بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-061-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٨

المقصد السادس

في بيان الامارات المعتبرة شرعا أو عقلا

وقبل الخوض في ذلك ، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الاحكام (١) ، وإن كان خارجا من مسائل الفن (٢) ، وكان أشبه

______________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين ، وصلى الله على محمد واهل بيته اجمعين (١) الطريق العقلي الى الحكم اما قطعي ، او ظني ، وسيأتي خروج القطع عن مسائل فن الاصول ، واما الظني فغير المعتبر منه واضح خروجه ، ويدخل المعتبر منه فيه كالظن الانسدادي على الحكومة لا على الكشف ، بان تكون نتيجة دليل الانسداد حجية الظن عقلا لا لكشفها عن اعتباره شرعا ، فانه يكون كسائر الامارات الخاصة المعتبرة شرعا.

فتحصّل : ان الامارات الشرعية كخبر الواحد الثقة والامارة العقلية ، اما غير المعتبر منها كالظن القياسي فانه خارج عمّا يبحث هنا ، والظن العقلي المعتبر تارة يكون اعتباره عقليا كالانسداد على الحكومة ، واخرى يكون شرعيا كالانسداد على الكشف ، وحينئذ يدخل في الامارات المعتبرة شرعا.

فهذا المقصد السادس للامارات الشرعية المعتبرة كخبر الواحد والامارات العقلية المعتبرة عقلا كالانسداد على الحكومة ، واما الانسداد على الكشف فهو من الامارات الشرعية.

(٢) لا يخفى ان اندراج المسائل في الفن انما هو حيث يدخل في الغرض الجامع لمسائل العلم ، وقد تقدّم في اول مقدمة الكتاب ان الغرض من علم الاصول هو الاستنباط للحكم الشرعي وما ينتهي اليه في مقام العمل بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل.

اما خروجه عن الاستنباط فلوضوح ان الاستنباط هو استلزام الحكم لما يبحث عنه من مسائل الاصول ، كالبحث عن مثل مقدمة الواجب ، فان اللزوم بين وجوب

١

بمسائل الكلام ، لشدة مناسبته مع المقام (١).

______________________________________________________

المقدمة ووجوب ذيها وعدمه يستلزم وجوب المقدمة وعدم وجوبها ، ومن الواضح ان القطع بالحكم ليس شيئا يستلزم الحكم فانه نفس حضور الحكم.

لا يقال : ان مباحث القطع غير منحصرة في البحث عن القطع بالحكم ، فان من جملتها مسألة التجري ، وسيأتي انه يمكن عقدها مسألة اصولية ، ومنها اخذ الحكم في الموضوع للحكم ، واخذه في موضوع حكم نفسه ، وقيام الامارات مقامه ، وهذه كلها من مباحث الاصول.

فانه يقال : اما مسالة التجري وان امكن عقدها مسألة اصولية ، إلّا ان المهم في البحث عنها هو الثواب والعقاب ، وليس هما من الاحكام الشرعية ، واما اخذ القطع في الموضوع فان الحكم يستند استنباطه الى الدليل الدال على اخذ القطع موضوعا للحكم لا الى القطع ، والّا كان البحث عن موضوعات الاحكام من مسائل الاصول ، وهو واضح البطلان.

واما اخذه في موضوع نفسه ، فمضافا الى عدم إمكانه في نفسه كما سيأتي بيانه ، ان الذي يقع في طريق الحكم هو نتيجة البحث عن امكان اخذه لا نفس القطع.

واما قيام الامارات مقامه فهو في الحقيقة من لواحق الامارات دون القطع بالحكم.

واما خروجه عن ما ينتهي اليه بعد الفحص واليأس ، فلوضوح ان القطع غير منوطة حجيته بالفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، فان القطع بالشيء هو نفس وصوله وحضوره حقيقة بنظر القاطع ، ولا يعقل ان يكون وصول الشيء حقيقة منوطا بالفحص

(١) ظاهره امران :

الاول : خروج مباحث القطع عن علم الكلام ايضا ، ولكنه اشبه به من غيره.

الثاني : ان لمباحث القطع شدة مناسبة مع مسائل علم الاصول.

٢

اما خروجه عنه ، فلان البحث في علم الكلام ليس هو عن مطلق المسائل العقلية ، بل عن خصوص ما يتعلق منها بأحوال المبدأ والمعاد ، ومن الواضح خروج مباحث القطع الستة عن ذلك.

والذي يتوهّم كونه من مسائل علم الكلام هو البحث عن التجري ، الّا ان التأمل فيه يقتضي كونه ليس منه ايضا ، لان البحث في التجري هو في صحة عقاب المتجري وعدم صحته ، وانه من الطاغي على مولاه أولا؟ ولا اختصاص لذلك بخصوص كون المولى هو الشارع او غيره ، وعلم الكلام يرجع الى البحث عما يخص احوال الشارع بما هو مبدأ المبادئ وغاية الغايات.

واما كون القطع أشبه بالكلام من غيره ، فلان البحث فيه عقلي كما انه عقلي في علم الكلام ، بخلاف فن الاصول فانه لا اختصاص له بكون مسائله عقلية ، بل هو اعم منها ومن غيرها من المباحث المتعلقة بحجية الظواهر ، والخبر ، ومباحث الالفاظ كصيغة الامر ، وغيرها من مباحث علم الاصول.

واما شدة مناسبة البحث عما يتعلق بالقطع لفن الاصول ، فلوضوح ان القطع بعد ان كان وصولا للحكم الشرعي ، وعلم الاصول يبحث عن الحجية على الحكم الشرعي ، كانت له مناسبة أكيدة معه ، لذا ناسب ان يبحث عنه في هذا الفن ، وقد اشار الى خروجه عن علم الكلام ومشابهته له بقوله : «وكان أشبه بمسائل الكلام» ، واشار الى شدة مناسبته مع علم الاصول اقتضت البحث عنه في ضمنه بقوله : «لشدة مناسبته مع المقام» المراد من المقام هو علم الاصول.

ولا يخفى ان هذا تعليل لقوله : «لا بأس بصرف الكلام الى بيان بعض ما للقطع من الاحكام».

٣

فاعلم : أن البالغ الذي وضع عليه القلم (١) ، إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري ، متعلق به أو بمقلديه ، فإما أن يحصل له القطع

______________________________________________________

(١) جعل المصنف المقسم للقسمة الآتية هو من وضع عليه القلم ، وعدل عما في الرسالة ، فان المكلف فيها هو المقسم ، لانه قال فيها : المكلف اذا التفت الى آخر ما ذكره من التقسيم.

اما البالغ فهو توضيحي لإغناء قوله من وضع عليه القلم عنه ، كما ان المكلف مغن عنه ، لوضوح ان المكلف ومن وضع عليه القلم لا يكونان إلّا للبالغ ، وقد ذكر المصنف وجه عدوله عن المكلف في حاشيته على الرسالة : من ان ظواهر مبادئ المشتقات هو الفعلي منها ، فمطابق المكلف هو المتلبّس بما هو تكليف بالفعل ، وفي بعض الاقسام الآتية ما لا يكون التكليف فيها فعليا ، كالمكلف الذي ينتهي امره الى البراءة العقلية منها والنقلية ، فانه لا تكليف فعلي في مقامها ، لوضوح عدم كون التكليف في المورد الذي لا دليل عليه بالغا مرتبة البعث والزجر ، اذ لا يعقل البعث والزجر الّا لمن يمكن منه الانبعاث والانزجار ، وحيث المفروض انه لا وصول للتكليف بنحو من انحاء الوصول والانبعاث والانزجار يستحيل من المجهول المطلق ، فلا يعقل في مثل هذا بلوغ التكليف لمرتبة الفعلية التي هي مرتبة البعث والزجر ، ولا بد من كونه في مثلها انشائيا لا فعليا.

ولا يقول قائل : ان من وضع عليه القلم ايضا كذلك لظهوره في من وضع عليه قلم التكليف الفعلي.

فانّا نقول : ان الظاهر من وضع القلم هو المرحلة الاولى من وضعه ، واول مرحلة لوضع القلم هو التكليف في مرحلة جعل القانون.

والمسلم ان وضع القلم يصح ان يراد منها مرحلة جعل القانون لا وضع القلم عليه ، فان الظاهر منها كالظاهر من المكلف ، لان مرحلة جعل القانون ليس وضعا

٤

به ، أولا ، وعلى الثاني ، لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد ـ على تقدير الحكومة ـ وإلا فالرجوع إلى الاصول العقلية : من البراءة والاشتغال والتخيير ، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى. (١)

______________________________________________________

عليه بل هي وضع للقانون ، هذا كله بناء على ما يظهر من المصنف من كون مراده من التكليف الفعلي هو البالغ مرتبة البعث والزجر.

واما ما يظهر منه في بعض المقامات من ان مراده من الفعلي هو كون التكليف بحيث لو علم به لكان بعثا وزجرا بالفعل ، فلا فرق على هذا بين المكلف ومن وضع عليه القلم ، لان الفعلية بهذا المعنى هي مرتبة الانشاء.

ثم لا يخفى ان المراد من المقسم سواء كان المكلف ، او من وضع عليه القلم هو خصوص المجتهد دون المقلد ، ولذا صرّح المصنف بتعميم الحكم له ولمقلديه ، لبداهة ان المكلف الذي اذا التفت الى الحكم ، فاما ان يقطع به اولا ، او يظن به ، او يشك به ، هو خصوص المجتهد ، لانه هو الذي يجيئه النبأ ، وهو الذي يستطيع ان يتمسك بقبح العقاب بلا بيان ، او بدليل الرفع ، او بلا تنقض اليقين بالشك ، لان من يعرف مدلول آية النبأ ـ مثلا ـ ويصح له التمسك بالبراءة بعد الفحص عن الدليل ، ومن يحصل له اليقين بالحكم الكلي والشك فيه هو خصوص المجتهد ، دون الجاهل المقلد ، لعدم معرفته بمدلول الادلة وعدم قدرته على الفحص عن الدليل ليكون شكّه موضوعا للبراءة او الاستصحاب ، وهو واضح.

(١) ينبغي ان لا يخفى ان قيد الالتفات ليس بقيد توضيحي ، بدعوى ان المكلف من تلبّس بالتكليف ، والتكليف يتوقف على الالتفات ، لبداهة عدم توقف التكليف على الالتفات ، لان الجاهل المقصّر مكلف قطعا وهو لا التفات له ، مع انه لم يؤخذ المكلف في عنوان المصنف. والبالغ الذي وضع عليه القلم يشمل الملتفت وغير الملتفت.

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

واما السبب في اخذ قيد الالتفات خصوصا على عنوان المصنف وجعله القسمة ثنائية القاطع وغير القاطع ، والقطع لا يتوقف على الالتفات ، لتحقق القطع الارتكازي مع عدم الالتفات كما ان عدم القطع لا يتوقف على الالتفات وهو واضح ، فلأنه لما كان الغرض من التقسيم بيان حكم العمل عند المجتهد الذي يستند في مقام فتواه وعمله وعمل مقلديه الى احد هذين الامرين ، فلا مناص من اخذ قيد الالتفات ، لانحصار ذلك بالملتفت.

ثم انه قد جعل المصنف القسمة العرضية ثنائية ، وأن من وضع عليه القلم اما ان يحصل له القطع ام لا ، وان كان من لا يحصل له القطع لا بالحكم الواقعي ولا بالحكم الظاهري : تارة تتم عنده مقدمات الانسداد على الحكومة. واخرى يكون مرجعه الاصول العملية ، إلّا ان هذه القسمة الثانية طولية ، لانها اقسام من لا يحصل له القطع ... ولا بد من بيان امور توضيحا لهذه القسمة :

الاول : ان مورد جعل الحكم الظاهري يدخل في القطع ، لانه عمم القطع الى الحكم الظاهري كمورد الامارات ، بناء على جعل الحكم في موردها سواء كان حكما طريقيا او نفسيا بناء على السببية ، وكالاستصحاب بناء على جعل الحكم الظاهري فيه كما هو مختار المصنف.

الثاني : انه جعل الحكم الملتفت اليه هو خصوص الحكم الفعلي ، لانه بعد ان دخل الحكم الظاهري في القطع فلا مانع من تقييد الحكم بالفعلي ، بخلاف قسمة الرسالة ، فانه سيأتي عدم امكان اخذ الفعلية فيه كما سيأتي بيانه.

الثالث : انه في الظن الانسدادي ومورد الاصول العملية المذكورة من البراءة والاشتغال والتخيير لا بد وان لا يكون فيها حكم ظاهري ، وإلّا لكانت داخلة في القطع.

اما الظن الانسدادي فلانه بناء على الحكومة هو كون الظن عند العقل منجزا لو اصاب ، وعذرا لو خالف ، فليس في مورده جعل حكم اصلا ، بل هو كون الظن

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كالقطع فحيث انه ظن بالحكم الفعلي فلا قطع بالحكم الواقعي ، وحيث انه صرف التنجيز والعذرية فلا حكم ظاهري في مورده ، فلا قطع بالحكم الظاهري فيه ، بخلافه على الكشف ، فانه بناء عليه يكون الظن الانسدادي كالامارات الخاصة مثل خبر الواحد موردا لجعل الحكم الظاهري ، لان نتيجة الانسداد على الكشف هو كشف تمامية المقدمات عن اعتبار الشارع للظن كالخبر.

واما البراءة ، فالعقلية منها هي قبح العقاب بلا بيان ، وليس لسانها لسان جعل الحكم ، مضافا الى انه لا سبيل للعقل الى ان يكون جاعلا للحكم.

واما النقلية منها كدليل الرفع ، فلان لسانها لسان رفع الحكم لا اثبات الحكم ، فلا يكون دليلها متكفلا لجعل الحكم.

واما الاشتغال وهي كون شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني فليس في مورده جعل حكم لا واقعي ولا ظاهري ، لانه هو حكم العقل بعدم معذورية من شغلت ذمته إلّا باليقين بالفراغ منه في مقام الامتثال ، فالحكم الواقعي في مورد الاشتغال غير مقطوع به ، وليس هناك حكم ظاهري تدل عليه قاعدة الشغل ، بل لا دلالة لها إلا الحكم بشغل الذمة.

واما التخيير فمراده هو التخيير العقلي كما في مورد دوران الامر بين المحذورين ، وحكم العقل بالتخيير فيه لا يتضمن حكما واقعيا ولا ظاهريا.

اما عدم الحكم الواقعي ، فلوضوح انه في مقام تردد الحكم بين الحرمة والوجوب ، فلا قطع بالحكم الواقعي فيه لفرض التردد المقتضي لعدم معلومية الحكم.

واما عدم الحكم الظاهري ، فلوضوح ان التخيير في دوران الامر بين المحذورين انما هو لعدم امكان ان يخلو المكلف من ان يفعل او يترك ، كما يأتي بيانه مفصلا في مقامه.

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

اذا عرفت هذه الامور ... تعرف ان من وضع عليه القلم اذا التفت : فاما ان يحصل له قطع بحكم واقعي ، او حكم ظاهري متعلق به ، كاحكام الصلاة والزكاة المستفاد بعضها من الاجماعات المحصلة والأخبار المتواترة ، وبعضها من اخبار الآحاد المقطوع بحجيتها ، كما سيأتي تحقيقه في مبحث خبر الواحد ، او بمقلديه كاحكام الحيض والنفاس. واما ان لا يحصل له القطع لا بالحكم الواقعي ولا الظاهري :

فتارة تتم له مقدمات الانسداد ، وكان بناؤه فيها على الحكومة دون الكشف ، كما هو رأي المصنف في نتيجة دليل الانسداد.

واخرى لا تتم ، فيكون مرجعه اما البراءة كما في مقام الشك في اصل التكليف ، او الاشتغال ، كما في مورد الشك في المكلف به كالتكليف المعلوم المردد بين المتباينين.

وثالثة التخيير ، كما في مقام دوران الامر بين الوجوب والحرمة ، كصلاة الجمعة في الغيبة.

ومنه اتضح : ان الاستصحاب داخل في القطع ، لانه يتضمن لسانه جعل الحكم الظاهري عند المصنف ، كما يأتي في محله إن شاء الله.

ولا يخفى ان التقييد بالالتفات وان اوجب خروج غير الملتفت ، كالجاهل المقصر والقاصر ، إلّا انه لما كان المهم بيان ما يقع للمجتهد من حيثية للفعل في مقام العمل ، ولذا يكون الحصر في حصول القطع وعدمه عقليا ، لذا كان خروج غير الملتفت لا غضاضة فيه : اولا ، لان حكم الجاهل المقصر حكم العامد ، وحكم الجاهل القاصر حكم الملتفت المعذور ، وليس لهما حكم غير حكم الملتفت ، لذا كان التقييد بالالتفات مما لا مانع عنه.

وثانيا : لان حصول القطع بالحكم ، والظن الانسدادي به ، ومعرفة ان المورد له حكم البراءة او الاشتغال او التخيير لا يعقل ان يتأتى لغير الملتفت.

٨

وإنما عممنا متعلق القطع ، لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلقا بالاحكام الواقعية ، وخصصنا بالفعلي ، لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به ـ على ما ستطلع عليه (١) ـ ولذلك عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الفرق بين قسمة المصنف وقسمة الشيخ هو ان المصنف عمم القطع الى القطع بالحكم الواقعي والحكم الظاهري ، والشيخ خصص القطع بالقطع بالحكم الواقعي ، والمصنف خصص الحكم بالفعلي ، والشيخ عممه الى الحكم الانشائي والفعلي ، ولأجل هذين الأمرين عدل المصنف عن قسمة الشيخ في الرسائل ، لان الشيخ قال فيها : المكلف اذا التفت الى حكم شرعي فإما أن يحصل له القطع الى آخر ما ذكره ، وقد جعل القسمة ثلاثية : قطع ، وظن ، وشك ، فلم يعمم القطع الى القطع بالحكم الظاهري ، لانه لو عممه لما جعل الظن بالحكم في قبال القطع ، للزوم التكرار على ذلك ، فان الظن يكون داخلا في القطع ، فذكره مرة ثانية من التكرار الذي لا فائدة فيه ، ولم يقيد الشيخ الحكم بالفعلي كما خصصه المصنف بذلك ، لانه حيث لم يعمم القطع بالحكم الى القطع بالحكم الظاهري ، وجعل الظن في قبال القطع ، فلا بد وان يكون الحكم المقسم لتعلق القطع والظن والشك هو الحكم الانشائي دون الفعلي ، لانه في مورد الحكم الظاهري وهو مورد الامارات كالخبر الواحد والاستصحاب بناء على جعل الحكم فيه ، لا يعقل ان يكون الحكم المتعلق للظن أو الشك هو الحكم الفعلي ، لوضوح انه بعد الالتزام بالحكم الظاهري على طبق مورد الامارة او الاستصحاب يلزم الظن باجتماع الحكمين الفعليين ، الحكم الواقعي الذي هو متعلق الظن ، والحكم الظاهري المجعول في مورد الظن ، واحتمال اجتماعهما في مورد الشك ، وحيث ان اجتماع الحكمين الفعليين محال ، والظن بالمحال او احتماله كالقطع به محال ايضا ، فلا يعقل ان يكون الحكم الواقعي المقسم لهذه الثلاثة هو الحكم الفعلي ، لعدم اطراده في جميع الاقسام كما عرفت ، فلا بد

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وان يكون الحكم في قسمة الشيخ هو الحكم الانشائي دون الفعلي ، بخلاف قسمة المصنف ، فانه حيث عمم القطع الى الحكم الظاهري لذا امكن تقييده بالفعلي.

اما الداعي للتعميم في القطع الى الحكم الظاهري وللتخصيص بالحكم الفعلي :

اما للتعميم ، فلان اكثر احكام القطع الآتية ـ كالتنجيز ، والتعذير ، والتجري ، واخذه في موضوع نفسه ، وانه لا فرق بين اسبابه واشخاص القاطعين وسايرها لا تختص بالحكم الواقعي ، فان التنجيز كما يحصل في القطع بالحكم الواقعي ، كذلك يحصل في القطع بالحكم الظاهري ، وكذلك التجري ، فان قبحه وعدم قبحه لا يختص بالتجري في الحكم الواقعي ، فان من قطع بالخمر وشربها فلم تكن خمرا ، او استصحب خمرية ما كان متيقنا بخمريته وتجرأ بشربه فلم يكن خمرا ، فان الحال فيهما سواء ، فلا فرق في التجري بين عصيان الحكم الواقعي ، او عصيان الحكم الظاهري.

نعم قيام الامارات مقام القطع مما يختص بالقطع بالحكم الواقعي كما سيأتي بيانه ، فاذا كان اكثر احكام القطع مما لا اختصاص لها بالقطع بالحكم الواقعي ، وتعم القطع بالحكم الظاهري ، لذا كان اللازم تعميم القطع في القسمة الى الواقعي والظاهري.

واما الداعي للتخصيص بالفعلي ، فلان الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعلية ، بان يكون تحريكا نحو الشيء بالفعل او زجرا عنه بالفعل لا يترتب عليه اثره المهم منه.

والى ما ذكرنا اشار المصنف بقوله : «وانما عممنا متعلق القطع» للقطع بالحكم الظاهري «لعدم اختصاص احكامه» : أي لعدم اختصاص احكام القطع «بما اذا كان متعلقا بالاحكام الواقعية». واشار الى سبب التخصيص بالفعلي بقوله : «وخصصنا بالفعلي ... الى آخر الجملة».

١٠

تثليث الاقسام (١).

وإن أبيت إلا عن ذلك ، فالاولى أن يقال : إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ، لئلا تتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام ، ومرجعه على الاخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ، ومن يقوم عنده الطريق ، على تفصيل يأتي في محله ـ إن شاء الله تعالى ـ حسبما يقتضي دليلها.

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه ، يستدعي رسم أمور (٢):

______________________________________________________

(١) أي ولاجل عدم التعميم الى الظاهري في قسمة الشيخ ، وعدم التخصيص للحكم بالفعلي فيها ايضا ، عدلنا الى هذه القسمة التي فيها تعميم القطع الى الحكم الظاهري ، وتخصيص الحكم بالفعلي.

(٢) حاصله : ان تقسيم الرسالة كما يرد عليه ما ذكرنا من ناحية نفس التثليث ، وانه لا بد من تعميم القطع الى الحكم الظاهري ، ولازمه تثنية القسمة ـ يرد عليه لزوم تداخل الاقسام من ناحية جعله الاقسام الثلاثة قطع وظن وشك ، والظن هو رجحان احد المحتملين على الآخر ، والشك تساوي الطرفين ، وجعل مورد الظن مورد قيام الامارات ، ومورد الشك مورد قيام الاصول.

ومن الواضح انه ربما يكون مورد الظن مورد قيام الاصول ، كما لو حصل الظن من طريق غير معتبر ، فانه مع قيام الظن لا بد من الرجوع الى الاصول.

وربما يكون مورد الشك مورد قيام الامارات ، كما لو قامت امارة على حكم ولم يحصل منها ظن بل كنا شاكين فيه ، فانه مع الشك لا بد من اتباع الامارة ، وعدم الرجوع الى الاصول ، وهذا هو تداخل الاقسام ، فان لازم تقسيم الرسالة هو حصر مورد الامارات بالظن ، وحصر مورد الاصول بالشك ، مع ان مورد الامارة كما عرفت ربما يكون مع الشك ، كما فيما لو لم يحصل الظن من الامارة المعتبرة ، فيدخل مثل هذا في حكم الظن الذي جعله هو المورد المنحصر لقيام الامارة ، وربما

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

يدخل مورد الظن في مورد الشك ، كما في الظن الحاصل من الامارة غير المعتبرة ، فانه وان كان ظنا ، إلّا انه لا بد من اتباع حكم الشك فيه ، من الرجوع الى الاصول الذي كان في قسمة الرسالة منحصرا في مورد الشك ، فدخل كل من القسمين في الآخر ، واذا تداخلت الاقسام بطلت القسمة ، لان القسمة انما هي لتمييز حكم كل قسم عن القسم الآخر ، ولازمه ان لا يسري حكم القسم الى القسم الآخر ، وإلّا لم يكن لكل قسم حكم يخصه ، فاذا سرى حكم احد القسمين ، او حكم كل من القسمين الى الآخر بطلت القسمة ، فلذلك اذا اريد تثليث القسمة ، فلا بد وان تكون على غير النحو المذكور في الرسالة في تقسيم المكلف الى قاطع وظان وشاك ، بل بان يكون بنحو ما ذكره المصنف من تقسيم المكلف الى من يحصل له القطع بالحكم الواقعي ، ومن لا يحصل له القطع به ، وتقسيم من لا يحصل له القطع الى من يقوم عنده دليل معتبر ، ولا بد من الاخذ بمؤداه ، سواء كان ظانا او شاكا والى من لا يقوم عنده دليل معتبر ، سواء كان ظانا او شاكا ، ومرجعه الى الاصول ، وعلى هذا لا تتداخل الاقسام ، وهو واضح.

لا يقال : ان هذا من تثنية القسمة لا من تثليثها ، فانه قسم اولا المكلف الى قاطع ، وغير قاطع ، ثم قسم غير القاطع الى قسمين ، واي فرق بين هذه القسمة التي اعتبرها قسمة ثلاثية ، وبين القسمة السابقة التي اعتبرها ثنائية؟ فانه ايضا قسم اولا من وضع عليه القلم الى من يحصل له القطع بالحكم الواقعي أو الظاهري ، والى من لا يحصل له القطع ، ثم قسم من لا يحصل له القطع الى من تمت عنده مقدمات الانسداد ويلزمه اتباع الظن ، والى من لا يتم عنده الانسداد ومرجعه الاصول.

فانه يقال : حيث كان الظن الانسدادي ، والرجوع الى الاصول مشتركين في عدم الحكم في موردهما لا واقعا ولا ظاهرا ، فهما قسمان طوليان في القسمة ، وهنا حيث كان في مقام قيام الطريق المعتبر حكم ظاهري ، وليس في مورد الاصول حكم ظاهري ، فهما قسمان عرضيان في القسمة ، فلذا كانت هذه القسمة من تثليث

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

القسمة ، والقسمة الاولى من تثنية القسمة. وعلى كل فقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «وان ابيت الا عن ذلك» أي وان ابيت الا وان تثلث القسمة «فالاولى ان يقال : ان المكلف اما ان يحصل له القطع» بالحكم الواقعي «اولا ، وعلى الثاني» وهو من لا يحصل له القطع «اما ان يقوم عنده طريق معتبر ، اولا» وحكم الذي لا يقوم عنده طريق معتبر هو الرجوع الى القواعد المقررة ، كما يشير اليه ، وقد اقحم بينه وبين حكمه الاشارة الى انه على تقسيم الرسالة يلزم التداخل في الاقسام كما عرفت «لئلا تتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام» لما مر من ان رب ظان يلزمه الرجوع الى القواعد ، ورب شاك يلزمه الاخذ بمؤدى الامارة والطريق المعتبر.

ثم اشار الى حكم من لا يقوم عنده الطريق بقوله : «ومرجعه على الاخير الى القواعد المقررة عقلا ونقلا لغير القاطع» وهو القسم الاول «و» لغير «من يقوم عنده الطريق» وهو القسم الثاني.

ولا يخفى انه على هذه القسمة يدخل الاستصحاب في القسم الاخير ، ثم لا يخفى ان الحصر في القسمة سواء على قسمة المصنف الثنائية ، او على قسمة الرسالة الثلاثية المرددة بين القاطع والظان والشاك ، او على قسمة المصنف هذه الثلاثية ، هو حصر عقلي ، لدورانه بين النفي والاثبات ، لوضوح ان الحصر بين حصول القطع وعدمه للملتفت ، وحصر الملتفت بين كونه قاطعا او لا ، وحصر غير القاطع بين كونه اما ان يترجح عنده احد الطرفين فيكون ظانا ، او لا يترجح احدهما فيكون شاكا ، حصر لا يمكن ان يفرض غيره ، فهو عقلي ، لبداهة ان الحصر العقلي هو الحصر الذي لا يمكن ان يفرض العقل غيره.

واما حكم الاقسام وانحصارها في الامارات والاصول فهو حصر استقرائي لا عقلي ، لامكان ان يحكم الشارع بان من تقوم عنده الامارة حكمه الاحتياط في بعض المقامات ، أو ان يحكم الشارع للشاك في مورد البراءة بالاحتياط ، او في مورد الاشتغال بالبراءة ، او في التخيير بالبراءة ، وغير ذلك ، فالحصر استقرائي ، أي انا

١٣

الامر الاول : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ، ولزوم الحركة على طبقه جزما ، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته ، وعذرا فيما أخطأ قصورا ، وتأثيره في ذلك لازم ، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل ، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ، بل عرضا يتبع جعله بسيطا.

ولذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا ، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا ، وحقيقة في صورة الاصابة ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

استقرينا فوجدنا ان الشارع في مورد الشك في اصل التكليف حكم بالبراءة ، وفي الشك في المكلف به حكم العقل بالاشتغال ، لعدم حكم من الشارع فيه ، وكذلك في مورد التخيير العقلي ، وفي اليقين السابق والشك اللاحق حكم بلزوم ترتيب آثار اليقين ، وكان من الممكن ان يحكم بالبراءة او الاحتياط.

(١) المراد من وجوب العمل على وفق القطع ، ولزوم الحركة على طبقة ، اما ان يكون هو الحكم بعصيان المكلف ، واستحقاقه الذم والعقاب لو خالف ما قطع به لو كان مصيبا في قطعه ، واستحقاقه المدح والثواب لو جرى على وفق ما قطع به ، وكان كذلك.

واما ان يكون المراد به هو حجية القطع وتمامية طريقيته.

ولا يخفى ان الاول من لوازم الثاني ، فان الحكم بالعصيان في المخالفة ، والاطاعة في الموافقة انما هو لكون القطع هو الحجة التامة والطريق الكامل ، فالعمدة هو الثاني ، وهو كون القطع حجة موجبا لتنجز التكليف لو اصاب ، وعذرا لو خالف.

وقد استدل على كون حجيته ذاتية له بأدلة :

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاول : لزوم التسلسل لو لم تكن كذلك.

وتوضيحه : ان حجية القطع لو لم تكن ذاتية له ، بان كانت محتاجة الى جعل جاعل لها ، واعتبار معتبر اياها ، سواء من العقلاء او من الشارع ، فوصول هذا الجعل وهذه الحجية للقطع اما ان يكون بالقطع ، او بغيره من الظن او الشك.

ولا ريب ان كل ما كان مجعولا من العقلاء أو من الشارع ، لا بد من اقامة حجة على ذلك الجعل ، لوضوح عدم حجية الجعل ما لم يكن واصلا ، ومن البديهي عدم حجية الظن والشك بذاتهما ، فكونهما حجة على حجية القطع هو من ثبوت الحجة بغير حجة ، ووصول حجية القطع بالقطع يحتاج الى حجية القطع على وصول هذا الجعل والاعتبار للقطع ، ولا فرق بين قطع وقطع ، فننقل الكلام الى هذا القطع القائم على حجية القطع ، فاما ان يكون محتاجا الى جعل اولا ، فان احتاج الى جعل ، فوصول جعله لا بد وان يكون بالقطع ايضا ، وهلم جرا ، فيتسلسل.

واما ان لا يحتاج الى جعل ، وعدم احتياجه اليه انما هو لكونه بما هو قطع غير محتاج الى جعل ، وحينئذ لا بد وان لا يكون فرق بين قطع وقطع ، لانه متى كان لازما ذاتيا لقطع بما هو قطع ، فلا بد وان يكون من ذاتيات ماهية القطع ، وتستوي فيه جميع افراد الماهية ، ولعله اشار الى هذا بقوله : «وتأثيره في ذلك لازم».

الثاني : من الادلة هو حكم الوجدان والبداهة في ذلك وأنه من البديهيات كون حجية القطع لا بجعل جاعل من دون حاجة فيه الى اقامة برهان ، فان البرهان ما لم يرجع الى البديهي لا يكون صحيحا ، وما لم تكن حجية القطع بديهية لا يكون مرجع البرهان الى امر بديهي ، وتمامية البرهان على حجية القطع انما هو بوصول مقدماته بالقطع ، ليستلزم القطع بالمقدمات القطع بالنتيجة ، فلو لم تكن حجية القطع بديهية لما امكن اقامة حجة نظرية عليه ، ومع كونها بديهية لا تحتاج الى اقامة الحجة اذ لا حجة على البديهي ، فانه مثل امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما وكون الكل اعظم من جزئه لا يمكن اقامة الحجة عليه ، بل هو أبده من كل البديهيات لاحتياج

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كل بديهي الى القطع به ولا عكس ، والى هذا اشار بقوله : «وصريح الوجدان به شاهد فلا حاجة الى مزيد بيان واقامة برهان».

الثالث ـ من الادلة ـ : ان حجية القطع غير قابلة للجعل لا تكوينا ولا تشريعا. وتوضيحه يحتاج الى بيان امور :

الاول : ان حقيقة القطع هي الانكشاف التام لمتعلقه وحضوره للقاطع حضورا تاما ليس فيه موقع احتمال ، وليس القطع الا ذلك الانكشاف الكامل والنورية التامة لمتعلقه ، فحقيقة القطع حقيقة النورية المحضة والطريقية التامة والإراءة التي لا فوقها إراءة ، فهذه هي حقيقة ذات القطع ، ولازم هذه الحقيقة انه عند تعلقها بالمقطوع يكون المقطوع واصلا تام الوصول بمعنى انه يتنجز لو كان حكما ويدرك العقل لكونه مرشدا لزوم الحركة على طبقه ، واستحقاق الذم والعقاب على المخالفة لو اصاب والعذر لو اخطأ.

الثاني : ان الجعل تكويني وتشريعي ، والجعل التكويني بسيط ومركب وهو الجعل التاليفي.

والجعل البسيط هو افاضة الوجود على الماهية وجعل الماهية موجودة.

والجعل المركب المعبر عنه بالجعل التاليفي هو الربط بين مجعولين كجعل الجسم ابيض فانه جعل تاليفي بين ماهية الجسم المجعول لها الوجود وماهية البياض المجعول لها وجود ايضا.

واما الجعل بالتبع هو كون الجعل لشيء بالذات ولغيره بالعرض كنسبة الجعل للزوجية بتبع جعل الاثنين ، فانه ليس هناك إلّا جعل واحد هو اول بالذات لماهية الاثنين ، وثان بالعرض للازم الذاتي لها وهو الزوجية ، وليس للوازم الماهية جعل غير جعل الماهية لوضوح انها لو احتاجت الى الجعل في كونها لازمة للماهية لما كانت من لوازم ذات الماهية ولكانت ماهية من الماهيات لا لوازم الماهية.

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الثالث : انه لا جعل للماهية بما هي ماهية فان الماهيات من حيث هي هي لا مجعولة ولا لا مجعولة ، وانما تجعل الماهية بجعل وجودها وافاضة الوجود عليها من علة العلل ومفيض الوجود على هياكل الماهيات ، فالمجعول وجود الماهية لا نفس الماهية.

ولا فرق في هذا بين القول باصالة الوجود واصالة الماهية ، فانه على القول باصالة الوجود فالامر واضح ، واما بناء على اصالة الماهية فان القائل باصالتها يقول بلزوم اكتساب الماهية من حيث هي هي حيثية من الجاعل حتى تكون مجعولة ، واما الماهية من حيث هي هي فلا يقول احد باصالتها كما هو مبين في محله.

اذا عرفت ذلك فحجية القطع اما طريقيته ونوريته وانكشاف الاشياء به ، وهذه هي حقيقة ماهية القطع ، وقد عرفت ان لا جعل للماهية من حيث هي هي وانما المجعول وجودها ، فوجود الطريقية والنورية والانكشاف موجود لا نفس الطريقية والنورية والانكشاف ، ولذا تسمعهم يقولون انه لا جعل بين الشيء ونفسه.

وان كان المراد من حجية القطع هو كونه منجزا لو اصاب وعذرا لو خالف ، فقد عرفت انه لا جعل بين الماهية ولوازمها ، وعرفت ايضا ان لازم ذات الحضور التام للشيء ذلك فيما اذا كان حكما ، فان لازم حضور الحكم حضورا تاما عند القاطع هو لزوم الحركة على طبقه وان قطعه منجز الواقع لو اصاب وعذر لو خالف ، فالحركة على طبق القطع وكونه منجزا وعذرا لازم ماهية القطع التي هي عين الحضور وعين الانكشاف التام عند القاطع ، ولا جعل للوازم الماهية لا بسيطا ولا مؤلفا ، وانما هي مجعولة بالتبع بمعنى ان وجود القطع وجود بالذات لماهية هذا الحضور التام ووجود بالعرض للوازمها ، وهي لزوم الحركة والتنجيز والعذرية.

فحجية القطع اما لا جعل لها اصلا فيما اذا كان المراد منها طريقيته والانكشاف به.

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

واما ان تكون مجعولة بالتبع فقط ولا جعل لها لا بسيطا ولا تأليفيا فيما اذا كان المراد منها لزوم الحركة والتنجز والعذرية.

وحيث ان حجية القطع عند المصنف هي لزوم الحركة على طبقه وكونه موجبا للتنجز والعذرية فقد اشار الى كونها غير مجعولة تكوينا إلّا بالجعل التبعي بقوله : «ولا يخفى ان ذلك لا يكون بجعل جاعل لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه» الذاتية له ، ولم يشر الى عدم الجعل بالجعل البسيط ، لوضوح عدم احتماله لفرض لكونها لوازم ماهية القطع فجعلها ان كان لا بد وان يكون تأليفيا لا بسيطا ، واشار الى كونها مجعولة بقوله : «بل عرضا» أي انها مجعولة بالجعل العرضي «بتبع جعله» أي بتبع جعل القطع جعلا «بسيطا» لان افاضة الوجود على ماهية القطع من الجعل البسيط ، فوجود القطع جعل بالذات لماهية القطع وجعل بالعرض وبالتبع للوازم ماهية القطع ، هذا كله في الجعل التكويني.

واما جعل حجية القطع تشريعا فغير معقول لوجهين :

الاول : ان الجعل التشريعي انما هو اعتبار لما ليس بكائن ليكون باعتبار الشارع له ، وقد عرفت ان طريقية القطع والانكشاف به هي حقيقة القطع ، فهي كائنة بكون القطع بل هي نفس كون القطع ، فلا معنى لجعل الحجية للقطع تشريعا بمعنى جعل طريقيته والانكشاف به ، لانها تكون اعتبار لما هو كائن لا لما لم يكن.

واما جعل الحجية له بمعنى جعل لوازمه فقد عرفت ايضا انها مجعولة بتبع جعل القطع تكوينا ، فاعتبارها ايضا اعتبار لما هو كائن.

وبعبارة اخرى : ان نفس ماهية القطع بما هي ماهية القطع غير قابلة للجعل لا تكوينا ولا تشريعا ، اما تكوينا فلان الماهيات في مقام ماهويتها لا مجعولة ولا لا مجعولة ، واما تشريعا فلانه لا معنى لاعتبار ذاتية الذات للذات ، وانما جعلها بجعل وجودها.

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

واما لوازم القطع فهي مما يترتب وجودها قهرا بتبع وجود القطع ، فجعل وجودها تكوينا انما هو بتبع وجود القطع تكوينا ، واما تشريعا فحيث انها مما تكون قهرا بتبع كون القطع فلا معنى لاعتبارها تشريعا للقطع ، لان اعتبارها اعتبار ما هو كائن لا لما لم يكن.

الثاني : ان جعل الشارع بما هو شارع لا بما هو جاعل الممكنات ومعطيها الوجود هو تصرفه في الحكم ، فجعل الشارع للقطع هو تصرفه في حكمه اما وضعا او رفعا ، اما وضعا فبان يقطع القاطع بالخمر فيكون قاطعا بحرمة المائع الخمري فيضع الشارع الحرمة ايضا لهذا المقطوع بحرمته ، واما رفعا فبان يرفع الحرمة عن الخمر المقطوع بها.

وكلا الامرين غير معقول اما وضعا فلوضوح محالية جعل الحرمة للخمر المقطوع بها للزوم اجتماع المثلين واقعا فيما اصاب القطع لفرض جعل الحرمة لنفس الخمر اولا في قوله : الخمر حرام ، وجعلها لها ثانيا حال كونها مقطوعا بها ، واجتماع المثلين بنظر القاطع سواء اصاب القطع ام اخطأ لكون القاطع حال قطعه لا يرى نفسه الا مصيبا.

واما رفعا فللزوم اجتماع الضدين واقعا فيما اصاب ، لانه بعد جعل الحرمة لذات الخمر فرفع الحرمة عن الخمر المقطوع بها وكانت خمرا واقعا لازمه كون الخمر واقعا حراما وغير حرام ، ولزوم اجتماع الضدين بنظر القاطع سواء اصاب ام اخطأ لما عرفت من كون القاطع يرى نفسه حال قطعه مصيبا ، فهو يرى دائما ان ما قطع بخمريته محكوم بالحرمة ومحكوم بضدها في آن واحد.

والمصنف قد اشار الى الوجهين لانه بعد ان اشار الى امتناع الجعل تكوينا لحجية القطع اشار الى عدم جعلها تشريعا بان امتناعه مما ينقدح من امتناع الجعل التكويني بقوله : «وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره» أي مما ذكر من امتناع الجعل التكويني انقدح امتناع التصرف في القطع تشريعا بالمنع عن تأثير القطع لأثره ، وانما ذكر المنع

١٩

ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا ، وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز ، واستحقاق العقوبة على المخالفة (١) ، وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق

______________________________________________________

دون الوضع لوضوح المحالية فيه لان اعتبار الشارع للمنع والرفع عما هو كائن قهرا واضح المحالية ، وبهذا اشار الى الوجه الاول.

وقد اشار الى الوجه الثاني بقوله : «انه يلزم منه اجتماع الضدين» في تصرفه في حكم القطع منعا عنه ورفعا له «اعتقادا مطلقا» أي بنظر القاطع «و» يلزم في المنع اجتماع الضدين «حقيقة في صورة الاصابة» كما عرفت وانما لم يذكر امتناع تصرف الشارع وضعا بلزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع دائما اصاب ام اخطأ واجتماع المثلين واقعا في صورة الاصابة به لانه ايضا اجتماع الضدين ، لانه اوضح في المحالية في اجتماع المثلين.

(١) قد سبق من المصنف في ان الداعي لتقييده للحكم وتخصيصه له بالفعلي لاختصاص آثار الحكم من كونه موجبا لاستحقاق العقاب على مخالفته وللثواب على اطاعته ، وآثار القطع به من كونه موجبا للتنجز لو اصاب وللعذر لو خالف ، وللتجري وعدمه ، وقيام الامارة مقامه ، وكونه حجة من أي جهة حصل ولأي شخص تحقق عنده ، وساير آثار الحكم من استحالة اجتماع مثليه او ضديه وغير ذلك انما هي آثار الحكم البالغ مرتبة الفعلية ، فلا بأس ببيان مراتب الحكم هنا وان كان يأتي التعرض لها في ما يأتي ايضا ان شاء الله.

فنقول ان للحكم أربع مراتب :

الاولى : مرتبة الاقتضاء والشأنية وهي مرتبة ثبوت الحكم بثبوت مقتضيه وهي المصلحة الداعية اليه ، فان الحكم في مرتبة مصلحته له ثبوت اقتضائي بمعنى اقتضاء المصلحة له ، وله ثبوت شأني في هذه المرحلة بمعنى ان الطبيعة ذات المصلحة لها الشأن والاستعداد لان يتعلق بها الحكم المجعول على وفق مصلحتها.

٢٠