكون جعل الحكم الظاهري في المقام موجبا للترخيص في المخالفة الالتزامية.

(١) يشير الى ان المانع عن جريان الاصول في المقام ليس وجوب الموافقة الالتزامية ، بل ما سيشير اليه بقوله : «إلّا ان الشأن» فمع قطع النظر عما سيذكره من المانع عن جريانها في المقام فالموافقة الالتزامية لا تمنع لما عرفت من عدم وجوبها.

(٢) هذا اشارة الى ما ذكره الشيخ في الرسالة بما حاصله : انه لو قلنا بوجوب الموافقة الالتزامية لكنها لا تجب في المقام ، لان جريان الاصول في الاطراف رافع لها ، فبواسطة جريان الاصول في المقام الذي لازمها كون الحكم الفعلي الظاهري الذي هو الحكم الذي يجب الالتزام به فعلا وهو الاباحة ، فانه به يترفع وجوب الالتزام بالحكم الالزامي في المقام ، وقد اورد عليه المصنف في المتن بلزوم الدور ، وانه بعد الالتزام بوجوب الموافقة الالتزامية في اطراف العلم في المقام بناء على ان العلم الاجمالي بالحكم الواقعي في المقام علة تامة للتنجيز لا مقتض ، فانه بناء على العلية التامة يكون العلم الاجمالي بالحكم الواقعي علة تامة لوجوب الالتزام بالحكم الواقعي ، ولا يرتفع بجريان الاصول لان جريان الاصول في المقام يتوقف على ان لا يلزم منه محذور ، ووجوب الموافقة الالتزامية المنجزة بالعلم الاجمالي محذور يمنع عن جريان الاصول ، فجريان الاصول في المقام يتوقف على عدم وجوب الموافقة الالتزامية ، لان وجوبها يكون مانعا عن جريان الاصول ، وعدم وجوب الموافقة الالتزامية

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يتوقف على جريان الاصول ، لان دليل وجوب الموافقة الالتزامية عام يشمل حتى المورد ، فعدم وجوبها في المورد انما هو لجريان الاصول ، وقد عرفت ان جريان الاصول متوقف على عدم وجوبها ، فجريان الاصول يتوقف على عدم وجوبها المتوقف على جريان الاصول ، وهذا هو الدور أو نتيجته ، لتوقف جريان الاصول على عدم المانع المتوقف على جريان الاصول ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «كما لا يدفع هنا محذور عدم الالتزام به» أي محذور عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي ، فانه بناء على كون العلم الاجمالي بالحكم الواقعي في المقام علة تامة لتنجز وجوب الالتزام به ، فعدم وجوب الالتزام به يلزم منه محذور تخلف المعلول عن علته التامة «بل» يلزم من وجوب الالتزام بالحكم الواقعي محذور آخر ، وهو الالتزام بضد الحكم الواقعي ، لانه كما يجب الالتزام بالحكم الواقعي كذلك يجب الالتزام بالحكم الظاهري ، والحكم الظاهري في المقام بعد جريان الاصول هو الاباحة ، ولما كان الحكم الواقعي في المقام الزاميا فالالتزام بالحكم الظاهري المتحصل من جريان الاصول في المقام التزام بضد الحكم الواقعي ، فلو جرت الاصول في المقام لدفعت محذور عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي ، ولدفعت ايضا محذور «الالتزام بخلافه» أي بخلاف الحكم الواقعي وهو الاباحة التي هي ضد الحكم الواقعي الالزامي وخلافه ، ولكن هذا كله «لو قيل بالمحذور فيه حينئذ ايضا» أي لو قيل بان العلم الاجمالي هنا علة لتنجز وجوب الالتزام بالحكم الواقعي إلّا ان الاصول لا تجري في المقام حتى يرتفع بها محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي ومحذور الالتزام بخلافه ، لان جريانها لا يكون «الا على وجه دائر لان جريانها» أي لان جريان الاصول «موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام» فانه لو كان هنا محذور في عدم الالتزام لكان الالتزام واجبا ، واذا وجب الالتزام يمتنع جريان الاصول ، فوجوب الالتزام مانع عن جريان الاصول ، ومن الواضح توقف تحقق الشيء على عدم

١١٠

اللهم إلا أن يقال : إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام في الاطراف ، ومعه لا محذور فيه ، بل ولا في الالتزام بحكم آخر (١) إلا أن الشأن حينئذ في جواز جريان

______________________________________________________

مانعة ، فجريان الاصول في المقام متوقف على عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي من باب توقف الشيء على عدم مانعة.

والحاصل : ان جريان الاصول يتوقف على عدم لزوم محذور من عدم الالتزام بالحكم الواقعي وهو «اللازم من جريانها» أي ان عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي هو اللازم من جريان الاصول «وهو موقوف على جريانها بحسب الفرض» أي وعدم لزوم المحذور من عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي في المقام موقوف على جريان الاصول ، لان المفروض انه لو لا جريان الاصول لوجب الالتزام بالحكم الواقعي ولا رافع لوجوبه الا جريان الاصول في المقام ، فتحصل ان جريان الاصول متوقف على عدم وجوب الالتزام ، وعدم وجوب الالتزام متوقف على جريان الاصول ، فجريان الاصول متوقف على عدم وجوب الالتزام وعلى كل ما يتوقف عليه وجوب الالتزام ، وقد عرفت ان عدم وجوب الالتزام متوقف على جريان الاصول ، فجريان الاصول يتوقف على جريان الاصول ، وهو الدور او نتيجته وهو توقف الشيء على نفسه.

فتلخص مما ذكرنا : ان دفع محذور وجوب الالتزام الذي هو المانع عن جريان الاصول في المقام بما ذكر في الرسالة ، الذي حاصله ان وجوب الالتزام هنا مرفوع بجريان الاصول في الاطراف الرافعة للحكم الواقعي ، لان لازمها عدم الحكم الواقعي فلا يجب الالتزام به لارتفاع الحكم الذي هو موضوع وجوب الالتزام ، فان رفع وجوب الالتزام بهذا الطريق يستلزم الدور كما عرفت.

(١) توضيحه : انه لو قلنا بان العلم الاجمالي بالتكليف علة تامة لتنجزه لا توقف له على شيء ، يكون ما ذكر في الرسالة من رفع التكليف بوجوب الالتزام بجريان

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

الاصول دوريا كما تقدم بيانه ، لان العلم الاجمالي بوجود تكليف في المقام يقتضي وجوب الالتزام به لوجود علته التامة وهو العلم الاجمالي به ، فيكون وجوب الالتزام بما هو الحكم الواقعي متحققا قطعا وهو مانع عن جريان الاصول ، فرفعه بجريان الاصول يستلزم الدور كما عرفت.

اما لو قلنا بان العلم الاجمالي ليس علة تامة لتنجز التكليف ، بل هو مقتض يتوقف تأثيره على عدم جعل من الشارع في مورده مناف له ، وعلى هذا فوجوب الالتزام في المقام هو الذي يكون موقوفا على عدم جريان الاصول في المقام ، فلا يتم الحكم بوجوب الالتزام بالحكم الواقعي الا حيث لا تجري الاصول ، ومع جريانها لا يكون حكم بوجوب الالتزام ، فيكون التوقف من طرف واحد لا من الطرفين حتى يلزم الدور.

والحاصل : ان وجوب الالتزام يتوقف على عدم جريان الاصول ، واما جريان الاصول فلا يكون موقوفا على عدم وجوب الالتزام ، لان العلم الاجمالي به ليس علة تامة له بل هو مقتض وله شرط وهو عدم جريان الاصول في مورده ، ومع جريانها لا تتحقق علته التامة فلا يكون هنا حكم بوجوب الالتزام حتى يكون مانعا عن جريان الاصول فيتوقف جريانها على عدمه فيلزم الدور ، وهذا هو مراده من قوله : «إلّا ان يقال ان استقلال العقل بالمحذور فيه» أي استقلال العقل بوجود المانع في المقام انما يتم على ان العلم الاجمالي علة تامة بنفسه ، من غير توقف له على شيء في تنجز الحكم المتعلق به ، واما اذا قلنا ان العلم الاجمالي مقتض والحكم بوجوب الالتزام «انما يكون فيما اذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام في الاطراف ومعه» أي ومع القول بهذا «لا محذور فيه» أي لا محذور في جريان الاصول في المقام لعدم وجود الحكم الواقعي الذي يجب الالتزام به حتى يكون مانعا عن جريانها ، وايضا لا محذور في الالتزام بحكم آخر فعلي مناف للحكم الواقعي ولذا قال : «ولا في الالتزام بحكم آخر».

١١٢

الاصول في أطراف العلم الاجمالي ، مع عدم ترتب أثر عملي عليها ، مع أنها أحكام عملية كسائر الاحكام الفرعية ، مضافا إلى عدم شمول أدلتها لاطرافه ، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها ، كما ادعاه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (١) ، وإن كان محل تأمل ونظر ،

______________________________________________________

(١) حاصله : ان المانع عن جريان الاصول في المقام هو ما يشير اليه من الامرين ، لا وجوب الموافقة الالتزامية كما توهم.

الامر الاول : مما يختص بخصوص المقام وهو دوران الامر بين المحذورين.

وحاصله : انه لا بد في جريان الاصول من اثر بحسبه يصح جريانها ، لوضوح ان جريانها في مورد لا اثر فيه لغو لا يصح جعل الاصول فيه ، وحيث ان المورد من دوران الامر بين المحذورين فلا مناص للمكلف في مثله عن ان يكون اما فاعلا او تاركا ، وبعد ضرورة كون المكلف اما فاعلا او تاركا فلا فائدة في جريان الاصول الذي لازمه الاذن في الفعل والترك ، والى هذا اشار بقوله : «إلّا ان الشأن الى آخر الجملة».

ولا يخفى ان هذا يتم بناء على عدم وجوب الموافقة الالتزامية ، لوضوح وجود الاثر لو وجبت الموافقة الالتزامية ، لان المكلف وان كان لا مناص له من الفعل او الترك فلا يكون لجعلها اثر عملي إلّا انه اذا وجبت الموافقة كان لجريانها اثر من ناحية وجوب الالتزام وعدمه.

إلّا ان يقال انه بناء على ما تقدم من عدم منافاة الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو علة لجعل الحكم الظاهري على خلافه ، فانه ايضا لا يكون لجريانها اثر عملي ، لوضوح وجوب الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه سواء جرت الاصول ام لم تجر.

الامر الثاني : ما ذكر الشيخ مانعا عن جريان الاصول ـ أي الاستصحاب ـ في اطراف العلم الاجمالي.

١١٣

فتدبر جيدا (١).

______________________________________________________

ولا يخفى انه لو تم لما اختص بخصوص المقام ، بل يكون مانعا عن جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي مطلقا ، وسيأتي التعرض له مفصلا ان شاء الله تعالى في محله من مباحث البراءة والاشتغال ...

ومجمله : ان ادلة الاصول التي يشير اليها هو دليل الاستصحاب الذي صدره يقتضي عدم جواز نقض اليقين بالشك ، وهذا الصدر لا مانع من شموله لاطراف العلم الاجمالي لوجود اليقين والشك فيها ، إلّا ان ذيله يقول بلزوم نقض اليقين باليقين ، ففي مورد اليقين السابق يقين لا يكون مجرى للاستصحاب ، واليقين مما يشمل اليقين الاجمالي.

وعلى هذا فالدليل بحسب صدوره وان شمل اطراف المعلوم بالاجمال إلّا ان ذيله الدال بلزوم نقض اليقين باليقين يقتضي عدم شموله له ، لان اليقين السابق المتعلق بكل واحد من الاطراف بعنوانه الخاص مما يجوز نقضه بالعلم الاجمالي الذي احد طرفيه مناف لليقين السابق ، فصدور الدليل يشمل العلم الاجمالي وذيله يمنع عن شموله له ، فشمول دليل الاستصحاب لاطراف العلم الاجمالي لازمه وقوع التناقض بين صدره وذيله ، وحيث لا مرجع لصدر الدليل على ذيله فيكون مجملا بالنسبة الى مورد العلم الاجمالي ، واذا كان دليل الاستصحاب بالنسبة لمورد العلم الاجمالي مجملا فلا وجه لجريان الاصول فيه ، لتوقف جريانها على دليل يتضمن شمول الجعل فيها لذلك ، والى هذا اشار بقوله : «مضافا الى عدم شمول ادلتها» أي ادلة الاستصحاب «لاطرافه» أي لأطراف العلم الاجمالي «للزوم التناقض في مدلولها» بين صدرها وذيلها «على تقدير شمولها» لأطراف العلم الاجمالي.

(١) سيأتي في محله ان هذا انما يتم بناء على عدم ظهور الدليل في كون اليقين اللاحق لا بد ان يكون على نحو اليقين السابق ، فاليقين التفصيلي لا ينتقض باليقين الاجمالي وانما ينتقض باليقين التفصيلي ، فلا منافاة بين الصدر والذيل.

١١٤

الامر السادس : لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا ، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف ، ومن سبب ينبغي حصوله منه ، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه ، كما هو الحال غالبا في القطاع ، ضرورة أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله ، وصحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك ، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه ، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك (١) ، ولو مع التفاته إلى كيفية

______________________________________________________

(١) بعد ما عرفت فيما تقدم ان القطع الطريقي هو انكشاف الواقع كشفا تاما لا يشوبه احتمال الخلاف ، وانه لا تناله يد الجعل ـ فلا بد من ترتيب آثار القطع كلها عليه حال حصوله ، وآثار القطع اربعة :

الاول : الإجزاء وعدمه ، وقد مرّ انه لو قلنا بالاجزاء في الاصول والامارات فلا نقول في القطع الطريقي.

الثاني : قيام الامارات المعتبرة مقامه كما تقدم تفصيله.

الثالث : صحة العقوبة على مخالفته واستحقاق الثواب على اطاعته فيما لو اصاب الواقع والتجري والانقياد كما مر بيانه.

الرابع : ما ذكره في المتن في هذا الامر وهو انه لا يتفاوت الحال فيه من حيث السبب كالحس والحدس او كونه من طريق متعارف او غير متعارف ولا من حيث المورد ككونه في الوجوب او الحرمة او الحلية ولا من حيث الشخص ككونه قطاعا او غير قطاع فيه ـ يتضح ان القطع الطريقي الى الحكم المترتب على موضوع لا يعقل ان يقيد بسبب خاص ، ككونه حاصلا من طرق متعارفة او شرعية او امثال ذلك كالحس والحدس ، ولا يعقل ايضا تقييده بمقطوع خاص ككون القطع بوجوب الصلاة حجة دون القطع بحرمة الخمر ، فانه بعد ان لم يكن موضوع الحرمة مقيدا بشيء عدا تحقق موضوعه وهو الخمر فبعد القطع بخمرية شيء لا يعقل ان يتصرف عقل او شرع في

١١٥

حصوله (١). نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ، والمتبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كل مورد ، فربما يدل على اختصاصه بقسم في مورد ، وعدم اختصاصه به في آخر ، على اختلاف الادلة واختلاف المقامات ، بحسب مناسبات الاحكام والموضوعات ، وغيرها من الامارات (٢).

______________________________________________________

عدم حرمته ، ولا يعقل ايضا تقييده بشخص خاص كمثل كونه غير قطاع ، لوضوح ان الفرق بين القطاع وغيره في حصول القطع كثيرا للقطاع دون غيره ، اما بعد حصول القطع وتحققه فلا فرق بين القطع المتحقق له والقطع المتحقق لغيره ، فان ردع القطاع بعد تحقق القطع عنده كردع غيره يستلزم الخلف ، لان عدم ترتب الحرمة على الخمر بعد القطع بان هذا المائع خمر يرجع اما الى كون الخمر ليس موضوعا للحرمة ، وان الحرمة ليست مرتبة على الخمر ، وكلاهما خلف ، لفرض كون الخمر حراما ، ويترتب على القطاع كغيره لوازم القطع من صحة مؤاخذته لو تجرى ولم يعمل بموجب قطعه ، بناء على حرمة التجري وعدم صحة مؤاخذته لو قطع بالعدم ، وعلى كل فلا فرق في القطع الطريقي بين القطاع وغيره بجميع ما للقطع من اثر سواء في طريقيته او في صحة العقوبة على مخالفته.

(١) حاصله : ان القطاع قد يلتفت الى كونه قد حصل له القطع من جهة لا يحصل منها القطع لغيره ، إلّا انه لو التفت الى ذلك فاما ان يحصل له التردد فيرتفع قطعه ، وحينئذ يخرج عن كونه قاطعا ، واما ان لا يتردد لحسن ظنه بنفسه وانه يلتفت الى ما لا يلتفت اليه غيره ، وحينئذ فالقطاع الحاصل له القطع من سبب لا يحصل منه القطع لغيره يرى انه قد حصل له القطع من سبب يستلزمه وقد التفت له دون غيره.

(٢) هذا احد الفوارق بين القطع الطريقي والموضوعي كما تقدم الفرق بينهما في قيام الامارات وانها تقوم مقام القطع الطريقي دون الموضوعي كما عرفته مفصلا.

١١٦

وبالجملة القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع ، ولا من حيث المورد ، ولا من حيث السبب ، لا عقلا ـ وهو واضح ـ ولا شرعا ، لما عرفت من أنه لا تناله يد الجعل نفيا ولا إثباتا (١) ، وإن نسب إلى بعض الاخباريين أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية ، إلا أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ، بل تشهد بكذبها ، وأنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه ، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيد الصدر في باب الملازمة ، فراجع (٢).

______________________________________________________

وحاصله : ان القطع الموضوعي امر موضوعيته وكيفية اخذه في الحكم المرتب عليه يتبع فيه مقدار دلالة الدليل على موضوعيته ، لبداهة ان اخذه موضوعا مما تناله يد الجعل التشريعي ، فللشارع ان ياخذ القطع الحاصل من شخص خاص موضوعا لحكم كما لو اخذ ـ مثلا ـ القطع الحاصل من قول العادل دون غيره او من سبب خاص موضوعا للحكم ، فلا يكون القطع الحاصل من غير ذلك السبب موضوعا لذلك كما لو قلنا بان العلم الحاصل ـ مثلا ـ من المشاهدة أو من احد الحواس الظاهرة هو الموضوع لوجوب اداء الشهادة ، فمن حصل له العلم من غيرها لا يجب عليه اداء الشهادة.

وعلى كل القطع الموضوعي كسائر الموضوعات للشارع التصرف فيها بحسب ما يدل عليه دليل التشريع.

(١) المراد من القطع الذي هو موضوع عقلا للآثار هو القطع الطريقي لوضوح كون القطع الموضوعي هو موضوع شرعا لا عقلا.

(٢) لا يخفى ان المنع عن القطع الحاصل من المقدمات العقلية حيث ان لازمه عدم حجية هذا القطع الطريقي ، وهذا ينافي ما هو المعلوم ـ مما مرّ ـ من كون القطع لا تناله يد الجعل ، لان لازم صحة المنع عن حجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية كونه

١١٧

وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية ، لانها لا تفيد إلا الظن ، كما هو صريح الشيخ المحدث الامين الاسترآبادي ـ رحمه‌الله ـ

______________________________________________________

مما للشارع حق رفعه والتصرف فيه ، فلذا انكر هذا على من نسب اليهم ذلك ، والمنسوب اليهم هم : الامين الاسترابادي ، والسيد الجزائري ، وصاحب الحدائق ، والاخيران انما نسب اليهم لانهم نقلوا كلام الامين مستحسنين له ، واما السيد الصدر فلم ينسب اليه ، ولكنه ربما يتوهم منه ذلك لمنعه كون ما يحكم به العقل حكما شرعيا ، بدعوى ان العقل لا يحكم إلّا بما قطع به ، فعدم لزوم مطابقة حكم الشرع له يرجع الى عدم امضائه لحجيته ، ولازم ذلك كونه مما للشارع يد التصرف فيه.

ولا يخفى انه لا وجه لهذا التوهم ، فان كلامه في مقام انكار الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وان العقل قاصر عن ادراك جميع ما للشيء من الجهات الواقعية ، فربما يحكم العقل بحسن شيء لادراكه الجهة الموجبة لحسنه ، وحيث يحتمل ان تكون هذه الجهة التي ادركها العقل هي مقتض ومن الجائز ان هناك شرطا لهذا الاقتضاء مفقودا او هناك مانع يمنع عن تاثير هذا الاقتضاء ـ لذلك لا يمكن ان نقول بالملازمة بين ما يدركه العقل ولزوم كونه حكما شرعيا.

وهذا الكلام من السيد اجنبي عن عدم حجية القطع الطريقي في مقام طريقيّته وانكشاف الواقع به ، بل هو في مقام ان الحكم الشرعي من العالم بجميع ما للفعل من جهاته الواقعية لا طريق للعقل الى الوصول اليه ، وان العقل مهما بلغ فهو قاصر عن ادراك الشيء بجميع جهاته الواقعية ، فبمجرد ادراكه لحسن شيء او قبحه لا يجوز ان نقول انه هو حكم شرعي ايضا ، لان معرفة الشارع فوق ادراك العقل ومداركه ، ولا ربط لهذا الكلام في كون القطع مما تناله يد الجعل التشريعي ، والى هذا اشار بقوله : «كما ينادي بأعلى صوته ما حكى عن السيد الصدر» وانه «في باب انكار الملازمة» بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع.

١١٨

حيث قال في جملة ما استدل به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهم‌السلام.

الرابع : إن كل مسلك غير ذلك المسلك ـ يعني التمسك بكلامهم عليهم الصلاة والسلام ـ إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها وقال في جملتها أيضا ـ بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة ـ ما هذا لفظه وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسكنا بكلامهم (عليهم‌السلام) فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسكنا بغيره لم نعصم عنه ، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا ، ألا ترى أن الامامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ ، وذلك الامر محال ، لانه قبيح ، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى (١) .. انتهى موضع الحاجة من كلامه ، وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة اعلى  الله مقامه في الرسالة ، وقال في فهرست فصولها أيضا الاول : في إبطال

______________________________________________________

(١) قد عرفت ان المنسوب اليهم عدم حجية القطع الطريقي الحاصل من المقدمات العقلية هم : الامين والسيد الجزائري وصاحب الحدائق ، وان الاخيرين انما نسب اليهم ذلك لاستحسانهم كلام الامين ، فالعمدة في المقام هو ما يظهر من كلام الامين.

والذي يظهر من التأمّل في كلام الامين انه ينكر حجية الظن الحاصل من المقدمات العقلية دون القطع ، وفي اثناء كلامه جملتان صريحتان بذلك :

الاولى : قوله وقد اثبتنا سابقا انه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس احكامه.

الثانية : قوله وانت اذا تأملت الى ان يقول : انه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في احكامه تعالى.

١١٩

جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه ، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله ، أو بحكم ورد عنهم عليهم‌السلام ، انتهى.

وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه ، هو العقلي غير المفيد للقطع ، وإنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع.

وكيف كان ، فلزوم اتباع القطع مطلقا ، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته ، وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا ، مما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن فاضل (١) ، فلا بد فيما يوهم خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لاجل منع بعض مقدماته الموجبة له ، ولو إجمالا ، فتدبر جيدا (٢).

______________________________________________________

(١) هذه هي القرينة الثالثة على كونه في مقام عدم حجية الظن بالاحكام الشرعية ، وانحصار الطريق فيما يرد عنهم صلوات الله عليهم ما ذكره تحت عنوان الفصل الاول في كتابه وفوائده ، فانه قال : الاول : في ابطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس احكامه تعالى ، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله ، او بحكم ورد عنهم عليهم‌السلام ، فان كلامه هذا صريح في عدم حجية الظن وحجية القطع.

(٢) قد ذكر الشيخ في الرسالة امثلة يتوهم منها عدم كون القطع الطريقي علة تامة لآثاره.

منها ما لو اقر شخص لزيد بعين ، ثم اقر بها لخالد ، فانه يظهر منهم كون الحكم اعطاء العين للمقر له الاول وهو زيد ، وتغريم المقر قيمتها ثانيا للمقر له الثاني وهو خالد ، ولازم هذا انه لو اشتراهما ثالث بان يجمع هذا الثالث بمعاملة صحيحة بين العين والقيمة ان يحصل له القطع بان أحد هذين ليس لمالكه ، اذ لا يعقل كون الدار بجميعها لمالكين عرضيين ، فان كانت الدار لزيد فخالد لا يملك الغرامة التي اعطيت له ، وان كانت لخالد فزيد لا يكون مالكا للدار واقعا وهي باقية على ملك خالد لها ،

١٢٠